الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1399 22
الدرس الثامن

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقة جديدة من حلقات برنامجكم "البناء العلمي"، في هذه الحلقة نستكمل وإيَّاكم شرح كتاب "الفصول في سيرة الرسول" للإمام ابن كثير -رحمه الله-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام أحمد بن سعود الإسلامية، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{أمين، جزاكم الله خيرًا.
توقفنا في الحلقة الماضية عند قول المؤلف -رحمه الله-: (مسألة: وكانت صلاته النافلة قاعدًا كصلاته قائمًا، وإن لم يكن له عذر بخلاف غيره فإنه على النصف من ذلك)}.
واضح أن ابن كثير -رحمه الله- يقصد أن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان قاعداً له أجر القائم {(واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم "عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: حُدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة». فأتيته فوجدته يصلي جالساً فوضعت يدي على رأسه فقال: مالك يا عبد الله بن عمرو؟ فقلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة وأنت تصلي قاعداً! فقال: «أجل. ولكن لست كأحد منكم»)}.
طبعًا هذا مما يظهر أنه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الذي مال إليه المصنف محتمل وإن كان غير صريح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي -كما مر معنا- حتى تتفطر قدماه، وكان يقوم مقاماً طويلاً وهذا ثابت، فلما أسن النبي -صلى الله عليه وسلم-، في بعض الروايات "ركبه اللحم" يعني: ثقل وزنه -صلوات ربي وسلامه عليه- صار يُصلي بعض النوافل جالساً ويصلي الوتر جالساً، كما أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته قائماً سُنَّة، فصلاته جالساً سُنَّة، ويعني بذلك أن من وسطية أهل الإسلام ومن الحنيفية السمحة أن يُعلم هذا، وهذا فيه ترغيب للنوافل؛ لأن في الحقيقة أجد أن بعض كبار السن وبعض الأمهات ممن يثقل عليها القيام ربما تترك الصلاة لأنها لا تقوم، لا بدَّ أن يُعلم أن صلاة النافلة تجوز حال القيام وحال القعود ولا شيء في ذلك، وكون الإنسان يصلي جالساً خيرًا من أن يترك صلاة النافلة، وهذا من سماحة الدين، أنك يجوز لك أن تصلي جالساً وأن تتنفل ما شئت من النوافل وأنت جالس، وإذا كنت عمدت إلى هذا الأمر لعذرٍ قائم فإن أجرك على الله -عز وجل- ثابت؛ لأنه «إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحً»، فهذا ينبغي أن يُفهم وأن يُعلم كصلاة النبي، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُصلي جالساً، فنصيحتي للجميع لنفسي ولإخواني المسلمين والمسلمات أنه ربما الإنسان يثقل عن شيء أو يتثاقل فليصلي جالساً، هذه سُنَّة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو خير الناس صلاة.
لكل هل هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-؟ يعني هذا محل محتمل وليس بصريح،
لكن من المهم جدًّا أن يُعلم أن صلاة الإنسان وهو جالس على النصف، وكونك أنك يأتيك أجر النصف خيرٌ من أن لا يأتيك أجر أساساً، فإذا اعتدت مثلاً صلاة الليل أو الوتر ثم عرض لك شيء أو ربما ثقلت عن ذلك، فلا تترك هذه الفريضة حتى لو صليت جالسًا، لا إشكال في ذلك، ومن سنته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يُصلي على راحلته ويتنفل على راحلته، هذه سُنة عظيمة، الإنسان قد يركب الطائرة أو يركب السيارة وتكون المدة طويلة ولا يُصلي ولا يتنفل، فالصحيح أنه يجوز له أن يتنفل وإن لم يستقبل القبلة؛ لأن الاتجاه قد يكون في غير اتجاه القبلة، فله ذلك فيرخص في إسقاط بعض الأحكام، هذا يدل على سماحة هذا الدين وسهولة هذا الدين، وأن الإنسان ينبغي أن لا يتثاقل عن الخير ولو أن يعمل شيئًا قليلاً من أبواب الخير.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (مسألة: وكان يجب على المصلي إذا دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه، لحديث أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري وليس هذا لأحد سواه، اللهم إلا ما حكاه الأوزاعي عن شيخه مكحول)}، مكحول مشهور من المحدثين، والأوزاعي كذلك متوفى سنة مائة سبعة وخمسين ومكحول من المحدثين الذين لهم رواية أحاديث، متوفى سنة مائة واثني عشر، فقيه ومحدث -رحمه الله-، أصله فارسي من كابل.
{قال -رحمه الله-: (أنه كان يوجب إجابة الوالدة في الصلاة) يعني هذا خاص، يعني الصحيح أنه من خواص النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يجب على من دعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجيبه.
{(لحديث جريج الراهب)}، يعني هذا مكحول يرى أن هذا ليس من خصائصه وإنما يشركه في هذا الحكم الوالدة، الأم يعني لحديث جريج، حديث جريج قصة ثابتة في صحيح البخاري ومن أخبار الأمم السابقة، {(لحديث جريج الراهب: أنه دعته أمه وهو قائم يصلي فقال: اللهم أمي وصلاتي، ثم مضى في صلاته. فلما كانت المرة الثانية فعل مثل ذلك، ثم الثالثة فدعت عليه)}، دعته عليه دعوة قالت: "اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ"، ثم حدثت قصة طويلة تُراجع في صحيح البخاري، وفيها أن بعض الأشقياء كادَ له مكيدة وأدخل امرأة عليه، وتحايلت على الدخول عليه في صومعته، قصة طويلة، ثم حملت هذه المرأة وزعمت أنها حملت من جريج، فهدموا صومعته، ثم صارت معجزة لجريج في أنَّ الله أنطق الصبي وبرأ جريج الراهب، ثم قالوا: إنهم يريدون أن يبنوا لهم صومعته من ذهب، فقال: عيدوها كما كانت، هذه القصة تراجع في صحيح البخاري.
لكن موضع الشاهد الذي ساقه ابن كثير فيما نقل عن مكحول أن الوالدة تخص بذلك، وسيعلق عليها، أنها إذا نادت على ولدها يجب عليه أن يجيبها ولو كان في الصلاة، طبعًا هذا خاص بالنبي سيعلق عليه، لكن المقصود من العبر في قصة جريج وفيها دروس وعبر كثيرة أنها قالت: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ، المُومِسَاتِ هن البغايا، يعني من يمارسن الزنا بأجر هؤلاء المُومِسَاتِ، فدل على أن رؤية أهل الفجور وأهل الخنا أنها من العقوبات العاجلة وهي دعت بدعوة بسيطة وفيه خطر إجابة الدعاء من الوالد والوالدة، يعني: دعاء الوالد والوالدة مستجاب، فلا ينبغي للأبناء ولا البنات أن يعرضوا أنفسهم لهذه الدعوات، حذاري حذاري من ذلك، كما على الآباء والأمهات أن يتقوا الله -عز وجل- فلا يدعو على أولادهم بمثل هذه الدعوات، يعني ربما تجب لهم -والعياذ بالله- شقاء الدنيا أو عذاب الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية، فينبغي للمسلم أن ينزه لسانه الوالد والوالدة، وكذلك الأبناء لا يعرضوا أنفسهم لمثل هذا، فدعاء الوالدة مستجاب، وهذه قصة جريج يطيب للوالد والوالدة أن يذكروا هذه القصة ويتدارسوها، ولاحظ الآن مع صلاحه ومع ما فيه أجيبت دعوة الوالدة، مع أنها دعوة تعتبر يسيرة، لكن انظر إلى آثارها العظيمة وعظيم الابتلاء لجريج الراهب -نسأل الله السلامة والعافية.
طبعًا مكحول استدل بها، ما حكاه الأوزاعي عن مكحول أنه يجاب الوالد والوالدة وحكمهما واحد في ظاهر القول وإن كان ابن كثير ذكر الوالدة في أنه يجب عليه أن يجيبها.
{قال -رحمه الله-: (فاستجاب الله منها فيه، وكان من قصته ما ذكر في صحيح البخاري وغيره، وقد حكي مقرراً ولم ينكر. والجمهور على أن ذلك لا يجب)}، هذا الصحيح أنه لا يجب عليه، لكن كيف مثلاً الوالدة تدعو البنت والبنت مثلاً تصلي أو الابن يصلي إما أنه يقطع صلاته، الصحيح أنه لا يجب لكن يتجوز في صلاته ليجيب.
{هذا الحكم خاص بالنافلة}
بالنافلة نعم.
{(بل لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس، للحديث الصحيح، اللهم إلا ما جوزه الإمام أحمد من مخاطبة الإمام بما ترك من أجزاء الصلاة لحديث ذي اليدين)}، في سهو النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا هو الحديث، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى إحدى صلاة العشي ركعتين، ثم قام على هيئة المغضب، النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج سرعان الناس، يعني المسرعين، فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال النبي: لم تقصر الصلاة، فقال: إنك صليت ركعتين، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أحق ما قال ذو اليدين، ثم النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين، ففيه أنه قد يتكلم للحاجة، ذكر أهل العلم مثل هذا على وجه التنبيه والتذكير للإمام على موضع الحاجة.
{(والله أعلم.
مسألة: وكان لا يصلي على من مات وعليه دين لا وفاء له، كما أخرجه البخاري في صحيحه)
}
النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول أمره -كما سيبين المؤلف- أنه كان يسأل أعلى صاحبكم دين؟ والحقيقة أن الدين والديون موقف الإسلام منها مُغاير لموقف المذاهب الاقتصادية الأخرى، الرأسمالية قائمة على الدَّين، فهذا الدين في غالبه دين ربوي، أما النظام الإسلامي والتشريع الإسلامي فإنه يضيق الدين في صور ضعيفة وقليلة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من الدين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الزجر لا يُصلي على من مات وعليه دين لا وفاء له في أول أمر الإسلام، فدل ذلك على خطورته، تساهل الناس الآن بالدين والاستدانة هذه من مصائب هذا الزمان، ومن طغيان المادية في حياة الناس، والدين والاستدانة والاستقراض لا ينبغي أن يكون إلا عند الحاجة الضرورية الملحة، وهذا فيه مصلحة للناس في دينهم ودنياهم، أما في دينهم فلا شك في ذلك؛ لأن الدين والإقراض يسهل أن ينال الإنسان ما لم يملك وما ليس في قدرته أن يملكه بهذا الدين، وتثقل عليه هذه الديون وتنزل به -نسأل الله السلامة والعافية- الهموم والأحزان بسببه، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذَّر ممن يقترض أموال الناس وهو لا يريد أدائها، ومن اقترض أموال الناس وهو يريد أدائها أداها الله عنه، ومن اقترض وهو لا يريد أدائها أتلفه الله، فالحقيقة هذا يدلنا على مسألة الدين وموقف الإسلام منه، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصلي على من مات وعليه دين.
{(كما أخرجه البخاري في صحيحه ثلاثياً عن سلمة بن الأكوع)}، ثلاثي: أي ليس بين البخاري وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ثلاثة رجال، ثلاثيات البخاري فيها مصنفات، ثلاثيات الإمام أحمد فيها مصنفات، وألف فيها مصنفات.
{قال -رحمه الله-: (لكن اختلف أصحابنا: هل كان يحرم عليه أو يكره؟ على وجهين، ثم نسخ ذلك بقوله)}، يعني نسخ هذا، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يترك ثم بعد ذلك بعد أن وسع الله على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتوح صار يقضي عنهم.
{(ثم نسخ ذلك بقوله: "من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي")}، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك يفي ويوفي هذا من حسن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وكريم فضله، ذلك لأن الدين متعلق بذمة الإنسان، ويغفر له كل شيء الشهيد إلا الدين، وهو مرهون في ذمته، جاء في الحديث أنه يوقف عن الحساب حتى يقضى عنه الدين، لا شك هذا وعيد شديد جدًّا، فينبغي أن لا يشغل ذمته بهذا الدين.
{(فقيل: كان يقضيه عنه وجوباً، وقيل: تكرم)}، الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقضيه تكرمًا وهذا من كريم خُلقه -صلى الله عليه وسلم- ومن وفائه لأصحابه -رضوان الله عليهم-، {(ومن ذلك أنه كان إذا دعا لأهل القبور يملؤها الله عليهم نوراً ببركة دعائه -صلوات الله وسلامه عليه-)}، بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه وفي مقامه واضحة، شهدها الصحابة -رضوان الله عليهم-، وبقي من بركته -صلى الله عليه وسلم- سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وما ورثته لهذه الأمة من العلم القائم على كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يقول بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: فوالله ما وارينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أنكرنا قلوبنا، فما هي بالقلوب التي كنا نعرفها، هذا من بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومقامه، فاستنكروا قلوبهم وكان من بركته -صلى الله عليه وسلم- أنه يدعو لهم، وكان يدعو للأموات والأحياء، وهذا من كريم خلقه -صلى الله عليه وسلم، فكان يأتي البقيع ويدعو لهم، وكان يزور شهداء أحد ويدعو لهم، وكان يدعو لهم فينور الله عليهم قبورهم ببركة دعائه -صلى الله عليه وسلم-.
{(كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، ومن ذلك أنه مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير»)}، يعذبان وهذا عذاب القبر، وهو ثابت وأجمع عليه أهل السنة والجماعة، «وما يعذبان في كبير»، طبعًا هذه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنه يسمع المعذبين، وهذا ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- يسمع أصوات المعذبين، ومن ذلك أنه مر بهذين القبرين، فسمع أنهما يُعذبان، ولهذا قال لأصحابه: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير»، أصح ما قيل في هذا أنهم ما يعذبان في كبير في أعين الناس، يعني: يتساهلون الناس به.
فكان من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي أنه أخذ جريدة رطبة، الجريدة يعني: سعف النخل، رطبة: يعني خضراء، فشقها نصفين، فوضع على كل قبر شقة يعني جزءًا، قال: «لعل الله يخفف عنهما ما لم ييبس»، فدلَّ على أنَّ التخفيف مرهون بماذا؟ وهذه من شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، فكانت هذه الشفاعة مؤقتة بيباس هذا الجريد، لَمَّا أعلمه، وهذا من رحمته -صلى الله عليه وسلم-، أنه رحيم، حتى إنه من رحمته أنه سأل ربه أن يخفف عنهما، فكان الإذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- لوضع هذا الجريد، وهذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وليس لغيره.
قال: «وما يعذبان في كبير»، لكن ابن كثير -رحمه الله- ما أدري ذكره عندكم، «أما أحدهما فكان لا يستبرأ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»، الأول لا يتنزه عن الطهارة وهو وقع في جفاء مفرط، طبعًا هذا الكلام لعموم الناس؛ لأن فيه طائفة أخرى من أهل التنزه أهل غلو، هؤلاء أهل الجفاء أنه كان لا يستبرأ من البول، وما يتنزه منه ويتساهل، والمطلوب أنه يستجمر أو يستنجي ويكون في ذلك على العادة، فيه طائفة ما يتساهلون، فدل على أنه يعذب بتساهله من أسباب عذاب القبر، وطائفة أهل الغلو هم الذين يبالغون في التنزه والاستبراء من البول، وهذا الحقيقة فيه صور متعددة، حتى بعض الفقهاء يتجوز في هذا، بعضهم يتنحنح وبعضهم -والعياذ بالله- يتجاوز، يربط الذكر، كل هذا من أفعال الغلو، من أفعال الموسوسين وهذا الشريعة ما جاءت به، لم تأت بالجفاء ولم تأت بالغلو، هذا من أهل الجفاء، فلا يحملك أنك تسمع من دلالة الحديث أنك تتجه إلى منهج أهل الغلو والموسوسين الذين يوسوسون في مثل هذه الأمور ويبالغون، الشريعة سمحة ومبنية على اليسر، والكلام هؤلاء لأهل الجفاء الذين لا يتنزهون، فكان لا يستبرأ.
وأما الآخر، قال: «كان يمشي بالنميمة»، والنميمة هي نقل كلام الناس، وهذه من أمراض العصر، أمراض هذا الزمان، التساهل فيها خطير وهو من أسباب عذاب القبر، كما أن الغيبة قال عنها الله -عز وجل-: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات: 12]، فالنميمة أعظم، فهي من كبائر الذنوب، ومن أسباب عذاب القبر، وهي نقل كلام الناس على أي وجه كان، نقل كلام الناس يعني الناس يتكلمون ولهم إسقاطات نفسية من طبيعة البشر، يكون الإنسان موقف في الأسرة، قد ينتقد فلان في غيبته وهذا ما يصلح، غيبة ولكن النمام يقع فيما هو أخبث من الغيبة وهو ماذا؟ ينقل الكلام ولا يشفع له أنه يريد نية صالحة أو أنه يريد أن يخبر، ينبغي للإنسان أن يغلق هذا الباب، يعني: نقل كلام الناس بعضهم في بعض، لأن طبيعة الناس أن يتكلمون وينتقدون، فأنا مثلاً أتكلم وأقول كذا وكذا، قد أتجوز لحالة نفسية، أقول فلان فلان، فالنميمة أنت تذهب تقول ألم تسمع لِمَا قال فلان، قال فيك كذا وكذا، ولهذا كثير من الشحناء والبغضاء التي تقع بين الناس ولا يعرفون لها سبب، أبحث عن النَّمَّام وأبحث عن النميمة، فإنَّ هذا المرض مُنتشر، وهذه النميمة تسبب تنافر الناس وتنافر قلوبهم، للأسف يتساهل الناس فيها، ومن بعض الأخيار فمن نمى لك فسينم عليك، فاحذر من هذا النمام ومن النميمة فإنها مرض عظيم يصيب القلوب، ومن أسباب عذاب القبر ويكفي في الوعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ»، وهو النمام، وهذه النميمة خطيرة ينبغي الإنسان أن يعرفها وأن يعلمها أبنائه، يعني حتى بين الأبناء فلان قال كذا، يربى على أنه لا ينقل كلام الناس، فلان تسمع له يقول ما يقول فلا تنقل كلام الناس، أعرض عنه، ولا تنقل هذا الكلام، خطير، هذا من أسباب عذاب القبر، نسأل الله السلامة والعافية.
{قال -رحمه الله-: (ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فوضع على كل قبر شقة، ثم قال: «لعل الله يخفف عنهما ما لم ييبس»)}.
هذا من شفاعته -صلى الله عليه وسلم-، وهذا خاص به، فليس لغيره أن يضع هذا؛ لأن بعض الناس يضع، أهل المقابر، زهور، أو يضع نبات، كل هذا خلاف ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا قضية عين خاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ليس لغيره، ولهذا لم يكن الصحابة -رضوان الله عليهم- يفعلون، وإنما هي من شفاعته -صلى الله عليه وسلم-، وكانت شفاعة إلى أمد.
{(أخرجاه عن ابن عباس.
مسألة: ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وعك في مرضه وعكاً شديد)
}.
يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- مرض ونزلت به الحمى.
{(فدخل عليه عبد الله بن مسعود فقال: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: «أجل إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم»، قلت: لأن لك أجرين؟ قال: «نعم». رواه الشيخان)}.
وهذه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، أنه كان يوعك ويمرض -صلى الله عليه وسلم-، وهذه من بشريته -صلى الله عليه وسلم-، ومن عظيم ثواب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال: «إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم».
{قال -رحمه الله-: (مسألة: ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى خيره الله تعالى بين أن يفسح له في أجله ثم الجنة)}.
وهذه من خصائص الأنبياء، أن النبي إذا نزل به الموت، ينزل له التخيير، ولهذا في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما نزل به الموت قالت عائشة: ثم قال: «اللهم الرفيق الأعلى»، فعلمت أنه اختار الموت على أن يمد له في عمره.
{(وإن أحب لقي الله سريعاً، فاختار ما عند الله على الدنيا وذلك ثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنه)}.
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة، ثم قام وتركه».
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش عيشَ الزهد، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوسد الإدام، يعني: المخدة من جلد وحشوها ليف، ، وكان منامه -صلى الله عليه وسلم- على الحصير، وكان يؤثر في جنبه -صلى الله عليه وسلم-، وكان يربط على بطنه الحجر من الجوع، ولم يشبع النبي -صلى الله عليه وسلم- من خبز القمح، وإنما كان أغلب طعامه الشعير، وهذا كان قوته -صلى الله عليه وسلم-، ما شبع من القمح، وكان يمر عليه الشهر، كما في حديث عائشة الشهر والشهران، وثلاثة أهلة في شهرين، ولم يوقد في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار، هكذا عاش النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا لما جاء اختار ما عند الله -عز وجل-، فهذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه هي الحياة الحقيقية، ومع هذا فلم يمت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أقر الله عينه بظهور الإسلام وببداية اغتناء الصحابة، وأعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من المال وأكرمهم وخاصة في أخر حياته -صلى الله عليه وسلم-، وكان يُعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وجاءه رجل فأسلم، فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- غنماً بين جبلين، فذهب إلى قومه قال: أسلموا فإن محمد يعطي عطاءً من لا يخشى الفاقة -صلوات ربي وسلامه عليه-، كان يحزنه -صلى الله عليه وسلم- أن يبقى في بيته شيئًا من الذهب، أو شيئًا من المال، ومرة تجوز النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاته فقال: إني ذكرت تِبْراً، يعني شيئا من الذهب في حجرة عائشة، فقام ووزعه صلوات ربي وسلامه عليه.
{قال -رحمه الله-: (وذلك ثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها.
مسألة: ومن ذلك أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، والدليل عليه حديث شداد بن أوس، وهو في السنن، وقد صححه بعض الأئمة)
}، هذا صحيح، مر معنا في الحلقات السابقة، أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، فأجساد الأنبياء حرم الله على الأرض أن تأكل من أجسادهم دون غيرهم، فإن غيرهم تأكل الأرض تلك الأجساد، والتعلق في عالم البرزخ على الأرواح والأجساد تبع، ولهذا قد يبلى الجسد ولا يبقى منه إلا عجب الذنب، ومن أصله تكون الخلقة الجديدة عند البعث، وقد تفنى وقد تبقى، والله -سبحانه وتعالى- أعلم بأحوال الناس في قبورهم، لكن الأنبياء كما ذكر وثبت بذلك الأحاديث الصحيحة.
{قال -رحمه الله-: (كتاب الزكاة
مسألة: كان يحرم عليه أكل الصدقة سواء كان فرضاً أم تطوعاً: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد»)
}، النبي -صلى الله عليه وسلم- ورد في الأحاديث أن الحسن والحسين تناولا تمراً من الصدقة، فأشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلفظها، ثم قال: «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد»، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا تحل له الصدقة سواءً كانت زكاة فريضة أم نافلة، وكذلك لا تحل لآل بيته، أمهات المؤمنين وما تناسل عن نسل النبي -صلى الله عليه وسلم- من جهة الأسباط، من الحسين، نسل الحسين والحسن وفيه كلام على آل محمد هل يدخل في ذلك عموم أو أنه خاص بآل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ذرية فاطمة وأمهات المؤمنين، لكن المقصود أن آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة، هذا في حال أنهم يعني كان بيت مال المسلمين يعطيهم، ولهذا قالوا: إذا لم يكن لهم عطاء من بيت مال المسلمين، فإنه يجوز لهم على وجه الضرورة أن يأخذوا الصدقة.
{(وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة)}، ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال عن الصدقة: إنها أوساخ الناس فلا تنبغي لآل محمد، {(وهذا عام. وللشافعي قول في صدقة التطوع أنها كانت تحل له، حكاه الشيخ أبو حامد والقفال، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وخفي على إمام الحرمين والغزالي. والصحيح الأول)}.
والصحيح الأول أن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد كما تدل عليه ظواهر الأحاديث، {(أما توهم بعض الأعراب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أن الزكاة لا تدفع إلا إليه صلى الله عليه وسلم وامتناعهم من أدائها إلى الصديق، حتى قاتلهم عليها إلى أن دانوا بالحق وأدوا الزكاة، فقد أجاب الأئمة عن ذلك في كتبهم بأجوبة، وقد بسطنا الكلام عليه في غير هذا الموضع)}، بعض هؤلاء امتنعوا، وقالوا: لسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكنٌ لنا، لقول الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾[التوبة: 103]، وهذا من إتباع المتشابه والإعراض عن المحكم من هؤلاء، ولهذا كان أبو بكر -رضي الله عنه- من المواقف المشهودة له أنه قال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" وقال: "لو منعوني عناقا" في رواية "عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه"، فكان موقفه -رضي الله عنه- موقفاً حاسماً وكُتب موقفه هذا بأسطر من ذهب لأبي بكر -رضي الله عنه- من حُسن صحابته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قاتل هؤلاء الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وقاتل المرتدين -رضي الله عنه- حتى أدوا هذه الزكاة، وهذا الغالب والأعم أن سببه -نسأل الله السلامة والعافية- حب المال، فاستدلالاً بهذا المتشابه.
{قال -رحمه الله-: (كتاب الصيام: كان الوصال في الصيام له مباح)}، المقصود بالوصال هو أن لا يفطر، إذا جاء وقت الفطر صام وإذا جاء وقت المغرب لا يفطر وإنما يواصل، هذا المقصود، ويصل صوم الليل بصوم النهار، وتكلم أهل العلم هل الوصال إلى الفجر أو إلى جزء من الليل، تكلم أهل العلم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك الوصال، ولكنه نهى أمته عن الوصال.
{قال -رحمه الله-: (ولهذا نهى أمته عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل؟)}، هذا من حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على الخير، حرص على الخير حتى أنهم أردوا أن يفعلوا كما يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوصال، هذا مقام النبوة مقام آخر غير مقام من سوى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- رغب بالفطر بل رغب في الاستعجال في الإفطار، وهذه السنة منقولة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي لأمته، فالصحيح أن الوصال لا يجوز لغيره وإنما هو من خواص النبي -صلى الله عليه وسلم- كما بين.
{قال -رحمه الله-: (ولهذا نهى أمته عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: «لست كهيئتكم »)}، في بعض الروايات «لست كأحدكم »، لست كهيئتكم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نبي {(«إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»)}، هذا يعني الإطعام والإسقاء، الصحيح أنه ليس بالحسي، شيء معنوي لإقبال النبي -صلى الله عليه وسلم- على ربه، فإن هذا الإقبال على الله -عز وجل- يجعله في مستغنيًا عن الطعام والشراب، وهذا الذي أراده النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{قال -رحمه الله-: (فقطع تأسيهم به بتخصيصه بأن الله تعالى يطعمه ويسقيه)}، وكان الوصال لا يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الدوام، لأنه كان يواصل أحيانًا، {(وقد اختلفوا: هل هما حسيان؟ أو معنويان؟ على قولين. الصحيح: أنهما معنويان، وإلا لما حصل الوصال)}، واضح لو كان حسيًا لما كان وصالا، لو كان حسيًّا أي: أنه يطعم ويشرب بشكل حسي هذا ما فيه وصال، فدل على أنه يقصد يطعمني ويسقيني بالمعنى المعنوي.
{قال -رحمه الله-: (مسألة: وكان يقبل وهو صائم، فقيل: كان ذلك خاصاً به، وهل يكره لغيره؟)}، الصحيح أنه ليس من خواص النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان يقبل أزواجه وهو صائم وهذا من حسن عشرته -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه، وهو صائم كان يفعل ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وهل يكره لغيره؟ أو يحرم؟ أو يباح؟ أو يبطل صوم من فعله كما قال ابن قتيبة؟ أو يستحب له؟ أو يفرق بين الشيخ والشاب؟)}، ابن قتيبة متوفى سنة مائتين ستة وسبعين، وهو مشهور ومعروف صاحب كتاب المعارف في تأويل مختلف الحديث، وعيون الأخبار. {(على أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر)}.
أو يفرق بين الشيخ والشاب على أقوال، الصحيح في هذه المسألة: أن التقبيل جائز لمن يأمن من نفسه، ويكره لمن لا يأمن ولا يحرم عليه إنما يكره، أنه قد يخرج منه شيء وهو صائم، فمن أمن ولا تعلق له بمسألة الشيخوخة والشباب، إنما مناط الحكم هو أن يأمن، فإذا أمن فلا شيء يقبل وهو صائم وفيه دلالة على أن مس المرأة أنه ليس بناقض من نواقض الوضوء، خلافًا لمذهب الشافعي كما مر معنا.
{قال -رحمه الله-: (مسألة: قال بعض أصحابن)} يعني الشافعية {(كان إذا شرع في تطوع لزمه إتمامه، وهذا ضعيف يرده الحديث الذي في صحيح مسلم "عن عائشة رضي الله عنه)}، يعني أنه إذا شرع في التطوع لزمه إتمامه، وهل هذا من خواص النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ الآن ابن كثير يُبَيِّنُ، طبعًا التطوع للإنسان أن لا يتمه إلا في مسألة واحدة وهي الحج والعمرة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: 196] فمن شرع فيها فيلزمه التمام، ما لم يشترط لحديث ضُبَاعَةَ بنت الزبير، أنها قالت: "يا رسول الله أريد أن أحج وأجدني شاكية، قال: «حجي واشترطي فإن لك على ربك ما استثنيتي وقولي اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني»، ففائدة هذا الشرط أنه إذا اشترط فإنه كما قال الفقهاء يعني لا يلزمه الإتمام، عرض له عارض، يقولون: يحل مجاناً، يعني ما يتم، يعيد ولا يذبح هدي بخلاف من لم يشترط، هذا فائدة الاشتراط وخاصة في ظل هذه الأزمنة وظل المتغيرات الآن والأحداث الأخيرة، أحداث كورونا وكذا، فالإنسان إذا أراد أن يعتمر عليه أن يشترط حتى، هذا فيما يتعلق ولا النوافل يجوز للإنسان أن لا يتمها ومن ذلك الصيام.
{(وهذا ضعيف يرده الحديث الذي في صحيح مسلم "عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقالت: "يا رسول الله، ههنا حيس")}، الحيس هو تمر يمزج بلبن أو أقط أو عسل، هذا هو الحيس، يعني نوع من أنواع الطعام، {(فقال: «أرنيه، فلقد أصبحت صائماً فأكل منه»)}، دل على أنه يجوز للإنسان أنه أن يقطع النافلة وهذا دليله، وهو ليس من خواصه -صلى الله عليه وسلم- ولغيره أن يفعل ذلك إذا صام ثم له أن يفطر ولا شيء عليه.
{قال -رحمه الله-: (كتاب الحج
مسألة: قال بعض أصحابنا كان يجب عليه إذا رأى شيئاً يعجبه أن يقول: «لبيك إن العيش عيش الآخرة»، وكأن مستنده في ذلك ما رواه البخاري "عن سهل بن سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وهو يحفر ونحن ننقل، فبصر بنا فقال: «لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة»)
}، بصر بهم نظر إليهم، ولهذا أنه كان إذا رأى شيئًا قال: «لبيك» التلبية إجابة إليك بعد إجابة، «إن العيش عيش الآخرة»، ولهذا في سورة "طه" في آخرها ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[طه: 131]، فنُهي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلتفت على الدنيا وامتثل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان لا يرى الدنيا شيئًا، لكن من طبيعة الإنسان أنه إذا رأى شيئًا يعجبه أنه ربما يرى من أحوال الدنيا، فعليه أن يتذكر الآخرة إن العيش عيش الآخرة، لأن هذه الدنيا مصيرها إلى الفناء، ثم أن ما فيها من النعيم فهو منغص منكد وليس له دواء، وعيش الآخرة هو الجنة، وفي الجنة أو في الدنيا جنة كما قال ابن تيمية: ما لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، جنة الطمأنينة، جنة الرضا بقسمة الله -عز وجل- لك، جنة الإقبال على الله -عز وجل- والأنس به، وهذا هو من النعيم العاجل للإنسان، فينبغي للإنسان أن يتمثل خلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا رأى شيئًا يعجبه أن يتذكر أن العيش الحقيقي هو عيش الآخرة، أن العيش عيش الآخرة، أما عيش الدنيا فهو صائر للفناء منغص مهما كان للإنسان من الملك، مهما كان للإنسان فإنه عما قريب سيفارقه، الصحيح سيسقم والحي سيموت والمال للوارث، فالعيش الحقيقي هو عيش الآخرة.
{قال -رحمه الله-: (وقال الشافعي "أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظهر من التلبية: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، قال: حتى إذا كان ذات يوم، والناس يصرفون عنه، كأنه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيها: «لبيك إن العيش عيش الآخرة» قال ابن جريج: وأحسب أن ذلك كان يوم عرفة)}.
نعم، هذه في رواية البيهقي، فدل على أن هذه من الزيادة في التلبية، وللتلبية صيغ كثيرة ومتنوعة، وأشهرها ما ذكره ابن كثير -رحمه الله-، وفيها زيادة البيهقي: إن العيش عيشة الآخرة، وإنما قال ذلك صدرت من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في أنعم حالاته يوم الحج، تذكراً لليوم الآخر.
قال -رحمه الله-: (قلت).
يعني هذا ابن كثير.
{(لا يظهر من هذين الحديثين وجوب ذلك)}.
يعني هل يجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى شيئًا يعجبه أن يقول ذلك؟ نعم، هذا الآن يعلق عليه.
{(أكثر ما فيه استحباب مثل ذلك، وقد قيل به في حق المكلفين)}.
يعني عامة الناس، عامة الناس إذا رأوا ما يعجبهم أن يقولوا ذلك، على وجه الاستحباب على الصحيح.
{(وحديث مجاهد مرسل، وقول ابن جريج منقطع)}.
يعني من جهة الصناعة الحديثية مجاهد لا شك أنه حديثه مرسل؛ لأنه لم يكن له صحبة، ومن المراسيل، ورواية ابن جريج عنه منقطعة.
والله أعلم.
قال -رحمه الله-: (مسألة: أبيحت له مكة يوماً واحداً، فدخلها بغير إحرام. وقتل من أهلها يومئذ نحو من عشرين. وهل كان فتحها عنوة؟ أو صلحاً؟ على قولين للشافعي، نصر كلا ناصرون)}.
يعني (نصر كلا ناصرون) يعني نصر هذا القول فئام من الناس، كلٌّ ينتصر لقوله، هل فُتحت صُلحاً أم فُتحت عنوةً.
{(وبالجملة: كان ذلك من خصائصه كما ذكر صلى الله عليه وسلم في خطبته صبيحة ذلك اليوم، حيث قال: «فإن ترخص أحد»)}.
إذن، هذه من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أبيح له القتال، «أحلت لي ساعة من نهار، لا تحل لأحد من بعدي»؛ لأن مكة في الحرم، والقتال في الحرم لا يجوز.
{عندي يا شيخ: (فإن أحد ترخص)}.
فإن ترخص أحد.
{في نسختي قدَّم أحد}.
فإن أحدٌ. ماشي.
{قال -رحمه الله-: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم». والحديث مشهور}.
نعم، يعني مسألة أن مكة حرام وأنه لا يجوز القتال فيها، فهذا أصل معتبر عند أهل العلم، وإنما يؤذن في القتال فيها على وجه الضرورة، وعلى وجه المدافعة، لمن أراد أن يفسد فيها، وإلا الأصل أنها باقية على الحرمة من تعظيم بيت الله الحرام، ولهذا من أراد هذا البيت بسوء أشغله الله -عز وجل- في نفسه وجعل كيده في نحره، وهذا فعله في طوائف من المعادين للسنة بمحاولة الإفساد، ولكن الله كبتهم، ومن ذلك ما تتعرض له مكة المكرمة بين الفينة والأخرى من أعداء الدين، ومن الباطنية، من الحوثيين، الذين يستهدفون بيت الله الحرام بصواريخهم، وهذا دليل وبرهان على هؤلاء- والعياذ بالله- مُعادين لما جاءت به النصوص، فاستهدافهم لبيت الله الحرام بمثل هذه الصواريخ، وحدث منهم أكثر من مرة، دليل على ذلك، وعلى أنهم والعياذ بالله لا يرعون حرمة لشعائر الله -عز وجل-، ولهذا يستهدفون البيت الحرام، ولو كانوا من أتباع شريعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو من أتباع آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَا فعلوا ذلك، ولعظموا ما كان يعظمه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويعظمه آل بيته، فاستهداف مكة المكرمة بهذه الصواريخ دليل على ذلك، فمكة بيت الله الحرام ينبغي أن تعظم، وأن لا يظهر فيها شيء من ذلك أو لا تستهدف بمثل هذه الأفعال، وهذا براهين على أنهم -والعياذ بالله- عادون ومعتدون ضالون مضلون -نسأل الله السلامة والعافية.
{قال -رحمه الله-: (تقدم الكلام على الحديث المقتضي لوجوب النحر عليه، وأنه ضعيف)}، يعني هل النحر على النبي -صلى الله عليه وسلم- واجب عليه وابن كثير يقول الحديث فيه ضعف وبالتالي لا حجة أن من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنه يجب عليه النحر.
هذا -والله أعلم- وصلى الله وسلم على نبينا محمد، نسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، وأن يرزقنا الانتفاع العظيم بهذا العلم وأن ينفعنا به في دنيانا وفي أُخرانا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما قدمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصول لكم أيها أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، وإلى أن نلقاكم في حلقة أخرى من حلقات برنامجكم البناء العلمي، إلى ذلك الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك