{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{تحدثنا يا فضيلة الشيخ في الحلقة الماضية عن فتح مكة وما فيه من الدروس والعبر، ولعلنا اليوم نتحدث عن غزوة عظيمة هي غزوة حنين وما فيها من الدروس والمواعظ والعبر}.
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
لا ريب أن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- سيرة حافلة بالدروس والعبر والفوائد يستفيد منها المؤمن ويقرأ هذه السيرة العطرة ليستلهم منها تلك المواقف، ومن فضل الله -عز وجل- على أهل الإسلام، أن الله -سبحانه وتعالى- يبتليهم ويربيهم وأن أحداثهم التي وقعت من تاريخ صدر الإسلام الأول مدونة في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويقرأها المسلم في صلاته ليستفيد من هذا الحدث ويستلهم منه الدروس، وهذا في الحقيقة إيمانيات يعمر الإنسان قلبه بها، ومن تلك الأحداث التي دونها الله -عز وجل- في محكم كتابه تلك الغزوة في قول الله -عز وجل- في مقام الامتنان، ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾[التوبة: 25]، وسماه الله بذلك اليوم العظيم ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 25- 26].
فهذه الآيات تبين أن يوم حنين كان درسًا عمليًّا وابتلاءً من الله -عز وجل- للمسلمين وأن نصر الله -عز وجل- كان من الله وليس بأسباب مادية يمكن أن يعول الإنسان عليها، ودائمًا في موقف الإنسان من الأسباب يعلم أن الله -سبحانه وتعالى- هو مسبب الأسباب، وهو الذي بيده أن يجعل هذا السبب له تأثير وهو -سبحانه وتعالى- القادر على أن ينزع هذا التأثير، ولا شك أن الكثرة من أسباب الغلبة، ولكن لَمَّا كان في صفوف الجيش المسلم ممن أسلم قريباً عام الفتح ورأى المسلمون ذلك العدد الذي اجتمع معهم وهو ما يقارب اثني عشر ألف مقاتل مدججين بالسلاح وقد استعدوا لعدوهم، فقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، كلمة قالوها ولم يستشعروا معناها، فكان ذلك اليوم العظيم.
ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن فتح مكة مكث فيها خمسة عشر ليلة، ثم توجه إلى حنين الذي ذكره الله -عز وجل- في هذه الآية وهو وادي قريب من الطائف، من يطلع على الوادي يعرف أن هذا الوادي ضيق وأن فيه نزول ثم ارتفاع، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يقاتل هوازن وثقيف ممن اجتمعوا، فكانت الغلبة فيه للمسلمين، ولكن كما أن هوازن وثقيف جعلوا لهم كمائن في صعود هذا الوادي ولصعوبة هذا الوادي، كون أن الإبل والخيل تصعده فتتأخر، جعل ذلك يغير مسار المعركة، فكان عند ذلك الابتلاء، وانحصر من انحصر وولى من ولى من المسلمين وكانت الغلبة في بدء الأمر لهوازن وثقيف ولكن الله -عز وجل- قال وصفًا لذلك: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ﴾، ثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- كعادته في شجاعته، ثبت وثبت معه بعض أصحابه وصار يرتجز -صلوات ربي وسلامه عليه- وهو ثابت في مكانه يقاتل ويقاتل المسلمون معه، ويقول: «أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ»، وأمر العباس أن ينادي المسلمين أن يلتفوا حوله، وكان جهوري الصوت، فقال: أين أصحاب الشجرة؟ أين أصحاب الثمرة؟ يعني: أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا على البيت، عند ذلك اجتمع المسلمون عليه وكان النصر لأهل الإسلام وانهزمت هوازن وثقيف وولت على عقبها لا تلوي على شيء، وعند ذلك تبعهم المسلمون بعد حنين إلى أوطاس وغنموا أموالهم وسبوا نسائهم وذَراريِّهم.
فكانت موقعة عظيمة غنم فيها المسلمون ونصر الله -عز وجل- أهل الإيمان بأسباب عظيمة، لأسباب غير حسية، أسباب إيمانية وأسباب ربانية؛ لأن الله -عز وجل- قال: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَ﴾، فدل على أن الملائكة نزلت وقاتلت مع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في حنين وهذا هو السبب، فكان درساً عمليًّا لأهل الإسلام أن النصر لا يكون بالعدد ولا بالعدة، ولهذا استوعب الصحابة هذا الدرس ومن كان معهم من الطلقاء فعرفوا ذلك وعلموا ذلك.
وهذه قاعدة إيمانية لأهل الإيمان: أن الإنسان دائمًا يفعل السبب وقلبه معلق بمسبب الأسباب لا بالسبب، بل هو يسأل الله -عز وجل- في كل حين أن يجعل في هذا السبب النفع، لأن الله -عز وجل- هو القادر على أن يجعل النفع في ذلك السبب، وإذا علم الله منك أنك التفت إلى هذا السبب، فإن الله يكلك إلى ذلك السبب، وإذا وكلت إلى نفسك وإلى السبب الذي التفت بقلبك إليه وأعرضت عن قلبك فأنت مخذول ولا شك في ذلك.
فلا يأتيك إلا ما قدره الله -عز وجل-، ولهذا المسلم في كل ما يفعله من الأسباب، أسباب السلامة، أسباب الوقاية، أسباب الحفظ، أسباب صلاح الذرية، أسباب الرزق يفعلها على أنها أسباب وإنما قلبه معلق بمسبب الأسباب، فالله -عز وجل- هو القادر على أن يجعل هذا السبب مؤثر أو غير مؤثر بقدره، ولهذا كان أهل العلم يقولون: الالتفات إلى الأسباب شرك، يعني: من الشرك الأصغر، أن تلتف إلى السبب بقلبك، الالتفات هو أن تتعلق بقلبك على هذا السبب، دائمًا المؤمن قلبه معلق بربه -سبحانه وتعالى-، يسأل ربه العون والتوفيق، فهو يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ويكررها لأنها كنز من كنوز الجنة، ومعناها أن الإنسان لا يمكن أن يتغير من حال ولا قوة له على شيء إلا بالله -عز وجل-.
ولهذا إذا سمع داعي حي على الصلاة، حي على الفلاح فماذا يشرع له أن يقول؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، لماذا؟ لمناسبة هذه الكلمة، يعني: لا حول الإنسان لا تغيره من حال إلى حال إلا بالله -عز وجل- ولا قوة له على طاعة إلا بالله -عز وجل-، فهو يربط الأمور بيد الله -سبحانه وتعالى.
وهكذا شأن المسلم في فعل الأسباب، دائمًا يفعل الأسباب وقلبه معلق بربه، جاء في الحديث «أنه من تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه»، فالقاعدة الإيمانية أن الإنسان لا يتعلق بالأسباب، يفعل الأسباب؛ لأن تأثير السبب كما قال أهل العلم له شروط وله موانع، لا بدَّ أن يكون هذا السبب تتوفر فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع، من الذي يملك ذلك؟ هو الله -سبحانه وتعالى-، ولهذا قد تتخذ أسباب الحيطة والسلامة والوقاية ومع ذلك ما ينفعك ذلك، لماذا؟ لأن الله لم يُرد ذلك، فإذاً الأمر بيده -سبحانه وتعالى- وهو القادر على أن ينزع تأثير الأسباب، فالمسلم في علاقاته مع الأسباب علاقة إيمانية، أن الله أمر باتخاذ الأسباب ومع ذلك فقلبه يعرف أن هذا سبب لا يعرف ولا يضر إلا بقدر الله، فقلبه معلق بربه -سبحانه وتعالى-، يسأله التوفيق، يسأله الهداية، يسأله العون، لا عون لك إلا من الله -عز وجل- ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة: 5]، يقولها المسلم في كل صلاة، يعني: نستعين بك، فلولا فضل الله علينا ولولا عون الله علينا لما استطعنا أن نفعل أشياء كثيرة جدًّا، فإذاً نحمد الله -عز وجل-، وتكون موقفنا من الأسباب ليس معنى ذلك أن يكون الإنسان متواكلاً لا يفعل السبب، لا، يفعل الأسباب لأن الله -عز وجل- جعل في هذا الأسباب تأثير ولكن قلبه معلق بمسبب الأسباب، حينما يتعاطى الدواء ويشرب الدواء طلباً للسلامة، فقلبه معلق بربه، يسأل ربه يقول: اللهم اجعل في هذا الدواء الشفاء والعافية، اللهم انفع به، دائمًا يسأل ربه أن ينفع بهذا السبب؛ لأن النفع بيد الله -سبحانه وتعالى-، لكن غير المؤمن تجده يتعلق بهذه الأسباب، وإذا لم يحصل له ذلك الأمر الذي أراده، ما الذي يحدث؟ تجده يتعجب ويستغرب وربما أصابه الهم والحزن، لكن المؤمن يفعل الأسباب وقلبه معلق بمسبب الأسباب، إن فاته شيء احتسب الأجر وقال: لعل في الأمر -إن شاء الله- خير قد ادخر أو شر قد دفع، وهكذا أمر المؤمن مع الأسباب.
ولهذا كان درسًا عمليًّا أن أهل الإسلام لا ينصرون بالعدد ولا بالعدة وإنما ينصرون بفضل الله -عز وجل-.
في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين حدث حدثًا عظيماً، وفي هذا الحدث عبرة وعظة لأهل الإيمان ودروس مستفادة كثيرة جدًّا: أنهم في مسيرهم كما ذكر ذلك أبو واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: "مَرَرنَا بِسِدرَةٍ, يَوْمَ حُنَينٍ" يعني في وجهتهم إلى حنين، " والْمُشْرِكِينَ يَنُوطُونَ به أَسْلِحَتَهُمْ" يعني يعلقون أسلحتهم طلباً للبركة حتى يكون هذا السلاح نافذ في الأعداء، فهم يطلبون البركة من هذه السدرة، فلما رآها من كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن أبا واقد قال: "وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ"، قالوا: "يَا رَسُولَ اللهِ, اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ" يعني: سدرة نعلق فيها، "كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ»، التكبير هنا على وجه التعجب منهم «إِنَّهَا السُّنَنُ» يعني الطرق، وطرق الأمم السابقة، «قُلْتُمْ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾[الأعراف: 138]».
فهؤلاء الذين أسلموا لتوهم ولَمَّا يدخل الإيمان قلوبهم بعد، ولم يتعلموا ولم يتثقفوا ولم يعرفوا حدود الله -عز وجل- على الوجه الشرعي، ظنوا أن ذلك سائغ، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا شيئًا نتبرك به؛ لأنهم تعودوا على هذا، فتعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، إن الله هداهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- إلى التوحيد وإلى التعلق بالله -عز وجل-، وهؤلاء يريدون أن يتعلقوا بالأشجار والأحجار، فتعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- من مشابهة قولهم لقول بنو إسرائيل، ولهذا هذه الأمة تتبع كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- طرق الأمم السابقة، ولهذا وجدت أن أكثر الأمم أو الأمة الإسلامية تتابع الأمم السابقة من اليهود والنصارى، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَتَأْخُذَ أُمَّتِي مَآخِذَ الأُمَمَ قَبْلَهَا حَذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ: «فَمَنْ؟»، يعني: مَنْ غير هؤلاء الذين تقلدهم الأمة وتتشبه بهم؟
ولهذا كان من قواعد وأصول الإسلام النهي عن التشبه باليهود والنصارى لأنهما أمتان إحداهما ضالة والثانية مغضوب عليها، والأمة الضالة هم النصارى والأمة المغضوب عليها هم اليهود، فليس للأمة حاجة في أن تقتدي وأن تتشبه بهؤلاء.
فإذاً كان درساً من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابهم وحذرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقطع مناط هذه الأمور وبيَّن أن ذلك إنما هو فعل اليهود والنصارى وليس من فعل أهل الإيمان، وهذا يدل على غيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- على التوحيد، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سدَّ كل الذرائع المفضية للإخلال بهذا التوحيد، ولهذا من المسائل المهمة ومما يدل على فقه الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- أنَّ آتى بمسائل كتاب التوحيد، وهي مسائل مفيدة لطالب العلم، ولذا ينبغي أن يعتني بها وأن يقرأها وأن يتأملها وأن يعتبر فيها؛ لأنها مليئة بفوائد كثيرة جدًّا.
أنه بعد مرور هذا الحديث قال الشيخ الإمام المجدد -رحمه الله- في مسائل كتاب التوحيد: "إن المتنقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم: "وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ"، هذه قاعدة للدعاة والمصلحين، أنه في حال الإنسان ينتقل من حال إلى حال، من بدعة إلى سنة، وإما من شرك إلى توحيد وإما من معصية إلى طاعة أن يكون الإنسان في التعامل مع هذه الفئة تعاملاً فيه فقه وفيه حكمة، بمعنى أن الإنسان لأجل أن يتخلص من الماضي السابق يحتاج مرحلة زمنية من التعليم والتربية، فبالتالي لا بدَّ أن يمر الإنسان بهذه التصفية.
وعلى هذا فهؤلاء الذين أسلموا لتوهم، وهؤلاء الذين تركوا المعاصي لتوهم، وهؤلاء الذين تركوا البدع لتوهم ينبغي أن يكون الدعاة معهم في تعاملهم بما فيه فقه وحكمة، وأن لا يصدرون في البداية حتى يتعلموا ويتفقهوا وأن تسد الطرق التي ربما تجعلهم يرجعون إلى طريقهم؛ لأن التخلص من الباطل ليس بالأمر اليسير ويحتاج فترة زمنية، وربما قضى نفسه في أيام الشرك سنوات طويلة، ثم في يوم أو يومين تحول أو في شهر أو شهرين، بل يحتاج مدة كافية من التعليم والتربية والطاعة حتى يخلص قلبه لله -عز وجل-.
هكذا الإنسان حينما ينتقل من حال إلى حال عليه أن يصفي قلبه وأن يخلص قلبه؛ لأن الأمر يحتاج مرحلة زمنية، وهذا مهم جدًّا للدعاة إلى الله -عز وجل- وخاصة مع من يسلموا تجد أنه أسلم لتوه سنة وسنتين، فهو يأتيه الشيطان الحنين إلى الماضي والرجوع إلى المعاصي وخاصة أنه كان في مرحلة تحتاج رعاية، وتحتاج توجيها، يحتاج برنامج حتى يتخلص من الحقبة السابقة، هذا معلم من معالم فقه أهل العلم في مثل هذه المسائل.
{أحسن الله إليكم، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم» هل هو تشريع للأمة بأن تتبع سنن اليهود والنصارى أو هو إخبار عن أمر سيقع؟ إذا رأى الإنسان من وقع في هذا التشبه يبين له ولا يكون هذا الأمر من باب التشريع}.
صحيح، هذا إخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- والخبر لا يتعلق به حكم شرعي، وهذا معلوم أن باب الأخبار لا يؤخذ منه أحكام، فكون النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبر عن أن قدر الله الكوني والقدري أن هذه الأمة تتشبه بالأمم السابقة، فإرادة الله الكونية القدرية لا يستلزم الإرادة الدينية الشرعية كما هو معلوم، فليس معنى ذلك أن الله يحب ذلك ويرضاه إنما هو من باب الإخبار أن الأمة سيقع منها، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقومُ الساعةُ حتى يعبدَ فئامٌ من أمَّتِي الأوثانَ»، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقومُ الساعةُ حتى تضْطَرِبَ أَلْيَاتُ نساءِ دَوْسٍ عند ذِي الخَلَصَةِ»، هل معنى ذلك أن هذه الأخبار من النبي -صلى الله عليه وسلم- هي تشريع بالجواز؟ لا، لا يمكن أن يقول ذلك أحد من أهل العلم، إنما هو إخبار على وجه التحذير أنكم ستتابعون، فهذا خطاب للأمة أن هذا خطأ سيقع فيه الأمة، فعليك كفرد أن تحذر من أن تقع في هذا الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا.
طبعًا النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه في حنين لما فرت هوازن إلى وادي أوطاس انكسرت وهزمت، فغنم المسلمون نساءهم وذَراريِّهم وأموالًا عظيمة في يوم حنين، -أموال عظيمة جدًّا- وكانت هوازن لها من الإبل ومن الغنم الشيء الكثير أنعم الله -عز وجل- عليها، ولكن لأجل سفهاء القوم والقادة منهم واستعجال الشباب منهم ومن ذلك مالك بن عوف كما مر معنا في قصة حنين حيث أخرج النساء والذرية، وكان هذا خطأ استراتيجي، ولهذا دريد بن الصمة وكان شيخاً كبيراً أشار عليه بخلاف ذلك، فقال: على مالي أسمع الشاة والبعير وبكاء الأطفال وصوات النساء، قال: أخرجنا النساء حتى نقاتل ولا نولي، وكان هذا الشاب وهو مالك بن عوف وقد أسلم -رضي الله عنه- بعد ذلك، لكن في مرحلة جاهليته كان متعجلا، فقال: إن المنهزم لا يولي على شيء ولا يمنعه شيء، المنهزم إذا انهزم يفر من الموت لا يبالي، وكان كما قال دريد، فلما هزموا زادهم مصيبة أن قتل من قتل معهم وأن سبيت نساءهم وذَراريِّهم وأخذت أموالهم، ولهذا غنم المسلمون تلك الغنائم، وكان من النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة من المؤلفة قلوبهم، وأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، المائة من الإبل في ذاك الوقت لها معنى، وجاء أهل النفاق ومنهم ذو الخويصرة قال: تلك القسمة ما أريد به وجه الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، يعني: كيف يؤمن على الوحي وأنه صادق ولا يؤمن على قسمة الأموال، القسمة العقلية تقصد، وهي أنه أمين فما يفعل إلا في مقتضى الأمانة والعدل، ثم قال: «يرحَمُ اللَّهُ موسى قَدْ أُوْذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصبرَ».
ولا شك أن أصوات المنافقين تعالت والنفوس البشرية بطبيعتها تتأثر، ولهذا كان عطاء النبي -صلى الله عليه وسلم- سببًا في إسلام قبائل العرب، وهؤلاء أسياد في أقوامهم، فإذا أسلم شيخ القبيلة أو سيد القوم فإن من تحته تبعاً له.
ولهذا جاء أعرابي فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً غنماً بين جبلين، عطاء عظيم جدًّا، كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهر في يوم حنين لا وصف له، لا يمكن أن يفعله إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-، من كان عنده أو من كان يبلغ بهذا الوحي، طبعًا هذا العطاء وأصوات المنافقين ونحن سمعنا اعتراض ذو الخويصرة الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- واعترض على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال بعض أصحابه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، قال: «دَعْهُ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، يعني: مراعاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المرحلة نحتاج إلى التأليف، لو قُتل لاستغل المنافقون هذا الحدث وقالوا: محمد يقتل أصحابه، وهذا في عداد الصحابة كان منافقاً، ولكن قال: «إنَّه سَيَخْرُجُ مِن ضِئْضِئِ هؤلاء قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مع صَلاتِهِمْ، وصِيامَكُمْ مع صِيامِهِمْ، ويَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» وأحاديث الخوارج فيه.
وكان هذا من نهج هذا الرجل، حيث خرج الخوارج على الصحابة -رضوان الله عليهم-، وقد تحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- الأذى، وقال الله -عز وجل- عن أهل النفاق: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾[التوبة: 47]، يعني: لا شك أنه مهما كان صوت الحق فإنه يشوش على أهل الحق، عند ذلك لا بدَّ من اشتراك المواقف للعناية بالإعلام، هذا يدل على عناية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعلام، يعني: الإعلام المضاد، هذا مثل ذو الخويصرة، يعني: أشاع أن محمدًا لا يقسم على وجه العدل وأنه يعطي أقوامًا ويمنع أقوامًا، والنفس البشرية مهما كانت فإنها تضعف عند الأمور المادية.
ولهذا دون حدث عظيم جدًّا رواه أبو سعيد الخدري وهو تبع لاعتراض ذو الخويصرة، قال: "لما أصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغنائم يوم حنين وقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمؤلفة قلوبهم من قريش ومن غيرهم، جاء سعد بن عبادة، وكان زعيم من زعماء الأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله" هنا حكمة سعد بن عبادة أنه لم يضمر شيء في نفسه وإنما جاء إلى رسول الله، "إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم" يعني: شيئا، فقال: «ففيم»، النبي -صلى الله عليه وسلم- يستغرب، قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهن من ذلك شيء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «فأينَ أنتَ مِن ذلكَ يا سعدُ»، قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، يعني: أنا معهم، الموقف يقتضي ماذا؟ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يستدرك الآن، لا بدَّ من بيان الآن، هناك إشاعات وهناك أقوال وأشياء نفسية فلا بدَّ من علاج، النبي -صلى الله عليه وسلم- بادر قال: «اجمَعْ لي قَومَكَ في تلك الحظيرةِ»، وفي بعض الروايات «في تلك القبة»، جمعهم في كلام، قال: «لا يأتيني إلا من كان منهم»، في بعض الروايات قال: «أفي القوم غير هؤلاء من الأنصار؟»، لا يأتيني إلا الأنصار، فقام فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- خطيباً فقال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ»، كان خطابًا عظيمًا جدًّا وفيه بيان وتأليف وفيه أوسمة شرف للأنصار إلى يوم الدين، «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ»، استغرب النبي -صلى الله عليه وسلم- صدور هذه المقالة ممن تربى في التربية الإيمانية وفي المدرسة المحمدية، النبي -صلى الله عليه وسلم- الموقف هذا أثار استغرابه لأن هؤلاء حدثاء عهد بكفر يؤلفهم، وهؤلاء ينبغي أن تكون الماديات عندهم أضعف شيء خاصة مع وجودهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، يستغرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم لاحظ خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ماذا؟ خطاب فيه بيان منة الله عليهم، ثم قال: «أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قالوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ.
ثم قال بعد ما قررهم على هذا أنه سبب في هدايتهم من الضلال والغنى وكنتم أعداء فألف الله بين قلوبكم، أمور أنتم وجدتموها ببقائي، ثم قال: «أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ»، قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟، يعني: هم أحسوا بأنهم حذوا في صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، ليس لنا.
قَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ»، لاحظ خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- تطييب الخواطر وجبر لخواطرهم، الإنسان بحاجة إلى أن يجبر خواطر الناس بالكلام الطيب، والكلام الطيب يؤثر وكثير من العطاء الذي تعطيه إذا لم يصحبه الكلام الطيب فلا حاجة فيه، الناس بحاجة إلى الكلام الطيب وهو مؤثر، قال: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ»، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلم على لسانهم بعدما بيَّن فضله عليهم لم ينس فضلهم، الآن ينوه بفضلهم، قال: «أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ» يعني: بالجواب «أَلَا تُجِيبُونَنِي» ما أجابوا، قالوا: المنة لله ورسوله، احترامًا وتقديراً، قال: «لَوْ شِئْتُمْ» الآن يتكلم على لسانهم،«لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ».
لاحظ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكم أنتم أحسنتم إلي، ثم بعد هذه التراتيب ما لكم من حق أو حقي عليكم وحقكم علي، «أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ» يعني: استغراب من النبي -صلى الله عليه وسلم-، خطاب عاطفي: «فِي لُعَاعَةٍ» شيئًا ما له قيمة، «فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُو»، يعني تعرفون أن ما جئنا نحن وإياكم إلى هذا الموضع وقاتلنا إلا لأجل أن ينتشر هذا الدين، فأنا وأنتم في وظيفة شريفة جدًّا ينبغي أن لا يكون للماديات فيها أي أثر، يقول: «لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَ» شيء يعني، «وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ» هنا موضع كأنكم يا معشر الأنصار المستغرب منكم هذا وكلتكم ذلك، يعني: إيمانكم وإسلامكم أنا وكلتكم إليه، أعلم منكم الإيمان والإسلام، ثم بعد هذه العتاب الرقيق من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهموا الدرس جيداً وبكوا وأخذلوا لحاهم بدموعهم وهم يبكون.
قال: «أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ»، لاحظ الشرف الآن، يعني: خطاب الحقيقة عجيب، «أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ»؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى ناسًا غنمًا بين جبلين وأعطى مائة، «وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رِحَالِكُمْ؟»، أيكم أفضل؟ أي الفريقين أفضل؟ من رجعوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- إلى بيوتهم وإلى ديارهم، أو من رجع بالشاة والبعير؟ «فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ»، صدق -صلى الله عليه وسلم-.
يعني: صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعادلها شرف، ولا يعادلها أي قيمة، ليس لها أي قيمة، لا قيمة أمام صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-،«فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ»، يعني: دائمًا الإنسان فضل الله، الإيمان، التقوى، القرآن، دائمًا الإنسان في النصوص الشرعية يوازن بينها وبين الماديات، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- دائمًا في أحاديثه يربط بينها، يربط بين الماديات وبين الإيمانيات، ويبين فضل هذه وثواب من أتى إلى الصلاة، لوجد كذا وكذا، ربط الإيمانيات بالماديات، تفوق الأمور الإيمانية على المادية؛ لأن المادي مصيره الفناء والانقضاء، بينما الشيء المعنوي له بقاء، ولهذا خلد هذا التاريخ، يعني: خلد تاريخهم، بينما هؤلاء الذين أخذوا ما أخذوا وأعطوا ذهب الشاء والبعير وانتهى لكن هؤلاء الصحابة بقيت آثارهم ومناقبهم العظيمة.
قال: «فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنْ الْأَنْصَارِ» -صلى الله عليه وسلم-، «وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَوَادِيًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا وَوَادِيًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ وَوَادِيَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنّاسُ دِثَارٌ»، الشعار هو مما يلي البدن، يعني: الخاصة، هم الخاصة والناس دثار، يعني: ما فوق الشعار، ثم دعا لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- «اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ»، "فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا: رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًّا".
فلاحظ هذا الموقف العظيم، أولاً: أن الإنسان ببشريته يتعرض للإضعاف، وأن القائد والحكيم هو من يطيب خواطر الناس ويجبر خواطرهم، فأنت دائمًا في مواقفك تحتاج إلى مثل هذا، وأنك لا تتكل على أن فلانًا عنده من الإيمان؛ لأن الإنسان ضعيف في كل مواقفه، يعني: فتنة المال، فتنة النساء، فتنة الجاه والسلطة، يتعرض الإنسان لهذه الفتن في حياته، فمهما كان سيضعف إذا لم يقويه الله -عز وجل-، فالإنسان بحاجة إلى التثبيت، لهذا ثبتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعالج تلك المقالات وأعطاهم ما يستحقون من الثناء وهم يستحقون ذلك، ثم دعا لهم بتلك الدعوات النبوية العظيمة التي لم تشمل هؤلاء فقط بل شملت أبناءهم وأبناء أبناءهم، فما أعظم ذلك الشرف الذي حازته الأنصار -رضي الله عنهم-، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الروايات، قال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِنَّكُم سَتَلقَون بَعدِي أَثَرَة فَاصبِرُوا حَتَّى تَلقَونِي على الحَوض».
يعني: ثواب الأنصار عند الله -عز وجل- عظيم، ولا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فرضي الله عن الأنصار ورحم الله الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، وهذا فضل الله -عز وجل- على هذه الأمة، وفضل الأنصار في الإسلام عظيم جدًّا ومناقبهم وكل ما تسع هذا الدين فالأنصار لهم ثواب هذا الانتشار لأنهم هم أنصار النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك من الدروس العظيمة في هذه الغزوة العظيمة: أخلاقيات الحرب في الإسلام، وهذا مهم جدًّا؛ لأنك لم تجد شريعة توجد فيها أخلاقيات في الاشتباك، قواعد الاشتباك، قواعد القتال، من يقتل ومن لا يقتل إلا في هذا الدين القويم، ولهذا لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة مقتولة وقال: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لتُقَاتِلُ»، ثم أرسل إلى خالد أن لا تقتل امرأة ولا وليداً ولا عسيفاً، يعني: الأجير والخادم، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء، ثم كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا بعث السرايا في غزواته وفي سراياه قال: «انطلقوا باسْمِ الله لا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَلاَ طِفْلاً وَلا صَغيراً وَلا امْرَأةً»، فهذا لا يوجد إلا في تشريع الإسلام، ولهذا الإسلام يحرم استهداف المدنيين وقتلهم بغير حق، وهذا رسالة عظيمة جدًّا في الرد على هؤلاء الذين يتكلمون في أن الإسلام دموي أو أن الإسلام، لن تجد هذا إلا في تشريع الإسلام، بينما الأمم السابقة الحرب العالمية الأولى أو الثانية كلها تستهدف المدنيين وتستهدف، وهؤلاء يتهم الإسلام بأنه فيما يتعلق بهذا، لا يفرق بين المقاتل وغيره، هذه قواعد في الشريعة ثابتة لا يمكن المساس بها.
كذلك من دروس غزوة حنين: عفو النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب العفو وحليماً، فلما قدمت هوازن إلى النبي الكريم بعد ما انكسرت، قالوا: يا رسول الله أصابنا من البلاء ما أنت به أعلم، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟»، فقالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل أبناءنا ونساؤنا أحب إلينا، وعند ذلك نزل الصحابة عمَّا في أيديهم من النساء والصبيان وأطلقوا السبي وأخذت الأموال ولكن السبي من جهة النساء والصبيان أطلقهم الصحابة -رضوان الله عليهم.
هذا فيما يتعلق بهذا الفتح العظيم وغزوة حنين العظيمة.
طبعًا بعد هذه الغزوة حدثت غزوة تبوك وربما ليس فيها شيء كثير جدًّا من الدروس والعبر ولكن يمكن أعظم درس قصة الثلاثة الذين خلفوا والدرس النبوي حينما تخلف هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- عن مسير النبي -صلى الله عليه وسلم- وخروج النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الغزوة في وقت طابت فيه الثمار واشتد الحر ولكن خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه من خرج من أصحابه -رضوان الله عليهم- وتخلف من تخلف من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم الثلاثة الذين ذكرهم الله -عز وجل- وتاب الله عليهم، في قصة الثلاثة الذين خلفوا عبرة عظيمة ولكن الله -عز وجل- تاب عليهم، فكان درساً عمليًّا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن الإنسان لا بدَّ أن يتابع النبي -صلى الله عليه وسلم- في منشطه وفي مكرهه، فكانت على وضع كراهة، ولكن الصحابة باشروا وعادوا ولم يلقوا حرباً، وكان في ذلك تهيب الروم حينما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تخومهم وإلى ثغورهم، ولا شك أن ذلك دليل على أن الإسلام انتشر في الجزيرة العربية ووصل أصعاقاً كثيرة جدًّا.
الحدث الذي بعده وهو ختام هذه السيرة المباركة وختام هذه القصص العظيمة من السيرة النبوية: وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي أعظم مصيبة أصيبت بها الأمة ولكن الله -عز وجل- قد قدر الشيء، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أصيب في مصيبة فليذكر مصابه في»، يعني: مصيبته في أنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أن وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قضاه الله -عز وجل- كوناً وقدراً ولا يمكن للإنسان أن يعترض على قدر الله -عز وجل- ولكن لا شك أن موت النبي -صلى الله عليه وسلم- في حق أصحابه وفي حق من جاءوا بعده مصيبة عظيمة، ولا شك أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قلب المؤمن هو أحب إلينا من أنفسنا ومن أولادنا ووالدينا وأبناءنا، هذه المحبة الحقيقية أن نحب النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك المحبة الدينية الخالصة ونحن لم نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم تكتحل أعيننا برؤيته -صلى الله عليه وسلم-، ولكن من فضل الله -عز وجل- أن الله أبقى لنا من كتاب الله ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما يكون بلسماً لنا في جبر هذا المصاب أننا لا نرى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن سنته -صلى الله عليه وسلم- حية وباقية، فمن أراد أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- رؤية حقيقية فليقرأ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة -صلوات ربي وسلامه عليه.
في التاسع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى عشر شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- جنازة في بقيع القرقد، فلما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذه صداع في رأسه -صلى الله عليه وسلم-، فكان هذا بداية المرض بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا صلى -صلوات ربي وسلامه عليه- بالناس وهو مريضاً، إحدى عشر يوماً كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بهم مريضاً، وصلى بهم بعض الصلوات وهو قاعد وصلوا خلفه قعود، وما زال المرض به -صلى الله عليه وسلم- وهو يتنقل بين أزواجه ويشتد عليه المرض، وكان إذا اشتد عليه المرض يقول: أين أنا غداً، يعني كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتقل بين أزواجه، هذا قيمة عظيمة أخلاقية، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسوي بين أزواجه حتى في حال المرض، وهو مريض كان ينتقل ويشق عليه ومع ذلك كان يسوي بينهم، هذا قيمة العدل في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فلما رأى نساؤه -رضي الله عنهن- أنه يثقل على النبي -صلى الله عليه وسلم- التنقل، فأذن له أن يمكث ويمرض في بيت عائشة، فمكث عندها حتى مات -صلوات ربي وسلامه عليه-.
ويوم الأربعاء بلغت الحمى به -صلى الله عليه وسلم- مبلغًا عظيماً واشتد به الوجع، حتى استغرب جلساءه منه، من ذلك الوجع الذي كان يصيبه -صلى الله عليه وسلم-، وكانت أعراض هذا الوجع هي الحرارة الشديدة وهي الحمى، فقالوا: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، يعني فيك حمى شديدة جدًّا، ولا شك أن الحمى مما يصيب البدن ومما يضعف البدن، إذا أصيب بالحمى لا يستطيع أن يمارس أي نشاط، ولهذا جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الْحُمَّى بَرِيدُ الْمَوْتِ»، الحمى إذا أصابت البدن يجب على الإنسان أن يخففها وأن يتعاطى الأسباب التي تزيلها؛ لأن الحمى إذا اشتدت تكون سببًا لتلف كثير من الأعضاء أو لتلف أجزاء من الدماغ، ولهذا يحذر الأطباء من ارتفاع الحرارة؛ لأنها توهن لا يمكن الإنسان محموم وفيه حمى ثم يباشر الأعمال، ولهذا جاء النهي من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سب الحمى، عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً مريضاً فقال: هي الحمى لا بارك الله فيها، قال: «لَا تَسُبُّوهَ» نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سب الحمى، قال: «إنها تُذهِبُ ذُنُوبَ الْمُؤْمِنِ»، فميزها بالكير خبث الحديد أو كما جاء في الحديث، فإذاً الحمى من أسباب التكفير، فلا يسبها الإنسان ولا يتضجر منها ولكن يسأل الله العافية وأن يخفف الله -عز وجل- ما نزل به.
طبعًا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أُوعَكُ كما يُوعَكُ رَجُلانِ منكم»، وأغمي عليه من شدة الحمى، لاحظ أن الحمى بلغت به مبلغًا أنها أغمي عليه، يعني فقد الوعي، فأمر أن تصب عليه سبع قرب من سبعة أبار شتى، أمرهم أن يصبوا عليه سبع قرب من سبعة أبار شتى حتى أخرج إلى الناس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى قال: «إِن الْحُمَّى إِذَا نَزلت فأبْرُدُوها بالماءِ»، فلا شك أن الماء الفاتر ليس الماء البارد له أثر في تخفيف أثار الحمى.
وامتثلوا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاءوا له بتلك القرب من أبار مختلفة، وأرقوها ووضعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في طست، -يسمى طستًا- بدون الشاء، الدارجة، يقال: طستًا، وهو طست، وضع طست وأريقت عليه تلك القرب، فأحس بخفة شديدة فدخل المسجد -صلوات ربي وسلامه عليه- وهو معصوب الرأس، يعني: لاحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعراض المرض الذي فيه الحمى ووجع الرأس، هذا دل على أنه يعاني من الصداع، وخطب جالساً -صلوات ربي وسلامه عليه-، وكانت آخر خطبه -صلى الله عليه وسلم-، وكعادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في سد الذرائع المفضية للشرك وتحذير الأمة من مأخذ الأمم السابقة ومن طرقهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته تلك وحفظها لنا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»، يعني لاحظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في حمى وفي صداع من رأسه -صلوات ربي وسلامه عليه- والحمى شديد يحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- وللأسف بعض المسلمين الآن تجد أنهم فعلوا كما فعلت اليهود والنصارى، فبنوا على تلك القبور المساجد وجعلوها أوثاناً من دون الله يطوفون بها ويتمسحون بعتباتها ويوقدون عليها السرج ويجعلونها أوثاناً من دون الله -عز وجل-، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته قال: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، يحذر مما صنعوا قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»، آخر خطبة خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- كان تحذيراً لهذه الأمة، وطبعًا هذا الحديث لما كان للتشكيك في صحته فإنه رواه البخاري ومسلم، وهذان الكتابان أصح من أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل-.
ثم نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر، ثم جلس على المنبر وأوصى بالأنصار خيرًا، قال: «أُوصِيكُمْ بالأنْصَارِ، فإنَّهُمْ كَرِشِي وعَيْبَتِي، وقدْ قَضَوُا الذي عليهم، وبَقِيَ الذي لهمْ، فَاقْبَلُوا مِن مُحْسِنِهِمْ، وتَجَاوَزُوا عن مُسِيئِهِمْ»، وقال في خطبته -صلوات ربي وسلامه عليه- مما حفظ من أجزائها: «إِنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ»، فبكى أبي بكر فعجبنا لبكائه، فكان أبي بكر أعلمنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفقهنا -رضي الله عنه-، ثم قال: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ» في آخر الخطبة «وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ باب إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ باب أَبِي بَكْرٍ»، وكان هذا صريح وواضح بأن الخليفة بعده هو أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه-، وصلوات ربي وسلامه عليه.
ولعلنا -إن شاء الله- نكمل في الحلقة المقبلة -إن شاء الله.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ونفع بعلمكم.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في الحلقة القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.