{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، ضيفنا فيه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم يا فضيلة الشيخ، تحدثنا في الحلقة الماضية عن غزوة بدر وما فيها من الدروس والعبر، فماذا لدينا من الأحداث في هذه الحلقة لكي نستلهم منها الدروس والعبر؟}
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
سبق الكلام عن غزوة بدر وما فيها من الدروس العظيمة التي تستفيد منها الأمة إلى يومنا هذا، ولا شك أن أحداث السيرة جديرة بالاعتبار والتأمل واستلهام الدروس والعبر منها وبخاصة أن جملة من أحداث السيرة النبوية سُجلت ودونت في القرآن الكريم، وما نزل الوحي بها إلا لأجل أن تستفيد الأمة من هذه الأحداث، فما جرى على الصحابة -رضوان الله عليهم- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- سيجري على الأمة، وهكذا الإنسان يتقلب في أحوال الدنيا من حال إلى حال، من حال سراء إلى حال ضراء، من حال نصر إلى حال هزيمة، ولا شك أن المسلم يعتبر بهذه الأحداث ويستفيد منها سواء الأحداث التي تمر عليه في حياته أو الأحداث التي مرت في وقائع التاريخ ودونت، ولهذا كان القرآن فيه عظات وعبر، وفيه سجل أحداث وقعت على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا تحدث الله -عز وجل- عن غزوة أحد في مواضع متعددة، ومن ذلك أن جملة من آيات سورة "آل عمران" نزلت في أحداث غزوة أحد، وهو حدث عظيم تفاجأ الصحابة بوقوعه، وكان له الأثر في نفوس المسلمين، وكانت مصيبة على أهل الإسلام، ولكن هذه المحنة تحولت إلى منحة للصحابة ومن أكرمهم الله -عز وجل- بالشهادة وللأمة إلى يومنا هذا، ولهذا قال الله -عز وجل- في سورة "آل عمران": ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ [آل عمران: 152]، سجل أحداث المعركة ساعة بساعة وحدث بحدث، قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ يعني: بالنصر، وأن الله -عز وجل- ناصركم، قال: ﴿تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ﴾، وحسهم بقتله ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ﴾ هنا حدث الإشكال.
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾، ثم لأجل ذلك تغير الحدث، ثم قال: ﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ يعني: كان الصرف، يعني كانت الغلبة، ثم كان ذلك الصرف لهذه الغلبة، من غلبة إلى تحول آخر، قال الله -عز وجل-: ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾، إذاً كان هذا الابتلاء، ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ﴾،
ثم قال الله -عز وجل- في تبيان حدث من أحداثها: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾، بعد هذا الوقوع، وقوع الابتلاء، ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ يدعوهم النبي -صلى الله عليه وسلم- للبقاء؛ لأنه حدث هرج ومرج وحدث اختلاط بين الجيشين، لأنه كما هو معلوم أن خالد بن الوليد لما رأى جبل الرماة قد تجاوز عنه الرماة وخلى ذلك الجبل، التف هو وعكرمة بن أبي جهل على الصحابة، فدخلوا من الجهة التي من وراء ظهورهم، فتفاجأ الجيش الإسلامي بهذا الحدث، ولا شك أنه مع غزار المعركة ووقع السيف والنبل تكون هناك الدهشة، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ ثم قال: ﴿فَأَثَابَكُمْ غَماًّ بِغَمٍّ﴾ حدث هنا غم بغم الهزيمة، ثم غم آخر وهو أن الشيطان صرخ أن محمدًا قد قتل، ﴿لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ﴾، يعني: الله -عز وجل- جعل هذا الغم العظيم الذي هو غم الهزيمة وأعقبه غم أنساهم الغم الأول، ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[آل عمران: 153].
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاس﴾ بعد هذا الغم كان ذلك الفضل من الله -عز وجل-، ﴿أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ﴾ طائفة وهم أهل الإيمان غشيهم هذا النعاس، وكان هذا النعاس وقع عليهم في يوم بدر وفي يوم أحد، قال أهل العلم: وجاءت فيها أحاديث، أن النعاس في المعركة من الله -سبحانه وتعالى-، فهو من كرامات الله -عز وجل- لأهل الإيمان؛ لأن واقع المعركة ليست مقام نوم ولا نعاس ولكن لأجل أن يثبت الله قلوبهم أنزل عليهم هذا النعاس.
قال: ﴿يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾، وهم أهل النفاق، ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ﴾، يعني: بدءوا يلومون الصحابة الذين خرجوا إلى أحد، ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ﴾، وهو أن ينتصر الكفار وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيقتل وصدقوا صارخ الشيطان، ﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ يعني: النصر والهزيمة، ﴿يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم﴾ أهل النفاق، ﴿مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ﴾ يعني: هم يظهرون الإيمان، ﴿يَقُولُونَ﴾ فضحهم الله -عز وجل- في هذه الآيات، يقولون فيما بينهم: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ يعني: لو أن الأمر لنا ما خرجنا، ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَ﴾ يعني: ما قتل أصحابنا في هذا، وهو الذي قتل أكثرهم من الصحابة، أهل النفاق انخذلوا وهربوا، ﴿مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[آل عمران: 154 ].
ثم عاتبهم الله -عز وجل- عتابًا، أي: لأولئك الذين تولوا وانهزموا لما وقعت بوادر الهزيمة على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ ﴾ من الصحابة ﴿يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ﴾ بعد التفاف جيش المشركين عليهم ودخولهم على الصحابة من خلال جبل الرماة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُو﴾، يعني: بسبب ذنوبهم استزلهم الشيطان، وكانت أعظم معصية هو إخلاء جبل الرماة وعصيان أمر النبي -صلى الله عليه وسلم.
قال: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 155]، ثم الله -عز وجل- بيَّن فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُو﴾ يعني: كأهل النفاق ﴿كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ﴾ وأهل الكفر دائمًا يقولون ذلك، يعني: يلقون باللائمة على القدر، ﴿كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ﴾ سفراً ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُو﴾ الاحتجاج بمثل هذا وأنَّ الاعتراض على القدر، ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يعني: الاعتراض على القدر لو أني فعلت كذا لما كان كذا، هذا من العقوبة العاجلة على المؤمن بالإضافة إلى المصيبة، المصيبة وقعت فالاعتراض على القدر قال الله -عز وجل-: ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ حسرة يعني: الندم، دائمًا يتندم الإنسان على ما فات، وهذه طريقة أهل الكفر وليست طريقة أهل الإيمان؛ لأنهم لا يؤمنون بالقدر، فيقولون: لو أننا لم نفعل لما وقع كذا، فنهانا الله -عز وجل- أن نكون منهم.
ثم بيَّن -وهذه قاعدة- أن الحياة والموت بيد الله -سبحانه وتعالى-، فإذاً أنفس العباد بيد الله -عز وجل-، فقدر الله نافذ في خلقه، دائمًا الإنسان ربما يقول لو ما فعلت كذا لما كان كذا، لو أنه كذا وكذا، لا بدَّ أن يعلم الإنسان أن الحياة والموت بيد الله -سبحانه وتعالى-، ليس الإنسان هو الذي يملك الحياة، ولا هو الذي يملك الموت، فالذي يهب الحياة ويوقع الموت هو الله -سبحانه وتعالى-، فأنت عليك أن تجري مع قدر الله -عز وجل- بالإيمان والتسليم والرضا؛ لأنه هو يحيي ويميت، ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [آل عمران: 156].
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مُبينًا أنَّ القتل في سبيل الله شرف لأهل الإيمان؛ لأن شرف الشهادة لا يناله كل أحد، ثم قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾[آل عمران: 157]؛ لأن المؤمن إذا مات فإنه ينتقل إلى الدار الآخرة وينتقل إلى الجنة، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، هذا من نعمة الله -عز وجل- لهم، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[آل عمران: 169- 170]، فإذاً هذا شرف.
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ [آل عمران: 158].
ثم تحدث الله -عز وجل- عن موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه شاورهم،
ثم قال الله -عز وجل- في موضع آخر من سورتنا: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ﴾ هذا درس عظيم، يعني استفاد منها، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَ﴾، يعني أنتم أصابتكم مصيبة وقتل سبعين رجلا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -عز وجل-: ﴿قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَ﴾ يعني: قتلتم من المشركين سبعين وأسرتم سبعين في بدر، يعني لما جاءتكم مصيبة ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَ﴾، يعني كيف ينتصر علينا هؤلاء؟ وكيف وقعت علينا هذه المصيبة؟ قال الله -عز وجل-: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[آل عمران: 165]، لمعصيتكم لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم.
فإذًا درس عملي للصحابة أن النصر له أسباب، وهذه الأسباب حسية ومعنوية، والصحابة -رضوان الله عليهم- ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم اتخذوا سبب النصر الحسي، وهو أنهم رتبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على مقام لا يهزمون عليه، ولهذا قال للرماة: «إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ»، يعني لو أن أهل الشرك كان لهم الغلبة فلا تبرحوا مكانكم، هذا الجبل جبل الرماة الذي هو بجوار أحد، موضعه حماية أظهر المسلمين، ولكن لما رأوا أن أهل الإسلام يقتلون في أهل الكفر وفي جيش قريش ورأوا أنهم ينهزمون ورأوا المغانم، هنا أحدث الطمع الإنساني، بطبيعة الإنسان قد يضعف في مواضع، ومن المواضع التي يضعف فيها حينما يرى الدنيا مع وجود الإيمان عنده، فلهذا الله -عز وجل- قال: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾، من يريد الآخرة هو من ثبت مع عبد الله بن جبير، ومن يريد الدنيا هو من نزل، فغرته الدنيا لأنه رأى المغانم، وهم بطبيعتهم وحاجتهم وفقرهم بحاجة عظيمة إلى تلك المغانم لسد الحاجة التي لحقت بهم والخصاصة التي فيهم، ولهذا عاتبهم الله -عز وجل-، قال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾.
وهذا المشهد ينبغي أن يشهد الإنسان دائمًا، أن يشهد مشهد التقصير في نفسه، لا مشهد الابتلاء، لأنه بشهوده مشهد التقصير يعيد الحساب لنفسه وينكسر أمام الله -عز وجل- ويرى تقصيره، ويرى ضعفه، ويرى منة الله -عز وجل- عليه؛ لأنه قد يكون هناك ثَمَّ ابتلاء، لكن الأصل في المشهد أن يشهد الإنسان مشهد التقصير، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾، دائمًا الإنسان لما يتسلط الكفار على المسلمين أو يتسلط أهل الفجور والبغي على أهل الإيمان؛ عليه أن يراجع نفسه، لأن الله -عز وجل- بين سنة عظيمة لا بدَّ للإنسان ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾، من أنفسكم، ما كانت الهزيمة إلا بسبب أنفسكم، ولهذا بإجماع العلماء من أعظم سبب للهزيمة هو أن الرماة نزلوا من جبل الرماة وعصوا، ولهذا من الحكم أن الله -عز وجل- جعل الغلبة لقريش، ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُو﴾ هذه طائفة من المنافقين، منهم عبد الله بن أُبي بن سلول لأنه من لم يحضر المعركة، ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾[آل عمران: 167]، لأن أهل النفاق يكتمون إيمانهم، إلى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[آل عمران: 168].
ولهذا أحسن ما تقرأ أحداث السيرة إنما تقرأها في القرآن الكريم، وتقرأها بتدبر وتمعن تخرج لك منها فوائد عظيمة.
مثلاً قول الله -عز وجل-: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ وآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُو﴾ إذًا بذنوبهم، يعني: الذين تولوا والذين برحوا مكانهم لا شك أن ذلك من أسباب الهزيمة، طبعًا هي حدث تاريخي عظيم جدًّا يمكن لم يقع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله، ولكن سنة الله -عز وجل- عظيمة فيها.
طبعًا الآيات كثيرة في غزوة أحد، ربما يطول المقام في تفصيلها وفي بيانها لكن هذه إلمامة بسيطة عما ورد بالآيات.
من النقاط المهمة التي ينبغي أن ننبه عليها: أن غزوة بدر لم يكن سمة تكافؤ بين المسلمين وبين الكفار، كذلك في غزوة أحد لم يكن سمة تكافؤ في العدد، فجيش المسلمين سبعمائة مقاتل والكفار ثلاثة ألاف، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ الأسباب الحسية للنصر، فكانت الخطة محكمة في حماية أظهر المسلمين، ولكن وقع ما وقع ابتلاءً من الله -عز وجل- وامتحانًا لحكم يعلمها الله -عز وجل-، لهذا بعض من كتب قال: إن غزوة أحد لم تكن هزيمة وإنما كانت نصراً لما فيها من الدروس والعبر والمعاني العظيمة التي استفاد منها الصحابة ولم يكن بعد ذلك للكفار شأن ولا غلبة إلى وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
من الأحداث المهمة التي تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله -عز وجل-، وأنه ببشريته يتعرض لابتلاء ولامتحان ويجري عليه ما يجري على خلق الله -عز وجل-، من ذلك أن بعد أن جاء جيش خالد ومعه عكرمة من جبل الرماة وفاجئوا المسلمين وانخزل وتولى من تولى من الجيش المسلم، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بجوار أحد ومعه بضعة نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأراد الكفار أن يقتلوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، من ذلك ابن قمنة فإنه كان متدرعًا بدروع وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقاتل الصحابة -رضوان الله عليهم- معه قتالاً عظيماً، من ذلك سعد بن أبي وقاص وطلحة بين عبيد الله وأبو طلحة الأنصاري وغيرهم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين دافعوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأراد هؤلاء أن يقتلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- استغلوا الحدث، فأصيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، شج رأسه وكسرت رباعيته وفي بعض الروايات دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته -عليه الصلاة والسلام-، بعدما جاء الدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- صرخ الشيطان بين أظهرهم أن محمدًا قد قتل، هو أصيب -صلى الله عليه وسلم- في المعركة، وهذا دليل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقاتل معهم، فما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- منعزلًا عنهم، كان يقاتل، هذا درس عظيم للقائد أن يكون من أوائل المبادرين والمقاتلين والذين في الصف الأول في الدفاع عن التوحيد والعقيدة التي يدعو إليها، ولا شك أن في ذلك أثر عظيم في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدافعوا عنه الصحابة وسال الدم على وجهه -صلى الله عليه وسلم- وصار النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسح عن وجهه الدم ويقول: «كيفَ يُفلِحُ قومٌ قد خضَّبوا وجهَ نبيِّهِم بالدَّمِ وَهوَ يَدعوهم إلى اللَّهِ».
فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ آيات في ذلك، في قول من أقوال المفسرين: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 128]، في قول من أسباب نزول هذه الآية.
من الدروس التي دونها القرآن الكريم: عصيان الرماة، ولهذا الله -عز وجل- قال: ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم﴾، لاحظ أن الله -عز وجل- قال: الفشل والتنازع والعصيان، هو في ترتيبه الفشل نتيجة للتنازع والتنازع نتيجة للعصيان، فالعصيان وقع حينما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ»، هذا عصيان للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ» ومعهم عبد الله بن جبير، ذكرهم عبد الله بن جبير بأمر النبي، هم عصوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاختلفوا بينهم وبين قائدهم عبد الله بن جبير، حدث التنازع وصار الكلام، ثم وقع الفشل، يقول عبد الله بن مسعود: "ما شعرنا أن أحدًا يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد"؛ لأن الله -عز وجل- بيَّن النفوس البشرية بطبيعتها وطمعها، ولهذا فهذا أمر عظيم جدًّا درس للأمة، أن التنازع والعصيان لأمر الله -عز وجل- من أسباب تسلط أهل الباطل على أهل الإيمان.
كذلك من أحداث المعركة العظيمة: أن وقوع الفرار هذه معصية وقعت من بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والله -عز وجل- عفا عنهم، قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ﴾ ذكر هذا وبينه ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَماًّ بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ﴾، يعني قال أهل العلم: أنه غم الهزيمة، ثم غم الإشاعة أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد قتل، وكان الشيطان قد صرخ بهم أن محمدًا قد قتل، وهذا ما جعل بعضهم يولي ويخرج عن ميدان المعركة.
كذلك من وقعة أحد: أن الله -عز وجل- اتخذ منهم شهداء وشرفهم بذلك، شرفهم بالشهادة فيمن قتل.
كذلك من كرامات يوم أحد: النعاس الذي أصابهم في أحد بعد وقع الهزيمة، وقد غشى طائفة منهم وكان في جيشه -صلى الله عليه وسلم- جملة من أهل النفاق لم يغشاهم النعاس؛ لأن الله -عز وجل- قال: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ﴾، لأن خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- على كره منهم -كما قد تقدم-، وكان جملة من المنافقين لا يرون الخروج، فجعلوا ذلك ذمًا لمن أخرجهم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسبق أن ذكرنا من أسباب خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن جملة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشهدوا بدر وقد تحصروا على عدم شهودهم بدر، وكانوا متشوقين إلى القتال وإلى الجهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلهذا ألحوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج إلى المشركين في أحد وأن لا يبقى في المدينة، وكان رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يبقى في المدينة من جهة السياسة الحربية، ولكنهم ألحوا عليه في أن يخرج لأنهم قالوا: والله لا يأتوننا في ديارنا، وأرادوا أن يقاتلوا، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رغبتهم، استجاب لهم، وهذه من رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم، فلما لبس لَأْمَتَه وأخذ درعه وسيفه قالوا يا رسول الله: كأن أكرهناك، قال: «ما يَنْبَغِي لنبيٍّ لَبِسَ لَأْمَتَهُ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ»، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم.
من دروس وأحداث غزوة أحد درس عظيم ومسألة عظيمة جدًّا وهي من أركان الإيمان، وهي ما يتفاضل به المؤمن على الكافر، يعني سمة أمور كثيرة جدًّا يتفاضل بها أهل الإيمان على أهل الكفر، يعني: من يؤمن بالله واليوم الآخر، فمن أركان الإيمان، الإيمان بالقدر، هذا يظهر في حياة المؤمن واضحاً وبينًا وإنما يظهر عند وقوع المصيبة، إذا وقعت المصيبة فإن المؤمن يؤمن بقدر الله -عز وجل- ويعلم أن الأمور بيد الله -سبحانه وتعالى-، فيرضى ويسلم، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾[التغابن: 11]، قال علقمة بن وقاص الليثي: "والرجل تصيبه مصيبة"، هذا مؤمن "فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم"، لأنه لا يستطع أن يرد قدر الله -عز وجل-، قدر الله نافذ في خلقه.
وقال الله -عز وجل- عن أهل الإيمان: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[البقرة: 156]، يعني: أننا ملك لله -عز وجل- ونحن إليه راجعون، وبالتالي يجب في ذلك الموقف التسليم، ولهذا قال الله -عز وجل- مبينًا الفرق بين موقف أهل الإيمان وبين أهل الكفر ومنهم أهل النفاق: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَ﴾، فقال الله -عز وجل- مكذبًا لهم ومبينًا لهم نفاذ القدر فيهم وفي غيرهم: ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾، هذا يراه الإنسان من نفسه ومن وقائع الأحداث، فقد تخرج في حاجة أو يخرجك الله -عز وجل- لحاجة معينة ولو كنت تعلم الغيب ما خرجت، لأنه سيقع عليك واقع، عند ذلك لا يسعك عند ذلك أن لا تلوم فلان أن أخرجك أو عليك أن تسلم.
ولهذا الشيخ الإمام المجد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- عقد بابًا في كتابه كتاب التوحيد "باب ما جاء في لو"، يعني: في قوله: (لو)، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح عن أبي هريرة: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ» يعني: أَخْذُ الأسباب، «وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا، لكان كَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ» في رواية أو «قَدرُ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»، وعمل الشيطان بماذا؟ بأنه تصيبك الحسرة وأنت لا تستفيد، قضاء الله واقع عليك، فأنت حينما تلم نفسك أو تلم فلان، لو أنه لم يفعل كذا لما كان كذا، الأمر المقدور وقع فلا ينفع التلاوم، لأن التلاوم يورثك كما قال الله -عز وجل-: ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾.
الحسرة، الندم، والندم لا يفيدك إنما هو حسرة وألم نفسي وأنت لا تستفيد، ولهذا لا يجوز استعمالها عند معارضة القدر، أن تقول: لو أنه فعل كذا لما كان كذا، لو أنه لم يشارك في ذلك الشيء لما وقع عليه ذلك الحادث الذي سبب له العجز أو سبب له الموت، عليك أن تقول هذا قدر الله وقدر الله نافذ في خلقه، آمنا بالله، رضينا بالله ربنا والإسلام دينًا، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[البقرة: 156]، وأن تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا فاتك شيء يعني وقع عليك شيء: «اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْه»، هذا هو الواجب، أما لو أني فعلت كذا لما وقع هذا، هذا ما منه فائدة.
هذا أولاً فيه معارضة لقدر الله -عز وجل-، ثانيًا: بالأثر، فإنه لا أثر له إلا الألم النفسي عليك، أنك أنت لا تغير شيء من وقوع القدر، إذا أنت وقع عليك هذا القدر إذا لم تقل فلان ربما يحصل النزاع والخصام ولا فائدة، فدائماً عند وقوع القدر عليك أن تسلم، وأن تخرج من هذه المصيبة التي وقعت فيها، إما مثلاً مصيبة، حادث أو انفجار إطار أو كذا كذا، عليك أن تبحث عن المخرج، هذا هو المقام أن تبحث على ما ينفعك، خلاص وقع الشيء عليك أن تبادر بالحلول العاجلة لما أنت فيه، أما التلاوم ولو أني فعلت كذا، هذا ما منه فائدة، ولهذا العقل السليم يتوافق مع النقل الصحيح، لأن النقل الصحيح يوافق العقل، إذا وقعت المصيبة عليك، لكن استخدام هذه الـ لو لبيان الأفضل فلا شيء فيه، لأجل أن تعلم أنه كان الأفضل بك أن تفعل كذا وكذا، مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لمَا َسُقِت الهَدْيَ، ولَاَ جَعَلْتُهَا عُمْرَةً».
فإذًا هذا بيان أن التمتع أفضل «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ»، وكذلك مثلاً على وجه الإخبار أنه لو حصل فلان أو كذا لامك على شيء، قل: لو أني أعلم لماذا لم تزر فلان لو أعلم أن لو هو مريض لزرته، هذا ما اعتراض على القدر، إذاً لو إنما تكون في الاعتراض على القدر هذا الممنوع، وهذا الاعتراض لا يفيد شيئًا وإنما هو حسرة كما قال الله -عز وجل-.
كذلك من دروس غزوة أحد العظيمة وهو درس عظيم: أن حكمة الله -عز وجل- جرت بأن أهل الإيمان يبتلوا، وهذا فيه من الحكم ما لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، فالصحابة في حياتهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- رأوا ذلك الابتلاء في صف الجيش المسلم، ولا يزال أهل الإيمان يرون الابتلاء، ولهذا صح في الحديث الذي رواه البخاري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ المُؤْمِنِ كَالخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ» الخامة من الزرع يعني: نبات القمح، تسمى خامة، فإنك لو نظرت لها في الحقل لوجدت أنها من النبات الذي يتحرك لاتجاه الرياح، كانت الرياح شرقية تحرك شرقاً أو غرباً، فينعكس باتجاه الريح، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ المُؤْمِنِ» ضربه مثل «كَالخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ حَيْثُ شَاءَتْ»، وفي هذا مثل أن المؤمن يجري عليه القدر، يجري عليه الابتلاء والمرض، وفوات الأشياء والمصائب، فعليه أن يعلم أن ذلك من حكمة الله -عز وجل-،
وأن الابتلاء يحصل به فائدتين، والمصيبة يحصل بها فائدة.
أولاً: تكفير الذنوب، ثانيًا: رفعة الدرجات إذا صبر على مصيبة الله -عز وجل-، وأن من الذنوب ما لا يكفر إلا بمثل المصائب، وهذه من علامات الإيمان، يعني كثرة المصائب، يعني بعض الناس يرى أن المصائب تقع عليه وربما يتعجب، ويرى شخص آخر وهو مستقيم على طاعة الله -عز وجل- يرى شخص فاجر وعاصي لا يصيبه شيء، وهذا يبعث له من وساوس الشيطان أنه يستغرب، عليه أن يتذكر هذا الحديث، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ المُؤْمِنِ كَالخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ حَيْثُ شَاءَتْ، ومَثَلُ المُنَافِقِ كَالأرْزَةِ»، الأرْزَةِ يعني تجد بعض الناس مقيم على الطغيان والعصيان ومعصية الله -عز وجل- وهو يعني على ما هو عليه، ربما هذا من إمهال الله -عز وجل-، «كَالأرْزَةِ، لا يَكونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً واحِدَةً»، الأرْزَةِ شجرة الأرز، هذه رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشام ويعرفها العرب، الأرْزَةِ شجرة طويلة جدًّا لا يكون انجعافها إلا مرة واحدة، يعني سيكون لها السلامة بقدر الله -عز وجل- حتى يقع عليها قدر الله -عز وجل- بالفناء والهلاك، لأن الكل حتى الشجرة لها عمر بعد ذلك تزول وتنتهي، إما بريح قوية أو بهلاكها من نفسها، فيقع عليها قدر الله، وهذا من سنة الله -عز وجل- في الابتلاء.
انتصار الكفار فيه إمهال لهم، وفيه كيد لهم، إن الله -عز وجل- كاد بهم، ولو انتصر المسلمون في كل المعارك لما تمايز الصف المسلم، ولما كان الابتلاء من الله -عز وجل- والامتحان، ولهذا كان من أعلام أو من دلائل نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هُزم أصحابه يوم أحد وأدال الله عليهم الكفار ووقعت عليهم مصيبة وقتل منهم سبعون، ولهذا قال هرقل، هذا يعرفه كل أحد من أهل الكتاب، قال هرقل لأبي سفيان كما في صحيح البخاري: كيف الحرب بينكم وبينه، فقال: سِجَالٌ، لأن هذه المناقشة كانت بعد أحد، قال: سِجَالٌ؛ يُدَالُ علينا مَرَّة ونُدَالُ عليه الأخرى، فقال هرقل، يعلم مما في الصحف المتقدمة، قال: فَكَذلكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لهمُ العَاقِبَةُ.
من مواقف السيرة كذلك أن رؤى الأنبياء من الوحي، ورؤى غير الأنبياء قد تكون بشارة ونذارة إذا كانت رؤية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أحد رأى وحذر أصحابه، فقال: «رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ ثَلَمًا فِي سَيْفِي، وَرَأَيْتُ كأَنِّي أُدْخَلُ يَدَيَّ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ»، لهذا الرؤى كما صح في الحديث أنها أمثال يضربها الملك على رأس بني آدم، فهي من الوحي أو جزء من أجزاء الوحي كما صح في ذلك، جزء من ست وأربعين من النبوة، فهذه الأمثال كانت أمثال وعلى المعبر أن يعبرها، ولهذا قال أبو بكر -كان من معبري الرؤيا- وقد عبر بعض الرؤى فأصاب وأخطأ في بعضها ودل على أن المعبر قد يخطأ ويصيب، قال: أبو بكر: "أما البقر التي تذبح، فبعض أصحابك يرزقون الشهادة"، هذا قبل المعركة، "وأما الثلمة التي في سيفك فرجل من أهل بيتك يقتل" وقد وقع؛ لأنه قتل حمزة وكانت مصيبة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل حمزة، "وأما إدخالك يدك في درع حصينة فعودتك إلى المدينة سالماً إن شاء الله"، ووقعت كما عبرها أبي بكر -رضي الله عنه.
كذلك من أحداث أو من الوقائع التي سجلها القرآن الكريم في أحداث السيرة: انسحاب عبد الله بن أُبي بن سلول بثلاث مائة من المنافقين، ولا شك أن ذلك أثر في صفوف المسلمين، ولأجل انسحابهم همت بنو الحارثة وبنو سلمة بأن يرجعوا إلى المدينة، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَ﴾[آل عمران: 122]، ولكن الله -عز وجل- ثبتهم فبقوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم.
كذلك من المواقف التي دونت في كتب السير وذكرها أهل الحديث: موقف من المواقف العظيمة تدل على شجاعة الصحابي الجليل أبي دجانة سِمَاك بن خرشة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدء المعركة قال: «من يأخذ هذا السيف؟»، فبسطوا أيديهم كلٌّ إنسان منهم يقول: أنا أنا، لكنهم لم يلتفوا إلى شرط النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مبينًا هذا الشرط: «من يأخذهُ بحقه؟ أن يقاتل به حتى يسلب وحتى يكسر»، وهذا من تشجيع النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة وتثبت لهم، ، فأحجم القوم، فقال سِمَاك: أنا آخذهُ بحقه، قال أنس: فأخذهُ ففلق به هام المشركين".
جاء في بعض الروايات أن أبو دجانة صار يمشي بين صفوف الجيش ويتبختر في مشيته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّها لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُها اللَّهُ، إلّا في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ»، يعني التبختر والتكبر، ودل على أنه يجوز في حال مواقف إغابة العدو مثل هذه المواقف العظيمة.
{أحسن الله إليكم شيخنا الكريم، شيخنا الفاضل المصائب التي تصيب الإنسان، ذكرتم -الله يحفظكم- أنها تكون عقوبة لما اقترف من الذنوب، فإذاً هل يقول الإنسان في المصائب التي تصيبه، الأصل في المصيبة أنها عقوبة في ذنب ارتكبته، ويسلي نفسه بأن الله -عز وجل- سيكفر عنه هذه السيئات وأن الله سيرفع درجته إن صبر واتقى}.
صحيح، لماذا قلنا هذا؟ لأن وقوع المصاب دائر بين أمرين، بين أن الإنسان يشهد مشهد العجز والتقصير وبين مشهد الكمال والتمام، ولا شك أن أنفع للإنسان أن يكون مشهد أن يشهد نفسه بالتقصير، لأن الإنسان ما يخلو من التقصير مهما كان، فعليه أن يستبصر ويعرف أن هذه من الذنوب التي لا يعلم بها، فربما يفتش، وظيفة هذه المصيبة أن الإنسان يبدأ يفتح سجلاته الماضية، ربما ظلم إنسان، ربما أخذ شيء بغير حق، ربما تعدى، فإذا شهد هذا المشهد كان له مشهد المحاسبة وهذا نافع للإنسان، فعندما يفتش ويجد أنه في غالب أمره على خير، عليه أن ينتقل إلى مشهد آخر وهو مشهد أن يكون ذلك ابتلاءً وامتحان من الله -عز وجل-، لكنه لا يبادر في الوهلة الأولى، لأن المصائب والأذى الذي يقع على الناس متنوع ومتعدد، قد يكون من ولد، قد يكون من صاحب، قد يكون من زوجة، قد يكون، فلا بدَّ للإنسان أن يشهد هذا.
ولهذا يذكر في الآثار أن بعض السلف قال: "إني لأبصر ذنبي في خلق دابتي وفي خلق زوجتي" يعني إذا تغير، أعلم بأن ذلك ذنب اقترفته، فيبادر بالاستغفار والتوبة والحسنات الماحية، ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[هود: 114]، يعني يكثر الإنسان من الحسنات والصدقة والإنابة لله -عز وجل.
قال الفضيل: "لقد قلت معاصيهم، فعلموا من أين أوتوا"، يعني كان يعرف المعصية، فعلم من أين يأتي ولكن كثرت ذنوبنا فما علمنا أين نؤتى، وهذا حالنا إذا كان هذا حال فضيل فما بالك، لأن ذنوبنا كثيرة -نسأل الله أن يغفر لنا ويعفو عنا-، ولهذا دائمًا الإنسان يبادر بالاستغفار، لأن الاستغفار محو للذنوب، لأن الذنوب جراحات وهذه الجراحات لها آثار في حياة الإنسان، فعليه أن يكثر من الاستغفار لعل الله -سبحانه وتعالى- أن يعفو عنه وأن لا يوقع آثار المعصية، لأن آثار المعصية هي المصائب، فعليه أن يشهد هذا المشهد حتى يكون له الاستقامة والإنابة إلى الله -عز وجل-.
{أحسن الله إليكم.
السنة الثانية -إذن أذنتم- من سنن الابتلاء أنها تكون للمؤمنين، أن يكون المؤمن الذي عنده زيادة في الإيمان والتقوى أن يشدد عليه في البلاء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى المرءُ على قدْرِ دينِه، فإنَّ كان في دينِه صُلْبًا، اشْتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينِه رقةٌ ابْتُليَ على قدْرِ دينِه»}.
«مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُصِبْ منه»، نعم لا شك أن الإنسان إذا فتش وبحث ثم وجد هذا فإنه لا شك أنه يسارع ويبادر إلى التوبة حتى نستكمل قبل أن تبدأ الحلقة في مواقف بطولية كثيرة جدًّا، مثلاً موقف طلحة بن عبيد الله، قال قيس بن أبي حازم: "رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شلت"، للدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
كذلك من المواقف التي دونتها كتب السير: حنظلة بن أبي عامر، فإنه قتل مع من قتل في أحد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ لَتَغْسِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَاسْأَلُوا صَاحِبَتُهُ»، وكان حديث عهد بعرس،قالت زوجته: أنه خَرَجَ لمَا سَمِعَ الْهَيْعَةَ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» رواه الحاكم.
كذلك قتال حمزة، وقد قتله وحشي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سيدُ الشهداءِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ حمزةُ» -رضي الله عنه.
كذلك موقف أسليم بن عبد الأشهل فإنه أسلم يوم أحد ولحق بالمسلمين، فقاتل فنال الشهادة وهو لم يسجد لله سجدة، وكان يذكر أنه يمنعه من الإسلام أن له مال وربًا في الجاهلية، فخشي أن أسلم أنه لا يأخذه، فأكرمه الله -عز وجل- بالشهادة ولما قاتل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسلم، وهو قتل ولم يسجد لله سجدة.
قال جابر بن عبد الله كذلك من المواقف البطولية: "لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، فجاء له أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهون وهو لا ينهاني" يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- ما نهاه عن البكاء، إن الله لا يعذب عن البكاء، "وجعلت عمتي تبكي"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تَبْكِيهِ، أَوْ لا تَبْكِيهِ، ما زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأَجْنِحَتِهَا، حتَّى رَفَعْتُمُوهُ» هذا الحديث في البخاري ومسلم.
كان ختام المعركة أن أبا سفيان أخذته العزة بالإثم ونشوة الانتصار، فأشرف على المسلمين فقال: أفي القوم محمد؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تجيبوه»، قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لا تجيبوه»، قال: أفي القوم عمر؟ فقال: إن هؤلاء ولم يجيبوه، فقال: إن هؤلاء قتلوا ولو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يملك نفسه عمر فقال له: "كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخذيك"، هنا تظهر الشعارات، فقال أبو سفيان: اعلوا هبل، وهبل صنمهم كان في جوف الكعبة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: «أجيبوه»، لأن المسألة مسألة توحيد الآن ودفاع عن التوحيد، في السابق كان انتصار للنفس، هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، قال: «أَلاَ تُجِيبُونَهُ»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»، قال أبو سفيان: لنا العزة ولا عزة لكم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَلاَ تُجِيبُونَهُ»، قالوا: ما نقول؟ قال: «قُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»، وهذه الرواية في صحيح البخاري، وهذا يدل على أن نهاية المعركة كانت نشوة النصر جعلتهم يستقون ولكن الله -سبحانه وتعالى- جعل هذه المصيبة منحة لأهل الإيمان.
كذلك من دروس غزوة أحد ولعلها آخر درس نتكلم عنه: أن الإنسان يستبصر، كيف أن الله -سبحانه وتعالى- قد قيض للكفر أنصارًا وللإيمان أنصارًا، فلو نظرت وبحثت لوجدت أن هؤلاء ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله -عز وجل- ويبذلون أنفسهم في سبيل الشيطان، وأهل الإيمان ينفقون أموالهم فيثابون ويبذلون أنفسهم في سبيل الله، فيكون الثواب عند الله -عز وجل-، هذا فضل الله -عز وجل- على الإنسان أن يحمد الله -عز وجل- أن يشرفه بأن يكون من الدعاة إلى الخير ومن الدعاة إلى الرشد، ويتأمل ويعتبر في هؤلاء الذين يدعون إلى الكفر والطغيان ويشهد منة الله -عز وجل- عليه، أن الله -عز وجل- أكرمه بذلك.
{أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.