الدرس السادس عشر

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1398 22
الدرس السادس عشر

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، ضيفنا في هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، ونحن نسعد ونتفيأ الدروس والعبر في ظلال سيرة نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، أسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
{تناولنا في الحلقة السابقة شيخنا الفاضل الحديث عن الإسراء والمعراج والدروس والعبر في هذا الحدث العظيم، لعلنا في هذه الحلقة نتناول حدثًا آخر وهو الحديث عن غزوة بدر وما فيها من الدروس والعبر، فتفضل يا فضيلة الشيخ.}
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اليوم موضوعنا في هذه الحلقة غزوة بدر الكبرى، وإشعار هذا المسمى كونها بدر الكبرى؛ لأنه ثَمَّ غزوة اسمها بدر الصغرى يذكرها أهل السير، والحقيقة أن غزوة بدر هو كانت يوم الفرقان الذي كان حدثًا مهمًا جدًّا في التفريق بين أهل الإيمان وبين أهل الكفر والطغيان، فكانت فتحًا عظيماً لأهل الإسلام، وفيها ظهر الإذن بالجهاد، وكانت واقعة عظيمة وغزوة كريمة، آثارها باقية إلى يومنا هذا، ولهذا نزل القرآن بأحداث هذه السيرة، فمثلاً في سورة "الأنفال" ذكر الله -عز وجل- في مواضع متعددة أحداث غزوة بدر من الآية [1- 14]، وآية [17] كذلك، من الآية [36- 44] كلها في أحداث غزوة بدر، [47- 51] كذلك، من [67- 71] كلها ارتباط بهذه الغزوة، والله -عز وجل- ما ذكرها فقط في سورة "الأنفال" وإنما ذكرها كذلك في سورة "آل عمران" وسورة "النساء والحج"، ووصف القرآن أحداث معينة في أحداث بدر، ولهذا يصنف الآن بعض الباحثين مثلاً مرويات غزوة بدر أو الآيات الواردة في غزوة بدر لتكون معلم، والسياق القرآني يقطع الأحداث عن سياقها ويجعلها معلم ودرس، ووصف الله -عز وجل- أحداث كثيرة في غزوة بدر، وهذا الحدث كان غير مرتب، لكن الله -عز وجل- يذكر هذه الأحداث في سياقاتها لتكون معلم ودرس لأمة.
كذلك مما وصفه الله -عز وجل- في القرآن، وصف خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة لطلب العير، إذاً سبب الغزوة لم يكن هو القتال وإنما هو النكاية في قريش؛ لأنه قد بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عيرًا لقريش، وتعرف أن قريشًا تغولت في أموال الصحابة، فلم يدعوا أحدًا يهاجر حتى يأخذوا ماله، فاستولوا على أموالهم وعلى دورهم، فكان من النكاية فيهم، ومن مقابلة هذا الإجرام في حقهم أنه على سبيل أخذ القصاص أن يستولوا على تلك العير، وخاصة أن تلك العير محملة بالبضائع، وكان أمير العير أبو سفيان، فأراد المسلمون وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطلب هذا العير، ولهذا لم يخرج كل مسلم في المدينة إلى بدر، فلم يكونوا مستعدين للقتال وإنما مستعدين لأخذ العير، ففرق بين قصد العير وقصد القتال، أبو سفيان أستطاع أن يغير الوجهة فأخذ العير إلى طريق آخر وهو طريق الساحل، فاستطاع أن يتجنب وفد المسلمين أو القوة الإسلامية التي أرادت أن تستولي على العير، وقريش أرادت الدفاع عن العير فخرجت، وبلغهم أن أبا سفيان نجا ومع ذلك لغرورهم وبما أراده الله -عز وجل- لهم من الخذلان والدبور أرادوا أن يستمروا طغيانًا وكفرا حتى يهابوا، ووقعت لهم خلاف ذلك، فلم تقع لهم الهيبة ووقعت عليهم الهزيمة.
ولهذا الله -عز وجل- سجل هذا المشهد العظيم، كما قال الله -عز وجل- في سورة "الأنفال": ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾[الأنفال: 5- 6]، هذا حدث وتصوير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج وبعض المسلمين كارهين، ومن المشاهد والأحداث التي دونت في سورة "الأنفال" تحريض الشيطان لقريش، فقد غرَّهم الشيطان، وقد قال العقلاء منهم: ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لأجل العير ولم تخرجوا للقتال، قالوا: لا، إنما نريد أن تسمع بنا العرب وتهابنا وكذا وكذا من الأمور التي ذكروها، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ هذا العمل من تزيين الشيطان، ﴿وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ﴾[الأنفال: 48].
جاء في الروايات أنه جاءهم في سورة سراقة وجعل لهم جوارًا لأنهم كانوا على خوف في ذلك الوقت، كذلك وصف القرآن الحالة النفسية التي كان عليها كفار قريش، قال الله -عز وجل-: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم﴾ لاحظ أن القرآن ينبه إلى أننا لا نكون مثل المشركين في حال الحرب، ﴿كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ يعني إذاً لأجل أن يراهم الناس والكبر الذي في نفوسهم، ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 47].
ثم وصف القرآن كذلك أحداث المعركة في آيات كُثر، لكننا نقف على بعض المعالم فيها، وصف ميدان المعركة في مقام البيان والتوضيح لعظيم فضل الله -عز وجل- عليهم، قال: ﴿إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ القُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ﴾، يعني لو أنهم أردوا الميعاد لم يكن هذا الميعاد؛ لأن قريشًا قصدت نجاة العير، وقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه الاستيلاء على العير، فما كان فيه موعد، ولهذا الله -عز وجل- يقول: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُول﴾[الأنفال: 42]، ليقضي الله -عز وجل- هذا الذي أراده الله -عز وجل- بكسر شوكة كفار قريش، والعدوة القصوى هي الجبل الصغير يسمونه أبرق، ويكون جبلا صغير.
كذلك وصف القرآن في غزوة بدر الحالة النفسية للنبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة؛ لأنهم واجهوا عدواً عظيماً جدًّا أضعاف ما عليه أهل الإسلام، فالقوة غير متكافئة، والله -عز وجل- قال: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم﴾[الأنفال: 9- 10]، معلم عظيم أن النصر ليس بالعدد ولا العدة وإنما النصر هو من الله -عز وجل-، ثم بيَّن الله -عز وجل- أن النصر الذي تحقق للمسلمين وهذا الفتح العظيم بكسر كفار قريش وخذلانهم جاءت له بشائر.
فمن بشائر النصر أن الله -عز وجل- أرى النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه أن عددهم قليل، قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[الأنفال: 43].
ثم إن هذه الرؤية كما قال ابن عطية: تظاهرت الروايات أن هذه الآية نزلت في رؤية رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأى فيها عدد الكفار قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم وحرضوا على اللقاء، وهذه الرؤية المنامية تبعها رؤية بصرية، قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾[الأنفال: 44]، إذاً الله -عز وجل- أراد هذا الوقاع، وجعل عدد الكفار مع أنه ما يقارب الآلف جعله قليلا حتى يتم هذا اللقاء، ثم جعل عدد المسلمين في أعين الكفار قليلا حتى يطمعوا، حتى يتم هذا اللقاء، فإذًا هو قدر الله -عز وجل- العظيم الذي تحقق، ولهذا قال الله -عز وجل- في مقام الامتنان على نبينا وعلى هذه الأمة؛ لأنه لولا أن أهل الإسلام انتصروا في بدر لما كان هذا العلو في هذا الدين، من بشائر علو الإسلام غزوة بدر الكبرى، ولهذا قال الله في مقام الامتنان في سورة "آل عمران": ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾، يعني: أذلة قليلون ومع ذلك نصركم الله، وكان العدو ضعفين أو أكثر من الضعفين، بل كان ثلاثة أضعاف، قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[آل عمران: 123].
إذًا تقوى الله -عز وجل- وشكره واجب على أهل الإيمان وعلى الصحابة -رضوان الله عليهم- لما نصرهم الله -عز وجل-، ولهذا قال الله -عز وجل- مبينًا عظيم الإذن الكوني بذلك، وأن لا تنسبوا هذا لأنفسكم؛ لأنه محض فضل الله -عز وجل- عليكم، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الأنفال: 17]، وقال الله -عز وجل-: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ﴾[الأنفال: 26]، هذا في مقام الامتنان على أهل الإسلام.
من الأحداث التي وقعت في غزوة بدر الإمداد بالملائكة، فالله -عز وجل- أمد أهل بدر بالملائكة، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ﴾[آل عمران: 124]، قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾[الأنفال: 9]، يعني: يردف بعضهم بعضاً.
إذاً واضحٌ أن الله -عز وجل- امتن على أهل الإيمان بهذا النصر العظيم، ورأى الصحابة الإمداد بالملائكة، ولا شك أن ذلك معجزة عظيمة رآها الصحابة -رضوان الله عليهم- وكبَتَ الله -عز وجل- الكفار في ذلك الموقف.
كذلك سجل القرآن مشهدًا عظيماً وهو موقف أهل النفاق، إن كان النفاق قبل بدر غير النفاق بعد بدر؛ لأن بعد بدر نجم النفاق، قبل بدر ما استطاعوا لكن كانوا موجودين ويصرحون، لكن بعد بدر تغيرت الأمور؛ لأن فيها ظهور لقوة المسلمين، فنجم النفاق بعد بدر، ولهذا الله -عز وجل- قال عنهم: ﴿إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[الأنفال: 49]، فكان التوكل من الصحابة وكان لهم النصر العظيم.
من بشائر النصر كذلك التي تحققت والإمداد الذي وقع لأهل بدر، أن الله -عز وجل- أكرمهم بكرامات، قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾[الأنفال: 11]، فجاءهم النعاس وجاءهم مطر خفيف، طلٌ خفيف، أي: مطر خفيف، كل ذلك لتحقيق بشائر النصر، وأن أهل الإسلام يثبتهم الله -عز وجل- وينصرهم على عدوهم نصراً مؤزرًا.
كذلك من المعالم التي وقعت في غزوة بدر، أنَّ الله -عز وجل- شرع شرائعًا لم تكن ظاهرة إلا في بدر، فقد أباح الله في غزوة بدر الغنائم، بل وشرع تقسيمها، قال الله -عز وجل-: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[الأنفال: 41]، فهذا فيما يتعلق بأهم الأحداث التي وقعت.
بقي فضل هذه الغزوة العظيمة، هل لمن شارك في بدر فضيلة؟ لا شك أن من حضر غزوة بدر هو أفضل ممن تخلف عنها، ولا شك أن أهل بدر لهم مقام عظيم عند الله -عز وجل-، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، فكان هذا الشرف لجملة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يقارب الثلاثمائة وعشرين أو أقل أو كثير بحسب الروايات التاريخية.
من أعظم ما جاء في فضائل بدر: ما جاء في قصة حاطب كما في البخاري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إلى أهْلِ بَدْرٍ، فقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ، فقَدْ وجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أوْ: فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».
"جَاءَ جِبْرِيلُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كما في السنن-، فَقالَ: ما تَعُدُّونَ أهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قالَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مِن أفْضَلِ المُسْلِمِينَ»، قالَ: وكَذلكَ مَن شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلَائِكَةِ".
فكذلك من شهد بدرًا من أهل الإسلام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنِّي لأرجو أن لا يدخُلَ النَّارَ من شَهدَ بدرًا إن شاءَ اللَّهُ»، فلا شكَّ أن أهل العلم حينما يفضلون بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ويمرون عند غزوة بدر، فيقولون: من شهد بدرًا أفضل من غيره، ولهذا يقولون في ترجمة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقولون: بدري، ينسبونه إلى هذه الغزوة، فهذا شرف وهذا فضل الله -عز وجل- أكرم به جملة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك من الأمور التي وقعت في غزوة بدر: أنه لما حصل النصر لأهل الإسلام، اختلف الصحابة -رضوان الله عليهم- في أُسارى بدر، هؤلاء الأسرى ما حكمهم؟ ماذا يُفعل بهم؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان معه من الأسرى ما يقارب السبعين، فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر -رضي الله عنه- أنه قد قتل من المشركين سبعين، وأسرى سبعين، فاستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فقال أبو بكر: أرى أن تقبل منهم الفداء، كل صاحب مال يفادي نفسه بمال، فهوي النبي -صلى الله عليه وسلم- مقالة أبي بكر، ورأى عمر أن يقتل الأسرى، وكان رأيه هذا من موافقات عمر -رضي الله عنه- المعدودة للوحي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال في فضل عمر: «لقد كانَ فيما قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فإنْ يَكُ في أُمَّتي أحَدٌ، فإنَّه عُمَرُ»، فهو ملهم رأى هذا الرأي، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- هوي رأي أبا بكر -رضي الله عنه-، فلما أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الفداء أنزل الله -عز وجل- عتابًا لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ﴿لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[الأنفال: 68] إلى قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ.. ﴾[الأنفال: 67]، إلى آخر الآيات.
من المعالم العظيمة في غزوة بدر: صدق الولاء لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، المعركة بين المسلمين وبين قريش، وجملة من المسلمين هم من المهاجرين ومن قريش، ومنهم عمر، ومنهم حمزة وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، وفي الصف المقابل من يقاتل الصحابة ولهم بهم قرابة، ولهذا لم يبالوا بهذه القرابات، وإنما كان ولاؤهم لله ولرسوله، فقتل عمر -رضي الله عنه- خاله العاص بن هشام في بدر، وقتل حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث أبناء عمومتهم، فكان صدق الولاء، فكان الولاء لله ولرسوله وللإيمان ولأهل الإيمان، ولم يكن لهذه القرابة وزن حينما كان منهم البغي والظلم والعدوان والكفر والطغيان.
كذلك من المعالم العظيمة لغزوة بدر: أن الدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء، ولهذا الله -عز وجل- سجل ذلك وبينه في قوله تعالى في مقام الامتنان: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾[الأنفال: 9]، والاستغاثة لا تكون إلا من حال الاضطرار، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة كانوا في حال اضطرار، عددهم قليل، وجاءت قريش بفخرها وخيلائها وبعتادها وقوتها لضرب أهل الإسلام، فكان عند ذلك الابتهال والاستغاثة إلى الله -عز وجل-، لهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر قد رفع يديه إلى السماء، وكان ينشد ربه ويلح على الله -عز وجل- مهلاً وهو النبي وهو المصطفى يلح على الله -عز وجل- ويرفع يديه، وكان يستغيث غاية الاستغاثة، واستغاثة فيها إظهار الفقر والاضطرار والابتهال لله -عز وجل-، حتى أن أبا بكر -رضي الله عنه- رحم النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقام الاستغاثة، فقال: "يكفيك يا رسول الله مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك"، مما رأى من هذه الاستغاثة، ولهذا الاستغاثة دعاء المضطر، فكان من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان في حاجاتهم وفيما ينزل بهم من المصائب، وفيما ينزل بهم من الأحوال أن يصدقوا في اللجوء إلى الله -عز وجل-؛ لأنه لا ينجي من الشدائد إلا هو؛ لأن الله -عز وجل- قال: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾[النمل: 62]، من رحمته -سبحانه وتعالى- أنه ينجي المضطرين حتى ولو كانوا على غير حال صالح، لأن دعاء المضطر مجاب، لهذا الله -عز وجل- قال عن كفار قريش: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ﴾[العنكبوت: 65]، ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ﴾[يونس: 22].
فإذاً دعاء المضطر مجاب، وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان في حال دعائه إلى الله -عز وجل- أن يكون صادق الدعاء، قلبه يظهر الافتقار وشدة الحاجة حتى يكون الجواب من الله -عز وجل- وحتى يكون الفرج من الله -عز وجل-، ولهذا ورد في الحديث أنه ستكون أمور لن ينجي منها إلا دعاء الغريق، أي: دعاء المضطر، فإذا علم الله -عز وجل- منك الإنابة وصدق اللجأ إليه -سبحانه وتعالى- فإنه كريم لا يرد سائليه ولا يخيب من طرق بابه -سبحانه وتعالى-، ولكن الإجابة متعلقة بحكمة الله -عز وجل-.
من المعالم والعبر التي وقعت في غزوة بدر: عُتو الكفار، والكفر له عتو وله خيلاء وله كبر، وهكذا الكفار هم أتباع لهذا الكفر، فقريش أصابتهم عقوباتٌ كثيرة جدًّا قبل بدر، فأصابه الله قحطًا شديداً قبل بدر ولكن ذلك لم يجدي فيهم حتى أوقعت بهم البطشة الكبرى، قال جمع من المفسرين: إنها غزوة بدر، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ القتال وقبلَ أن يقع شيء أراهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مصارع كفار قريش، قال: هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، قال الراوي: والله ما جاوز أحد مصرعه الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت من البشارة لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يدلك على الوحي الذي جاءه بإخباره بهلاك هؤلاء، ومع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا ربه وألح على الله -عز وجل- في الدعاء.
من معالم الدروس والعبر في غزوة بدر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستشير أصحابه، فاستشارهم في خروجه، ثم استشارهم في الذهاب لقتالهم؛ لأنهم كانوا قد قصدوا العير، فلما علموا أن العير قد نجت وعلموا أن قريشًا جاءت للقتال استشارهم، ولهذا قال الله -عز وجل- في القرآن: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[آل عمران: 159]، شاور ثم أعزم، وهكذا كان فعله -صلى الله عليه وسلم-، فقد شاورهم بعدما علم أن أبا سفيان قد نجا بالعير في المضي إلى قريش، فقال له المقداد بن عمرو: يا رسول الله امضي لأمر الله فنحن معك، هذا من صدق الأنصار، وصدق الذين كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "والله إنَّا لا نَقولُ لك كما قالت بَنو إسرائيلَ لِموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[المائدة: 24]، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ سِرْتَ بنا إلى بَرْكِ الغِمَادِ، لَسُرنَا معكَ أو لسِرنا معك" بَرْكِ الغِمَادِ موضع، مكان يضرب به البعد وهو جهة الساحل، ما يقارب اليمن، وهذا بَرْكِ الغِمَادِ، وفي بعض الروايات: " لو أمرتنا أن نخوض معك هذا البحر الخضم لخضناه".
فإذاً عزم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم استشارهم في أي موضع ينزل في بدر، ولهذا قال الحُبَابُ بن المنذر: يا رسول الله، هل هذا الموضع موضع قد جاءك فيه من الله شيء أم أنه الرَّأيُ والحَربُ والمكيدَةُ؟ قال: «بل هو الرَّأيُ والحَربُ والمكيدَةُ». قال: ليس هذا بالمنزل يا رسول الله ولكن اعمد إلى الموضع الفلاني فغوِّر تلك الآبار؛ لأن بدرًا كان فيها آبار، غورها ثم أنزل في هذا الموضع، أنزل بجوار البئر القليل ثم نشرب ولا يشربون، وكان هذا موضع كما يقال: استراتيجي، نزل به برأي الحباب بن المنذر، وهذا من المعالم مع أنه يوحى إليه -صلى الله عليه وسلم-، ولكن كان يستشير؛ لأنه ثَمَّ أمور الله -عز وجل- ما يأتي فيها الوحي وإنما هي للتجارب والخبرة ولإعمال العقول وهكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان، أن الإنسان يستشير ويشاور ولا يتخذ قراره إلا بعد أن يستكمل كل ما يتعلق به.
{حتى ولو كان فاضلاً عاقلاً عالماً؟}
حتى لو كان فاضلاً عاقلاً عالماً لأنه ما ندم من استشار، لن يكون له الندم، بل إن الذي يستشير في أموره لا شك أنه يكسب خبرات الآخرين، فثَمَّ عند الآخرين أشياء، كذلك خلق الاستشارة يدل على التواضع، وأنه كلما كان الإنسان متواضع كلما ازداد من الاستشارة، وأما الاستقلال بالرأي ويزعم أنه يعرف كل شيء، هذا لا شك أن هذا من الكبر، والإنسان مهما كان يحتاج إلى هذه الاستشارة وكانت واقعًا عمليًّا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك من معالم السيرة ومن الأشياء التي نبهنا عليها في الحلقات السابقة ونزيد هنا التنبيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قبل الفداء وصار الفداء، جاءت في بعض الروايات عند الإمام أحمد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل فداء بعض الأسرى تعليم صبيان أهل المدينة، والحقيقة هذه في رواية الإمام أحمد، وإن كان بعض المعاصرين يحسنها لكن هذا غير ثابت من جهة سنده، في السند علي بن عاصم وداود بن أبي هند، كلاهما متكلم فيه، كذلك من جهة المتن، فإن النكارة واضحة في هذه الرواية من وجهين:
الوجه الأول: أن الكتابة والتعليم ما كان منتشر في قريش، بل كان قليل، ومن جهة أن الأسير لا تؤمن غائلته، الأسير مربوط ومأسور وعليه وثاق كيف يكون مشتغل بالتعليم؟ ثم أن التعليم يأخذ مدة حتى يتعلم الطفل القراءة والكتابة، لا شك أن هذه الرواية في سندها وفي متنها.
كذلك من الأشياء التي أنبه عليها: أن هذه الرواية منفردة ومثل هذا الحدث العظيم لا بدَّ أن ينقل في أكثر من رواية، فمثله لا يخفى ولا يكون طريقه واحد، الصحيح أن الفداء إنما كان بالمال على صحة الروايات التي تذكر أن الفداء كان بتعليم الأسارى أبناء المسلمين لما ذكرناه في ذلك.
{هل هناك مزيد من العبر والحديث؟}
نعم لا شك، من العبر والعظات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما انتهت الغزوة وأخذ بعض كفار قريش أو ألقوا في القليب، وجاءهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يبكتهم تبكيتًا لهم، فقال: «إنَّ قد وجَدْنا ما وعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فهل وجَدتُم ما وعَدَكم رَبُّكم حَقًّا؟»، الموتى لا يسمعون ولكن الله -عز وجل- أسمعهم وكان هذا من بشائر العذاب الأليم الذي وقعوا فيه، فسمعوا، أسمعهم الله -عز وجل- كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن هذا -نسأل الله السلامة والعافية- من عظيم العذاب عليهم أنهم قتلوا وهلكوا وهم على الكفر والطغيان، أرادوا إطفاء نور الله -عز وجل-، فأطفأ الله أنوارهم وحياتهم ولم يبق لهم ذكر إلا على وجه العظة والعبرة من أحداثهم، وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان معتبر لأن مصير الظالمين والمعتدين والمعاندين بما جاءت به الأنبياء والرسل مصيرهم -نسأل الله السلامة والعافية- إلى الذلة والهوان في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولهذا لا يمكن الاستدراك، مثل هذه الأمور لا يمكن فيها أن يستدرك الإنسان، فأعيذ نفسي وأعيذ السامعين من هذا الطريق الوخيم، وهو المحاداة لله ورسوله، هذا حاد الله ورسوله، أردوا أن يطفئوا نور الله -عز وجل- وقاتلوا وخسروا حياتهم وخسروا دنياهم وخسروا آخرتهم بهذه المعركة العظيمة التي وقعت، وطبعًا مر معنا في السيرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا عليهم، جمل نفر منهم سبعة دعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان من جملتهم من ألقى سَلَا الجَزُورِ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد، يعني أذية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتأذيته له ودعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اللهم عليك بفلان وعليك بفلان، فكان بين هذا الوقت وذاك الوقت مدة زمنية ولكن الله -عز وجل- أقر عين النبي -صلى الله عليه وسلم- بهلاك هؤلاء الطغاة.
فكان هذا الفتح العظيم وهو غزوة بدر الكبرى التي بعدها انكسرت شوكة قريش وبدأت معالم الإسلام تظهر وجملة ممن كان أسيرًا في بدر أسلم وجاء إلى المسلمين وعاد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{شيخنا هل نستلهم من دروس غزوة بدر أن المسلم يجب عليه أن يستعد لقتال الكفار والمشركين بما لديه من القوة ولا يطالب بأكثر من ذلك، والله -عز وجل- ينصره كما قال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[الأنفال: 60]، فالمسلم في هذه الحياة في مجابهة الكفار والمنافقين بالعلم والحجة وبالسنان وغير ذلك يعد ما يستطيع من القوة ولا يطالب بأكثر من ذلك، والله -عز وجل- ينصره بما أقام من الدين وبما أعد مما يستطيع من القوة.}
لا شك أن الأمة تحتاج إلى إعداد، وكل إنسان قد كلفه الله -عز وجل- بتكاليف، فإعدادك لنفسك وإعدادك للصف المسلم أولاً يتناول نفسك، عليكم أنفسكم، يعني إصلاح النفس واستقامتها على أمر الله وامتثال أمر الله -عز وجل- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسعيك في الترقي في القيم الفاضلة والأخلاق الفاضلة التي جاءت عن الله وجاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا شك أن هذا من أعظم العداد، لأنك بنفسك تدعو إلى الله -عز وجل- وتعد لذلك الطريق، استبصارك برسالتك التي تعيشها في الحياة الدنيا بتعليم الخير، بنشر الخير، بالحرص على هداية الناس، تأليف قلوب الناس، لا شك أنه من الإعداد لأن الناس والمجتمع يحتاج إصلاح، وإصلاح المجتمع لا يكون إلا بدعوة إلى الله -عز وجل- وبإقبال على الله -عز وجل-، فمثل ما تفضلت الإعداد، الدعوة إلى الله -عز وجل- من أعظم ما ينشر به الإسلام، والدعوة إلى الله -عز وجل- ليست متوقفة على دعوة غير المسلمين، بل دعوة المسلمين بل هم أولى بالدعوة من غيرهم أن يستقيموا على منهج الله -عز وجل- وأن يراجعوا، لأنه حينما يكثر الفساد ويكثر الخبث لا شك أن هذه من علامات العقوبات التي تقع على المجتمع المسلم، ولهذا واجب أهل الإيمان والعلم لو قاموا بواجبهم امتثالاً في أنفسهم ودعوة للناس لهذا الامتثال، يمتثلون في أنفسهم ويدعون الناس إلى هذا الامتثال، ويدعون الله -عز وجل-، وهذه الدعوة تحتاج علم، لأن الآن الميدان ميدان التكافؤ العسكري قد يكون غير موجود، لكن الله -عز وجل- كما مر معنا في غزوة بدر يجعل لأهل الإيمان فرج من يشاء كثيرة جدًّا، فتقارب العالم الآن فرصة لأهل الإسلام أن ينشروا دعوة الإسلام، وأن يبينوا سماحة هذا الدين لأن المعركة الآن هي معركة التنفير عن الإسلام، ولا يمكن للإنسان أن يدعو لهذا الدين إلا بعلم، فعليه أن يتعلم، ولهذا أشرف ما يمكن للإنسان أن يشغل نفسه أن يتعلم بحفظ كلام الله -عز وجل-، بقراءة القرآن للصغار ولغيرهم، يقرأ القرآن ويتعلم ما فيه من المعاني، ثم يدعو الناس إليه، لأن دعوتك للكتاب والسنة ودعوتك للقرآن الأرض خصبة الآن، المسلمون جميعًا يتقبلون الدين لكن يحتاجون تعليم، يحتاجون دعاة إلى الله -عز وجل- يرخصون أنفسهم في سبيل الله -عز وجل-، في نشر الخير، في نشر الدين، في نشر القيم، في نشر الفضيلة، لا شك أن هذا من أعظم ما يكون به الإعداد، والعالم مفتوح الآن، ما فيه بلد من البلدان إلا وتجد أن دعوة الإسلام يمكن لها أن تمارسها، لأن دعوة الإسلام دعوة رحمة ولا أحد يمنعك، بل أنك تدعو إلى الله -عز وجل- بلسانك وبعملك، فكم من المواقف المؤثرة التي تؤثر في الناس وأنت لا تشعر أنها مؤثرة، بسلوكك، بقيمك الفاضلة، ولهذا إذا تعاملت مع غير المسلمين ثم قلت مثلاً السرقة حرام وأن الغش حرام وأن ديني كذا، لا شك أنك تدعو إلى الله -عز وجل- وأنت تمتثل، أنت ممتثل وتدعو إلى الله -عز وجل-، فلا شك أن هذه قيم عظيمة على أهل الإسلام أن يحرصوا عليها وأن يبرزوها وأن يعلموها أبنائهم، لأن الآن الثقافة الآن ثقافة ماديات وثقافة أشياء الكترونية لكن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، عندنا جيل الآن ينشأ إذا لم نعلم هذا الجيل ونثقف هذا الجيل، هذا الجيل مستهدف في عقيدته وفي قيمه وفي أخلاقه، حجم الشر الذي تزخر به شبكات التواصل الاجتماعي أكثر مما نتصور.
إذا لم نعد أبناءنا وبناتنا لهذا اللقاء وهذه المواجهة التي هي حتمية، سيواجه هو من خلال شبكات التواصل وغيرها، ولهذا الأمانة، ليست قضية أن الزواج كون الإنسان يتزوج وينجب أولاد هي قضية يسيرة في الإسلام، قضية عظيمة ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، فأنت أيها الأب مسئول عن أبنائك، وأنتِ أيتها الأم مسئولة عن أبنائك، والله -عز وجل- سائلكم عن هذه الأمانة، فماذا أعددت لها؟ هل علمته القرآن؟ هل علمته السيرة النبوية؟ هل أعددت لأنه بعد فترة سيكون في مواجهة، سيكون في غرفة ليست فيها أحد ستعرض عليه الشبكات التواصل سيتعامل معها، أين هذا التحصين؟ الآن الناس يحصنون أنفسهم من الفيروسات ويتقون، فكيف الإنسان لا يحصن أبنائه وبناته من الفيروسات الأخلاقية والفيروسات التي تدمر الثوابت والدين، إذا لم يكون هناك تعليم وتربية على الأخلاق الفاضلة والإسلام على الصلاة وعلى مثل هذه الأمور فلا تسأل عن النتائج، لأنها ستكون كارثية.
فمثلاً تجد مثلاً بعض الأبناء -نسأل الله السلامة والعافية- ربما يخرج عن جماعة المسلمين ويضل ويلحق بالكفار ويعادي بلده ويعادي دينه، هل تتوقع أن هذا الأمر حدث صدفة؟ لا شك أن ثَمَّ تراتيب وقعت، لم يكن هناك تحصين، لم يكن هناك تعليم، لم يكن هناك تربية أو كانت تربية ضعيفة أو أنه وجدت بيئة صالحة لأن يتبنى مثل هذه الأفكار، ولهذا في هذه المواجهة لا يقال كما قال الشاعر:
لقاهُ في اليَمِّ مَكتوفاً وَقالَ لَهُ
إِيّاكَ إِيّاكَ أَن تَبتَلَّ بِالماءِ

لا بدَّ الإنسان أن لا يكون مكتوفًا، يعلمهم، يبصرهم، يجلس معهم يحاورهم وهنيئا للأم المسلمة، لأن الأم كما قال الشاعر:
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها
أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

فالأم هي المربي الأول، ولهذا أمهاتنا يعني جملة منهم ما كانوا يقرءون ولا يكتبون لكن كنا نشعر منهم التعليم والحرص على الصلاة والحرص على القيم بعبارات بسيطة كانت لا تزال تتردد في أذهاننا إلى يومنا هذا، أسأل الله أن يرحمهم وأن يرحم والدينا جميع ووالدي المسلمين جميعًا، ما الذي جعلهم هذا؟ معالم لأن الطفل سبحان الله إذا رأى من أمه ترغيبه في الصلاة وإثابته على ذلك وتذكيره بأهمية الصلاة، لا شك أنه إذا نشأ وهو مهتم بالصلاة من والديه فإنه -إن شاء الله- سينشأ نشأة طيبة، أنا دائمًا أركز على قضية الصلاة، لأن الصلاة معلم وبوصلة لما بعدها، فبإذن الله إذا نشأ الطفل وهو يصلي وهو يذهب إلى المسجد ويصلي مع المسلمين ويرغب في الصلاة، فإنك بإذن الله عطيته اللقاح الأول لمواجهة ما سيواجهه في حياته، أما إذا كان يرى والده لا يصلي أو يرى الوالدة لا تصلي أو تؤخر الصلاة، ماذا ستتوقع أن يكون البيت؟ فلا تسأل عن ما بعد ذلك.
إذاً العلاقة الزوجية، وجود الزوج والزوجة، وجود الأسرة، هذه أمانة عظيمة للأبناء، ماذا سيكونون؟ ليست القضية قضية الدنيا فقط، الناس يهتمون بأمر دنياهم وكل حريص على أمر دنياه وكل لا يمكن أن توصيه على هذا، كل الناس حريصين على هذا لكن أمر الدين في تساهل، هذا واقع المسلمين الآن، ولأجل تساهلهم وقعت عليهم هذه الأمور، حجم الكارثية التي يقع فيها المسلمين الآن أو يشاهدونها مسألة الانشقاق، الخروج عن الأسرة، الدول الآن المفتوحة ليعيشون ماذا فعلوا لأبنائهم؟ من فضل الله -عز وجل- علينا في بلاد المسلمين وفي غيرها من البلدان أن الله جعل لنا محاضن تحتضن هؤلاء الأبناء، الآن الشبكات أو التقنية قربت البعيد، فليس لأحد عذر، قد تكون في مشارق الأرض أو مغاربها فتستطيع أن تتعلم وأن تعلم أبنائك، الآن العلم مفتوح، البرامج مفتوحة، شبكات تواصل، اليوتيوب، تستطيع أنك تضع برنامج علمي، حفظ القرآن ثَمَّ منصات الآن تستطيع أن تدخل إليها وتحفظ أبنائك ويقرءون ويحفظون القرآن، ولو لم يحفظ القرآن كاملاً لكن يحفظ شيئًا من القرآن، قبيح بالطفل المسلم أن لا يكون حافظاً لشيء من كلام الله -عز وجل-، المهم أن يسير على هذا الدرب، لأن قضية ما لازم أنه يكون حافظ القرآن، أهم شيء أن يكون مرتبط بالقرآن، ارتباط الطفل بالقرآن له معاني عظيمة جدًّا، كما أن الإنسان ارتباطه بالقرآن له معاني عظيمة، ارتباط بالمصحف، بقراءة القرآن، له معالم، لا نقول في مسألة هجر القرآن أو غيره، قبيح بالمسلم وقبيح بالمسلمة أن تمر يوم ويومين وثلاثة وهو لم يقرأ كلام الله -عز وجل-، قبيح به جدًّا مفرط غاية التفريط أن يفعل ذلك، كيف أنه يقول يحب القرآن ويحب الإيمان ثم مع أنه في المقابل يمضي ساعات طوال في شبكات التواصل الاجتماعي، ساعات طوال ونحن لا نريد منك إلا دقائق معدودة تقبل إلى الله -عز وجل- وتقرأ صفحة من القرآن تمد بها نفسك، روحك ستكون مشوشة إن لم تقرأ القرآن، من يثبتك في هذا الطريق؟ من يكون لك سلوى لك في أحزانك ومصاعبك إلا هذا الكلام العظيم الذي تقرأه وتردده في خلوة من الناس تقرأ كلام الله -عز وجل-، ثَمَّ موانع وصوارف كثيرة لكن أقبل وسترى من الله -عز وجل- خير، لتكون عندك العزيمة، إذا كان عندك العزيمة والصدق ستقبل إلى الله -عز وجل-، كما قال السلف: تعودوا الخير فإن الخير عادة، عود نفسك على أن تقبل، عود أبنائك، حاول، أبذل، رغبهم في أمر الدين، أمرهم بالصلاة، هذا أعظم إعداد لهذه الأمة، هذا هو الإعداد الحقيقي، استشعار الإنسان للدعوة إلى الله -عز وجل- ليبدأ بمن يليه، بأبنائك وبناتك ترغبهم في الخير والفضيلة وتحذرهم من الرذيلة وتحذرهم مما حرم الله -عز وجل- لأن الصوارف كثيرة والأعداء كُثر، ومن في قلبه مرض كثير جدًّا، من يطمع في هتك حرمات الله -عز وجل- كثير، إذا لم يكن هناك وازع ديني وتربية وتعليم وتوجيه ومع هذا الدعاة إلى الله -عز وجل-، صدق اللجأ في حماية الأبناء والبنات، هذا فعل السبب وفوق فعل السبب الدعاء إلى الله -عز وجل- والابتهال إلى الله -عز وجل- أن يصلح الأبناء والبنات، لا شك أن التربية هذه أعظم وظيفة وأعظم مهمة وهذا ليس متوقفًا على الأب والأم كذلك، المعلمين في صفوف المدارس، عندهم رسالة عظيمة جدًّا هم يستطيعون أن يغرسوا في الأبناء معالم عظيمة وقيم ستبقى معهم في حال الشباب، لكن من يحس بهذه الرسالة، المشكلة أن جملة من الناس يرون أن هذا العمل أنه تكليف وأنه أمر ثقيل لكن أنه رسالة وأنه له آثار ستبقى لإنسان وسيوسد في قبره ولا ينفعه إلا هذه الآثار الطيبة وهذه المشاريع التي تبناها وفعلها وبذلها، سيكون لذلك الأثر العظيم على حياة الناس.
فلا شك أن إعداد الأمة مهم، وأن أعظم الإعداد هو الإعداد الروحي، فالإعداد الروحي وتعليم الناس وتعليم الأبناء مهم جدًّا في هذا الجانب.
{فضيلة الشيخ هل نختم هذه الحلقة بحديث عن مزيد من الدروس والعبر في هذه الغزوة العظيمة؟}
أعظم درس يمكن أن يستفيد منه أهل الإسلام: أن الإسلام لا ينصر بالعدد ولا بالعدة، وإنما ينصر بقيمه وبامتثاله، فمتى ما أقام المسلمون أنفسهم على الدين القويم فإن الله -عز وجل- ناصرهم، ولك عبرة في عدد أهل بدر، فإن الأعداء كُثر ولكن الله -عز وجل- خذلهم وأزال عليهم ووقع عليهم القتل ووقع عليهم الأسر ذلة إلى ذلتهم، فكانت وقعة بدر في نفوسهم وقعة عظيمة جعلتهم يحاولون مرة أخرى أن يثأروا لقتلاهم بغزوة أحد، ولعلها -إن شاء الله- في الحلقة المقبلة سنتحدث عن هذه الغزوة وما فيها من الدروس والعبر فهي من المعالم العظيمة.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك