الدرس الخامس عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1398 22
الدرس الخامس عشر

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{فضيلة الشيخ -بحمد الله- أتممنا شرح الكتاب، ورأيتم -حفظكم الله- أن نعيد عرض بعض الموضوعات في السيرة النبوية، ونستله منها الدروس والعبر ونبسط ما يمكن بسطه من هذه الأحداث، فتفضل يا فضيلة الشيخ في طرح ما لديكم في هذه الحلقة}.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، بحكم أن الكتاب "الفصول في سيرة الرسول" للإمام ابن كثير مباحثه متنوعة، ومن منهجه -رحمه الله- أنه في بعض المواضع يجمل وفي بعض المواضع يفصل، وهو شأنه وشأن كتابه الذي كتبه، ولا شك أنه إمام مصنف نحرير، تعرض -بحمد الله- في الكتاب إلى أغلب وقائع السيرة النبوية، ومن المناسب في الحقيقة أن بعض المواضع التي أجملت في الفصول في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أننا نأخذها بشيء من الشرح والبيان، ولكن كنا مرتبطين بإنهاء الكتاب، فأثرنا أن نؤخر هذا الاستطراد أو البسط لبعض المواضع في السيرة النبوية حتى يتم استكمال الكتاب بحمد الله، وبما أننا استكملنا هذا الكتاب بالشرح والبيان، فلا شك أنه لا بدَّ أن نتفيّأ ظِلال السيرة النبوية ومواقفها العظيمة التي وقعت بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، ومنها نأخذ الدروس والعبر ونستفيد منها في حياتنا العلمية وحياتنا العملية وفي تعاملنا مع الناس.
سمة مواضع في السيرة الحقيقة تحتاج الإنسان أن يقرأها أكثر من مرة وأن يتعلم ما فيها؛ لأنها تحمل دلالات كثيرة، تحمل دروسًا عقدية، ودروسًا تربوية، ودروسًا علمية، ودروسًا اجتماعية، وهذا شأن المسلم في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن أحسن الأوقات التي تُقضى هو متابعة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستفادة منها.
ثَمَّ حدث في الحقيقة حدث في العهد المكي في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا الحدث ربما يكون من أهم الأحداث التي وقعت في العهد المكي؛ لأنه تضمن أشياءً كثيرة، فلا يخفى على شريف علمكم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة ثلاثة عشر سنة وهو يدعو إلى الله -عز وجل- حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة.
هذه الثلاثة عشر سنة قضى منها عشر سنوات وهو يدعو إلى هذه الكلمة العظيمة، وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله، بعد هذه السنوات العشر حدث علو الصدام بين أهل الإسلام وبين أهل الكفر والطغيان، وظهر ذلك في حصار بني هاشم في شعب بني عامر، وتزامن مع هذا موت عَمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وموت خديجة، وكان له أثر نفسي عظيم جدًّا على النبي -صلى الله عليه وسلم-،
بعد هذا حدَث حدث عظيم جدًّا، قال أهل العلم: إنه من معاني وقوعه في ذلك الزمان هو تسلية النبي -صلى الله عليه وسلم- ولِمَا وقع عليه من الهمِّ والحزن والغم، وهذا شأن أهل الإيمان أنهم يبتلون، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ» أو «أشدّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الذينَ يلونَهُم»، يُبتلى الإنسان على قدر دينه، فإن كان في دنيه صلابه زيد له في البلاء.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»، فكان الابتلاء على النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتلاءً عظيماً وعلى أهل الإسلام، فمن سنة الله -عز وجل- الكونية القدرية أن الله -عز وجل- ينفس لأهل الإيمان، فكان هذا الحدث تنفيسًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأهل الإيمان، وبعد هذا الحدث جاءت الشرائع تباعًا، قبل هذا لم يكن على المسلمين فريضة غير فريضة التوحيد، وفرضت الصلاة في هذا الحدث العظيم، ومن شأن هذا الحدث ومن شأن الفريضة التي فرضت به أن الله -عز وجل- لم يفرضها في الأرض، يعني لم يأتي بها جبريل وإنما ارتقى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الملأ الأعلى وإلى السماوات العلى ليتلقى الأمر الإلهي بهذه الفريضة العظيمة التي لازال المسلمون -ولله الحمد- ينعمون بعبادة الله -عز وجل- فيها وهي الصلاة.
فالحدث الذي معنا هو حدث الإسراء والمعراج.
الإسراء والمعراج من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- وكوننا نقول: إنها معجزة خارقة للعادة، أما الإسراء فقد ثبت بنص القرآن، والإسراء هو الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً من مكة إلى بيت المقدس، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الإسراء: 1].
فالإسراء ثابت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُسري به إلى بيت المقدس، وتواتر في السنة النبوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عُرج به إلى السماوات السبع وفتحت أبوابها له حتى جاوز السماء السابعة، فكلمه ربه بما أراد وفرض عليه خمسين صلاة، فلم يزل نبينا -صلى الله عليه وسلم- يراجع ربه بوصية كليم الله موسى -عليه الصلاة والسلام- حتى جعلها الله -سبحانه وتعالى- خمسًا في الفرض وخمسونًا في الأجر لأن الحسنة بعشر أمثالها.
وأهل السنة مجمعون على أن الإسراء والمعراج كان يقظة وليس منامًا، وأنه وقع بروحه -صلى الله عليه وسلم- وبجسده الشريف، وأنه وقع مرة واحدة على الصحيح من أقوال أهل العلم، أما تعيينه في الزمان فلا شك أنه بإجماع المؤرخين وبإجماع أهل السير أنه كان قبل الهجرة، لكن متى حدث ثَمَّ خلاف في ذلك ولا جزم لأحد في ذلك، وعليه فتعيين أن الإسراء والمعراج وقع في السابع والعشرين من شهر رجب تعيين لا دليل عليه، وبالتالي على هذا فالاحتفال بهذا الحدث احتفال بدعي على خلاف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- من جهة أصله الذي بُني عليه ومن جهة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة لم يحتفلوا بهذا الحدث، وهم من أحرص الناس على الخير، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، ثَمَّ كذلك لا ثَمَّ أو لا ليس أصلاً تاريخياً يثبت أن ذلك وقع في ذلك اليوم الذي يُحتفل به واقع المسلمين الآن.
وكانت دابة الإسراء هي البراق، وهي دابة كما جاء وصفها في السنة بين البغل والحمار يضع رجله حيث ينتهي إليه طرفه، وهذه دابة الإسراء، وأما آلة العروج فهي المعراج، ولا يعرف قدره وكنه إلا الله -سبحانه وتعالى- ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عُرج به إلى السماوات، وكان في صحبته جبريل -عليه السلام-، ووصل إلى بيت المقدس، فلما بلغ بيت المقدس نزل وصلى بالأنبياء كما جاءت السنة بذلك، ورأى في معراجه إلى السماوات رأى الأنبياء تباعًا، رأى آدم أبو الأنبياء في السماء الدنيا كما جاء الخبر بذلك الصحيح، ثم يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم في الثانية، ويوسف -عليه السلام- في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، هؤلاء الأنبياء الذين رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم، يعني: رأى روحًا وصورًا ولم يرى أروحًا فقط؛ لأن دلالة الأحاديث تدل على ذلك، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف الأنبياء لما رآهم، وهذا الوصف يدل على أنه رأى الأرواح والأبدان، إلا عيسى -عليه الصلاة والسلام- كما هو معلوم فقد رآه بشخصه لأنه رفع إلى السماء -عليه الصلاة والسلام- بجسده وروحه، ولهذا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- موسى -عليه السلام- أنه هو "رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ"، وعيسى قال عنه: أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود، وأمَّا إبراهيم فأشبه الناس به صاحبكم، يعني: نفسه -صلى الله عليه وسلم-.
فهذه تقريبًا أحداث وقعت في ذهاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو في إسرائه ومعراجه.
هذا الحدث العظيم يشعرنا بمعالم منهجية مهمة جدًّا في المعرفة وفي التلقي والاستدلال، أهم معلم في هذا الإيمان بمحدودية العقل البشري، لأن ثَمَّ دلائل وبراهين عقلية تدل على أن العقل البشري محدود، فالعقل مما يدل على أنه محدود، محدود من جهة نسبته، فإن العقول متفاوتة في الإدراك، فالذكاء متعدد ومتفاوت، وما يفهمه فلان قد لا يفهمه الآخر، والذكاء كما نص على ذلك علماء الإنسان وعلماء الاجتماع أنه متعدد، فثَمَّ ذكاء اجتماعي وذكاء عاطفي وذكاء متعدد، فدل على أن أصل العقول متفاوتة في الإدراك، وما يستطيع أن يفهمه فلان في المسألة الحسابية لا يستطع فلان أن يفهمه، هذا يدلك ببرهان على أن العقل مداركه متفاوتة، هذا أولاً.
ثم إن هذه العقول محدودة في إدراكها بالحواس الخمس، فالإنسان لا يمكن أن يتصور بعقله إلا ما يألفه ويألف مثاله، وهذا معلوم في الإدراك، ولهذا من حرم من حاسة من الحواس فسيجد صعوبة في التصورات، ولهذا مثلاً من حرم من نعمة البصر لو أردت أن تكلمه عن الفيل أو عن الجمل ستجد أنه يجد صعوبة في تصوره، ولهذا يمثل له مجسم حتى يتصور كنه ذلك المخلوق، وهذا يدلك على محدودية العقل.
كذلك العقل محدود بالزمان والمكان، وكون العقل محدود بالزمان والمكان، دل على أنه في زمان قد يتصور الأمر مستحيل، ثم يكون في الزمان الآخر سائغ، وهذا وقع معهم كما جاء في السير حينما قالوا: كيف يذهب إلى بيت المقدس ويرجع ونحن نضرب أكباد الإبل شهراً ذهابًا وشهرًا عوداً، فإذًا محدود بالزمان، وكذلك محدود بالمكان، فلا يمكن الإنسان أن يتصور إلا ما تدركه عينه الباصرة أو أذنه السامعة، فلهذا ثَمَّ أصوات لا يسمعها الإنسان وهي موجودة، هل يعني عدم سماعه لها أنها غير موجودة، ثبت في العلم الحديث أنه ثَمَّ ترددات للصوت إذا ارتفع التردد لا يسمع الإنسان.
كذلك هذه العلوم الإنسانية التي أثرت المعرفة وقامت عليها علوم لا تتعدى الإدراكات الحسية، أنه لا يمكن للإنسان أن يدرك إلا ما يتعامل معه بحواسه، وهذه الحواس كذلك يمكن خداعها، ولهذا قد تتصور العين الماء وهو سراب، فدل على أن مصدر المعرفة هو العقل وتقديمه على النقل هذا الحقيقة من جهة البرهان خاطئ، ولهذا لا يعول على دلالة العقول، والمعارف كلها البشرية إنما تدرك على وجه العموم ولا تدرك على جهة التفصيل، فمثلاً إنبات الأرض بالمطر، الناس لا يعرفون أنه إلا إذا نزل الماء أنبتت، لكن تفاصيل هذا لا يدركونه على وجه التفصيل، كيف تكون العلاقة بين الماء وبين البذرة؟ كيف تكون البذرة؟ كيف تحيط بقشرتها؟ كيف ينشأ جنين البذرة؟ التربة، الرطوبة، كل هذه لا يدركها الناس، وحتى في المخترعات الحديثة كيف تسير السيارة مع ذلك ينعمون بآثارها، ولا يعرفون كيف تطير الطائرة وينعمون بآثارها لكنهم يتركونها.
فإذاً خلاصة هذا: أن الحواس محدودة ومتفاوتة وضعيفة ويمكن خداعها، وأن تصورات الإنسان لما غاب عن حواسه لا يمكن أن تقع في ذهنه إلا من خلال المألوف من الحواس، يعني بالمثال، ولهذا قضيتين مهمتين:
القضية الأولى: هو أن ثَمَّ أمور حُجب الإنسان عنها وعن إدراك كيفياتها، لأن العقل محدود في تصوراته لها، ولهذا قطع الله الطمع عن إدراك كيفية الصفات، فلا يمكن الإنسان أن يدرك كيفية الصفات، صفات الله -عز وجل-، يؤمن بها لكن لا يدرك، كما قال الإمام مالك: "الاِسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالإِيـمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ"، الكيف مجهول يعني أنه مما استأثر الله بعلمه، كيف الله يستوي على عرشه؟ هذا مترتب على كيفية ذاته -سبحانه وتعالى- وذاته لا تشبه الذات ولا تماثل الذوات، كذلك استوائه -سبحانه وتعالى- على عرشه لا يماثل، وهكذا سمعه وبصره، هذا فيما يتعلق بالذات الإلهية، حتى في المخلوقات الإنسان لا يدرك إلا ما كان له مثال يراه في الشاهد، فإذا غاب المثال غاب التصور، ولهذا أخبر الله -عز وجل- عن أشياء في الجنة قد لا يتصورها الإنسان التصور المماثل لواقعه.
وأخبر الله -عز وجل- عن عذاب أهل النار ولا يتصوره الإنسان، التصور المماثل للواقع، وهذا ما جاء عن عبد الله بن عباس أنه قال: "ليسَ في الجنةِ شيءٌ مما في الدنيا إلا الأسماءُ"، فدل على أن حال الآخرة مختلف عن حال الدنيا، وبالتالي فمحدودية العقل هذه ركيزة من المعارف الإسلامية المهمة، ومن المنهج السلفي أن العقل محدود ولا يعول عليه، ويمكن أن يُخدع ولهذا لا يجعل أصلا في المعرفة ولا يقدم على الوحي الذي هو أصل المعارف، الذي جاء عن الأنبياء والرسل، ولكون الإنسان بحاجة إلى وحي في تعليمه ما ينفعه في أمر دنياه ودينه جاءت الرسل بالحجة البالغة، ﴿رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء: 165]
فحاجة الناس إلى الوحي أعظم حاجة، ولهذا قلنا: إن حدث الإسراء والمعراج يمثل منهج معرفي لأهل الإسلام، كيف تعاملون مع الغيبيات وما وراء الطبيعة مما أخبر الله به من الوحي، ما جاء عن الله وجاء عن رسوله وجب أن يؤمن به وأن يصدق وإن لم نعرف كيفية هذا الأمر، ولا يمكن أن نصل إليه، ولهذا فيه عبارة لابن تيمية -رحمه الله تعالى- دائمًا يذكرها وهي مهمة جدًّا لطالب العلم "قطع الطمع عن إدراك كيفية الصفات" وقوله كذلك: "النصوص تأتي بما تحار به العقول لا بما تحيله العقول" يعني العقل يحار في فهمه لما يخبر الله -عز وجل-: ﴿أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾[محمد: 15]، التصور بعيد، نحن لا ندرك إلا الأسماء لأنك في الشاهد لم ترى مثل ذلك، لكنك موعود أن تراه عين الحقيقة وبعينك الباصرة ولكن حينما يختلف الزمان والمكان، عند ذلك يكون لك هذا وتعيش الحياة الأخروية التي هي الحياة الدائمة، وهذا هو فضل بين أهل الإيمان وبين أهل الكفر والطغيان، أن أهل الإيمان يؤمنون بالغيبيات ويؤمنون باليوم الآخر، وجعل هذا اليوم الآخر الذي فيه جنة ونار يبعث الإنسان على أن يسلك المسلك الصحيح ويعرف أن هذه الدنيا هي مجرد زمان محدود بأرقام معينة لكل إنسان أجل، ثم يجاوز هذا الأجل ليكون الحساب والعقاب، ثم المصير إما إلى الجنة وإما إلى النار، وعند ذلك يدرك هؤلاء الذين يكذبون بما جاءت به الأنبياء حجم المأساة التي وقعوا فيها، وأن الله -سبحانه وتعالى- أقام عليهم البرهان أن عقولهم لا يعول عليها، وأنهم يدركون ذلك إدراكاً تاماً ولكنهم حكموا عقولهم وبلغ منهم الغرور حتى ردوا على الأنبياء ما جاءوا به من الأخبار.
{تأذنون بسؤال: هل هناك إمكانية لأن يعارض العقل النقل أم هذا أمر لا يمكن وقوعه؟}
معارضة العقل للنقل هذه لا يمكن أن تقع، ولكن في ذهن المكلف قد يتصور هذه المعارضة، وأمَّا النصوص فإنها لا تتناقض؛ لأن مصدرها ومصدر هذا المعرفة من واحد وهو الله -سبحانه وتعالى-، إما القرآن وهو كلام الله وكذلك السنة فهي الوحي الثاني، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله عنه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم: 3- 4]، فهي الوحي الثاني، أي: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بالتالي فمصدر المعرفة لا يمكن أن يتناقض، والله -عز وجل- بيَّن بالدلالة أنه غير متناقض، ولهذا قال الله -عز وجل- عن كلامه: ﴿لَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِير﴾[النساء: 82]، يعني: أن يكون مختلفاً، أما القرآن والسنة فلا يتعارضان ولا يتناقضان، وإنما تصور التعارض والتناقض إنما هو في ذهن المكلف، فالمكلف والإنسان لمحدودية عقله قد يتصور هذا التعارض أو هذا الاختلاف، وعليه أن يبحث في العلم الشرعي والموروث العلمي عما يزيل عن ذهنه هذا التعارض، لأنه إذا بحثت كان له الجواب وكان له شفاء العي عند سؤاله وبحثه وجمعه بين هذه النصوص، فالأصل النصوص لا يمكن أن تتعارض ولكن التعارض قد يقع في ذهن المكلف.
حدثُ الإسراء والمعراج يدل على أن الناس بحاجة إلى الوحي، وحاجتهم إلى الوحي وإلى الأنبياء أعظم من حاجاتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن بالطعام والشراب يكون بقاء الأبدان، وأما بالوحي فهو بقاء الأرواح وبقاء رسالة الإنسان في هذه الأرض، الله -عز وجل- لم يخلق الإنسان ليأكل وليشرب وليتناسل، وإنما خلقه لغاية عظيمة وهي أن يعبد الله -عز وجل-، كيف يعبد الله -عز وجل-؟
جاءت الأنبياء بهذه الشرائع وجاء نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي هو خاتم الأنبياء والرسل وبه ختمت الأديان وكل ما في الأديان السابقة هو في دين محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو دين الإسلام جاءت على هذا، فإذاً حاجة الإنسان إلى الوحي أعظم حاجة، والإسراء والمعراج وما جاء فيه من دلالات وما جاء في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- يدل على أن الإنسان دون دين ودون اعتقاد تكون حياته لا قيمة لها، ولا يعيش الحياة الحقيقية؛ لأن الحياة الحقيقية هي الحياة الأخروية، وهي الإيمان باليوم الآخر، ودون الإيمان باليوم الآخر سيكون الإنسان لا فرق بينه وبين الحيوان، يأكل القوي الضعيف، يعيش الإنسان متجرد من كل القيم والأخلاق، والقيم والأخلاق والفضيلة لا توجد إلا في عالم الإنسان ولا توجد في عالم الحيوان إلا على نحو جزئي غير مذكور وبسيط.
أما القيم والأخلاق فلهذا جاء الأنبياء بالقيم والأخلاق والشرائع التي إذا عدمت الأديان وعدم الدين فإنه لا قيمة لهذا الإنسان، بل يستوي بالحيوان، بل هو أقل درجة من الحيوان؛ لأن الحيوان لا يجري عليه التكليف، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].
ولهذا ذكرهم الله -عز وجل- بوصف أنهم يشبهون الأنعام، ثم قال: ﴿بَلْ هُمْ أضَلُّ﴾ أي: من الأنعام، فمن جهة السلوك يشابهون الأنعام، ومن جهة المآلات فإن مآل الأنعام إلى الفناء، وأما مآل الإنسان فإلى الحساب والعقاب وإلى الخلود في النار إن كذب بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
من الأحداث العظيمة التي وقعت في الإسراء والمعراج بعد أن أُسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وعُرج به إلى السماء، كان موقف الصديق -رضي الله عنه- وهو موقف عظيم يثبت بالأنموذج التطبيقي ما فضل به أبو بكر على غيره من الصحابة، وهو قضية الإيمان بالغيب والإيمان بالوحي؛ لأن كفار قريش لما بلغهم خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- سارعوا إلى أبي بكر باعتباره أنه من أوائل من آمن وهو يمثل الحدث المهم أو الشخصية المهمة في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرادوا أن يزعزعوا إيمانه وأرادوا أن يكسبوا من هذا الحدث في زعزعة إيمان أبي بكر؛ لأنهم يتصورون أن أبا بكر لو زاغ -وحاشاه من ذلك- أو ارتد فإن ذلك يعد هزيمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بعدها هزيمة، فقالوا له مسارعين: إن صاحبك يزعم أنه أُسري به إلى بيت المقدس ثم عاد، ونحن نقطع أكباد الإبل شهراً ذهابًا وشهرًا إيابًا، فكان أبو بكر ذا موقف واضح، قال: "إن كان قد قال ذلك فقد صدق، إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء" فهذا مهم جدًّا في المعرفة، إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُصدق في وحيه وأنه مبعوث من الله -عز وجل- كيف لا يصدق في جزئيات هذا الوحي!؟ فاستدل أبو بكر بالتصديق الكلي على فروع هذا التصديق وعلى أن الإنسان ينبغي بل يجب عليه في الغيبيات أن يؤمن بما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلا لم يدرك تفاصيل ذلك؛ لأن الأصل الذي بنى عليه الإيمان هو أنه ثبت له بالدليل القاطع أنه رسول من عند الله -عز وجل-، وكونه رسول من عند الله يجب أن يؤمن بكل ما يخبر الله -عز وجل- به وأن لا يقدم على هذا الإيمان واقعه المحسوس أو دلالاته العقلية؛ لأن العقل قد لا يتصور ذلك، لكن قالوا: كيف يذهب الإنسان ويمشي ويذهب إلى بيت المقدس وهذا ما جعلهم يسارعون ويسوغون لهذا الأمر حتى رأوا أن في ذلك إبطال لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخابوا وخسروا فلم يزد ذلك الصحابة إلا إيماناً بما جاء عن الله وما جاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كيف لا يصدقونه وهو الصادق الأمين الذي كان قبل البعثة لم يعلم أنه كذب.
كل هذا من إقامة الحجة على الخلق، النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعهد أنه كذب في حال الجاهلية يعني: قبل أن يبعث، وهو لا يتدين بدين ولم يأتيه التكليف ولم يأتيه الوحي ومع ذلك لم ينقل عنه، فإن الله -عز وجل- فطره على بغض الكذب وأنه لم يكن كذاباً، فكيف بعد أن جاء له الوحي؟ كل هذا من قبول الإيمان، الله -عز وجل- مهد لقبول الإيمان عندهم وأقام عليهم الحجة، ولهذا لو أن عُلم عنه الكذب لقيل هذه من كذباته التي يكذبها، لكن هم يعلمون أنه لا يكذب، ولهذا هم يعلمون أنه صادق، ولهذا كانوا يسمونه في الجاهلية الصادق الأمين ويحكمونه في قضاياهم لعلمهم بصدقه وأنه لا يكذب، والصدق قيمة أخلاقية عظيمة يتمثل بها الكُمل من الرجال، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا الكمال قبل البعثة، وكمل الله -عز وجل- كماله بكمال آخر وهو الوحي الذي شرفه الله به وجعله حاملاً لهذه الرسالة، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾[الأنعام: 124]، ولا شك أن الرسالة والاصطفاء وقع على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك من الرؤى التي رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- حال إسرائه ومعراجه، فإنه رأى البيت المعمور يدخله سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ووصف هذا البيت العظيم قال: وهو بيت عظيم فوق السماء السابعة على أوزان الكعبة، كما جاءت الأخبار بذلك، وهذا البيت المعمور هو مكان عبادة الملائكة يطوفون به كما يطاف بالكعبة وله جرم، دليل على أنه له جرم، ولهذا رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- إبراهيم في السماء السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، فهذه أشياء رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي عظيمة.
ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سدرة المنتهى ليلة المعراج، وهي شجرة عظيمة وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم: 13] وهذا المرئي هو جبريل على الصحيح، ﴿عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى* عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى﴾[النجم: 14- 18]، فرأى سدرة المنتهى ووصفها -صلى الله عليه وسلم- قال: «فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ» يعني ثمرها «وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ»، وسبب تسميتها بسدرة المنتهى كما جاء في صحيح مسلم أنها إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من السماء فيقبض منها.
قال النووي -رحمه الله-: "سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها"، وما خفي غيب، يعني: ما فوق سدرة المنتهى، غيب لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-، فدل على أن الملائكة كذلك هم محجوبون عن أشياء من الغيب لا يعلمونها، وأن خلق الله -عز وجل- أعظم مما تتصوره العقول، وأن الله سبحانه وتعالى- في خلقه وفي مخلوقاته الإنسان يتصور أشياء ويعجز عن تصوره في خلقه، ولهذا رأى جبريل في صورته التي خلقها الله عليها عند سدرة المنتهى كما جاءت في الأخبار، ووصف جبريل -عليه السلام- أنه لما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- رآه على صورة عظيمة، كل جناح قد سد الأفق، ورآه في صورة عظيمة جدًّا، هذا التصور لخلق من خلق الله -عز وجل-، فكيف بخالق هذا الكون -سبحانه وتعالى؟
هذا يدل على أن الإنسان بالنسبة لهذا الكون لا شيء، ومع هذا الله -عز وجل- شرفه بأن جعله مناط التكليف، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُول﴾[الأحزاب: 72]، ولهذا الله -عز وجل- شرفه بهذا التكليف العظيم، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُور﴾[الإِنسان: 1- 3]، فالله -عز وجل- شرف الإنسان بهذا التكليف وجعله مكلفًا والجن تبع لتكليف الإنس، هم تبع لذلك في التكليف، فالثقلين كلفهم الله -عز وجل- بعبادته، قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾[الذاريات: 56- 57]، وأما خلق الله -عز وجل- الباقين فإنهم لم يكونوا مناط هذا التكليف.
كذلك مما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج ما حدَّث عائشة -رضي الله عنها- واختلف الصحابة فيه، هل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه، ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنها-: "مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يقولُ: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾[الأنعام: 103]".
"وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نُورٌ أَنَّىٰ أَرَاهُ»، رواه الإمام مسلم.
ولهذا حكى الدارمي في كتابه إجماع الصحابة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وقالوا: إن الخلاف في غير هذا الموضع، الخلاف في رؤية القلب، وما حكي عن ابن عباس أنه رأى ربه، فمحمول على الرؤية القلبية، وأنها رؤية الفؤاد لا الرؤية بالعين الباصرة؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يرى الله -عز وجل- بالعين الباصرة في الحياة الدنيا، ولهذا موسى لما سأل ربه الرؤية، ﴿قَالَ لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]، وهكذا النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يرَ إلا النور ولم يرَ الله -عز وجل- على الصحيح من أقوال أهل العلم وعلى التحقيق مما حدث فيه الخلاف.
فإذًا ما جاء أنه رآه هي رؤية قلبية؛ لأن الله -عز وجل- احتجب عن خلقه بالنور، فحجابه النور ولو كشف وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
كذلك من أحداث الإسراء والمعراج التي حدثت: أن الله -عز وجل- فرض الصلاة ليلة المعراج، وفريضة الصلاة في المعراج أولاً: يدل دلالة واضحة على أن هذه الشعيرة الله -عز وجل- شرفها بأن لم يجعلها فريضتها بواسطة، قال أهل العلم: هي الشعيرة والفريضة التي تلقاها النبي -صلى الله عليه وسلم- من ربه دون واسطة، دون جبريل، وفرضها أنها فرضت خمسين صلاة، ثم أن موسى -عليه الصلاة والسلام- كلما نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال موسى: "إن عالجت الناس قبلك فارجع إلى ربك فأسأله التخفيف"، جاء هذا في الخبر الصحيح، فلم يزل يذهب إلى ربه ويسأله التخفيف حتى فرضها خمس صلوات، فجاء إلى موسى -عليه الصلاة والسلام-، فقال موسى: "إني قد عالجت الناس قبلك فارجع إلى ربك فأسأله التخفيف" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي»، من كثرة إني أسأله التخفيف، فكانت خمسًا في الفريضة وخمسون في الأجر.
ودلالة هذا الحدث: يدل على أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وظيفتهم العظيمة هداية البشرية، وأن ما يجري من موسى -عليه السلام- يجري من عيسى -عليه السلام-، وأن دين الأنبياء واحد، وكون موسى -عليه الصلاة والسلام- وهو نبي الله -عز وجل- وكليم الرحمن ومن أولي العزم من الرسل وهو الوجيه عند الله -عز وجل-، كما قال الله -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيه﴾[الأحزاب: 69].
فموسى -عليه الصلاة والسلام- في قضية الصلاة وفي الأمر بالصلاة يحمل دلالات عظيمة جدًّا، أن أتباع موسى على الحقيقة لو كانوا مصدقين به ومتابعين به ما وسعهم إلا أن يتبعوا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الإيمان به إيمان بموسى -عليه الصلاة والسلام-، وكون أن الله -عز وجل- فرض هذه الخمس صلوات على الناس وأمرهم الله -عز وجل- بها يحمل دلالات عظيمة، أنها هي الفارق بين المسلم والكافر، فكيف للإنسان أن يدعي الإسلام ويدعي الإيمان في القرآن والإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم لا يصلي صلاة قد فرضها الله -عز وجل-، وكيف يكسل الإنسان عن الصلاة وعن داعي الصلاة وهي بهذا المكان العظيم في شريعة الله -عز وجل- حينما فرضت بغير واسطة؟ فدل على أن أصل شرائع الإسلام التي يدور عليها رحى الشرائع بعد الشهادتين هي فريضة الصلاة، فقبيح بالمسلم والمؤمن أن يتهاون بهذه الشعيرة العظيمة أو أن يتكاسل عن الصلاة فيها في أوقاتها، أو أن يتكاسل عن الذهاب إلى المسجد حيث ينادى بها في الصلاة، هذه شعيرة عظيمة لا يجوز بحال أن يخل بها الإنسان، كيف للإنسان يؤمن ويدعي محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يصلي مع المسلمين جماعة ولا يصليها إلا متكاسلاً هذا إن صلاها أو يصليها في بيته ولا يصليها في هذه المجامع العظيمة، لا شك الإنسان عليه أن يراجع نفسه وأن يدرك هذا إدراكًا يحمله على تعظيم هذه الشعيرة، ولهذا لو سألت نفسك كيف أن الله فرض هذه الشعيرة العظيمة في هذه الأوقات المختلفة، في الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء؟ وكيف أن الله -عز وجل- يقيم عليك الحجة بهذا الداعي الذي يدعو إلى هذه الصلاة؟ حي على الصلاة، حي على الفلاح، لا شك أن امتناعك وتكاسلك عن هذه الفريضة العظيمة لا شك أنه علامة أنك مخلول وأنك غير موفق وعليك أن تبادر، لأن الله سيحاسبك على هذه الشعيرة العظيمة، وهي أول ما ينظر في أعمالك الصلاة، وأن تقيم هذه الصلاة وأن تحرص عليها ولا يكفي ذلك أن تصلي، عليك أن تأمر من هم تحت يدك بهذه الشعيرة العظيمة أن يصلوها في أوقاتها حيث ينادى بها في المساجد، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَ﴾[طه: 132]، فدل على أنها تحتاج إلى اصطبار، وزيادة المبنى زيادة في المعنى، لم يقل الله -عز وجل- واصبر، بل قال: ﴿وَاصْطَبِرْ﴾، فحري بكل مسلم ومسلمة أن يراجع نفسه في أمر الصلاة وفي إقامتها، في الحرص عليها وفي إتمامها وفي تحسينها، لأنها صلتك بينك وبين الله -عز وجل-، فهي صلتك بينك وبين الله -عز وجل- فقبيح أن تقصر في هذه الفريضة مع أننا نرى أن فئام من الناس صاروا يتكاسلون عنها، إما تكاسل كلياً بتركها، ثم يدعي بعد ذلك الإسلام ويدعي أنه مسلم ويدعي أنه يحب الله ويحب رسوله، لا شك أن هذه المحبة غير صادقة، لأن المحبة تعني الامتثال والإتمام.
ولا شك أن هؤلاء الذين لا يصلون والله إنهم لفي حرمان عظيم، لأنه من عمد إلى هذه الصلاة وأقبل إلى الله -عز وجل-، هي صلتك بينك وبين الله -عز وجل-، كيف يطيب حالك ودنياك وتنعم بالعيش الهنيء وأنت صلتك مع الله -عز وجل- منقطعة، لا شك أن هذا من استيلاء الشيطان عليك ومن الخذلان، وإن لم تبادر بالتوبة إلى الله -عز وجل- فلا شك أن حسابك عند الله عسير، وأن الله -عز وجل- وعد الذين لا يصلون بنار تلظى -نسأل الله أن ينجينا من النار ووالدينا وذرارينا.
كذلك من المعالم التي وقعت في الإسراء والمعراج: اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورد في الأخبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ربط البراق في حلقة الباب في المسجد الأقصى، أوتي بإناءين، إناء فيه لبن وإناء فيه خمر، فاختار النبي -صلى الله عليه وسلم- إناء اللبن وشرب منه، فقيل له: هديت إلى الفطرة، هذا يحمل دلالة عظيمة.
الدلالة العظيمة هو أن دين محمد -صلى الله عليه وسلم- موافق للفطرة، وكونه أنه موافق للفطرة، أن شرائعه لا يوجد فيها ما يخالف النفس البشرية، بل كلها متوافق مع حاجة الإنسان الروحية والجسدية وهذا ظاهر في شرائعه، فإنه موافق للفطرة من كل وجه، إن نظرت إلى الصلاة لوجدت أنها موافقة الفطرة عظيمة جدًّا، في حركاتها وفي تفاصيلها وفي أذكارها موافقة للفطرة، لأن الفطرة تبعثك على الإيمان وعلى الإقبال على الله -عز وجل- والاستمداد من الله -عز وجل-، الاستمداد الروحي، وإن نظرت إلى الزكاة كذلك وجدت أنها موافقة للفطرة لأن فيها التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وإن نظرت إلى الصيام لوجدت أنه موافق للفطرة من جهة أن الإنسان يحس بقيمة هذا الطعام والشراب، وكذلك يحس بنعمة الله -عز وجل- عليه فيما يخوله الله -عز وجل- من الطعام وينتهي إليه، ولهذا يجد هذه اللذة في صومه وإمساكه عن الطعام والشراب مع تيسره بين يديه طاعة لله -عز وجل-، وامتثالًا لأمره، وكذلك الحج موافقته للفطرة في أن الناس جميعًا سواسية في الحج، لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا بين أسود ولا أبيض إلا بالتقوى والشعار واحد والرب المعبود واحد -سبحانه وتعالى-، والابتهال والدعاء إلى الله -عز وجل-، فلا شك أن هذا يحس الإنسان بموافقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس في الإسلام أثر ولا أغلال، بل فيه اليسر والسهولة، فيه الرخصة، ما جعل الله -عز وجل- علينا فيه من حرج في كل الأمور، ولهذا لا يتصور أحد أن الإيمان والتمسك بالله -عز وجل- والقيام على أمر الله -عز وجل- والامتثال، أنه في الضنك وفيه العسر، بل فيه اليسر، فيه الحلال الطيب، فيه الإقبال على الله -عز وجل-، فيه الإحساس بقيمة الإنسان، والإحساس إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، لأنه إذا كانت الدنيا هي المقياس وهي المصير عند ذلك يكون الإنسان قد استولى على قلبه الحقد والقهر وأشياء كثيرة جدًّا، ولهذا ربما ينظر إلى من فضله الله -عز وجل- عليه بنظرة أخرى، لكنه إذا علم بعد هذه الحياة حياة أخرى ودار أخرى إما إلى الجنة وإما إلى النار، وأنه إذا صبر على ما يأتيه في هذه الدنيا من المصائب والآلام وما يحدث عليه، فإن عاقبته وأجره عند الله -عز وجل- مضاعف وكثير، فلا شك أن هذا وجه كون أن الإنسان موافق للفطرة في شرائعه وتعاليمه.
وهكذا أحداث كثيرة جدًّا في الإسراء والمعراج تحتاج تأمل ونظر وسياقات تاريخية أو الروايات التاريخية التي وردت في الإسراء والمعراج تفيد الإنسان وتبعثه على أن يستفيد منها الدروس والعبر وهي ليست متوقفة على ما ذكرنا، بل هي كثيرة جدًّا -ولله الحمد.
نسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا القبول وأن يوفقنا لكل خير، وأن يرزقنا الامتثال لما جاء عن الله وجاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يجعلنا من أتباع دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن أنصار هذا الدين القويم.
{أحسن الله إليكم.
فضيلة الشيخ ذكرتم في مثال الإسراء والمعراج أن الإنسان قد لا يصدق بعقله بعض الأمور في الشريعة، وهذا مثاله في قصة الإسراء أن كفار قريش استنكروا وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى القدس في مدة قصيرة، بينما في زماننا الآن يصل الإنسان إلى هذه المسافات البعيدة في مدد أقصر، ففيها ملمح للإنسان والمسلم أن عقلك وأن تحير شيئًا أو لم يستوعب بعض الأمور في الدين لا يدل على عدم صحتها أو على أنها مخالفة للعقل أو مخالفة للفطرة، فلو تبينون هذا الأمر في عامة أحكام الشريعة، أن الإنسان لا يستنكر بعقله شيئًا}.
نعم صحيح لا شك أن هذا، وهذا أمثلته كثيرة جدًّا، منه عذاب القبر، نعيم القبر، لأن ثَمَّ حاجز بين الإنسان بين حال الدنيا وبين الآخرة، وثمَّ برزخ بين الدنيا والآخرة الذي هو دار البرزخ، فهذا الدار مختلف في زمانه ومكانه، فلا يجري عليه حدث الزمان والمكان، وبالتالي الذي يموت الآن يدخل في عالم البرزخ وله عالم آخر، فدائماً الإنسان في عالمه الذي يحس به -كما قلنا- إذا عول على عقله سينكر كثير من الغيبيات، ولكن إذا آمن بالله -عز وجل- سيكون هذا الإيمان هو البلسم الشافي لما جاء عن الله وعن رسوله مما يحار به، لكنه لا يحيله لأنه جاء الخبر الصادق، وهو يعرف من عقله أنه لا يعول عليه، لأنه قد يستحيل أشياء في أوقات ثم تكون، وهكذا لو تأمل الإنسان، لكن أن يجعل العقل هو المقياس هذا هو الخذلان وهذا هو الانحراف والهوى في المادية.
{مثال ذلك يا شيخنا الروح، هي بين جنبات الإنسان ومع ذلك لا يراها ولا يعلم كنهها وهي أخص شيء فيه}.
صحيح، ولهذا مثلاً الفرق بين الماديين ..، أنهم لا يرون أن الروح لها معنى، لأنهم لا يدركون كنها ولكنهم يرون أنها الحرارة والبرودة بموت الجسد، يربطون ذلك بعملية ديناميكية وفيزيائية، ولهذا يرون أن الروح حرارة وأنها تزول، وهذا لا شك أن ذلك ضلال مبين عن ماهية الروح.
{أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك