{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإيَّاكم في ظلال سيرة النبي ﷺ، ومع كتاب "الفصول في سيرة الرسول" للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-.
ضيفنا في هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّ الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح وأن يوفقنا للحق والصواب.
{كنا قد وقفنا عند قول المؤلف: (وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأحلت لي الغنائم»، فكان من قبله إذا غنموا شيئًا أخرجوا منه قسمًا فوضعوه ناحية، فتنزل نار من السماء فتحرقه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الشفاعة» يريد بذلك -صلوات الله وسلامه عليه- المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، والمقام الذي يرغب إليه الخلق كلهم ليشفع لهم إلى ربهم، ليفصل بينهم ويريحهم من مقام المحشر، وهي الشفاعة العظمى التي يحيد عنها أولو العزم، لِمَا خصه الله به من التفضيل والتشريف، فيذهب فيقعقع باب الجنة، فيقول الخازن: من أنت؟ فيقول: «محمد» فيقول: بك أمرت، أن لا أفتح لأحد قبلك)}.
طبعًا هذا الحديث وغيره من هذه الأحاديث في مسألة المقام المحمود، وهي شفاعته للخلق ﷺ، أن يقضي الله بينهم، يريحهم من الوقوف في المحشر، ومن خلال هذه الشفاعة وهذا المقام المحمود كما جاء في الأحاديث يظهر فضل النبي ﷺ على غيره من الأنبياء وأنه سيد ولد آدم، وهذا هو المقام المحمود الذي يُسأل للنبي ﷺ بعد الأذان، وهذا المقام المحمود لأن الخلائق يحمدونه على هذا، ولهذا كما جاء في الحديث أن جملة من الأنبياء والرسل يمتنعون عن هذه الشفاعة، فيقوم لها النبي ﷺ.
ثم تأتي بعد ذلك الشفاعات التالية، والشفاعة في دخول الجنة وما يتبع ذلك مما سيبينه المؤلف -إن شاء الله-.
{(وهذه خصوصية أيضًا ليست إلا له من البشر كافة، فيدخل الجنة فيشفع إلى الله تعالى في ذلك كما جاء في الأحاديث الصحاح، وهذه هي الشفاعة الأولى التي يختص بها دون غيره من الرسل. ثم تكون له بعدها شفاعات في إنقاذ من شاء الله من أهل الكبائر من النار من أمته، ولكن الرسل يُشاركونه في هذه الشفاعة)}.
ثمة شفاعات تختص بالنبي ﷺ كما ذكر المؤلف ابن كثير -رحمه الله- للمقام المحمود، ثم الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة، ثم بعد ذلك يشاركه غيره من الأنبياء في هذه الشفاعات.
{قال: (ولكن الرسل يشاركونه في هذه الشفاعة فيشفعون في عصاة أممهم، وكذلك الملائكة، بل والمؤمنون كما في الصحيح من حديث أبي هريرة وأبي سعد فيقول الله تعالى: «شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين» وذكر الحديث. وقد استقصى هذه الشفاعات الإمام أبو بكر بن خزيمة في آخر كتاب التوحيد)}.
طبعًا مسألة الشفاعة واعتقاد أنَّ الشفاعة واقعة لأصحاب الكبائر من الأمة، ثبتت في الأحاديث الصحاح وعليها عقيدة أهل السنة، يخالف في هذا الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إنَّ الفاسق الملي، يعني: مُرتكب الكبيرة مخلدٌ في نار جهنم، وهذه من الفروقات بين أهل السنة وبين الخوارج والمعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة أو مَا يُسميه أهل العلم بالمصطلح الفاسق الملي.
{(وكذلك أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة له)} المتوفى سنة مائتين سبعة وثمانين، مشهور كتابه ومطبوع.
{(وكذلك هي مبسوطة بسطًا حسنًا في حديث الصور الذي رواه الطبراني في المطولات، وأبو موسى المدني الأصبهاني، وغيرهما ممن صنف في صنف في المطولات. وقد جمع الوليد بن مسلم عليه مجلدً)}، الوليد بن مسلم مغازي مر معنا الوليد بن مسلم المتوفى سنة مائة وخمسة وتسعون للهجرة.
{قال: (وقد جمع الوليد بن مسلم عليه مجلدًا، وقد أفردت إسناده في جزء، فأما رواية أصحاب الكتب الستة كالصحيحين وغيرها، فإنه كثيرًا ما يقع عندهم اختصار في الحديث أو تقديم وتأخير، ويظهر ذلك لمن تأمله، والله أعلم.
ثم رأيت في صحيح البخاري شيئًا من ذكر الشفاعة العظمى، فإنه قال في كتاب الزكاة [باب من سأل الناس تكثرًا]: "حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم». وقال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم ثم موسى ثم بمحمد». وزاد عبد الله بن يوسف "حدثني الليث عن أبي جعفر: فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أهل الجمع كلهم".
فهذه هي الشفاعة العظمى التي يمتاز بها عن جميع الرسل أولي العزم، بعد أن يسأل كل واحد منهم أن يقوم فيها، فيقول: لست هناكم، اذهبوا إلى فلان، فلا يزال الناس من رسول إلى رسول حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: «أنا له»، فيذهب فيشفع في أهل الموقف كلهم عند الله تعالى، ليفصل بينهم، ويريح بعضهم من بعض)}.
وهذه أحوال وأمور ستجري على الخلائق يوم القيامة، ولا نجاة منها إلا بالعمل الصالح، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُسَهِّلَ علينا وعلى المسلمين أهوال يوم القيامة، وهذا مما يبعث الإنسان على الاستعداد لليوم الآخر، فإنَّ أمامه مواقف وأحداث عِظامٌ وجسامٌ، لا ينفع فيها إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ وعملٍ صالحٍ، ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 88- 89]، فحاجة الناس لتذكر هذا اليوم لا شك أنه يبعثهم على اتقاء هذه المواقف؛ لأنه جاء في الحديث أنَّ الناس يعرقون، وهذا العرق يتفاوتون فيه بحسب أعمالهم، وأنهم يوم القيامة تدنو منهم الشمس ولا ظِلَّ إلا مَن أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، هذه الأمور تبعث الإنسان على الاستعداد لهذا اليوم العظيم، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُنجينا من هذه الأهوال، وأن يُسلمنا وأن يجعل عاقبتنا حميدةً في الدنيا والآخرة.
{قال: (ثم له بعد ذلك شفاعات أربع أخر، منها في إنقاذ خلق ممن أدخل النار. ثم هو أول شفيع في الجنة، كما رواه الإمام أحمد في مسنده، "عن المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شافع في الجنة»)}.
شفاعته -صلوات ربي وسلامه عليه- متنوعة، كما أنَّه يختص ببعض ويشاركه البعض فيها، فهو يشفع لقوم أدخلوا في النار، ويشفع في درجات بعض أهل الجنة؛ لأنَّ الجنة درجات متفاوتة.
{(وهو شفيع في رفع درجات بعض أهل الجنة، وهذه الشفاعة اتفق عليها أهل السنة والمعتزلة ودليلها: ما في صحيح البخاري من رواية أبي موسى أن عمَّه أبا عامر لَمَّا قتل بأوطاس)}، أوطاس مر معنا أنه وادي يقع بين مكة والطائف، وغرب وادي حنين الذي وقعت فيه الغزوة، ولكن لَمَّا تبعهم السرية التي بعثها النبي ﷺ حصل اللقاء في أوطاس.
{(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ، اللهمَّ اجعلْهُ يومَ القِيامةِ فوقَ كثيرٍ مِن خَلقِكَ». وقال عليه الصلاة والسلام لَمَّا مات أبو سلمة بن عبد الأسد: «اللهم ارفع درجته». وسنفرد -إن شاء الله- في الشفاعة جزءًا لبيان أقسامها وتعدادها وأدلة ذلك -إن شاء الله تعالى-.
و أمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يُبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة»، فمعناه في الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4]، وقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر: 24]، فكان النبي ممن كان قبلنا لا يكلف من أداء الرسالة إلا ما يدعو به قومه إلى الله، وأما محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فقال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيع﴾ [الأعراف: 158])}.
هذه من خصائصه ﷺ، أنه رسول إلى الناس جميعًا، إلى الثقلين: الجن والإنس، هذا يختص به النبي ﷺ دون غيره من الأنبياء كما جاءت الآيات مُصرحة بذلك، والنصوص من حديث النبي ﷺ كذلك صرحت بذلك، وقع عليه إجماع أهل العلم.
{(وقال تعالى: ﴿لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ [هود: 17]، وقال تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20]. وفي آي كثير من القرآن تدل على عموم رسالته إلى الثقلين، فأمره الله تعالى أن ينذر جميع خلقه إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، فقام -صلوات الله وسلامه عليه- بما أمر، وبلغ عن الله رسالته.
ومن خصائصه على إخوانه من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين- أنه: أكملهم، وسيدهم، وخطيبهم، وإمامهم، وخاتمهم، فما من نبي إلا وقد أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمر أن يأخذ على أمته الميثاق بذلك)}.
هذا الميثاق للأنبياء ولأقوامهم، هذا الميثاق كما سيأتي معنا في الآية التي ستقرأها.
{(وأمر أن يأخذ على أمته الميثاق بذلك، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 81])}، الإصر هو العهد والميثاق، {(يقول تعالى: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول بعد هذا كله فعليكم الإيمان به ونصرته. وإذا كان هذا الميثاق شاملًا لكل منهم تضمن أخذه لمحمد صلى الله عليه وسلم من جميعهم، وهذه خصوصية ليست لأحد منهم سواه)}.
مَرَّ معنا في عيسى -عليه السلام- أنَّه في رسالته إلى بني إسرائيل أخذ الميثاق على الإيمان والتبشير بنبوة محمد ﷺ؛ لأنَّه ليس بين النبي ﷺ وبين عيسى نبي، ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: 6]، هذا جاءت البشارة باسم النبي ﷺ في كتبهم، في التوراة والإنجيل، ويعرفون ذلك أشد المعرفة، والله -عز وجل- بيَّن هذه المعرفة، ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: يعرفون النبي ﷺ ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 146 ]، هم يعلمون أن محمدًا ﷺ هو النبي الخاتم وهو سيد ولد آدم، وأنَّ البشارة جاءت به، ولكنهم يكتمون هذا الحق ولا يلتزمونه.
{(وهذه خصوصية ليست لأحد منهم سواه ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ولد مسرورًا مختونًا كما ورد في الحديث الذي جاء من طرق عديدة لكنها غريبة وقد قيل إنه شاركه فيها غيره من الأنبياء كما ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب "تنقيح الفهوم")}.
طبعًا الصحيح أنه ﷺ لم يولد مختونًا كما حققه ابن القيم في تحفة المودود، والغريب أنَّ بعض أهل العلم صَنَّفَ مُصنفًا، وكل هذه الأحاديث أنه ﷺ ولد مختونًا لا تصح، وليس في ولادته ﷺ مختونًا أي كمال -وصلوات ربي وسلامه عليه- إنما ولد كما يولد غيره من الأنبياء ومن البشر.
{(ومن ذلك أن معجزة كل نبي انقضت معه ومعجزته صلى الله عليه وسلم باقية بعده إلى ما شاء الله، وهو القرآن العزيز المعجز لفظه ومعناه، الذي تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا، ولن يمكنهم ذلك أبدًا إلى يوم القيامة)}.
الإعجاز اللفظي والبلاغي في القرآن إلى يوم القيامة، والإعجاز الذي ذكره الله -عز وجل- في القرآن واضح لمن أنار الله بصيرته ولمن أراد الهداية، وأمَّا من تغامى عن الحق، فإن الله -عز وجل- يطمس هذه البصيرة ولا يُهدى إلى هذا، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101].
{(ومن ذلك أنه ﷺ أسري به إلى سدرة المنتهى، ثم رجع إلى منزله في ليلة واحدة، وهذه من خصائصه ﷺ، اللهم إلا أن يكون في قوله في الحديث: حيث يقول جبريل للبراق حين جمح لما أراد ﷺ أن يركبه)}، البراق دابة أسري بالنبي ﷺ عليها من مكة إلى بيت المقدس، جاء في بعض الروايات أنها أقل من البغل وأكبر من الحمار، وأنَّ خطوة هذا البراق عند مُنتهى بصره أو عند مُنتهى طرفه.
{(اللهم إلا أن يكون في قوله في الحديث: حيث يقول جبريل للبراق حين جمح لما أراد ﷺ أن يركبه: [اسكن فوالله ما ركبك خيرٌ منه]، وكذا قوله في الحديث: «فربطت الدابة في الحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء»، ما يدل على أنه قد كان يسرى بهم، إلا أننا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم لن يشاركه أحد منهم في المبالغة في التقريب والدنو منه، للتعظيم، ولهذا كانت منزلته في الجنة أعلاها منزلة وأقربها إلى العرش كما جاء في الحديث: «ثم سلوا الله لي الوسيلة»)}، الحديث الثابت في صحيح مسلم، {(«فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو» صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك أن أمته إذا اجتمعت على قول واحد في الأحكام الشرعية، كان قولها ذلك معصومًا من الخطأ، بل يكون اتفاقها ذلك صوابًا وحقًا كما قُرر ذلك في كتب الأصول، وهذه خصوصية لهم بسببه لم تبلغنا عن أمة من الأمم قبلها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض)}، هذا ثابت في الحديث الصحيح.
{(ومن ذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- إذا صُعق الناس يوم القيامة يكون هو أولهم إفاقة، كما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة اليهودي لما قال: لا والذي اصطفى موسى على العالمين)}، نفخة الصعق ثم نفخة البعث، ويكون هذا بالصُّور الذي يشبه البوق وهو القرن، والنافخ إسرافيل كما جاءت بذلك الأحاديث.
{(في قصة اليهودي لَمَّا قال: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فلطمه رجل من المسلمين، وترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)}، طبعًا هذا يدخل فيما ذكرناه في خصائص النبي، لَمَّا قدمنا وقلنا: إن أفضلية النبي ﷺ على غيره من الأنبياء والمرسلين ثابتة، وأنَّ هذه الأفضلية، أي: أفضلية النبي ﷺ لا ينبغي أن تكون على وجه يُوهم التنقص من غيره من الأنبياء، أو ما يُفضي إلى الخصام والنزاع، فلهذا النبي ﷺ لَمَّا حصل هذا الجدال، ذكر هذا تقريرًا لهذا الأصل، مع أنه ﷺ قال: «أنا سيد ولد آدم»، الجمع بينها كما ذكرنا، أن أفضليته ثابتة، وأن التخيير بين النبي ﷺ وبين غيره من الأنبياء على وجه التنقص المفضول لا ينبغي ولا يكون.
{(فقال: «لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجدوا موسى باطشًا بقائمة العرش»)}، باطش يعني تناول هذه قائمة العرش تناولها بشدة وأخذها بشدة، باطشا بقائمة العرش، («فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله» وفي رواية: «أم جوزي بصعقة الطور». وقد حمل بعض من تكلم على هذا الحديث هذه الإفاقة على القيام من القبر، ودليلهم في ذلك ما وقع في بعض روايات البخاري "من حديث يحيى ابن عمرو المديني عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش»)}.
يعني الإشكال في لفظة «أول من تنشق عنه الأرض»، كما يستشكله ابن كثير -رحمه الله-.
{(«فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان ممن صعق أم جوزي بصعقته الأولى». وهذا اللفظ مشكل، والمحفوظ رواية البخاري "عن يحيى بن قزعة، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، فذكر قصة اليهودي إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فأجدوا موسى» وذكر الحديث)}، كأنه يقول: الرواية المحفوظة ليست أول من ستنشق عنه الأرض، وإنما أول من يفيق.
{(فهذا نص صريح لا يحتمل تأويلًا: أن هذه الإفاقة عن صعق لا عن موت، وهذا حقيقة الإفاقة، ثم من تأمل قوله: «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» جزم بهذا، -والله سبحانه وتعالى أعلم-)}.
يرجح ابن كثير -رحمه الله- أن لفظة "أول من تنشق عنه الأرض" غير محفوظة، يعني: شاذة، والمحفوظ هو لفظ الإفاقة، وأن موسى في مسألة الصعق يكون أول من يفيق، «فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور».
{(ومن ذلك أنه صاحب اللواء الأعظم يوم القيامة، ويبعث هو وأمته على نشز من الأرض دون سائر الأمم)}، يعني: على مرتفع، نشز المكان، أي: المرتفع {(يأذن الله له ولهم بالسجود في المحشر دون سائر الأمم، كما رواه ابن ماجه "عن جبارة بن المغلس الحماني، قال: حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور، عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة، أذن لأمة محمد في السجود، فيسجدون له طويلًا، ثم يقال: ارفعوا رؤوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار». وجبارة ضعيف)}، طبعًا الحديث أعله البخاري، ومعنى «عدتكم فداءكم من النار»، يعني الله تكفل بملء النار، فكان هؤلاء بهذا المعنى فداء لاستحقاقهم ذلك.
{(وقد صح من غير وجه أنهم أول الأمم يقضى بينهم يوم القيامة.
ومن ذلك أنه صاحب الحوض المورود، وقد روى الترمذي وغيره: أن لكل نبي حوضًا. ولكن نعلم أن حوضه صلى الله عليه وسلم أعظم الحياض وأكثرها واردً)}،
بالنسبة للحوض وجه الخصوصية حينما أورده ابن كثير -رحمه الله- مع أن لكل نبي حوضًا كما ثبت في الحديث، أن حوض النبي ﷺ أكبر هذه الأحواض وأكثرهم وردًا، وأنَّ هذا الحوض عظيم، والحوض هو مجمع الماء الذي يكون في أرض المحشر، جاء في وصف هذا الحوض أحاديث كثيرة جدًّا، مداده من نهر الكوثر، ونهر الكوثر من الجنة، وأن مسيره شهر، وطوله وعرضه أقرب ما يكون إلى شكل الدائري للحوض، وماءه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وأحلى من العسل، وأن له أشياء يتناول بها وهي الكيزان، وأنها كنجوم السماء، وأنَّ من شرب من هذا الحوض لا يظمأ أبدًا، وأن هذا الشرب بشرى لمن شرب منه، وأنه يُزاد عنه أقوام، وأنه يقال للنبي ﷺ: إنهم لا تدري ما أحدثوا بعدك، فدل ذلك على أنَّ أهل البدع لا يردون من حوضه ﷺ؛ لأنهم أحدثوا، إلى غير ذلك من الأحاديث، فأحاديث الحوض متواترة وثابتة ورواياتها كثيرة جدًّا.
فهذا وجه أن ابن كثير -رحمه الله- أورد الحوض مع أنه جاء في الأحاديث بدلالتها، مما تدل على أن الأحاديث لها طرق أن لكل نبي حوض وهو لا يختص بالنبي ﷺ.
{(ولكن نعلم أن حوضه صلى الله عليه وسلم أعظم الحياض وأكثرها واردًا، ومن ذلك أن البلد الذي بعث فيه أشرف بقاع الأرض، ثم مهاجره على قول الجمهور، وقيل: إن مهاجره أفضل البقاع كما هو مأثور عن مالك بن أنس)}، التفضيل بين مكة والمدينة، {(ثم مهاجره على قول الجمهور، وقيل: إن مهاجره أفضل البقاع كما هو مأثور عن مالك بن أنس -رحمه الله- وجمهور أصحابه.
وقد حكى ذلك عياض السبتي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والله أعلم، ونقل الاتفاق على أن قبره الذي ضم جسده بعد موته أفضل بقاع الأرض. وقد سبقه إلى حكاية هذا الإجماع القاضي أبو الوليد الباجي وابن بطال وغيرهما، وأصل ذلك ما روي أنه لما مات صلى الله عليه وسلم اختلفوا في موضع دفنه فقيل بالبقيع، وقيل بمكة، وقيل ببيت المقدس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن الله لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه. وذكره عبد الصمد بن عساكر في كتاب تحفة الزائر. ولم أره بإسناد)}.
طبعًا هذا الموضع فيه نظر، يعني كلام ابن كثير -رحمه الله- وحكاية الإجماع هذه لا تصح، أن موضع القبر أفضل البقاع، وعلى ذلك أدلة كثيرة جدًّا، لهذا ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قال: أما نفس محمد ﷺ فما خلق الله خلقًا أكرم عليه منه، وأما نفس التراب الذي دفن فيه النبي ﷺ فليس هو أفضل من الكعبة، البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه ولا وافقه أحد عليه، إذًا دلَّ على أنَّ حكاية الإجماع فيها غلط من جهة تحديد ما يُراد به الإجماع، ولهذا القاضي عياض -غفر الله له- صاحب كتاب الشفاء في حقوق المصطفى، مشهور وله بعض العبارات المطلقة في حق النبي ﷺ فيها غلو، وهو مشهور من فقهاء المالكية، وله كتب عظيمة هناك عن ترتيب المدارك وتقريب المسالك، وكتاب الشفاء من أشهرها، ومشارق الأنوار.
القاضي عياض -رحمه الله- قُتِلَ سنة خمسمائة أربعة وأربعون، أنا أقول قُتل لأنه قتل بسبب فتنة دولة الموحدين، وكان له مُواجهة مع دولة الموحدين والدجل الذي كان يُشيعه المهدي بن تومرت الموحدي؛ لأنَّ دولة المرابطين كانت هي التي في بلاد المغرب، ثم ثار هؤلاء وكان المهدي بن تومرت له مخاريق ودجال من الدجاجلة، كان بسببه فتنة عظيمة -نسأل الله العفو والعافية- قامت هذه الدولة، وممن عارضها القاضي عياض -رحمه الله- وقتل بأسنة الرماح وقطع جسده -رحمه الله وغفر الله له-، ثم بعد ذلك بعد فترة من الزمن جمع رفاته ووضع في قبر، غفر الله للقاضي عياض ورحمه لكنه في هذا الموضع لم يحسن، وتحرير كلام ابن تيمية واضح، هو يحصل به فهم الخلاف في هذا.
{(ومن ذلك أنه لم يكن ليورث بعد موته، كما رواه أبو بكر وأبو هريرة رضي الله عنهما، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة». أخرجاه من الوجهين ولكن روى الترمذي بإسناد جيد في غير الجامع، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نحن معشر الأنبياء لا نورث»)}.
طبعًا الصحيح أن هذا ليس خاصًا بالنبي ﷺ بدلالة هذا الحديث، «نحنُ معشرَ الأنبياءِ لا نورَثُ ما ترَكناهُ فهو صدقةٌ»، وكون الأنبياء لا يورثون صح فيه الحديث ووقع عليه الإجماع، وكونه ﷺ لا يورث هذه من دلائل نبوته ﷺ، وأن هذا الحكم طبعًا جرى على جميع ورثة النبي ﷺ ومنهم: أمهات المؤمنين، ومنهم عائشة -رضي الله عنها-، فتزيد بعض أهل البدع بهذه المسألة والزعم بأن أبا بكر -كما مر معنا- حبس حق فاطمة -رضي الله عنه- مخالف للأدلة وما تدل عليه الظواهر والسيرة النبوية وسيرة الصحابة -رضوان الله عليهم-، هذا الحقيقة اتهام لأبي بكر واتهام للصحابة، أن الصحابة -رضوان الله عليهم- رأوا أن حق ابنته فاطمة -رضي الله عنها- يُمنع ولا يستطيعون إعادته، هذا طبعًا كله من الضلال المبين، طبعًا هم يستدلون ببعض المتشابه مثل آيات ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: 6]، في القرآن ﴿وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ [النمل: 16]، وهذه الوراثة باتفاق أهل العلم بالتفسير أنها وراثة النبوة وليست وراثة المال.
{(فعلى هذا يكونون قد اشتركوا في هذه الصفة دون بقية المكلفين.
فصل:
ومما يشترك فيه هو والأنبياء أنه ﷺ كانت عيناه تنام ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء. وجاء في الصحيح: «تراصوا في الصف فإني أراكم من وراء ظهري» فحمله كثير على ظاهره، والله أعلم، وقال أبو نصر بن الصباغ: كان ينظر من ورائه كما ينظر من قدامه، ومعنى ذلك التحفظ والحس)}، طبعًا تنام عيناه ولا ينام قلبه، المراد أن عقله معه فلا يُغادره ولا يشعر بهذا، وهذا من خصائصه ﷺ التي يختص بها دون غيره من الخلق، ويشاركه في الأنبياء، يعني دون غيره من البشر، هذه خاصة، ثم قال في مسألة تراص الصف: «فإني أراكم من وراء ظهري»، يعني: أنه ﷺ يرى من خلفه كما يرى من أمامه، ويقول ابن حجر: والصواب أنه محمول على ظاهره وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به، واختلف هل هو عام أم خاص بالصلاة؟ ودلالة النصوص تدل على أنه عام.
{(وجاء في حديث رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس مرفوعًا: الأنبياء أحياء في قبورهم يُصلون)}.
طبعًا هذا الحديث نريد أن نتكلم عنه، حديث الأنبياء وإحياءهم في قبورهم وهم يُصلون، حديث فيه ضعف لكن في البخاري أنه مررت بموسى في قبره وهو قائم يُصلي، هذه فيه إشكال من وجهين، الأحاديث يدخل فيه الكلام؛ لأن أصل هذه المسألة، يعني حياة النبي ﷺ مبني على الكلام في النبوة، أول ما تُكلم بهذه المسألة تكلم في النبوة، فإنه نسب لبعض الأشاعرة، القول بأن النبوة عرض، وفي اصطلاح أهل الكلام أنَّ العرض لا يبقى زمانين ولا ينتقل من مكان إلى مكان، يعني العرض لكي نبسطه للإخوة المشاهدين والمشاهدات، يعني: شيء معنوي ما هو محسوس، وعليه فنبوته بعد موته زالت، وهو الآن في قبره ليس بنبي باعتبار النبوة عرض، وممن نسب لهم هذا القول واشتهر عنهم أنهم قد قالوا به: السجزي في رسالة لأهل زبيد، ولابن قدامة في حكاية المناظرة، وابن حزم في الفصل، والذهبي في سيرة أعلام النبلاء في قصة ابن فورك؛ لأنَّ هذه المسألة نسبت إلى ابن فورك من الأشاعرة، وكذلك الشيرازي في مسائل الامتحان، شُنِّع عليهم، وهذا مما جعل من جاء بعدهم يقع في خطأ أعظم من هذا.
طبعًا هم يقولون: إنهم قالوا ذلك في مقام المناظرة، لَمَّا كانوا يناظرون الكُرَّامية في خراسان، فأثناء المناظرة استلزموا مثل هذه الاستلزامات الخاطئة، وقال: إنه لا يلزم من المذهب، يعني إلزام في هذه المسألة التزموا به أنه شنع عليهم بسببها، وقالوا: إن النبي ﷺ ليس بنبي الآن، لا شك أن هذا يترتب عليه محاذير خطيرة جدًّا ومع ذلك عقدية، وهذا مما جعل من بعدهم ينفي هذه النسبة مثل ابن قشيري من الأشعرية، وقلنا لزمت بعضهم لأجل المناظرة، ثم بعد ذلك الأشاعرة على خلاف ذلك، ولكن هذا القول، يعني: الكلام في مسألة النبوة حمل بعضهم على القول بحياته ﷺ حياة حقيقية، وهذا لا شك أنه خلاف ما تدل عليه النصوص، وهذا خلاف الصواب؛ لأن حياة النبي ﷺ في قبره حياة برزخية مختلفة عن الحياة الدنيوية، وهي أكمل من حياة الشهداء التي جاءت النصوص بأنهم أحياء ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[آل عمران: 169]، فبإجماع أهل العلم بالتفسير أن هذه الحياة حياة برزخية وليست حياة كحياة الدنيا، لأنَّ الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، والدار الآخرة، هذه الحياة تخصها لها أحكام خاصة.
وهذا ما جعل بعضهم يُصنف فيه مصنفات، كالبيهقي -رحمه الله وغفر الله له- صنف جزءًا جمع فيه الأحاديث التي تفيد حياة الأنبياء، وذكر في هذا الجزء حياة الأنبياء في قبورهم وتكلم عليها، جاء بعده السيوطي فَغَلَى وكتب كتابًا أشد، اسمه تنوير الحُلَك في رؤية النبي والْمَلَكْ، ولا شك أنَّ هذا خلاف الصواب، الزعم بأن النبي ﷺ حياته حياة حقيقية، وأنه في قبره كما أنه كان في حياته الدنيا، هذا لا شك أنَّ هذا منهج ظالم وغير صحيح ولا تدل عليه النصوص، وهذا ما أوقع بعضهم في الغلو في النبي ﷺ وأن يَدعونه من دون الله -عز وجل- باعتبار أنه حي ويسمع كلامهم.
ولهذا طائفة بلاوية في الهند على هذا الاعتقاد الفاسد، وهو أن النبي ﷺ حي، وضلت طوائف لأجل هذه المسألة.
إذًا خلاصة ما ذكرنا: أن حياة الأنبياء في قبورهم هي حياة أكمل من حياة الشهداء، وأنها حياة برزخية، وأن لا علاقة لهم بأحكام الدنيا، ولهذا هذه النصوص تُحمل على هذا المعنى، فالحديث هذا فيه ضعف كما ذكرنا وله أجوبة كثيرة جدًّا، وأمَّا حديث «مررت بموسى في قبره وهو قائم يصلي»، فذكر أهل العلم أن هذا على وجه النعيم لهؤلاء الأنبياء؛ لأنه انقطع التكليف وانقطع كل شيء بانتقالهم إلى دار البرزخ، وهذا ما تدل عليه ظواهر النصوص.
فإذًا الكلام في هذا واضح وبين، أن حياة النبي ﷺ في قبره ليست هي الحياة الحقيقية التي هي الحياة الدنيوية، وأن النبي ﷺ انقطع عن أمته، دلائل كثيرة جدًّا، ولهذا الصحابة -رضوان الله عليهم- ما كانوا يأتون النبي ﷺ ويسألونه عمَّا يُشكل عليهم، من وقت وفاة النبي ﷺ اختلفوا في أين يدفن النبي ﷺ، فدل هذا أنَّ النبي ﷺ انقطع هذه الأمة بوفاته ﷺ، وكانت وفاته ﷺ من أعظم المصائب على الأمة.
{(القسم الثاني: ما كان مختصًا به دون أمته وقد يشاركه في بعضها الأنبياء، وهذا هو المقصود الأول فلنذكره مرتبًا على أبواب الفقه.
كتاب الإيمان
فمن ذلك أنه كان معصومًا في أقواله وأفعاله، لا يجوز عليه التعمد ولا الخطأ الذي يتعلق بأداء الرسالة ولا بغيرها فيقر عليه، فلا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. فلهذا قال كثير من العلماء: لم يكن له الاجتهاد، لأنه قادر على النص. وقال آخرون: بل له أن يجتهد، ولكن لا يجوز عليه الخطأ، وقال آخرون: بل لا يقر عليه. فعلى الأقوال كلها هو واجب [العصمة] لا يتصور استمرار الخطأ عليه، بخلاف سائر أمته، فإنه يجوز ذلك كله على كل منهم منفردًا، فأما إن اجتمعوا كلهم على قول واحد فلا يجوز عليهم الخطأ كما تقدم)}.
طبعًا تلخيص هذا الكلام أن عصمة النبي ﷺ تتعلق بحالتين:
الحال الأولى: العصمة في تبليغ الدين، وهذا أجمع المسلمون عليه، أن النبي ﷺ معصوم في تبليغ الدين من الخطأ.
والحال الثاني: العصمة من الأخطاء البشرية، أما كبائر الذنوب فلا تصدر منه ولا من الأنبياء أصلًا، لا بعد البعثة ولا قبلها على الصحيح من أقوال أهل العلم، وتدل على ذلك دلائل النصوص.
أمَّا الصغائر فقد تقع من الأنبياء ومنهم نبينا ﷺ، لكن لا يُقرون عليها، كما دلت على ذلك النصوص، بل ينزل الوحي بالتنبيه عليهم مُبادرة بالتوبة، طبعًا النصوص في ذلك كثيرة، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءَهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس:1 - 3]، إلى غيره من النصوص المثبتة لذلك، فإذًا إنما الصغائر قد تقع منهم ولكن لا يقرون عليها.
{(ومن ذلك ما ذكره أبو العباس بن القاص أنه كلف وحده من العلم)}، العباس بن القاص فقيه شافعي توفي سنة ثلاثمائة خمسة وثلاثين {(أنه كلف وحده من العلم ما كلف الناس بأجمعهم)}، يعني تحمل من العلم، {(واستشهد البيهقي على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم إذ أتيت بقدح فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب» رضي الله عنه. قالوا: فما أول ذلك يا رسول الله؟ قال: «العلم». رواه مسلم.
ومن ذلك أنه كان يرى ما لا يرى الناس حوله، ففي الصحيح "عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: هذا جبريل يقرأ عليك السلام، فقالت: عليه السلام. يا رسول الله، ترى ما لا نرى؟! "وعنها في حديث الكسوف الذي في الصحيحين: «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرً»". وقال البيهقي: "أخبرنا الحاكم قال: أخبرنا محمد بن علي بن دحيم، قال: حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن مورق، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُور﴾ [ الإِنسان: 1] حتى ختمها، ثم قال: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط»)}، أطت يعني: ثقلت، والأطيط صوت الأقتاب، والأقتاب حبال الرحل، {(«ما فيها موضع قدر أصبع إلا ملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرً»)}، هذا الذي رواه البخاري، هذه اللفظة أما ما قبلها فرواه أهل السنة.
{(«وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله»)}، يعني ترفعون صوتك بالاستغاثة، الصعدات يعني الأماكن العالية، {(«والله! لوددت أني شجرة تعضد». رواه ابن ماجه، قال البيهقي: يقال إن قوله: شجرة تعضد من قول أبي ذر، والله أعلم)}، هذا واضح أن هذا من قول الراوي وليس من قول النبي ﷺ.
{(ومن ذلك أن الله أمره أن يختار الآخرة على الأولى، وكان يحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به المترفون من أهل الدنيا، ودليله من الكتاب العزيز ظاهر)}، يعني يقصد به ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131].
{(ومن ذلك أنه لم يكن له تعلم الشعر، قال الله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس: 69]، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقًا أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من قبل نفسي»)}، لعل اللفظة ما أتيتُ {(«ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقًا أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من قبل نفسي»، رواه أبو داود، فلهذا قال أصحابنا: إنه كان يحرم عليه تعلم الشعر)}، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾، فالنبي ﷺ مقام الشعر لا يليق بمقام النبوة.
{أحسن الله إليكم، هل من بيان لمعنى «إن أنا شربت ترياقًا أو تعلقت تميمة»؟}.
هذا على وجه تنفير، وبيان نفرة النبي ﷺ من أن يكون على هذا الوجه من إلقاء الشعر، حتى أن يفضل الترياق وهو السُّم أو تعليق التميمة، وفيه تحذير من تعليق التمائم، كما جاءت في ذلك النصوص.
{(ومن ذلك أنه لم يكن يحسن الكتابة، قالوا: وقد كان يحرم عليه ذلك، قال الله تعالى: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48])}، وهذا هو المستقر والثابت والأصل، أن النبي ﷺ لا يكتب وهو النبي الأمي، هذا دلالة النصوص واضحة وبينة.
{(وقد زعم بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى تعلم الكتابة. وهذا قول لا دليل عليه، فهو مردود، إلا ما رواه البيهقي من حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل، عن مجالد، عن عون بن عبد الله، عن أبيه قال: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. وقال مجالد: فذكرت ذلك للشعبي فقال: قد صدق، قد سمعت من أصحابنا يذكرون ذلك. ويحيى هذا ضعيف، ومجالد فيه كلام)}، هذا غير صحيح لا من جهة السند ولا من جهة المتن.
ابن كثير -رحمه الله- لعل الوقت يُسعفنا، لم يسمِّ فيما يظهر لي، فهذا الذي ادعى أنه كتب ﷺ صلح الحديبية، فذكر ما ترتب على ذلك، طبعًا هو يريد أبو الوليد الباجي المالكي المتوفى سنة أربعمائة أربعة وسبعون المعاصر لابن حزم الأندلسي الظاهر وألف رسالة سماها تحقيق المذهب، موجودة مطبوعة حققها الشيخ محمد بن عمر بن عقيل أبو عبد الرحمن الطاهري، موجودة ومطبوعة.
لكن الخلاصة: أن أبو الوليد الباجي تكلم في هذه المسألة، وذكر قصة الحديبية وأن النبي ﷺ كتبها، فحصلت الشناعة عليه بسبب هذه المسألة، ترتب عليها أمور، ولهذا من المهم جدًّا في مثل هذه المسائل، أن الإنسان يستفيد من سير العلماء، تجد بعض أهل العلم -سبحان الله- لأمر قد قضاه الله -عز وجل- يخرج منه أقوال ربما لا تناسب أو شاذة، فلا ينبغي أن يتبع في هذا الشذوذ، وتحصل له الشنائع فيها وتحصل له فتنة وربما منع الناس من الخير الذي يجري على يديه، وهذه وقائع وصفت، ومنها ما حصل لأبي وليد الباجي، حصل كلام بل بعضهم كفره لأجل هذا، والسبب هو الاشتباه، وحتى مثل هذه الاجتهادات التي قد ينفرد بها ينبغي أن يظهرها، لأن أبو وليد الباجي -غفر الله له- وقع في هذا الخطأ وصارت عليه الشنائع، سيذكر لك الآن ابن كثير -رحمه الله- سبب هذه الشنائع.
{(وهكذا ادعى بعض علماء المغرب أنه صلى الله عليه وسلم كتب يوم صلح الحديبية، فأنكر ذلك عليه أشد الإنكار، وتبرءوا من قائله على رؤوس المنابر، وعملوا فيه الأشعار، وقد غره في ذلك ما جاء في بعض روايات البخاري: [فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله..]، وقد علم أن المقيد يقضي على المطلق، ففي الرواية الأخرى)}، يعني هذه الرواية مفسرة لما أجمل، فمهما كانت الروايات لا ينبغي في مثل سرد التاريخ والقصص يجزم برواية حكاية عن أحد، لأنه يحصل فيها الغلط والاختلاف والمحفوظ وغير المحفوظ، ولهذا ابن كثير قال: (ففي الرواية الأخرى: [فأمر عليًا فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ])، فهذا يعني اليقين في مثل هذا والمحكم أن النبي ﷺ لم يكتب، وهذه من وجه الإعجاز أن النبي ﷺ أنه يكتب، والله قادرٌ أن يجعله كاتب، ولكن لأجل أن يكون الإعجاز في النبوة أنه كان أمي، ولهذا من فضائله ﷺ أنه النبي الأمي -صلوات ربي وسلامه عليه-.
{(وقد علم أن المقيد يقضي على المطلق، ففي الرواية الأخرى: [فأمر عليًا فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم])}.
من راجع فتح الباري في صلح الحديبية، سيجد أن ابن حجر -رحمه الله- ذكر أجوبة كثيرة جدًّا ومتعددة على ما يشكل من هذا اللفظ المتشابه، فأبو الوليد الباجي -غفر الله له- حينما تكلم في هذه المسألة اعتمد على رواية مشتبه، وحصلت له الشناعة وألف هذا الكتاب الذي هو تحقيق المذهب في إثبات أن النبي ﷺ كتب، في بيان الرأي الذي قال به، لكن هذا لا يناسب حتى لو أنه هذا اجتهاد إشهار هذا، ولهذا حصلت له الشناعة وحصلت له فتنة بسبب هذا، فإذًا العلم يحتاج سياسة، ولكل مقام مقال ينبغي للإنسان أن يراعي هذا ويستفيد من الدروس، طبعًا ثم وقائع كثيرة جدًّا، من قرأ في سير العلماء، يجد أن بعض أهل العلم -سبحان الله- قد يتبنى قول شاذ وتحصل له الفتنة فيه، وقد تكون أصلًا هذه المسألة ليست كبير مسائل ولا يترتب عليها شيء.
الحقيقة هي من الدروس التي يُستفاد منها، طبعًا لعلنا -إن شاء الله- في هذا نتوقف لنكمل -إن شاء الله- في الحلقة القادمة ما يتعلق بهذه المسائل التي سيوردها ابن كثير -رحمه الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم وشكر لكم ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
جزاك الله خيرًا.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.