الدرس الثامن عشر

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2475 22
الدرس الثامن عشر

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، ضيفنا فيه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{تحدثنا يا فضيلة الشيخ في الحلقة السابقة عن غزوة أحد وما فيها من الدروس والعبر، فهل تحدثونا فضيلة الشيخ في هذه الحلقة عن غزوة الخندق وما فيها من الدروس والعبر}.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
طبعًا لا شك أنه بعد وقعة أحد تجرأ اليهود على المسلمين، وَصَاحَبَ ذلك أحداث وهو بئر معونة والرجيع، وكون أهل الشرك والطغيان أصابوا المسلمين بمصائب في بئر معونة والرجيع، وأَثَّرَ ذلك في نفوس المسلمين، ولهذا بدأ اليهود يكاشفون الصحابة ويكاشفون أهل الإيمان بالغدر والعداوة، وكان بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- حلفًا، فذهب إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل هذا الحلف يستعين بهم في دية قتيلين قتلهم عمرو بن أمية الضمري، وكان لا يعلم أنهما قد قدما من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنهم من حلفاء بني النضير، فلا شك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه لا يستطيعون دفع الدية، فاستعانوا بهؤلاء باعتبار أن بينهم وبينهم حلف، ومن بنود الحلف الاستعانة بهم في الدية من الطرفين، فجاء لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجلس في ظل جدار من حصونهم وإذا ببعضهم يتناجى مع الآخر، فقال بعضهم: أيكم يأخذ هذا الرحى فيصعد به في أعلى هذا الحصن فيلقيه على رأس محمد، فيشدخ به رأسه، فقال عمرو بن جحاش: أنا، قال سلام بن مشكم: لا تفعلوا فوالله لَيُخْبَرَنَّ بما هممتم به، وإنه لنقضٌ للعهد الذي بيننا وبينه، كان عاقلًا، لكن أكثرهم كانوا سفهاء، ودائمًا السفيه يجني على العاقل، لكنهم عزموا على ذلك، فجاء الوحي وجاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنهض النبي -صلى الله عليه وسلم- من ساعته وتركهم.
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم لأجل أنهم نقضوا العهد- بإخراجهم من المدينة، وأجلهم عشرة أيام على أن لا يكون لهم إلا الخروج، الآن معركة ربما تقوم، فأرسل لهم ابن أبي بن سلول زعيم المنافقين البقاء، وقال لهم: إن معي ألف رجل يقاتلون معكم، فلا تبرحوا مكانكم ولا تخرجوا، لهذا قال الله -عز وجل-: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[الحشر: 11]، كذبهم الله -عز وجل- في القرآن، ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾[الحشر: 12]، فهذه عادة أهل النفاق مع أهل الكفر، أنهم يتحالفون ويتعاونون لكن عند وقوع الواقعة يتبرأ بعضهم لبعض كما بيَّن الله -عز وجل.
لأجل أن ابن أبي سلول غرهم فطمعوا في البقاء، فأرسل حيي بن أخطب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إن لن نخرج من ديارنا، فأصنع ما بدا لك، فنهض النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم وحاصرهم، وبعد ستة أيام قذف الله في قلوبهم الرعب واستسلموا، وأذن لهم بالخروج على أن لا يحملوا إلا ما حملت الإبل، إلا السلاح، السلاح لا يحملونه، لك أن تحمل، فلهذا الله -عز وجل- سجل هذه الهزيمة لهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حاصرهم قطع الأشجار المحيطة بالحصون، ولهذا قالوا: كيف يزعم أنه نبي وهو يقطع الأشجار، فقال الله -عز وجل-: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ﴾[الحشر: 5]، فكان هذا تكبيت لهؤلاء، وعند ذلك خرجوا وخرج سلام بن أبي الحقيق، وحمل معه جلد ثور مملوءة ذهبًا وفضة، وهذا موضع لا بدَّ أن نقف عنده، وكان يقول: "هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل"، وخرجوا بستمائة بعير ومعهم ما حملت الإبل، واتجه جزء منهم إلى خيبر وجزء آخر إلى أذرعات الشام، هذا الحدث لأجله أضمروا العداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بنو النضير، ولأجل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجهم.
فهؤلاء بعد خروجهم من المدينة صاروا يبذلون الأموال ويحيكون المؤامرات للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فساهموا في جمع الجموع، وذهب نفر منهم إلى قريش وطائفة إلى غطفان وأسد، فاستجابت لهم قريش وحلفاؤها من كنانة وغطفان وبنو أسد وبنو سليم، ولهذا الله -عز وجل- سماهم الأحزاب، ثم بعد ذلك انضم لهم يهود بني قريظة لأجل بني النضير.
كيف تم هذا التجميع وهذا الحشد؟ مر معنا بأن سلام بن الحقيق يقول: هذا المال أعددناه لرفع الأرض وخفضها، هذا يدلك على أن اليهود يجمعون الأموال لإيقاد الفتن وللكيد لأهل الإيمان، فمما ذكر في كتب الأخبار أن أبرم وفد من اليهود من بني النضير الذين أخرجوهم النبي -صلى الله عليه وسلم- اتفاقية مع قبائل غطفان، وأن يدفع لهم وجاء من غطفان وبنو أسد ستة آلاف مُقاتل، وأن يدفع لهم اليهود كل تمر خيبر لسنة واحدة، يعني: يعطونهم التمر، فالأموال لها أثر، طبعًا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث أعينه تتلقى الأخبار؛ لأن المدينة مخوفة عليهم، علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا التجميع وبهذه الاتفاقية التي بانت بين أرباب الكفر، بين اليهود وثناءهم على المشركين، والله -عز وجل- ذكرهم في القرآن، وبين القبائل المتحالفة معهم، ولهذا جمع أصحابه وشاورهم، وكان من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- المشورة والتشاور، فطلب الرأي، فقال سلمان: "إنا إذا كنا بأرض فارس وتخوفنا من الخيل، خندقنا علينا" جعلنا خندقًا، فعند ذلك أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على سلمان واستجاب لرأيه، ورأى أن رأيه رأي سديد ويساعده على ذلك طبيعة المدينة؛ لأن المدينة مكان حصين، مر معنا في رؤية أبي بكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدخل يده في درع، فهي محصنة فعلاً بطبيعتها الجغرافية، يحيط بها حرتان، حرة واقم وحرة وبرة، والحرة تعني: أنَّ من ينظر إليها يجدها منطقة حجرية يصعب فيها سير الخيل، فيها حجارة، دائمًا المكان الوعر يعد مكانًا حصينًا.
فالحرتان والجهة الوحيدة المكشوفة فيها هي جهة واحدة وهي جهة الشمال، وفي الجنوب آطام بني قريظة، وبينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهد، فالأصل أنه يأمنهم، فإذاً صار الوضع على أن الجيش لا يستطيع إلا أن يأتي من جهة الشمال، وكان عند ذلك الخندق، طبعًا هذا الخندق الذي عمله الصحابة وأشار به سلمان وفيه الاستفادة من تجارب الأمم السابقة وما عندهم من الخبرات، وذلك لا يعارض الدين في شيء، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا من طريقة الفرس، لا، فيما ينفع في أمور الدنيا لا بأس في ذلك، فحفر الخندق لم يكن بالأمر اليسير، خاصة أن هذا الحفر ما عندهم أدوات حرف وليس هم من أرباب الصناعة والجو كان بارداً في وقتهم، والطقس كان فيه ريح والظرف في ضيق من ذات اليد، ضيق معيشة تدل على ذلك، والإمكانيات قليلة.
يصف بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الحدث، قال جابر: "ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا"، قال: "ورأيت في النبي -صلى الله عليه وسلم- خمصًا شديداً" يعني: جوعا شديداً، قال أبو طلحة الأنصاري وهو زيد بن الأسود النجاري البدري وأحد النقباء وهو زوج أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك الأنصاري، قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوعَ في يوم الخندق، فرفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين"، طبعًا لأن الآن في زمان العيش والرغد الهنيء ما نعرف أن الإنسان يربط على بطنه الحجر من الجوع، لكن هذا وقع على أشرف الخلق وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الآن في زمن التخمة وفي زمن المأكل، لا نعرف هذا، ربما نتصوره في عالم الخيال وليس في عالم الواقع، لكن هذا واقع، طبعًا النبي -صلى الله عليه وسلم- قسم الرسول -صلى الله عليه وسلم- حفر الخندق، كل أربعين ذرعًا لعشرة من أصحابه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرتجز ويحمل التراب على ظهره ويشارك أصحابه ويرتجز في سبيل الترويح عليهم وتخفيف المعاناة.
وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْتَ ما اهْتَدَيْنَا
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبّتْ الأَقْـدَامَ إِنْ لَاقَيْـنَا

إن الأعادي قَدْ بَغَوا عَلَينَا
وإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبيْنَا

إلى غير ذلك من الرجز الذي كان يتمثل به النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في يوم الخندق، وكان يوماً مشهودًا.
طبعًا كما مر معنا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخذ الأسباب الحسية للنصر ويستوثق من ذلك، وليس في ذلك أي مخالفة للشرع؛ لأن فعل الأسباب من الأمور المطلوبة؛ لأن الله لا ينصر الدين بالمعجزات فقط، إنما ينصره بأسباب معلومة؛ ولأن النصر له أسباب حسية مع وجود الأسباب المعنوية، ولهذا الله -عز وجل- أمر بالإعداد، قال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[الأنفال: 60]، فلا بدَّ من الإعداد، ولهذا أمن الذراري والنساء والصبيان، في حصن بني حارثة حتى يكونوا في مأمن من الخطر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عنده خشية من اليهود؛ لأنهم أهل غدر، فهم عبر التاريخ لا يستقيمون على ميثاق ولا على عهد، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخشى منهم، وظهرت بوادر هذا أنه جاء يهودي إلى هذا الحصن ليستطلع من فيه، كانوا يريدون أن يسلموا المسلمين بالوصول إلى النساء والذراري، فقتل.
طبعًا من المواقف التي دونها أهل السير: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق وكان يوماً بارداً، فلم يكن لهم عبيد يعملون لهم، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بهم من النصب، تعب وجوع، تصور أن يجمع الله لك الأمرين، أنت تعبان وجائع، والجوع شديد لدرجة أنك تربط الحجر على بطنك من الجوع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مذكرًا لهم لما بما وعدهم الله -عز وجل- في الآخرة، وأن الدنيا إنما هي أيام قلائل، قال: «اللَّهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»، فَقالوا مُجِيبِينَ له وثابتون على ما هم عليه، "نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا علَى الجِهَادِ ما بَقِينَا أَبَدَا".
كان شعار المسلمين في يوم الخندق في غزوة الخندق، "حم، لا يُنْصَرُون"، وهذا فيه أثر أن الشعار مُؤثر يقول بالأتباع والجماهير تحتاج الشعارات، ولكن الشعارات الصادقة التي يجتمع الناس عليها، وهذا يبين العلاقة بين الشعار والعمل، فإن له علاقة عظيمة.
في أحداث أو وقائع نفسية، والوقائع النفسية والحالة النفسية تكون مرتبطة بالحدث، ولهذا لو أردت أن أخبرك عن واقعة معينة، فأنا لا استطيع أن أصورها، لأن الظرف النفسي في مكنونات النفوس، لكن لبلاغة كلام الله -عز وجل-، صور الله -عز وجل- الحالة النفسية التي كانوا عليها، الله -عز وجل- يقول في تصوير ذلك: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ﴾، صور يعني أن يبلغ القلب كالخنجر من شدة الخوف، ﴿تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيد﴾[الأحزاب: 10- 11]، ثم ظهر النفاق، ابتلاء لأهل الإيمان بالنفاق كل زمان ومكان، ﴿وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُو﴾[الأحزاب: 12- 13]، إلى آخر الآيات التي ذكرها الله -عز وجل-، لاحظ التصوير القرآني وبلاغة القرآن، ﴿ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ﴾، ﴿زَاغَتِ الأَبْصَارُ﴾، ﴿تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾، ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ﴾ هم الأحزاب ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ اليهود، وخشي النبي على الذراري والنساء وبوادر الخيانة ظهرت منهم.
ولهذا عندما بلغ الكرب غايته ظهر محض الإيمان عند الصحابة، ولهذا لما رأوا تكالب الأعداء عليهم، من فوقهم ومن أسفل منهم والحالة التي هم عليها عند ذلك يأتي النصر، ولهذا دائمًا في ظل الكرب يأتي الفرج، قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيم﴾[الأحزاب: 22]، تحدث القرآن عن تخذيل أهل النفاق لأهل الإيمان وظنونهم السيئة، ثم ذكر الله -عز وجل- شححهم على أهل الإيمان وأشياء كثيرة جدًّا في سورة "الأحزاب".
كذلك دلائل النبوة والمعجزات في ظل المحن تكون تثبيتًا، وهكذا الكرامات حينما يكرمك الله -عز وجل- بالكرامة وتكون لأوليائه الصالحين، فإنه قد اعترضت صخرة عظيمة على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يحفرون الخندق، لاحظ الآن جوع وبرد وعدو من فوق وعدو من أسفل، ثم النبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذ المعول فيضرب تلك الصخرة والكدية التي اعترضت لهم، فيقول: «اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ»، ثم يضربها ثانيًا ثم يقول: «أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ»، ثم يضربها ثالثًا يقول: «أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ»، تصور موقف المنافقين وموقف أهل الإيمان، المنافق يقول هؤلاء الآن يتخطفهم الأعداء وهذا يعدهم، ولهذا يقولون على وجه السخرية: محمد يعدهم بمفاتيح كسرى والروم وأحدنا لا يستطيع أن يذهب إلى قضاء حاجته من شدة الخوف.
ومن دلائل النبوة التي ظهرت وكرامات أهل الإيمان التي حدثت لهم: "أن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى فيه الجوع، فجاء وأسر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قد ذبحت عناقًا، يعني: لحمًا صغيرًا جدًّا، وعندي صاع من شعير، لاحظ صاع من شَعِيرٌ وعَنَاقٌ، ويا رسول الله إني أدعوك وأدعو معك بعض نفر، لم يرض النبي -صلى الله عليه وسلم- لوحده بل دعا أهل الخندق جميعًا، وأكل الناس كلهم حتى شبعوا"، وهذه القصة رواه البخاري.
هذه من دلائل نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه تكثير الماء والطعام، فهذا العدد الكبير استطاعوا أن يأكلوا من تلك العناق ومن ذلك الشعير، وهذه من كرامات الله -عز وجل- ومن تثبيت الله -عز وجل- لهم.
طبعًا دائمًا عندما تضيق الأمور، وعندما تزلزل وتبلغ الأمر شدته وتضيق الأمور يكون عند ذلك الفرج، ولهذا حَدَثَ حَدَثٌ في غزوة أحد غير مسار المعركة، طبعًا الحدث يتمثل في أمرين:
أما الأمر الأول: أن هذه الأحزاب اجتمعوا على عقدٍ هشٍ ومواثيق بالية، بعضهم يخشى من بعض، فخوف بعضهم من بعض، وسبق أن ذكرنا قصية نعيم بن مسعود وأنه نقل له النبي -صلى الله عليه وسلم- كلاماً ثابتًا فأشاعه فيما بينهم، أن اليهود غدرت ومر معنا القصة، وكان هذا له أثر في نفوس الأحزاب، فعند ذلك مع هذا الحدث خوف بعضهم من بعض لأن بنو قريظة طلبوا من قريش ومن معهم عدداً من الرجال ليقاتلوا معهم حتى يأمنوا أنهم لن يخرجوا ويدعوهم ومحمد، عند ذلك كان الخبر الآخر أن بنو قريظة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا نُقل لهم، وأنها ندمت على الإخلال وأنهم تعهدوا بأن يسلموا للنبي -صلى الله عليه وسلم- عدداً من الرجال، فحصل التنازع بينهم وحصل الخوف من بعض، هذا الحدث مع أن الحدث كله كامل، برد موضع شدة حتى على الكفار والمشركين الذين أحاطوا بهم، برد وريح ثم هبت ريح هوجاء، كانت ليلة مظلمة باردة تقلبت القدور وابتلعت خيامهم وأبطأت نيرانهم، فما كان من أبي سفيان إلا أن ضاق ذرعًا فنادى بالرحيل، وكان زعيمًا لقريش، عند ذلك تخاذلوا وفشلوا وكانت هذه آية من آيات الله -عز وجل-، أن العدد الذي جاء عشرة آلاف وعدد المسلمين قليل جدًّا، ما فيه مقارنة ما يقارب ثلاثة آلاف في المدينة، لا شك أنه وغدر اليهود، غدر بني قريظة وجاء الفرج من الله -سبحانه وتعالى-، فلهذا لما جاءت هذه الريح ومن يعرف الجغرافيا والأحوال الجوية لا يمكن لإنسان لأي جيش مهما كان قويًا أن يقاتل في ظل ظروف جوية صعبة، فما بالك بإمكانياتهم في ذلك الزمان خيام ونيران وأشياء، فما يستطيع الإنسان أن يبقى، فعند ذلك نادى أبو سفيان بالرحيل، فرحلوا، فكأن أن الله -عز وجل- كفى شرورهم وكانت المنة من الله -عز وجل- لقوله: ﴿ وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِياً عَزِيز﴾[الأحزاب: 25]، فكانت الكفاية من الله -عز وجل-.
ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم أحد: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» ، ولهذا تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدر وفي الخندق دائمًا يستشعر الاستغاثة والإنابة إلى الله -عز وجل- والدعاء إلى الله -عز وجل-، هكذا ينبغي أن يكون حال المؤمن، ولهذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، وفي رواية «وَغَلَبَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلاَ شَيْءَ بَعْدَهُ». هذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
فكانت هزيمة الأحزاب من منن الله -عز وجل- على نبينا محمد وعلى الأمة إلى يومنا هذا؛ لأنه لو تمكن هؤلاء لم يكن للإسلام أثر.
طبعًا واجه الصحابة -رضوان الله عليهم- صعوبات في يوم الخندق أو في أيام الخندق، ومر معنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعدهم بكنوز كسرى والروم ولهذا قال المنافقون: إن محمدًا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وهذا الفرق بين الإيمان باليوم الآخر وبين وعد من يؤمن بوعد الله -عز وجل- ومن يكون على شك، ومن ينظر بمنظار قصير، ولكن هذا الذي وعدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقع ورآه الصحابة -رضوان الله عليهم-، وقع وعد الله -عز وجل- على أهل النفاق بأن الله هزم وأزلهم ولم يكن لهم شيء.
{شيخنا أحسن الله إليكم، هذه الوقائع العظيمة التي فيها الإعانة الإلهية من الله -عز وجل- للمسلم وللمسلمين، ألا ينبغي أن تنعكس على واقعنا اليوم نحن المسلمين في أن نستبشر في معونة الله ونصره على الأعداء وعلى من يحارب هذا الدين وأن نثبت قلوبنا بهذه البشائر وأن الله -عز وجل- لا يخذل عباده ولا يتركهم، هذه القصص التي ذكرتم فيها معونة عظيمة وفيها مدد إلهي كبير}.
صحيح، ولهذا من يستبصر في غزوة الخندق ويستلهم منها الدروس والعبر لا يفوته مثل هذا المشهد؛ لأن بعض الناس يتشاءم من الوقائع والأحداث، إما بظهور الكفر على الإيمان أو بظهور الفجور والعصيان على الناس وعلى أهل الطاعة والإيمان، فربما يظن ظن الجاهلية، ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: 154]، وأن الإيمان والإسلام في تراجع، وأن الكفر والطغيان في ظهور، ولكن الله -سبحانه وتعالى- بمنه وفضله ينصر أهل الإيمان وأهل الاستقامة بأمور لا يعلمونها، ولهذا الأحداث والتاريخ يشهد بمثل هذا، كم مر بالأمة من محن ومصائب، فكانت هذه المحن والابتلاءات بعد أن ظن أعداء الإسلام أنهم سيقضون على الإسلام، وهم لا يزالون يحاولون، فكانت المنة من الله -سبحانه وتعالى- على أهل الإيمان بأن تحول هذا الكيد إليهم، يكفيك حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- ما وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كفار قريش، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذاك الوقت حينما خرج وهو خائف مع أبي بكر والدليل عبد الله بن أريقط خائف على نفسه، ثم لم يكن إلا سنوات معدودة ودخل مكة فاتحًا منتصرًا، هكذا ينبغي أن يكون أهل الإيمان أن يظنون بالله -عز وجل- ظن الخير وأن يتفاءلوا وفي نفس الوقت أن لا يعجزوا، لا يستسلموا لواقعهم، بل عليهم أن يفعلوا ويقوموا بواجبهم في دفع الباطل وفي رد الباطل وفي جهاد الباطل، لأن العاقبة للحق، وليست مهمتك أن تنتصر؛ لأن النصر والغلبة ليست لك، إنما هي بأمر الله -عز وجل-.
فمثلاً من الصحابة من لم يرَ النصرة بعينه ولكنه سلَّم الراية إلى غيره، أدى الواجب عليه، ومن ذلك موقف مصعب بن عمير -رضي الله عنه- وكان من أترف شباب مكة، كان مترفًا، وأسلم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان من أوائل من أسلم وذهب إلى المدينة وكان له شرف تعليم الأنصار والأوس والخزرج وأسلم على يديه عدد منهم، وقتل يوم أحد، ولهذا قتل ولم يجدوا له ما يكفنوه به، كان هذا موقف مؤثر.
إذًا ليس الشأن أن تنتصر أو ترى النصر، الشأن أن تموت وأنت ثابت على الحق، قائم عليه، مدافع عن هذا الحق الذي تؤمن به حتى تلقى الله -عز وجل-، لأن الدنيا هي ليست هي كل شيء، فثَمَّ عالم أو يوم آخر وثمَّ حياة أخروية يثاب الإنسان عليها، فدائماً أهل الإيمان عليهم أن يستبشروا بنصر الله -عز وجل-، وأن لا يظنوا أن الأمور ستكون لعلو أهل الباطل على أهل الحق، والله -عز وجل- يمنح أهل الإيمان منح، ولا ننسى واجب الدعاء هنا، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو، ولهذا الدعاء أعظم سلاح يقارع به أهل الباطل وأهل الفجور وأهل الطغيان، يعني المنافقون ابتلوا الصحابة بالنفاق في زمانهم ولا يزال أهل الإيمان يبتلون بالمنافقين وبدعاة الباطل وبدعاة الضلالة وبدعاة الانحراف، لا يزالون يبتلون بمثل هذه الأجناس وهؤلاء الذين يتنقصون أو يعيرون أهل الإسلام بالتخلف أو أن الإسلام غير صالح لهذا الزمان، وأن زمانه ولى ونحن في زمان آخر ينبغي، هذه طبيعة أهل النفاق، على أهل الإيمان أن لا ييأسوا وينتصروا لله -عز وجل- وأن يعملوا، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَقُلِ اعْمَلُو﴾[التوبة: 105]، لا بدَّ من العمل.
الصحابة في غزوة أحد ماذا فعلوا؟ جبل الرماة والبقاء فيه، وفي غزوة الخندق ماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ جعل خندقًا ما استسلم، مع أن الإمكانيات ضعيفة، ما استسلم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة للواقع، ومر معنا أنه قبل أن يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض على الأوس والخزرج لأن المسألة مادية بحتة، أن التجميع إنما كان مادي، فعرض عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعطيهم شطر ثمار المدينة، المدينة كانت منطقة زراعية على أن يكفوا ويرجعوا؛ لأنهم إنما أتوا لأجل الأموال، يعني: أسد وغطفان أسباب قدومهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- أسباب مادية كما في واقع الأمر، أن وعدهم بنو النضير أن يعطونهم ثمر خيبر لمدة سنة لا شك، ولكن الله -سبحانه وتعالى- رد الله كيدهم في نحورهم، فعمل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعل السبب مع ضعف الإمكانيات، برد وخوف وجوع ومع ذلك فعل السبب، أنت المطلوب منك مع أن هذا السبب غير مباشر، الذي هو الخندق، فما استطاعوا فكان أثر ذلك الريح التي جعلتهم لا يتمكنون أبدًا وإلا كانوا يستطيعون يأتون من جهة بني قريظة، فيدخلوا على المسلمين ويبيدوا خضراهم، لكن الله -عز وجل- نصر أهل الإيمان بتلك الريح الشديدة التي لم تجعل لهم أن يطيب لهم المقام ولا الجلوس، وكان التجميع على شيء هش وعلى أسباب مادية زالت بخوف بعضهم من بعض، وبتلك الريح التي جعلت المقام صعب جدًّا عليهم.
كذلك من الوقائع المهمة ومن الدروس المهمة في هذه الغزوة، وهذا الحقيقة لا بدَّ أن الإنسان يستلهم منه العبرة: المبادرة بقطع الشر وأسبابه بعد ظهوره وعدم التواني فيه، فمن ذلك لما ذهبت قريش وحلفاؤها وأسد وغطفان، جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد وضعت السلاح والله ما وضعناه، للملائكة، "فاخرج إليهم" لاحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إلى أين؟ قال: إلى بني قريظة، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أذن بالناس «لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ» لاحظ المبادرة، يعني ما قال صلوا العصر ثم، «لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ»، فهذا نستلهم منه درس أنه عند وقوع الخلل لا بدَّ من مبادرة لقطع الشر، عدم التهاون فيه، لأن التهاون فيك يورثك أن ربما يكون بعد الحدث يمكن تلميم الأمر ولملمة الأمر والاعتذار، لكن بقاءهم الآن خطر، ظهرت نواياهم الخبيثة وظهر منهم النقض كإخوانهم من بني النضير، ولهذا أنزل الله -عز وجل- فيهم: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِياً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ﴾ هم اليهود، ﴿مِن صَيَاصِيهِمْ﴾ يعني من حصونهم، ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [الأحزاب: 25 - 27].فكان نصرًا عظيمًا للصحابة؛ لأنه لَمَّا حاصر النبي -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة بعدما نقضوا العهد والميثاق كإخوانهم من بني النضير، الذين نقضوا عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاجتمع الصحابة عليهم وأرادوا أن يقاتلونهم، وهؤلاء ظنوا أن تلك الحصون ستمنعهم من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الله -عز وجل- أنزل في قلوبهم الرعب، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا عليه وكان من حلفائهم، فظنوا أنه سيرأف بهم ولأجل غدرهم أمر أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذراري، فكانت وقعة عظيمة عليهم وقتل منهم من كان مقاتلاً وسبيت النساء والذراري وأخذت الأموال، وهذه سنة الله -عز وجل- في الخائنين والناكسين لعهد الله -عز وجل-، وهذه عاقبة النقض ونقض المواثيق والمعاهدات.
عاقبتهم وخيمة على من نقض ووكس، فكانت هذه شؤم ووبال عليهم، فهم ظنوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيفعل بهم كما فعل مع بني النضير ولكن كان الحكم مختلفًا، فإنه كما جاء في الحديث «لا يُلدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرتيْن»، فكان هنا الزجر والتأديب والحسم لمادة الكفر والطغيان؛ لأنهم فعلوا أمرًا لا يمكن الصبر عليه ولا مقاومة عليه، ولو تمكن أهل الكفر من الدخول على المدينة من بني قريظة لكان في ذلك كسر لشوكة الإسلام والمسلمين، ولهذا بادر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحسم، وكان ذلك موافق للوحي، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حكم سعد: «لقد حكَمْتَ فيهم بحُكمِ اللهِ من فوقِ سَبعِ سَمَواتٍ»، فكان ذلك النصر العظيم، وكان بعد ذلك لم يقم للكفر قائمة، واستطاع المسلمون كما جاء في بعض الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والآن نغزوهم ولا يغزوننا، إنه لم يكن بعد ذلك للكفر قائمة»، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغزوهم ولا يغزون أهل الإسلام.
إذاً كانت هذه غزوة الخندق وكانت مواقف اليهود، ولهذا على مرِّ التاريخ اليهود أهل نقض عهد وميثاق، وهذا حدث من بني النضير وحدث من بنو قريظة في موقفهم من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا عادت التحصين والحصون إنما جاء بها اليهود، ولهذا هم أهل حصون وتحصينات، ومع هذه الحصون والتحصينات لا تمنعهم، وإنما يكون لهم بالسوءة والظهور بالمكر والخديعة وبالمال الذي يستعينون به على، وكان المطلوب منهم أن يسارعوا ويبادروا للإيمان، لأنهم أهل كتاب، ولهذا الله -عز وجل- وصفهم في القرآن بأنهم أهل كتاب، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ﴾ يعني من حصونهم، ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾، قذف الرعب هذا فيه معنى عظيم جدًّا، أن أهل الإسلام لا ينصرون فقط بالعدد والعدة مع أنهم واجب أن يعدوا العدد والعدة لكن هذا الرعب شيء معنوي، شيء نفساني يصيب العدو وهو جند من جند الله -عز وجل- يسلطه الله على من يشاء، لأنها حالة نفسية، ولهذا الله -عز وجل- قال: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾.
فإذاً قذف الرعب هذا من مدد الله -عز وجل- لهم، وكذلك بني النضير أن الله -عز وجل- قذف في قلوبهم الرعب وخرجوا وهم صاغرين، وكانت فرصة لأن بني قريظة أن لا تفعل كما فعلت بني النضير لكنهم مستمرون وقائمون على طريقتهم في نقض العهود والميثاق، ولهذا لا يوثق بميثاقهم، مع أنهم كان الأولى بهم أن يبادروا وأن يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، لكن لأجل نفوسهم ولأنهم من الأمة الغضبية الذين حذرنا الله -عز وجل- من سلوك طريقهم ﴿ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة: 7]، فالمغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى، فكان ذلك درسًا عظيماً لأهل الإسلام والمسلمين.
{أحسن الله إليكم، شيخنا ذكرتم في أحداث الغزوة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم بنية الأحزاب بغزو المدينة قبل أن يقدموا، وأنه كان يرسل الرسل ويرسل من يأتي بالأخبار، الأعين، فهذا يدل على مشروعية احتياط أهل الإسلام والحرص على الإتيان بالأخبار، وأن يكون في دول المسلمين من يتنبه ويتيقظ لما يحاك بدول المسلمين من الأخطار ومن المكر، لكي تحمي وتكون سببًا -بإذن الله- في حماية المسلمين من هذا الأذى ومن هذا المكر}.
صحيح، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من أعظم الأسباب في نصرته على أعدائه اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا، وهذا كان يعرفه العرب ويعرفه الناس جميعًا، يعني من عادات الشعوب، لأن وجود هذه الأعين، وجود هذا ما يسمى الآن بعالمي، هو الآن نظام عالمي الاستخبارات، وهذا ليس من التجسس المنهي عنه، بل هذا من التجسس الذي هو من الإعداد العدة، ولا شك أن حماية الدولة وأن مثل هذه الأفعال العمل فيه من الجهاد في سبيل الله، ليس الجهاد هو المقاتلة فقط وإنما في بث الأعين وتلقي الأخبار وحماية الصف المسلم من أعدائه، كذلك مما كان يفعله الصحابة أنهم ينقلون للنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبار أهل النفاق، فأهل النفاق ابتليت بهم الأمة الإسلامية من زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان الله -عز وجل- من سنته أن يوجد ليميز الله -عز وجل- المؤمن من المنافق ويمتحن النفوس لقبول الإيمان، حتى يميز من كان إيمانه بالله -عز وجل- وبرسوله صدقًا، وبين من كان إيمانه هشًا؛ وجود هذا الصنف داخل الصف المسلم لا شك أن له أثر في صدق الإيمان وفي تنمية الإيمان وفي ثبات الإنسان على الإيمان، ولهذا الله -عز وجل- قال عن أهل النفاق وكان لهم الأثر: ﴿هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾[المنافقون: 4]، جمع أنواع العداوة فيهم لأنهم داخل الصف المسلم.
ولهذا كان علاقة باليهود وإلى يومنا هذا النفاق له اتصال بأعداء الدين من اليهود والنصارى الذين يحاربون أهل الإسلام، ولهذا قال الله -عز وجل- يعني لا بدَّ الإنسان أن يستفيد من الدروس: ﴿الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ﴾[الحشر: 11]، فدل على أن بعضهم أولياء بعض، المنافقون بعضهم أولياء بعض، والمنافقون وأهل الكفر من أهل الكتاب أولياء بينهم وعود وبينهم اتفاقيات، ولا يزالون يكيدون للأمة ويكيدون للإسلام ويوقعون في الصف المسلم، وخطورتهم أنهم يلبسون لباس أهل الإسلام وهم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وهم داخل الصف المسلم، فخطورتهم عظيمة جدًّا في الكيد للمسلمين.
ولهذا الله -عز وجل- انزل فيهم سورة "براءة" ولهذا سماه أهل العلم الكاشفة والمبعثرة، وأنزل الله -عز وجل- سورة بأسمائهم وهي سورة "المنافقون" ووصفهم الله -عز وجل- بأوصاف أو وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأوصاف وجعل لهم سيما، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ﴾[محمد: 30]، يعني إمالة القول وميلهم إلى الكفر والطغيان ومناصرة الكفر، لهذا واجب الصف المسلم أن يرد على أهل النفاق وأن يرد على أهل الكفر وهذا وظيفتهم في الدفاع عن الحق الذي يؤمنون به ويدافعون عنه، لأن الله -عز وجل- شرفهم.
غزوة الخندق الحقيقة وغزوة أحد وغزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن يدرسها الإنسان، من وجهين: من جهة أن يقرأ القرآن في أحداث السيرة، ومن جهة أخرى أن يقرأ أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في وقائع القصة، الجمع بين القرآن والسنة يفيد الإنسان فوائد عظيمة، مراجعة هذه الآيات التي نزلت وتذكر ما فيها ومراجعة كلام المفسرين ينمي في الإنسان معرفة عظيمة، ولهذا الله -عز وجل- في أكثر من موضع يقول أو في موضع: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾[الحشر: 2]، ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُو﴾، ما نفعتهم حصونهم ولا نفعهم أموالهم ولا نفعهم كيدهم ولا نفعهم تدبيرهم، بل وقع عليهم الأسر والقتل، فكان هذا أعظم الخزي عليهم وعلى المنافقين، فدائماً نسأل الله السلامة والعافية عاقبة الكفر والطغيان والمعاندة خسارة الدنيا والآخرة، فهم خسروا الدنيا والآخرة -نسأل الله السلامة والعافية من طريق الضالين ومن طريق المغضوب عليهم.
{شيخنا الكريم هل نختم هذه الحلقة بالحديث عن درس من أعظم الدروس في غزوة الخندق، وهو الصبر على البلاء في سبيل الله -عز وجل-، والصحابة -رضي الله عنهم- في غزوة الخندق صبروا صبرًا عظيماً، صبروا من حيث الجوع، صبروا من حيث الخوف، صبروا على البرد، صبروا مقاتلة الكفار، فهذا درس عظيم لأهل الإيمان والدعاة إلى الله -عز وجل- أن يصبروا في سبيل الله -عز وجل-}.
لا شك أن هذه الأمور الصحابة -رضوان الله عليهم- صبروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صبرًا عظيماً وأصابتهم الألواء، ووقع عليهم المصائب وفقدوا أحباءهم وفقدوا أشياء، لكن الله -عز وجل- أبقى لهم الذكر الحسن، فلا يذكر أحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ترضي عنه، يعني تصور كم في عدد الكفار وهم لا ذكر لهم إلا على سبيل الذم من رؤوسهم وصناديدهم، وأما أهل الإيمان فلا يزالون يذكرون بخير، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾[الجمعة: 4]، وما كان ذلك إلا لصدقهم ولصبرهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- وجمعنا بهم في مستقر رحمته وفي دار كرامته.
{أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك