الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1398 22
الدرس الثالث

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم البناء العلمي، نحن وإيَّاكم على مائدة السيرة النبويَّة في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول ﷺ" مع فضيلة شيخنا/ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن. باسمي وباسمكم جميعًا أُرحبُ ب فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، نسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وأن يُوفِّقنا للتأسِّي بالنَّبي ﷺ وبدراسة سيرته العطرة، وبالدِّفاع عن دينه ﷺ الذي هو خير الأديان، والدِّين الذي ارتضاه الله تعالى للنَّاس جميعًا، ولا يقبل الله دينًا سواه، وهذا نبينا محمد ﷺ، فمن حقوقه أن نعلمَ أوصافه ﷺ، وما كان عليه من السيرة ومن الشَّمائل، حتى يكون في ذلك التَّأسي ومحبَّة النبي ﷺ، والذي يجب علينا هو أن نلتزم هذا الأمر، وأن نُقدِّم محبَّة النبي ﷺ على محبَّة النفس والوالد والولد، كما جاء بذلك الأحاديث الصِّحاح، فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا لهذا الخير، فما من توفيقٍ إلا من الله -سبحانه وتعالى- وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{كنَّا قد وقفنا عن قول المؤلف: (فصل ـ صفته الظاهرة
وقد صنَّف العلماء في هذا الباب، فأحسنَ من جمع في ذلك الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أعني كتاب الشمائل، وتبعه العلماء والأئمة.
وقد استوعى ذلك بأسانيد، وشرحه مطولًا الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله تعالى، وشيخنا الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيب الكلام)
}.
كتبُ الشَّمائل أحدُ فروع علم الحديث، واهتمَّ المسلمون بهذا العلم، وبدأ هذا الاهتمام من أصحاب النبي ﷺ الذين رووا لنا صفات النبي ﷺ بالتَّفصيل الذي من خلاله يُعلَم وصفه ﷺ، ثمَّ نقلةُ العلم من بعد الصَّحابة وهم مَن تبعهم بإحسان -وهم التَّابعون.
وفوائد دراسة علم الشمائل:
- أنَّ دراسة هذا العلم وضبطه من أسباب محبة النبي ﷺ، فإنَّ محبة النبي ﷺ من أمور الدين ومن لوازم الدين التي يجب على المسلم أن يُعمل قلبه فيها، أي: يجعل قلبه محبًّا للنبي ﷺ، ولا يُمكن أن يستقيم الإيمان إلا بمحبَّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- أنَّ هذه الدراسة سببٌ في اتِّباعه والتَّأسِّي به ﷺ وذلك من خلال معرفة صفته الخُلُقيَّة.
ووصفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخَلْقِي والخُلُقي:
* وصفه الخَلقِي: هي خِلقته ﷺ التي خلقه الله عليها.
* وصفه الخُلُقي: هي ما اشتمل عليه من الأخلاق الحسنة -كما سوف يأتي.
ولا شكَّ أنَّنا أُمرنا بالتَّأسِّي به ﷺ، كما قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، فهو أسوةٌ ﷺ، يُتأسَّى به في أخلاق ﷺ، وهو مُعلِّم النَّاس الخير، ولا شك في ذلك.
فينبغي لطُلَّاب العلم ولأهل الخير أن يتعلَّموا هذه الشَّمائل وأن يدرسوها، ودراسة كتب الشَّمائل من التَّعبُّد لله -سبحانه وتعالى-، وقد صُنِّفَت فيها مصنَّفات متقدِّمَة على تصنيف كتاب "الشمائل" للترمذي -وهو أشهرها- ولكن صنَّفَ ابن وهب -المتوفى سنة 200 هـ- جزءًا بعنوان "صفة النبي ﷺ"، كذلك المدائني ألف جزءً حديثيًّا بعنوان: "صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وتوفي سنة 224هـ، ثم ألفَ داود الظاهري المتوفى سنة 270 هـ "أخلاق النبي ﷺ"، ثم بعد ذلك كتاب "الشَّمائل" للترمذي، ثم تتابع أهل العلم على التصنيف فيه، وما من كتب من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن إلا وتجد فيه "كتاب الشمائل"، يعني شمائل النبي ﷺ وأوصافه الخَلقيَّة والخُلقيَّة -صولات ربي وسلامه عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقد ذكر الشيخ أبو زكريا النووي في تهذيبه فصلًا مختصرً)}.
يقصد كتاب "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وسيأتي الآن على أوصاف النبي ﷺ، ومن خلال هذا الوصف يُمكن للإنسان أن يتعرَّف على وصفه ﷺ، والصحابة -رضوان الله عليهم- حرصوا على نقل أوصاف النبي ﷺ وصفًا قوليًّا؛ لأنَّه في الشَّريعة تحريم التَّصاوير، وكانت هذه التصاوير موجودة فيما سبق من الأمم، وكان الصحابة يُمكنهم تصوير النبي ﷺ، ومع ذلك حرَّم النبي ﷺ هذه التصاوير وسدَّ بابها، وشدَّد الوعيد فيها -صلوات ربي وسلامه عليه- وهذا يدلُّك على بُطلان ما يُثار من الصُّور من بعض أهل البدع على أنها صورة النبي ﷺ، فكان وصف النبي ﷺ وصفًا قوليًّا، ولم يكن أمرًا فعليًّا، فقد تعاقبت الأمم السابقة على التَّصاوير والتَّماثيل، ولكن النبي ﷺ نهى عنه؛ بل جاء الوعيد واللعن للمصورين، وهذا يدلُّك على أنَّ التَّصوير بالرَّسم باليد محل إجماع من أهل العلم أنه لا يجوز، وقد وردَ عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة في منع هذه التَّصاوير، ويجب على المسلم أن يعرف ذلك، وإذا أراد أن يعرف وصف النبي ﷺ فليحفظ هذه الأوصاف التي من خلالها يعرف وصف النبي ﷺ؛ لأنَّه قد يُحتَاجُ إليه، فحينما يرى في المنام مَن تصوَّر بصورة النبي ﷺ، فيعلم هل هو النبي ﷺ أو غيره من خلال هذه الأوصاف القوليَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فيه قال: كان ﷺ ليس بالطويل البائن ولا القصير، ولا الأبيض الأمهق، ولا الآدم)}.
كان ﷺ معتدلًا في طوله.
وقوله: (ولا الأبيض الأمهق)، فقد جاء في وصف النبي ﷺ أنَّه أبيض، ولكن هذا البياض ليس بالبياض المعيب؛ لأنَّ بعض أنواع البياض يكون بسبب مرض، ولذلك قال: (الأمهق)، وهو نوع من الأمراض الجلديَّة الجينيَّة -يعني يُولَد الإنسان عليها- ويُسمَّى الآن مرض "المُهاق" وهو أشبه ما يكون بالبرص، وهو خلافه، فالمُهَاق مرضٌ جيني قد يُصيبُ الأبيض والأحمر والأسود.
فالنبي ﷺ ليس بالأمهق، ويُسميه بعض المعاصرين "أعفر"، يعني: بياضه ﷺ ليس بمعيب، وإنما بياضه مما يكون من الجمال.
قوله: (ولا الآدم)، ليس بالأسمر -صلوات ربي وسلامه عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولا الجعد القطط ولا السبط)}.
يعني شَعره ﷺ ليس ملتويًا، ولا مسترسلًا، فهو بينَ الاسترسال وبين الجعودة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وتوفي وليس في رأسه عشرون شعرة بيضاء)}.
النبي ﷺ لم يكن عليه شيب كثير في لحيته ﷺ، فمات ﷺ وهو أسود اللحية، وكان عدد الشعر الأبيض قليل جدًّا حتى أنه يُعدُّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان حسن الجسم بعيد ما بين المنكبين)}.
المنكبين: الأكتاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمة أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه)}.
هذا الشَّعر الذي كان عليه النبي ﷺ كان على عادة قومه، فتارة يصل المنكب، وتارة إلى شحمة الأذنين، بحسب الزمان والمكان المناسب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كث اللحية)}.
يعني لحيته كثيفة -عليه الصلاة والسلام- وهي من أظهر أوصاف النبي ﷺ، حتى كان النبي ﷺ تُعرَف قراءته في الصلاة باضطراب لحيته؛ فهذا يدل على أنها كثيفة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (شَثِن الكفين، أي غليظ الأصابع، ضخم الرأس والكراديس)}.
الكراديس: مجمعَ العظام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (في وجهه تدوير)}.
كان وجهه ﷺ أقرب ما يكون إلى الشكل الدائري، وهذا من أوصاف الجمال، فيُقال: وجهه كالقمر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أدعج العينين)}.
أدعج: شديد السَّواد مع الاتِّساع، وشدَّة بياض العينين، وهذا من صفات الجمال كذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (طويل أهدابهم)}.
كونه ﷺ واسع العينين وطويل الأهداب؛ فهذا من صفات الجمال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أحمر المآقي)}.
المآقي: شق العينين مما يلي الأنف، وكان فيه حُمرَة.
{قال: (ذا مشربة، وهي الشعر الدقيق من الصَّدر إلى السُّرة، كالقضيب، إذا مشى تقلع كأنما ينحط من صبب أي يمشي بقوة، والصبب: الحدور)}.
يعني كأنَّما يمشي بقوَّة، وكأنَّما ينزلُ من علوٍّ، وهذه كانت طريقة مشيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، كان وجهه كالقمر)}.
وجهه ﷺ كالقمر، لأنَّه كان دائري وأدعج العينين وأبيض؛ ولا شكَّ أنَّ هذا من صفات الجمال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (حسن الصوت، سهل الخدين، ضليع الفم، سواء الصدر والبطن، أشعر المنكبين والذراعين وأعالي الصدر)}.
أشعر: يعني كثيف الشَّعر في المنكبين والذراعين وأعلى الصدر.
الضَّليع: هو الواسع.
وهذا الوصف يُناسب الفصيح، والعرب تمدح الإنسان بسَعة فمه، وهذا الضَّلع ليس مما يُذم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (طويل الزندين رحب الراحة، أشكل العينين، أي طويل شقهما، منهوس العقبين، أي قليل لحم العقب، بين كتفيه خاتم النبوة، كزر الحجلة وكبيضة الحمامة)}.
الحجلة: نوع من أنواع الطيور.
وكان خاتم النبوة بين كتفيه، وهذا الختم يُعرَف به نبوَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويُقال إنَّ الختم كغُدَّة حمراء مثل بيضة الحمام، فهو أقرب ما يكون إلى الشَّامة في وصفها -وهي معروفة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان إذا مشى كأنما تطوى له الأرض، ويجدون في لحاقه وهو غير مكترث)}.
كان النبي ﷺ إذا مشى أسرع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان يسدل شعر رأسه، ثم فرقه، وكان يرجله، ويسرح لحيته ويكتحل بالإثمد كل ليلة، في كل عين ثلاثة أطراف عند النوم)}.
الإثمد: نوع من أنواع الكحل.
وكان ﷺ أدعج العينين مع ذلك يكتحل، وجاءت أحاديث في الاكتحال بالإثمد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان أحب الثياب إليه القميص والبياض والحبرة، وهي ضرب من البرود فيه حمرة، وكان كم قميصه ﷺ إلى الرسغ)}.
الرُّسغ: عظام أعلى الكف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولبس في وقت حلة حمراء وإزارًا ورداء)}.
الحُلَّة الحمراء كان يخصها في أيام العيدين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي وقت ثوبين أخضرين)}.
الثَّوب: ما يُغطِّي عامَّة البدن، وكان غالب لباس العرب الإزار والرِّداء، وتارة إزار وقميص.
والإزار معروف أنه يُغطَّى به الرجلين وأسفل السُّرَّة، ويُلوَى.
وأما القميص: يُلبَس.
والرِّداء: يُلتحف به على أعلى الجسم.
وقوله (وفي وقت ثوبين أخضرين)، فكان ﷺ تارة يلبس ثوبًا ما يغطي عامة البدن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي وقت جبة ضيقة الكمين)}.
وهذا من ألبسة العرب، ثوب طويل مقطوع الكم يُلبس فوق الثياب، وهذا يُسمَّى الجبَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي وقت قباء)}.
القباء: ثوب ضيق الكمَّين والوسط، وهو أقرب ما يكون مشقوق الطرفين، مثل ما يسمى الآن بالجاكيت، وكان هذا من ألبسة العرب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي وقت عمامة سوداء، وأرخى طرفها بين كتفيه)}.
العمامة تُوضع على الرأس، ولها طرفين، وكان ﷺ يُرخي طرفيها بين كتفيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي وقت مرطًا أسود أي كساء)}.
المرط هو خلاف العمامة، والعرب كانت تُنوِّع في ملابسها، والمرط أقرب ما يكون إلى الغترة الآن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولبس الخاتم والخف والنعل. انتهى ما ذكره.
وقال أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله ﷺ ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ")
}.
وهذا رواه البخاري، وهذا ما كان عليه النبي ﷺ،
وأنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هو الذي بقي مع النبي ﷺ يخدمه من حين قدومه إلى المدينة إلى حين وفاته، فهو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يصف ما كان عليه النبي ﷺ من أوصاف خَلقيَّة، فيذكر أنَّ رائحة النبي ﷺ كانت طيِّبة، ويده ﷺ كانت ليِّنة، وهذا مما جعله الله تعالى في وصف ﷺ، فالنبي ﷺ كان مباركًا بركةً معنويَّة وحسيَّة، والبركة الحسية متعلقة بذاته ﷺ، فشَعره مبارك، وريقه مبارك، وما ولي جسده الشريف فيه بركة، وقد رأى الصحابة بركة النبي ﷺ واقعة أمامهم، بل نقلها الجموع بالتَّواتر، ووقع عليها إجماع أهل العلم، وهذا خاص بالنبي ﷺ وليس لغيره، كما وقع إجماع الصحابة على ذلك؛ لأنَّ هذه البركة الحسيَّة عَلِمَ الصحابة أنها خاصَّة بالنبي ﷺ لأجل مقام النبوَّة، ولهذا لم يُفعل مع أبي بكر ولا عمر كما فُعل مع النبي ﷺ، ولم يثبت ذلك ولا حتى بإسناد ضعيف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ("ولقد خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي أف قط. ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟" رواه مسلم)}.
هذا من أعظم أخلاق النبي ﷺ ومن صفاته العظيمة، وفيه أسوة للناس جميعًا، خاصَّة لمن ولَّاهم الله تحت أيديهم من الخدم، وكما
جاء عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ» ، فهذا خطاب من النبي ﷺ، ومن أعظم ما يمكن أن يكون من الأخلاق العظيمة، وقبل أن تعرف الأمم حقوق الإنسان؛ النبي ﷺ علم أمَّته قولًا وفعلًا:
- أمَّا القول فكما جاء في الحديث «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ...»، وهذا شيء عظيم جدًّا، وهو أن لا يكون بينك وبني الخادم شيء متمايز، ومَن خوَّلكَ الله إيَّاه فلا تكلفه ما لا يطيق، وهذا طبَّقه النبي ﷺ مع أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ومن طبيعة الخادم أو أي شخص يعمل تحت يدك أنَّه يُخطئ، أو يفعل ما لا تريد، فيجب على كل من خوَّلهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ومَن يسر الله لهم النِّعمة من الخدم والمستأجَرين أن يُعاملوهم معاملة الرَّأفة والرَّحمة؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي أقدركَ، وهو قادر -سبحانه وتعالى- أن يجعلك في هذه المكانة، فبدل أن تكون سيدًا ولك الأمر والنَّهي أن تكون خادمًا.
- أمَّا الفعل: فهذا أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يذكر أنه خدم النبي ﷺ عشر سنوات، فلم يقل له "أف" قط، وهذا لا يكون إلا من مقام النبوة، ولا تكون إلَّا ممَّن شرَّفه الله وأكرمه، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
فواجب على الأمَّة أن تُعنَى بهذا الأمر، وواجب على مَن يسَّر الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لهم وأكرمهم أن يشكروا النِّعمة بالإحسان إليهم، ولا أن تتعالى عليهم، ولا مانع من أن توجههم، لكن دائمًا يكون هذا مغلفًا بالرحمة والنَّظر لِمَا كانوا عليه، فبعض الناس إذا جعل الله تحت يديه خادمًا أو مرؤوسًا يسومه سوء العذاب ويتسلَّط عليه، وهذه ليست من أخلاق الكرام، وليست من أخلاق أهل الإسلام، وما تميَّز أهل الإسلام إلا بهذه الأخلاق الفاضلة.
والحقيقة إنَّ هذه الأخلاق الفاضلة من أسباب انتشار هذا الدين العظيم، فإنَّ الإسلام انتشر في أصقاع الأرض بسبب الأخلاق الكريمة، فانتشر في الشرق الأقصى -إندونيسيا والفلبين وتايلاند- عن طريق التُّجار، وحينما رأوا حسن التعامل مع هؤلاء.
ووصيَّة للمسلمين جميعًا: أن يُحسنوا الأخلاق مع المخالفين، ومع مَن تحت أيديهم حتى يعرفوا عظمة هذا الدين العظيم، وعظمة هذا النبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه- الذي قال وفعل، وكان قوله يوافق فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال عبد الله بن سلام: لَما قدم النبي ﷺ المدينة انجفل الناس إليه)}.
انجفل الناس إليه: يعني ذهب الناس إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فلما نظرت إليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرً)}.
النبي ﷺ يُعلَم من وجهه الصدق، ويُعلَم من وجهه السَّماحة، ويُعلَم من وجهه ﷺ أنه جاء رحمةً للخلق، ويُعلَم من وجهه ﷺ ومن فعله أنه لم يأتِ لأجل دنيا، ولا ليترأَّس على الناس، وإنَّما جاء رحمة لهم، ولهذا لم يأخذ النبي ﷺ من هذه الدنيا شيئًا؛ بل لَمَّا رأى عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- النبيَّ ﷺ قد أثَّر في جنبه الحصير بكى، وقال: كسرى وهرقل يتنعَّمون، وأنت نبي الله وأكرم الله على خلقه تكون على هذه المنزلة؟! فأخبره النبي ﷺ أنَّ هذه الدنيا ليست بشيء، وكان النبي ﷺ يرفع شعار «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَ» ، فهذا النبي ﷺ لم يأتِ إلَّا بكل خير للمسلمين ولغيرهم وللبشريَّة جميعًا، ولكن أهل الباطل وأهل العداوات وأهل النِّفاق يُحاولون أن يصوروا النبي ﷺ بغير صورته الحقيقيَّة، وسيرة النبي ﷺ شاهدة بذلك، فهذا عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود يقول: قبل أن أتحقق من الصفات لمَّا رأيتُ وجهه عرفتُ أنَّ وجهه ليس بالكذَّاب، صلوات ربي وسلامه عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصل ـ أخلاقه الطاهرةوأما أخلاقه الطاهرة، فقد قال الله سبحانه: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾)}.
الله تعالى زكَّى النبي ﷺ وأخبر بخُلُقه، وهذه نقطة مهمَّة جدًّا أُحبُّ أن ألفتَ الأنظار إليها، وهذه وصيَّة لي ولإخواني المسلمين، فالإنسان مهما كان ناقصًا وليس بمعصومٍ، ولكنه يتدرَّج في مراتب الكمال ويُجاهد نفسه في التَّخلُّق بالأخلاق الفاضل، فهذا يحتاج جهادًا، قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، فلابد للإنسان أن يُجاهد نفسه في الخُلُق الفاضلة، فإذا كان الله -عَزَّ وَجَلَّ- زكَّى النبي ﷺ بهذا الخُلُق؛ فعلى الأمَّة أن تتأسَّى بأخلاقه ﷺ وبالأخلاق الفاضلة؛ لأنَّه فرقٌ بينَ التَّديُّن وبين الخُلُق، فلا يلزم من المتديِّن أن يكونَ خلوقًا؛ لأنَّ التَّديُّن هو علاقتك بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وأمَّا الأخلاق فهي علاقتك بالآخرين، فلابد من التَّلازم، وقد يوجد هذا الفصام، وهذا غلط؛ لابدَّ من التَّلازم بين الدين وبين الخُلُق، ولا يكون هذا التَّلازم إلَّا بأن يعلم هذا الذي يتعبَّد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالعبادات الظَّاهرة أنَّ من العبادات المهمَّة: الخُلُق الفاضلة، وجاءت أحاديث كثيرة جدًّا في الأخلاق، منها قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الُمؤْمِنَ لَيُدْركُ بِحُسنِ خُلُقِه درَجةَ الصائمِ القَائمِ» ، فلابدَّ للإنسان أن يُحسِّن أخلاقه مع أبنائه، ومع زوجته ومع الآخرين، حتى يتدرَّج في مراتب الكمال، وحتى يكتسب الخير، ويُجاهد نفسه في هذا.
وانظر إلى ما قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في النبي ﷺ وهو الأسوة، فلا تتأسَّى بفلان أو فلان؛ بل تأسَّى بالنبي ﷺ، أمَّا الآخرين فهم ليسوا معصومين، فهم يقعون في الخطأ والغلط، وأُسوتك النبي ﷺ، فإذا أردتَّ التَّأسِّي فلا تقل فلان وفلان؛ وقل: النبي ﷺ فعل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي الصحيح عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنها قالت: "كان خلق رسول الله ﷺ القرآن". ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه ألا يفعل إلا ما أمره به القرآن، ولا يترك إلا ما نهاه عنه القرآن، فصار امتثال أمر ربه خلقًا له وسجية، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ فكانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم أشرف الأخلاق وأكرمها وأبرها وأعظمها:
فكان أشجع الناس وأشجع ما يكون عند شدة الحروب)
}.
وجاء في هذا أحاديث عن النبي ﷺ، أنَّهم مرَّة سمعوا صوتًا فرأوا النبي ﷺ ركب خيلًا غير مسرجة، وقال: «لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُو»، فكان النبي ﷺ من أشجع الناس، وخاضَ وقاتل -صلوات ربي وسلامه عليه.
ومن شجاعته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شجاعة تبليغ هذه الرسالة، فكون النبي ﷺ قام لوحده بمقام النبوة، وواجه كفار قريش، وآذوه وصبر على ذلك؛ فهذا من أعظم ما يبرز فيه صفة الشجاعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان أكرم الناس، وأكرم ما يكون في رمضان)}.
كرم النبي ﷺ معلوم، فكان ﷺ يُشغله أن يحبس شيئًا من تبرٍ -يعني من ذهب- قبل أن يقسِّمه، وجاءه رجلٌ بعد غزوة حنين، وأعطاه النبي ﷺ غنمًا بينَ جبلين، فرجع الرجل إلى قومه وقال: "يا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الفَاقَةَ"، فهذا أبلغ ما يكون من وصف الكرم.
وكان كرمه ﷺ عظيم، ومن كرمه أنَّه لا يرد سائلًا، فلا يُمكن أن يكون أحدًا أكرم من النبي ﷺ، وربما سأله بعض أصحابه قميصه الذي عليه، فيُعطيَه السائل، وهذا أعظم ما يكون عليه الجود، وشهد بهذا الجود أصحابه -صلوات ربي وسلامه عليه.
قال: (وأكرم ما يكون في رمضان)، ولهذا جاء في الحديث "فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"، وهذا لأنَّ جبريل كان ينزل عليه بالوحي فيُدارسه القرآن، فكان أثر القرآن عليه أنه يكون أكرم الناس في رمضان.
فينبغي للإنسان أن يعرف مثل هذه الصفات، وأنَّ القرآن يأمرك بالكرم وبالإحسان وبالعطاء وبالجود والبذل، ولو علم أهل البذل والعطاء ما يجدونه من اللذائذ لَمَا توانوا من العطاء والبذل في أبواب الخير، لا في باب السرف والمخيلة والمكاثرة، وإنما يكون المدح يكون في أبواب الخير كالإحسان إلى الوالدين والأقارب، أمَّا الكرم على سبيل الكبر والمفاخرة فهذا نقص في العقل، ونقص في الخُلُق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان أعلم الخلق بالله، وأفصح الخلق نطقًا، وأنصح الخلق للخلق)}.
فصاحته ﷺ متناهيةٌ، وكان النبي ﷺ يتكلَّم بالكلام الفصيح البيِّن، ولو أراد العادُّ أن يعدَّه لعدَّه، فدلَّ على أن كلام النبي ﷺ فيه عدم عجلة، وكان فيه فصاحة، وكان النبي ﷺ إذا تكلَّم تكلم ثلاثًا، أي: يُعيد كلامه ليُفهَم ويُعقَل ويُحفَظ وينقَل للأمَّة، وقد نقل الصحابة -رضوان الله عليهم- كلام النبي ﷺ كما سمعوه من غير تغيير أو تبديل، وكلامه موجودٌ بين أيدينا في كتب الصحاح والمسانيد، ومَن أراد أن يسمع كلام النبي ﷺ فليرجع إلى الحديث النبوي وإلى توجيهات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وأحلم الناس)}.
حلم النبي ﷺ يُضرَب به المثل، فجاءه أعرابي فجذبه، وكان النبي ﷺ عليه جُبَّة -أقرب ما يكون إلى الكساء الغليظ- فأثَّرت في جنبِ النبي ﷺ؛ لأنَّ الأعرابي كان فيه جفاء، فتصوَّر مقام النبوَّة ومقام الإمامة، ثم يأتي أعرابي ويقول: أعطني مما أعطاك الله! ثم يجذبه حتى يؤثِّر في جنب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فلا يقول له شيء ويعذره ويعطيه! فهذا حلم عظيم.
ومن حلمه ﷺ أنَّه أكرم مَن كان تحت يديه بالحلم، فالنبي ﷺ أوذي ومع ذلك حلم عليهم حتى كان له النصر والتأييد من الله -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان ﷺ أشد الناس تواضعًا في وقار، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدِّين.
قالت قيلة بنت مخرمة في حديثها عند أبي داود: "فلما رأيت رسول الله ﷺ المتخشع في جلسته أرعدت من الفرق")
}.
يعني أصابتها الرِّعدة من الخوف، وهذا مما أعطاه الله للنبي ﷺ من الهيبة، فكان مهيبًا، ومَن رآه نزلت في قلبه الهيْبَة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفي السيرة أنه ﷺ لما دخل مكة يوم الفتح جعل يطأطئ رأسه من التواضع، حتى إن مقدم رحله ليصيب عثنونه، وهو من شعر اللحية)}.
هذا التَّواضع هو تواضع لله -عَزَّ وَجَلَّ- وظهر في فتح مكَّة، فما كان بين فتح النبي ﷺ لمكة وبين مهجره إلا عشر سنوات، فخرج من مكَّة وهو يخشى على نفسه من القتل ومعه أبو بكر ومعه عبد الله بن أريقط -الدليل-، بعد أن منعوه أن يُبلِّغ رسالة ربِّه وآذوه، ووصل إلى مرحلة أنه وجد أنَّ مكَّة ليست بمكان مناسب، حتى يسَّر الله -عَزَّ وَجَلَّ- له الأنصار، فخرج يُريد المدينة فقط، ومع ذلك خرج على وجه الخفية، ثم رجع بعد عشر سنوات -عليه الصلاة والسلام- فاتحًا منتصرًا، وفي ظرف الزمان يعتبر هذا الوقت قصير جدًّا، فمن طبيعة البشر ومن طبيعة الناس أنَّه في هذا لمقام يكون في كبرٍ وفخرٍ وعلوٍّ، وهذا النبي ﷺ يُعلِّم هذه الأمَّة أنَّ التَّواضع يكون لله -عَزَّ وَجَلَّ- والخضوع والإذلال، لأنَّ الفضل من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا لَمَّا دخل مكَّة دخل على هذه الهيئة، فجعل يُطأطئ رأسه من التواضع لله -عَزَّ وَجَلَّ- والخضوع والإنابة، فهو يعلم أنَّ الذي يسَّر له الهجرة والذَّهاب إلى المدينة هو الذي يسَّر له أن يدخل فاتحًا مُنتصرًا، وقريش هم سادة العرب، ومع ذلك مكَّنه الله -عَزَّ وَجَلَّ- منهم، فتواضعَ لله -عَزَّ وَجَلَّ- ورجع إلى مكَّة في مقام التواضع؛ لأنَّه يعلم أنه جاء رحمةً للعالمين، وجاء ليُبلِّغ هذه الرسالة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكان أشد حياء من العذراء في خدره)}.
الخدر: هو السِّتر في البيت، وكانت العرب من عادتها قبل الإسلام أن يجعلون للبيت سترًا، والبيت كان إمَّا من شَعَرٍ -ما يسمى الآن بالخيمة- ويُوضع جزء منه خدر -ستر- فتُستَر فيه النساء، وعادة البكر لا تمتهن كثير من المهن، وتكون في شأن أهلها في هذا الخدر، وهذا معروف حتى في أيام الجاهلية، ولهذا يقول امرؤ القيس:
ويَـوْمَ دَخَـلْـتُ الـخِـدْرَ خِـدْرَ عُـنَـيْـزَةٍ
دلَّ هذا على أن الخدر كان من عادتهم.
ويُقال: المرأة المُخدَّرة، والمرأة البارزة.
فالمرأة المُخدَّرة: المرأة التي لا تخرج من البيت، ولا تمتهن أشياء كثيرة.
والمرأة البارزة: هي التي تخرج.
وكان حياء النبي ﷺ أشد من حياء العذراء في خدرها، فكان ﷺ متجمِّلًا بخلق الحياء.
وكما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» ، وقال: «الْحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أوْ قالَ: «الحَياءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»، وقال: «الحياء شعبة من شعب الإيمان».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومع ذلك فأشد الناس بأسًا في أمر الله)}.
هذا الحياء الذي كان عليه النبي ﷺ لا يحمله على أن يكون ضعيفًا عندما تُنتهك محارم الله، فهنا يكون الحياء مذمومًا، ولا يُمكن أن يُسمَّى حياءً.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وروي عنه أنه قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا الضحوك القتال»)}.
هذا الحديث ليس له أصل، ولا يصح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وهكذا مدح الله عز وجل أصحابه حيث قال تبارك وتعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾)}.
يعني الشِّدَّة على الكفار، والرحمة بين أهل الإيمان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وستأتي إن شاء الله تعالى بقية أوصافه الجميلة مستقصاة فيما نورده من الأحاديث بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه المستعان.
فصل: في ذكر الأماكن التي حلها صلوات الله وسلامه عليه، وهي الرحلات النبوية.
قدم الشام مرتين:
الأولى: مع عمه أبي طالب في تجارة له، وكان عمره إذ ذاك ثنتي عشرة سنة، وكان من قصة بحيرا وتبشيره به ما كان من الآيات الي رآها مما بهر العقول، وذلك مبسوط في الحديث الذي رواه الترمذي مما تفرد به قراد أبو نوح، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، وهو إسناد صحيح، ولكن في متنه غرابة قد بُسط الكلام عليه في موضع آخر، وفيه ذكر الغمامة ولم أرَ لها ذكرًا في حديث ثابت أعلمه سواه)
}.
أجملَ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في قصَّة بحيرا الراهب، وهو الذي مرَّ عليه النبي ﷺ حينما كان مع عمِّه في رحلته الأولى إلى الشام، وتعرفون أن قريشًا كان لهم رحلتان -رحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن- ففي هذه الرحلة أخذه عمه أبو طالب، وكان ﷺ صغيرًا.
وأصل قصَّة بحيرا الرَّاهب صحيح ولها طرق، ولكن بعض الزيادات عليها فيها نكارة، فذكر أهل العلم مثلًا:
- قصة الغمامة، ففيها نكارة ولا تصح من جهة السَّند.
- كذلك ذُكر في القصة بلالًا في بعض الروايات، وهذا لا صحَّة له.
وأصل القصَّة صحيح ووارد بأسانيد يدل مجموعها على صحتها، أمَّا التَّفاصيل ففي بعضها مما يُنتَقد من جهة الإسناد ومن جهة المتن.
وقوله (مما تفرد به قراد أبو نوح)، يدل على أنَّ القُصَّاص في باب السِّيَر عمدوا إلى ذكر بعض الأمور المنكرة، ولهذا فإنَّ أهل الحديث صنَّفوا الكتب التي تُزيل عن هذه الروايات ما يقع فيها من الغلط، ولهذا ظهرت علوم كثيرة جدًّا، كعلم الجرح والتعديل، وعلم الرجال، وعلم علل الحديث، وعلم نقد المتون، فيُنظَر في المتن الحديثي ويُنظَر لسياقاته، فقد يكون فيه ما يُنتَقَد ويُخالف ما هو متقرر، وما ذكرنا من النَّكارة التي في بعض الزيادات إنَّما هي من بعض روايات القُصَّاص.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (القدمة الثانية في تجارة لخديجة بنت خويلد وصحبته مولاها ميسرة، فبلغ أرض بصرى)}.
بصرى موجودة الآن في دائرة الحدود في سوريا، وهي جنوب سوريا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فباع ثم التجارة ورجع، فأخبر ميسرة مولاته بما رأى عليه ﷺ من لوائح النبوة، فرغبت فيه وتزوجته، وكان عمره حين تزوجها ـ على ما ذكره أهل السيرـ خمسًا وعشرين سنة)}.
وكانت هي -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في الأربعين، وهذا يدلُّك على أن النبي ﷺ في علاقته مع النساء أنها لم تكن علاقة كما يُريد الرجال من النساء فقط، وإنَّما كانت المصاهرات لأمور كثيرة جدًّا، منها أنَّ خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- كانت من أكارم النساء، ومن أحسن الناس خُلُقًا، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمُلَ من الرجالِ كثيرٌ، ولم يَكْمُلْ من النساءِ إلا ثلاثٌ: مريمُ بنتُ عمرانَ، وآسيةُ امرأةُ فرعونَ، وخديجةُ بنتُ خويلدَ، وفضلُ عائشةَ على النساءِ كفضلِ الثريدِ على سائرِ الطعامِ» .
وكان فضل الله -عَزَّ وَجَلَّ- على النبي ﷺ أن كانت خديجة زوجته، وكانت -رَضِيَ اللهُ عَنْها- من أسباب تطمين النبي ﷺ حينما جاءه جبريل، فسابقتها وفضلها يُذكر فيُشكَر -رَضِيَ اللهُ عَنْها وَأَرضَاهَا-، وهي ما رغبت في النبي ﷺ إلا لِمَا رأت ما عليه من الأخلاق الفاضلة، وبعض الناس يقصد الصورة الحسيَّة والجمال الحسِّي، ويتغافل عن الجمال الآخر، وهو الباقي في الحقيقة، ولا يمنع أن يقصد الإنسان الجمال الحسي والصورة الظَّاهرة، ولكن كذلك الجمال المعنوي وهو جمال الأخلاق هو الذي ينبغي أن يكون، فما الفائدة من الصورة الحسنة مع أخلاق سيئة! وسيندم مَن يعمد إلى هذا!
وكثير من الناس في مصاهراتهم وفي زواجهم يقصدون الصورة الظاهرة ويغفلون عن الأخلاق، وهي الباقيَّة في الحقيقة، وهي التي يكون بها دوام العشرة، ودوام العشرة لا يكون بالصورة الحسنة، وإنَّما يكون بالأخلاق العظيمة، فأخلاق المرأة العظيمة لا شك أنه مما يُرغَبُ فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وتقدم أنه ﷺ أسري به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فاجتمع بالأنبياء وصلَّى بهم فيه، ثم ركب إلى السَّماء ثم إلى ما بعدها من السَّموات سماءً سماءً، ورأى الأنبياء هناك على مراتبهم، ويسلم عليهم ويسلمون عليه، ثم صعد إلى سدرة المنتهى فرأى هناك جبريل -عليه السلام- على الصُّورة التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، ودنا الجبار رب العزة فتدلَّى كما يشاء، على ما ورد في الحديث الشريف، فرأى من آيات ربه الكبرى كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾، وكلَّمه ربه -سبحانه وتعالى- على أشهر قولي أهل الحديث، ورأى ربه -عَزَّ وَجَلَّ- ببصره على قول بعضهم، وهو اختيار الإمام أبي بكر بن خزيمة من أهل الحديث، وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين)}.
الإسراء والمعراج من معجزات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الإسراء: هو الذهاب في الليل -كما مرَّ معنا.
والعروج: هو عروج النبي ﷺ إلى السَّماء.
وكان هذا الحدثُ حدثًا عظيمًا ومُعجزًا، فأمَّا الإسراء فكان في زمانهم مُعجِز، وأما في زماننا صار ليس بمعجزٍ.
وهنا فائدة عظيمة: أنَّ العقل يُدرك بحواسِّه أشياء، وقد لا يتصوَّر أشياء باعتبار ارتباط الحواس والزَّمان والمكان، فما كان معجزًا في وقتٍ قد لا يكونُ معجزًا في وقتٍ آخر، وهذا يدلُّك على أنَّ العقل الإنساني قاصرٌ عن إدراك كثيرٍ من الأمور، ويُضرَب بهذا في مثل حادثة الإسراء، ولعلنا -إن شاء الله- نُكمل الحديث فيما يتفرع عن هذه المسائل في الحلقة القادمة.
{أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيُّها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك