{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح لكتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{قال -رحمه الله-: (ولهذا لما ذكر مسلم في صحيحه في فضل معاوية، أورد أولاً هذا الحديث، ثم أتبعه بحديث «لا أشبع الله بطناً..» فيحصل منهما مزية لمعاوية رضي الله عنه. وهذا من جملة إمامة مسلم رحمه الله تعالى)}.
طبعًا مر معنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فإنَّما أنا بَشَرٌ، فأيُّ المُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ أوْ شَتَمْتُهُ، أوْ لَعَنْتُهُ، أوْ جَلَدْتُهُ، فاجْعَلْها له صَلاةً وزَكاةً، وقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بها إلَيْكَ يَومَ القِيامَةِ» على اختلاف في روايات هذا الحديث، ولهذا ابن كثير قال: (لما ذكر مسلم في صحيحه في فضل معاوية، أورد أولاً هذا الحديث، ثم أتبعه بحديث «لا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ» أو «بطنًا..» فيحصل منهما مزية لمعاوية رضي الله عنه. وهذا من جملة إمامة مسلم رحمه الله تعالى) يعني: من جملة أنه فقيه -رحمه الله-، عنده فقه وعنده صناعة الحديث أنه يورد الحديث بنظيره، وفيه ذكرنا أن حديث ابن عباس لما قال: " كُنْتُ أَلْعَبُ مع الصِّبْيَانِ فأمرني النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أدعو معاوية له" أي: للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ذهبت فجئت فقلت: هو يأكل"، يعني مشتغل بالطعام، فقال: «لا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ»، فأورد الإمام مسلم هذا في فضائله لِمَا ذكره قبل من الحديث.
فكانت هذه من فضائل مُعاوية وله فضائل غيرها، وهذا يدعونا إلى الكلام عن معاوية -رضي الله عنه- وهو من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الحديث يدلنا دلالات:
أولاً: أن معاوية كان قريباً من النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجلسه وكان من كُتابه، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعين به، كان معاوية -رضي الله عنه-كاتبًا وقارئًا، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفيد منه في كتابته للملوك، وكان من كُتاب الوحي وإن تأخر إسلامه -رضي الله عنه-، ومن مناقبه دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ»، وثبت أنه أسلم قبل الفتح وكتم إسلامه لأجل مقام أبيه، وشارك مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين، وهذه من فضائله، وأول من غزا مجاهداً في سبيل الله على البحر، كما روى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِن أُمَّتي يَغْزُونَ البَحْرَ قدْ أوْجَبُو»، وكان من فضائله أن الأمة اجتمعت عليه في عام الجماعة.
يقول ابن تيمية -رحمه الله- في تحقيق فضائل معاوية: "اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، وكان مُلكُهُ مُلكًا ورحمة".
ومن فضائله: أن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- تنازل عن الخلافة والولاية له؛ لأنه في سياق التعريف ستعرف قصة ما حدث بعد عليٍّ ومعاوية ثم ما جاء من الحسن.
من فضائل الحسن أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أثنى عليه لأجل أنه يحقن دماء المسلمين ويجتمع بذلك المسلمون، فيجتمع المسلمون على إمام واحد وهو عام الجماعة، فإذا ذُكرت فضائل الحسن ذُكر أنه تنازل -رضي الله عنه- بالخلافة لمعاوية، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل الحسن: «إنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ، ولَعَلَّ اللَّهَ أنْ يُصْلِحَ به بيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ» أو كما ورد، فأصلح الله به وكانت من فضائله -رضي الله عنه-، وهذا يتضمن الثناء على الطائفة الأخرى أنها من جملة المسلمين.
معاوية -رضي الله عنه- وعن أبيه، لأن أباه كانت له صحبة، أي: كان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يسميه بعض أهل العلم ستر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما مر معنا، الستر هو الستارة، وهو الذي يحجب عما وراءه.
قال بعض السلف: "فإذا كشف الرجل الستر اجترئ على ما ورائه"، يعني الذي يجترأ على معاوية، هذا أبو توبة الحلبي ذكر عنه هذا، إذا اجترئ على معاوية يؤول بهم الأمر أن يجترؤوا على باقي أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال وكيع بن جراح: "معاوية بمنزلة حلقة الباب من حركه أو حركها اتهمناه على من فوقه" يعني على غيره من الصحابة.
يقول عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "معاوية عندنا محنة" يعني: يمتحن به، تكلم فيه دل على أنه ليس على السنة، تكلم على معاوية، "فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه"، وهذا من المهم جدًّا أن يُعلم مقام معاوية -رضي الله عنه-، وأن التعرض له بسوء لا يكون من أهل السنة، وأنَّ الطعن في معاوية يعد خروجاً عن سبيل المؤمنين، ويؤول بالإنسان إلى القدح في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يتوقف الأمر على معاوية، ولهذا عِرضُ أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب أن يكون مصاناً، مع هذا نقطع أن أصحابه ليس بمعصومين، هذه من عقيدة أهل السنة والجماعة، إنهم لا يعتقدون العصمة في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم يعتذرون لأصحابه، ويحملون أقوالهم وأعمالهم التي فعلوها على أحسن حال، وهذا هو الواجب لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبخاصة أنه جاءت النصوص بفضلهم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾[التوبة: 100]، ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، إلى غير ذلك من الثناء عليهم في محكم كتابه، وهذا ينبغي أن يُعلم وأن يصان عرض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوقيعة فيه أو الكلام فيه.
{قال (ومن الجهاد.
مسألة: وكان إذا لبس لأمة الحرب لم يجز له أن يقلعها حتى يقضي الله أمره، لحديث يوم أحد لما أشار عليه جماعة من المؤمنين بالخروج إلى عدوه إلى أحد فدخل فلبس لأمته، فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله، إن رأيت أن ترجع؟ فقال: «إنه لا ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل»، الحديث بطوله ذكره أصحاب المغازي)} وهذا رواه البخاري في كتاب الاعتصام، {(فقال عامة أصحابنا: إن ذلك كان واجباً عليه، وإنه يحرم عليه أن ينزعها حتى يقاتل. وفرعوا عليه أنه لو شرع في تطوع لزمه إتمامه على أحد الوجهين، وهو ضعيف، لِمَا قدمنا في الصوم. والله أعلم)}، وقد وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصبح صائماً ثم يفطر، {(وقد ضعف هذا التفريع أبو زكريا أيض)} أبو زكريا هو النووي.
لأمة الحرب هي لباس الحرب، وهذا ليس خاصاً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هي من خصائص الأنبياء، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما كان لنبي» فدل على أن هذا يشمل النبي وغيره من الأنبياء، وهذا يدعونا للكلام على أصل هذه القصة.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري، "رأى أنه في درع حصينة، ورأى بقرًا تُنحر" رؤيا منام، فأول الدرع الحصينة بالمدينة، والبقر بأصحابه، فقال لأصحابه -حينما أرادت قريش أن تثأر من معركة بدر- قال لأصحابه: "لو أن أقمنا بالمدينة، فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم" هكذا أشار عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا هو الرأي، وكانت فيه إشارة من خلال الرؤية، ورؤيا الأنبياء حق، قالوا: يا رسول الله -لكن الكلام في تأويل الرؤيا، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الرأي لهم، لم يجزم ولم يقطع- قالوا: "يا رسول الله ما دخلوا علينا في أيام الجاهلية"، شباب الأنصار الذين لم يحضروا بدر، "فيكف يدخلون علينا فيها في الإسلام" عرب فيهم أنفة، فعلم أنهم لا يريدون هذا الرأي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "شأنكم إذاً"، قال الراوي: "فلبس لأمته" يعني: لباس الحرب، فلما رأوا أنهم قد أكرهوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما لا يريد، فقالوا: يا رسول الله رددنا عليك يا رسول الله ما رأيك؟ أو قالوا فيما بينهم: "رددنا على رسول الله رأيه" فكأنه شق عليهم، كيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشير علينا ونحن نرد عليه، "فجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما لبس لأمته، فقالوا: يا نبي الله شأنك إذاً" هو الرأي رأيك أن نجلس في المدينة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يُقَاتِلَ»، كانت من خصائص الأنبياء.
فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في قصة أحد، وأمر الرماة بأن يبقوا في جبل الرماة وعليهم عبد الله بن الجبير، قال: «إن رأيتُمونا تَخطفُنا الطَّيرُ، فلا تبرَحوا من مَكانِكُم»، وكانت الغلبة في بداية المعركة لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم لما رأوا المغانم بالطبيعة البشرية نزلوا، فمكث عبد الله بن الجبير -رضي الله عنه- امتثالاً لأمره، لكنه ما استطاع أن يمنع الرماة من النزول؛ لأنهم رأوا خلاص الغنائم والعدو انكسر، فخرج عليهم خالد بن الوليد بسرية، فجاءهم من وراء ظهورهم، أي: من وراء جبل الرماة، ثم دخل وفاجئ جيش المسلمين، فحصلت المعركة وانكسر المسلمون في أحد، فحصل ما حصل وأنزل الله آيات تتلى إلى يوم القيامة في غزوة أحد، ولعل -إن شاء الله- في أعقاب الانتهاء من الدرس نتكلم عن الدروس المستفادة من غزوة أحد؛ لأن فيها معاني وفيها آيات عظيمة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُو﴾ [آل عمران: 155]، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165]، فهي معالم تربوية وعظيمة تتعلم منها الأمة المحمدية إلى يومنا هذا، فهذا هو سبب القصة وذكر ذلك من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{قال: (مسألة: وذكروا في خصائصه صلى الله عليه وسلم وجوب المشاورة، يعني أنه يشاور أصحابه في أمور الحرب، قال الله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]. قال الشافعي: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الحسن: "لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غنياً عن المشاورة، ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده". قلت: فعلى هذا لا يبقى من الخصائص)}.
كأن ابن كثير -رحمه الله- يميل إلى أنها ليست من خصائصه وأنها لا تجب عليه، طبعًا هم ذكروا أنه يجب عليه المشاورة، والظاهر أنها كما ذكر ابن كثير أنها لا تجب، لكن كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: إن الله -عز وجل- قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، ولذلك ذكر ابن كثير أثر أبا هريرة "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
مر معنا -قبل قليل- في قصته في أحد وفي بدر لما قال: أشيروا علي، قال الحباب بن المنذر ليس هذا بالرأي، وأشار عليه برأي آخر، والقرآن ذكر هذا، أنه من معالم أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- المشورة والمشاورة، قال الله -عز وجل-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
قيل في التفسير: علم أنه ما به إليهم من حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- شاور أصحابه في مواضع كثيرة جدًّا وهذا ثابت من سيرته -صلى الله عليه وسلم-، والمشورة والمشاورة من أخلاق الرجال الكُمَّل، والإنسان لا غنى له عن المشورة والمشاورة حتى وإن كان عاقلاً حصيفاً ذكيًا؛ لأن المشورة استخدام لعقول الآخرين مجاناً كما يقال، والمشورة مما يحثُّ عليها العقلاء وأصحاب الحزم والعلم؛ لأنَّ الإنسان بحاجة إلى المشورة؛ لأنك تستفيد من الآخرين وتنتفع بهذه المشورة، فدائماً الإنسان يستشير في كل شيء، ويعقبُ هذه المشورة الأمر الشرعي وهو الاستخارة، كما في حديث جابر الذي ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمه دعاء الاستخارة كما يعلمه سورة من القرآن.
فلا شك أنَّ المشورة مما ينبغي أن يتخلق به الإنسان، وكون الإنسان ما يشاور دليل نقصٍ وليس دليل كمالٍ.
تبع لهذه المسألة اختلف الفقهاء هل الشورى معلمة للحكام أو ملزمة؟ يعني هل تلزمهم أو تعلمهم؟
فعلى كل حال من خصائص الشورى أو المنهج الشوري في الإسلام معلم من معالم الإسلام، وهو معلم من سيرته -صلى الله عليه وسلم-، وهي كما يقال من خصائص النظام السياسي الإسلامي الذي يتفوق به على غيره من النظم الوضعية الديمقراطية، والأنظمة السياسية الأخرى أنظمة وضعية من قِبل البشر، أما نظام الشورى فهو رباني من الله -عز وجل-، ولهذا يتفوق، ومما يتفوق به نظام الشورى عن غيره من الأنظمة أنه يحيل الرأي إلى أصحاب الرأي، فالأنظمة الأخرى الوضعية تساوي في الاختيار والرأي بين العاقل الحصيف والعالم وبين غيره من السفهاء ومن أنصاف المتعلمين، لكن الإسلام يناط في مسألة الشورى بأهل الرأي، يسميهم الفقهاء في الإسلام أهل الحل والعقد، حل وعقد يعني حل وربط، العقد هو الربط، هو أمراء القبائل ووجهاء الناس وأصحاب العلم وأصحاب المال، هؤلاء هم الذين يناط بهم ثلاثاً، مستقبل البلد يناط بمثل هؤلاء العقلاء منهم لا شك.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- من معالم سيرته أنه شاور أصحابه في وقائع متعددة، شاورهم في يوم بدر، وفي يوم أحد، وفي مصالحة الأحزاب لما أحاط الأحزاب بالمدينة وأشار على الأنصار -يعني الأوس والخزرج- أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة حتى يسلموا، فأبى الأنصار -رضي الله عنهم- وأبى الأوس، قالوا: ما كانوا يحلمون بتمر المدينة إلا قرى أو هدية، فكيف لنا أن نعطيهم، نحن في الجاهلية ثم أعزنا الله بك، فامتنعوا.
شاورهم في يوم الحديبية، أشار عليه أبو بكر قال لما منعوه من العمرة، فقال أبو بكر: "إنما جئنا لأجل أن نعتمر ولم نأت لقتال".. هل يقاتلهم، وقام على المنبر وطلب مشورة أصحابه في قصة الإفك كما مر معنا، وكذلك من جاء بعده، شاور أبا بكر الصحابة في مواضع كثيرة، وعمر -رضي الله عنه- شاورهم قبل ذلك وجعل أمر الخلافة إلى ستة نفر، وكذلك تعاقب أهل الإسلام على هذا.
فإذاً من خصائص النظام الإسلامي هي الشورى، ومن كمال الرجل أن يكون مستشيرًا لما هو أحلم منه، دون هذه الشورى لا شك أن الإنسان قد يقع في المزالق وتقع في الأخطاء، فانتشار الشورى والمشورة مع أهل العقل لا شك أنها دليل كمال للرجل وليس دليل نقص، بعض الناس تأخذه أو يأخذه الكبرياء أنه يستغل بعقله، دائمًا الإنسان الذي يستغل بعقله مظنة الزلل والخطأ، بينما هو يستفيد من الآخرين في الشورى.
{قال: (مسألة: قالوا: وكان يجب عليه مصابرة العدو وإن زادوا على الضعف، وكأن ذلك مأخوذ من حديث الحديبية، والله أعلم، "حيث يقول عليه الصلاة والسلام لعروة في جملة كلامه: فإن أبوا فو الله لأقاتلهم -يعني قريشاً - على هذا الأمر حتى تنفرد سفالتي " والحديث مخرج في صحيح البخاري)}.
قال ابن كثير: (وكان يجب عليه مصابرة العدو وإن زادوا على الضعف)، يقول ابن الملقن المتوفى سنة ثمانمائة وأربعة: "كان يجب عليه مصابرة العدو وإن كثر عددهم، وأما الأمة فيلزمهم الثبات إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف"، يعني فرق بين مصابرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومصابرة غيره، وهذا يدعونا الكلام على مسألة مهمة وهي الثبات أمام العدو، وأن الثبات عند التقاء الصفوف واجب، الله -عز وجل- يقول في محكم كتابه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الأنفال: 45]، قال الله -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ﴾[الأنفال: 15- 16].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- محذراً من التولي أو من عدم الثبات: «اجتنبوا السبع الموبقات»، وذكر منها التولي يوم الزحف، هذا متقرر أن المصابرة ثابتة، وهذه المصابرة سيكون فيها كلام، يعني الأصل الثبات، ويستثنى من ذلك ما استثناه الله -عز وجل- في الآية التي ذكرناها.
الأول: أن يكون الفرار من الصف تحرفًا لقتال كما قال الله -عز وجل-: ﴿إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ﴾ [الأنفال: 16]، ما معنى متحرفًا لقتال؟ يعني أن ينحاز إلى موضع قتال أمكن فيه، يعني يكون في وجه العدو أو في جهة وربما يحال بينه وبين الشيء فينتقل إلى وجه آخر، إما بنفسه، يعني برأيه أو برأي القائد.
والأمر الثاني الذي يستثنى من التولي: أن يكون التحيز لفئة ولو بعدت كما قال الله -عز وجل-: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ﴾ أو يحيز إلى فئة من المسلمين ليكون منهم، يعني مثل السرية، ينتقل من السرية حصل لها الضعف والانكسار إلى سرية أخرى، هذا مستثنى، هذه مسألتين.
المسألة الثالثة: والمراد هنا أن يزيد عدد الكفار على الضعف، يعني: إذا كان جيش المسلمين عشر آلاف فيجب عليه المصابرة إذا كان العدو عشرين ألف، وأما إذا زادوا فإنه لا يجب عليهم والأمر مناط بالقائد، وهذا حصل من خالد بن الوليد -رضي الله عنه- لَمَّا قتل جعفر وقتل زيد ثم قتل عبد الله بن رواحة، ثم أخذ القيادة خالد بن الوليد، ثم انحاز في الجيش.
يدل على هذا -يعني المصابرة- أن الله -عز وجل- أنزل في القرآن: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 66].
التخفيف نحن نتكلم عن التخفيف، فإذاً وجب هذا، كان قبل إنما يجب عليهم أن يصبروا، فاستقر الحكم على أن المصابرة إنما تكون صبر، فإذاً لا يجوز لعشرة أن يفروا من عشرين ولا لمائة أن يفروا من مائتين، فإن زاد الكفار عن الضعف جاز الفرار، وهذا تخفيف من الله وهو نسخ لوجوب المصابرة الواردة في قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْف﴾ [الأنفال: 65- 66].
فاستقر هذا الحكم على أنه يكون هذه المصابرة، فعليه ابن كثير يرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب عليه المصابرة ويرى أن ذلك مأخوذ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي»، والسالفة هي صفحة العنق، وقد وقع منه -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين، فإنه في بداية الأمر، وادي حنين كان واديًا ضيقاً كما مَرَّ معنا، ثم كان من أسبابها شيء معنوي ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾[التوبة: 25]، يعني حصل الانكسار، فثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- على بغلته الشهباء -صلوات ربي وسلامه عليه.
لعل هذا يدلك على أن حكم المصابرة متعين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن زاد على الضعف، فهذه فيما يتعلق بأحكام المصابرة التي ذكرها ابن كثير -رحمه الله-.
{شيخنا ذكر بعض العلماء أن هذه المصابرة تكون في جهاد الطلب، أما في جهاد الدفع فيجب الصبر مهما كان العدد}.
أولاً: يجب التفريق بين جهاد الطلب وجهاد الدفع هذا من اصطلاحات الفقهاء، ولا شك أن العدو إذا داهم بلد من بلدان المسلمين فيجب عليهم المصابرة، وذكر أهل العلم أنه حتى في مسألة جهاد الدفع أن الأمر منوط بولي أمر المسلمين في القتال، في الإذن بالقتال أو عدم القتال، فقد صرح الإمام أحمد -رحمه الله- في مسائل من رواية عبد الله بن أحمد، كذلك نقل عن الإمام مالك أن الإمام أحمد لما سُئل عن العدو يدهم المسلمين، فهل لهم أن يقاتلوا دون أن يستأذنوا الإمام؟ قال: "لا إلا أن يأذن الإمام"، قال: "فإن لم يمكنه ذلك قال أرجو أن يكون دفعاً عن المسلمين"، فدل على أن الأمر مناط بولي الأمر، وأن ولي الأمر قد يرى من الخطة العسكرية أن العدو إذا داهم أن له أن يتقدم لشيء، فمخالفتك لأمر الإمام قد يخل بهذا التخطيط.
في مسألة المصابرة متعلقة بالإمامة، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في عموم حديثه قال: «من قتل دون ماله أو عرضه فهو شهيد»، والصائل له أحكام، فالعدو الذي داهم البلد في أحكام الصائل، فهذه المسألة عليها تفريعات وعليها تحقيقات تُراجع في كتاب الجهاد -إن شاء الله.
{قال: (مسألة: وقد قدمنا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يكن لنبي خائنة الأعين». قالوا: وكان مع هذا يجوز له الخديعة في الحروب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة». وكما فعل يوم الأحزاب من أمره نعيماً أن يوقع بين قريش وقريظة، ففعل حتى فرق الله شملهم على يديه، وألقى بينهم العداوة، وفل الله جموعهم بذلك وبغيره، وله الحمد والمنة)}.
تقدم الكلام فيما ذكره ابن كثير «أنه لم يكن لنبي خائنة الأعين»، هذا شامل الأنبياء وهو من خصائص الأنبياء، وهذا لما قالوا: يا رسول الله لو أشرت إلينا بطرفك أو بعينك، قال: «ما كان لنبي أن يكون له خائنة أعين»، في قتل ذلك الرجل الذي أهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دمه يوم الفتح.
الحاصل: أن هذا مر معنا، وهذا يدعونا إلى التفريق بين خائنة الأعين وبين الخداع في الحرب، أولاً:
من خصائص هذا الدين العظيم، أنه لا يجوز فيه الغدر، والخداع في الحرب لا يعني الغدر، ولهذا نص الله -عز وجل- على أنه لا يجوز الغدر، وأهل الإسلام أهل عقد وميثاق، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وقال الله -عز وجل- فيمن عاهدهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾ [الأنفال: 56].
وقال الله -عز وجل-: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾[الأنفال: 58]، فلا يحب الله الخيانة وأمره -عز وجل- إذا كان علم منهم أن عندهم خيانة فينبذ إليهم عهدهم، أن يخبرهم أن عهدكم وذمتكم قد سقطت والذي بيننا وبينكم زال ولا يخون العهد، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل الإسلام ليسوا أهل غدر، والغدر مذموم في الشريعة ومذموم في الإسلام، ولهذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغدر بين الناس ومن الغدر مع الآخرين المخالفين لنا في الاعتقاد.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به» يعني يفضحه الله -عز وجل-، وذكر من خصال المنافق «أنه إذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر»، يعني: أنه يغدر وهذه من خصال النفاق وليست من خصال أهل الإيمان.
وإنما يجوز الخداع والحرب خُدعة وخِدعة، فإنه يخادع العدو هذا ثابت من سنته -صلى الله عليه وسلم- العملية، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه الخديعة أنه كان في سيرته العملية إذا أراد غزوة ورى بغيرها، يشعرهم أنه يريد أن يذهب إلى المكان الفلاني ويقصد هذا حتى يداهم العدو وهو غار، وقد داهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بني المصطلق وهم غارون يعني في غفلة، وهذا ما فيه شيء، وهذا لا مكان له مع الخديعة إنما هو خداع.
ولهذا اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، كيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل، فإذاً المحافظة على العقود والأمان.
فإذاً المحرم هو الغدر والجائز هو الخداع، ولهذا نُقل عن عمر: "قد بلغني" يعني: في تحريم الغدر والتفريق بينه وبين الخيانة، "قد بلغني أن رجالاً" في عهد عمر اتسعت الفتوحات ووصلت إلى بلاد فارس، وبلاد فارس فيها العلوج والأعاجم، "قد بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد في الجبل" يعني: يمتنع من الجبل "وامتنع" يطلبون للقتال، يقاتلونه، قال: يقول: يعني يقول له، "لا تخف فإذا أدركه قتله"، فهذا ينكر عليهم عمر، ممن كان في سواعد المسلمين ممن لا يعرف الأحكام، "وإني والذي نفسي بيدي لا يبلغني أن أحدًا فعل ذلك إلا ضربت عنقه"، هل ترى يا شيخ أعظم من أخلاقيات الحرب في الإسلام!؟ إذا كانت المدارس العسكرية تدرس أخلاقيات الحرب فإن النظام الإسلامي وأهل الإسلام مثلوا ذلك تمثيلاً واقعيًا وعمليًّا في أخلاقيات الحرب، وهذا لا تجده إلا في نظام الإسلام وفي تعليمات نبي الرحمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذين امتثل أصحابه ذلك، ولهذا توسع الإسلام وانتشر في آفاق الأرض؛ لأنه يحمل خصائص الانتشار، لا عصبية فيه ولا تعصب لجنس، مساواة بين الناس، وإشاعة العدل، ورحمة وإحسان، وحتى في قتال العدو فيه رحمة، فيه محاربة للخديعة.
إذا كان هذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوقع أشد العقوبة على من خادع الأعجمي الكافر وهو في ميدان المعركة، تقاتله لكن أن تغدر به، الخداع مطلوب لكن أن تغدر به؛ لأنه فرق بين الغدر وبين الخداع، الخداع خداع الحرب هذا مسموح، وذكرت لك في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- العملية من ذلك وقائع وأشياء كثيرة ولا زالت الحروب تقوم على الخداع والمخادعة، لكن الغدر لا؛ لأنه قال: لا تخف فأعطاه الأمان، فيه عقد، قال: "فإن أدركه قتله، فإذا تركه قتله".
وفي قصة أسامة بن زيد (الحُرَقاتِ مِن جُهَيْنَةَ) مما جاءوا فقالوا: أسلمنا، أرادوا أن يقولون: أسلمنا صبئنا، وفي قصة خالد بن الوليد (الحُرَقاتِ)، وقصة أسامة بن زيد أنه لما قاتل ذلك الرجل فسقط سيفه أسلم، قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قال قتلته وقد قال لا إله إلا الله»، قال: "يا رسول الله إنما قالها متعوذاً"، قال: «فكيف تفعل بـ لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة»، معالم تربوية، معالم عظيمة، لكن ينبغي لأهل الإسلام أن يشيعوا هذا، يبينوا للناس حتى يعلموا الرحمة، لأن الذي يشاع الآن الصورة المشوهة عن الإسلام وعن معاني الإسلام، ما فيه نظام ولا فيه توجيهات، ستجد ما تجد إلا في توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمرهم بالغزو، نهى عن قتل الصبيان ونهى عن قتل الرهبان، ونهى عن قتل النساء إذا لم يقاتل، هذا غير موجود إلا في توجيهات الإسلام.
الدين الإسلامي دين رحمة، الإسلام ما يقصد الحرب ولا يقصد القتل لذاته وإنما يراد بالعالمين الرحمة، ولهذا اتسعت فتوحات الإسلام، يعني كيف انتشر الإسلام؟ الناس تقبل عليه لأنهم يرون، الأنظمة التي كانت تحكمهم القيصر وهرقل والروم والفرس أهل ظلم، وإذا جاء الإسلام حصل لهم الخير، وكانوا يحفظون العهود وأصان أهل الإسلام عهودهم وبقوا في ديار الإسلام وفرضت العهود والذمم لهم ويدفعوا الجزية، ونعموا بخير الإسلام، هذه الصورة الحقيقية للإسلام، لا كما يشاع في صور الإعلام تشويه الإسلام والانتقاية في أقوال بتشويه هذا الدين القوي.
بالنسبة لقصة نعيم بن مسعود لأنه ذكرها، أنها في الخداع، الحقيقة لها روايات متعددة ولا تسلم هذه الروايات من ضعف، وبعضها يحسن بعض الروايات، وبعضهم يذكر أن نُعيم كان ناقلاً وليس هو المخدل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال له ذاك الكلام ليخذل عنه، وعُلم منه أنه ينقل الكلام، ونقل كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، بعض من يصحح هذه الروايات، فالأمر دائر بين هذا وذاك، بعض أهل العلم يصحح الرواية وبعضهم يقول الرواية الثابتة في قصة نُعيم أنه ليس هو المخدل إنما هو ناقل لكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأصل القصة صحيح وفي تفصيلاتها ربما يحتاج تحقيق.
{قال: (مسألة: وقد كان له صلى الله عليه وسلم الصفي من المغنم، وهو أن يختار فيأخذ ما يشاء: عبداً، أو أمةً، أو سلاحاً، أو نحو ذلك قبل القسمة، وقد دل على ذلك أحاديث في السنن وغيرها.
وكذلك كان له خمس الغنيمة، وأربعة أخماس الفيء، كما هو مذهبنا، لا خلاف في ذلك)}.
معنى هذا يدعونا للكلام على المصطلحات المهمة حتى تفهم، أولاً: في الإسلام فيه الغنيمة وفيه الفيء وفيه الصفي من المغنم، أما الفيء وإنما قيل له فيء لأنه الراجع إلى المسلمين من مال الكفار بغير القتال، لأن الأصل أن المال هو للمسلمين وأن ولاية الكفار عليهم لهذا المال ولاية مؤقتة، لهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ﴾ [الحشر: 6]، فما حصل فيه معركة، بغير قتال هذا يسمى فيء.
الثاني: الغنيمة وما أخذ من الكفار قهرًا، والله -عز وجل- قال فيه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...﴾[الأنفال: 41] إلى آخر الآيات، فالأموال التي يتولاها ولاة أمر المسلمين قسمان: الفيء والغنيمة، وهذا يؤخذ من مال الكفار، والزكاة وجاء أن الصدقات في قول الله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[التوبة: 60]، وهذه الغنائم كانت محرمة على من كان قبلنا من الأمم وإنما أبيحت لهذه الأمة، ولهذا جاء في الحديث «أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي»، مر معنا وذكر منها «وأحلت لي الغنائم».
بقي الصفي، ما المقصود بالصفي؟ وابن كثير -رحمه الله- بينه، يعني أشياء عينية، ولهذا الله -عز وجل- أباح لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يصطفي من الغنيمة قبل أن تقسم، ويختار منها ما أراد كما ذكر ابن كثير، وينفق من هذا الذي اصطفاه على نفسه وعلى أهل بيته وعياله وهذه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، في واقع العمل في سيرته العملية وقع هذا في صفية بنت حيي ومرت معنا، لما وقعت في سهم دحية الكلبي، فقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنها لا تصلح إلا لك، فاتخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- واصطفاها لنفسه -صلى الله عليه وسلم-، فإذًا في سيرته العملية هذا الصفي.
(وله خمس الغنيمة)، كيف خمس وخمس الغنيمة؟ تقسم الغنيمة إلى خمسة أجزاء متساوية، واحد منها سهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا يكون مصرفه في مصالح المسلمين، وواحد يعطى لذوي القربة منه -صلى الله عليه وسلم-، وهم من انتسب إلى هاشم بالأبوة من غير فرق بين غنيهم وفقيرهم، هذا هو مصرف ذوي القربى، وثلاثة باقية تنفق على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، وابن السبيل هو الذي انقطع في سفره فلا يجد نفقة، هذا ابن السبيل، ولهذا قال الله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[الأنفال: 41]، فهذا فيما يتقرر بقسمة الغنيمة وفي واقع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا فالنبي -صلى الله عليه وسلم- خُير بين أن يكون ملكًا رسولاً وبين أن يكون عبداً رسولاً، فاختار مقام العبودية, ومع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتاه من الأموال الشيء العظيم، أتاه أموال البحرين فقسماها بين أصحابه وأعطاهم، وفي حنين أعطى عطاء من لا يخشى الفاقة، أعطى رجل غنمًا بين جبلين، فذهب إلى قومه قال: اسلموا فإني رأيت رجلاً يعطي عطاءً من لا يخشى الفاقة، ينفق بغير حساب -صلوات ربي وسلامه عليه- ومع هذا، مع هذه الأموال والغنائم التي أفائها الله -عز وجل- عليه لم يخص نفسه إلا بشيء قليل بقدر حاجته -صلى الله عليه وسلم-، وكان فراشه أبسط ما يكون من الفرش، وكان مخدته -صلى الله عليه وسلم- ووكئه حشوها ليف التي كان يستند إليها وكان يفترش الحصير فيؤثر في جنبه.
بل جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ربط على بطنه الحجر من الجوع كما في حفر الخندق، وكانت تمر الهلال ثم الهلال ثم ثلاثة أهلة شهرين كما قالت عائشة ولا يوقد في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار، ما كان يوقد فيها، ومات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو لم يشبع من خبز الشعير، خبز الشعير أردئ ما يكون، لم يشبع -صلى الله عليه وسلم- منه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركه»، هذا في سيرته العملية -صلوات ربي وسلامه عليه- الذي مثل هذا الزهد وهو إمام الزاهدين وإمام المتوكلين، وهو مصطفى رب العالمين -والله أعلم- حيث يجعل رسالته، وقد جعله الله -عز وجل- محمدًا -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم، وشرف هذه الأمة بإتباعه.
فمن اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- لا شك أنه ينال هذا الشرف الذي شرفه به -صلى الله عليه وسلم-، جعلنا الله من أتباعه ومن أنصاره من المقتدين بسنته -صلى الله عليه وسلم-.
{قال: (ومن الأحكام.
مسألة: قالوا: له أن يحكم بعلمه لعدم التهمة، وشاهده حديث هند بنت عتبة، حين اشتكت من شح زوجها أبي سفيان، فقال: «خُذِي مِن مَالِهِ بالمَعروفِ ما يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ». وهو في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها.
وفي حكم غيره بعلمه خلاف مشهور حاصله ثلاثة أقوال، ثالثها: يحكم في غيره حدود الله.
قالوا: وعلى هذا فيحكم لنفسه وولده، ويشهد لنفسه وولده، وتقبل شهادة من يشهد له، لحديث خزيمة بن ثابت، وهو حديث حسن مبسوط في غير هذا الموضع، والله تعالى أعلم)}.
ولهذا في هذا ذكر جماعة من المحققين أن ذلك كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- فتوى القائض، قال النووي -رحمه الله- "استدل به -يعني الحديث - جماعة من أصحابنا وغيرهم على جواز القضاء على القائض، ولا يصح الاستدلال به" هذا كلام النووي، لأن هذه القضية كانت بمكة وكان أبو سفيان حاضراً بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائباً عن البلد أو مستترًا لا يقدر عليه أو متعززًا ولن يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجوداً، فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء" انتهى كلامه.
إذاً فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستحلفها أنها لم تأخذ النفقة ولم يقدر النفقة بل قال لها: خذي ما يكفيك، فدل على أن الظاهر من النصوص، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحكم بعلمه وأن قوله لهند -رضي الله عنه- إنما هو فتوى وليس هو قضاء، ويدلك على ذلك أنه حكم لها ولغيرها ومن جاء بعدها، ولا شك أنه لا يحال في مثل هذا إلى قضاء وإنما يحال إلى فتوى، فدل على أنه من فتاوى النبي -صلى الله عليه وسلم- وليست من أقضيته -صلى الله عليه وسلم-، لأنه لم يستمع إلى هي مدعية والمدعي عليه غائب، فلا يمكن أن يكون قضاء، فصورة القضاء غير متحققة فيها وإنما هي إفتاء من النبي، فمن كان على نحو ما كان عليه جاز له، يعني جاز المرأة أن تأخذ من مال زوجها ولكن إذا تحقق الوصف، لا يجوز لها أن تأخذ فتكون سرقة إذا لم يتحقق هذا الوصف.
والظاهر من النصوص أنه كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحكم بعلمه، يدلك على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال محذرًا: «وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» يعني أقوى في الحجة في مجلس القضاء «فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»، يعني ما قضيت له ويدلك على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحكم بعلمه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الملاعنة، في قصة الملاعنة في سورة "النور" قال: «لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ».
فإذاً يتحقق أنه لا يحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بعلمه وتكلم أهل العلم في القضاء القاضي بعلمه في مسائل محدودة، فذكروا أشياء يجوز للقاضي أن يحكم فيها بعلمه وهي مذكورة في كتاب القضاء، لكونه أنه في مجلس الحكم حصل فيحكم بعلمه الواقع في مجلس القضاء وبأشياء وبصور متعددة في هذه المسائل.
فإذاً خلاصة الكلام: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست من خصائصه أنه يحكم بعلمه كما دل على ذلك هو ما ذكر من قصة هند لا دليل له أو لا دليل فيه، لأنها فتية وليست قضاء كما ذكرناها من هذه المسائل.
هذه فيما يتعلق بهذه المسائل، ولعل -إن شاء الله- أن ييسر في الحلقات المقبلة، والحلقة المقبلة -إن شاء الله- تمام هذا الكتاب، ثم نستعرض ما يتعلق بذلك من معالم الدروس والعبر التي مرت معنا في كتاب "الفصول في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فإنشاء الله للحديث بقية وفي الحلقة المقبلة يكون الحديث على ما بقي من المسائل يسيرة، ثم -إن شاء الله- نتعرض للدروس المستفادة بعد ذلك.
وأسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.