{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلًا ومرحبًا بكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات في حلقة جديدة من حلقات برنامجكم "البناء العلمي"، في هذه الحلقة نستكمل وإياكم شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" للإمام ابن كثير -رحمه الله-، وسيكون ضيفنا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، أهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله شيخ عبد الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{أمين، جزاكم الله خيرًا.
في حلقةٍ ماضيةٍ توقفنا عند احتلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وعند قول المؤلف: (ومن ذلك ما ذكره أبو العباس بن القاص)}، أبو العباس القاص مر معنا أنه من فقهاء الشافعية -رحمه الله-، {(أنه لم يكن يحرم عليه المكث في المسجد وهو جنب واحتجبوا بما رواه الترمذي)}، هو الآن يقول ابن كثير في بيان خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنَّ من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يجوز له أن يمكث في المسجد وهو جنب، معلوم أنَّ الجُنُبَ يحرم عليه المكث في المسجد، فهو يذكر هذا من خصائصه، طبعًا هم يستدلون بأحاديث والآن يتبين من خلال القراءة والتعليق أن هذا ليس من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن الأحاديث في هذا محل نظر وسندها لا يسلم من المقال.
{(واحتجوا بما رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة "عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَلِيُّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرِكَ». قال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد سمع البخاري مني هذا الحديث واستغربه)}.
سمع مني البخاري هذا واستغربه.
{(قلت: عطية ضعيف الحديث. قال البيهقي: غير محتج به، وكذا الراوي عنه ضعيف. وقد حمله ضرار بن صرد على الاستطراق)}.
يعني الآن الحديث في سنده مقال، واضح من الصناعة الحديثية وابن كثير -رحمه الله- يحسن ذكر الكلام على الأحاديث ويذكر ما في سندها من الخلاف والكلام، طبعًا واضح أنَّ هذا الحديث فيه نظر، ولهذا يقول الترمذي: "وقد سمع البخاري هذا الحديث واستغربه" فاستغراب البخاري -رحمه الله- هذا الحديث؛ لأن الحديث لا يسلم من مقال في سنده وفي متنه، أمَّا في سنده فقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- الكلام فيه، وأمَّا في متنه فالنَّكارة ظاهرة فيه وهو اختصاص النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحكم وعلي -رضي الله عنه-، وهذا الحديث لا يصح، فليس فيه دليل على أنه من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يمكث، والأصل في هذا الأمر عدم الخصوصية، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- حكمه كحكم غيره في هذه المسألة.
{(كذا حكاه الترمذي عن شيخه علي بن المنذر الطريقي عنه، وهذا مشكل، لأن الاستطراق يجوز للناس)}، المقصود بالاستطراق هنا جعل المسجد كطريق، ولهذا الفقهاء -رحمهم الله- يقولون: ويجوز الاستطراق في المسجد، هذه معنى الكلمة، المقصود بها أن يجعل المسجد طريقًا؛ لأن المساجد في السابق كان البنيان مختلفًا عن البنيان في هذا الزمن، فتقتضي الضرورة والحاجة أن يمر الإنسان بالمسجد لينتقل من مكان إلى مكان أو من زقاق إلى زقاق أو من طريق إلى طريق.
{(فلا تخصيص فيه، اللهم إلا أن يُدعى أنه لا يجوز الاستطراق)}، ابن كثير -رحمه الله- يقول: الاستطراق يجوز للناس وللنبي -صلى الله عليه وسلم- {(اللهم إلا أن يُدعى أنه لا يجوز الاستطراق في المسجد النبوي لأحد من الناس سواهم)}، يعني: عليٌّ والنبي -صلى الله عليه وسلم- {(ولهذا قال: «يَا عَلِيُّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرِكَ». والله أعلم. وقال محدوج الذهلي، "عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد)}، صرحة هذا المسجد يعني: الفناء، والآن العامة يقولون له: السرحة، والصرحة يجوز الإبدال بين الصاد والسين، يعني: هذا المقصود، والصرحة معروف وهو الفناء الذي يكون في خلف المسجد ويكون بدون بنيان.
{(فقال: ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا لحائض، إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعليٍّ وفاطمةٍ والحسن والحسين، ألا قد بينت لكم الأسماء أن تضلوا")}، طبعًا هذا الحديث كما ذكر وكما سيذكر في سنده مقال وفي متنه نكارة، لم يخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لا علي ولا فاطمة ولا آل بيته بأحكام في أحكام الشريعة دون الناس، {(رواه ابن ماجه والبيهقي، وهذا لفظه، قال البخاري: محدوج عن جسرة فيه نظر. ثم رواه البيهقي من وجه آخر عن إسماعيل بن أمية، عن جسرة عن أم سلمة مرفوعًا نحوه. ولا يصح شيءٌ من ذلك)}، هذا تصريح من ابن كثير أن الأحاديث هذه غير صحيحة، فلا يصح منها شيء ولكن ابن كثير -رحمه الله- في الخصائص يتابع أبو العباس بن القاص ولهذا يذكره كثيرًا في خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{(ولهذا قال القفال)}، القفال الشاشي وهذا من فقهاء الشافعية، {(ولهذا قال القفال من أصحابنا: إن ذلك لم يكن من خصائصه صلى الله عليه وسلم وغلَّط إمام الحرمين أبا العباس بن القاص في ذلك)} في السنن الكبرى للبيهقي يقول إمام الحرمين مشهور من فقهاء الشافعية، وهو مشهور، قال: هَوَّسَ ولا يدري، يعني: أبا العباس بن القاص، أي من أين قاله هذا الكلام؟ وإلى أي أصل أسنده؟ فالوجه القطع بتخطئته، يعني: أنه أخطأ في ذكر هذا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- واعتمد على أحاديث مُنكرة وأسانيدها واهية.
{(والله أعلم.
ومن ذلك طهارة شعره صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنسٍ أنه صلى الله عليه وسلم: لَمَّا حلق شعره في حجته أمر أبا طلحة يفرقه على الناس. وهذا إنما يكون من الخصائص إذا حَكَمنَا بنجاسة شعر من سواه)}.
يعني الآن ابن كثير -رحمه الله- يقول: ومن خصائصه أن شعره طاهر، ثم يتابع فيها ابن القاص في ذكر الخصائص، قال: (وهذا إنما يكون من الخصائص إذا حكمنا بنجاسة شعر من سواه)، والصحيح أن الشعر ليس بنجس، شعر الآدمي والساقط منه ليس بنجس، فإذًا هذا يدل على أنه ليس من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- ولا ينفرد بهذا الحكم.
{(المنفصل عنه في حال الحياة، وهو أحد الوجهين)}، عند الشافعية.
{(فأما الحديث الذي رواه ابن عدي من رواية ابن أبي فُديك، "عن بُريه)}، عن بُريه، بُريه هذا تصغير اسم إبراهيم، {(عن بُريه بن عمر بن سفينة، عن أبيه عن جده، قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير. أو قال: الناس والدواب". شك ابن أبي فديك، قال: فتغيبت به فشربته. قال: ثم سألني، فأخبرته أني شربته، فضحك. فإنه حديث ضعيف لحال بُريهٍ هذا واسمه إبراهيم، فإنه ضعيف جدً)}.
يعني الحديث إذًا ضعيف جدًّا ولا يصح، يعني هذا في مسألة شرب دم النبي -صلى الله عليه وسلم- وطهارة دم النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{(وقد رواه البيهقي من طريق أخرى فقال: "أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أخبرنا أحمد بن عبيد، حدثنا محمد بن غالب، حدثنا موسى بن إسماعيل -أبو سلمة- حدثنا هنيد بن القاسم سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث عن أبيه قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاني دمه فقال: اذهب فواره، لا يبحث عنه سبع أو كلب أو إنسان قال: فتنحيت فشربته، ثم أتيته فقال: ما صنعت؟ قلت صنعت الذي أمرتني. قال: ما أراك إلا قد شربته. قلت: نعم. قال: ماذا تلقى أمتي منك؟!")}.
هذا الآن في واقعة أخرى، هو أن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- شرب من دم النبي -صلى الله عليه وسلم-، طبعًا هذا الحديث في سنده مقال، وهذا يدعونا للكلام على دم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصل الدم، هل الدم نجسٌ أو طاهرٌ؟
وقع الإجماع من أهل العلم على أنَّ الدم المسفوح نجسٌ، ولكن ما دون الدم المسفوح، أي: غير المسفوح هذا فيه خلاف وأكثر أهل العلم على نجاسته، بل بعضهم حكى الإجماع في هذه المسألة، وشرب دم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو موضع الكلام هنا ورد في روايات متعددة، أقوى هذه الروايات رواية أنَّ عبد الله بن الزبير شَرِبَ دَمَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك فهذه الرواية لا تسلم من المقال، والصحيح أنه لا يثبت بإسناد صحيحٍ سَالمٍ مِنَ المقال أنَّ دم النبي -صلى الله عليه وسلم- شُرِبَ أَو شَربَهُ أحدٌ.
{(وهذا إسناد ضعيف لحال هُنيد بن القاسم الأسدي الكوفي، فإنه متروك الحديث)}، وكونه متروك وكذَّبه يحيى بن معين، هذا يدل على أنَّ السَّنَدَ واهٍ، {(وقد كذَّبه يحيى بن معين، لكن قال البيهقي: روي ذلك من وجه آخر عن أسماء بنت أبي بكر وسلمان الفارسي في شرب ابن الزبير دمه صلى الله عليه وسلم)}.
ذكرت لكم وذكرت للأخوة فيما يتعلق بأصح الروايات أو أقربها ما حصل من عبد الله بن الزبير، والأقرب أنها لا تصح، ثم انتقل المؤلف وجاء إلى مسألة أخرى، وهي المنفصل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفضلات النبي -صلى الله عليه وسلم- سواءً أن الدم أو العذرة أو البول، والصحيح أن فضلات النبي -صلى الله عليه وسلم- باقية على الأصل، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتنزه منها ويستجمر ويستنجي، بل كان مَنيُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كنت أغسله إذا كان رطبًا، وأحكه إذا كان يابسًا"، مع أنَّ الْمَنِّيَ مختلف في نجاسته وطهارته، فالأصل في هذا أنَّ فضلات النبي -صلى الله عليه وسلم- باقيةٌ على أصل بشريته، وإنما وقع من وقع من الفقهاء وتوسعوا مُغالاة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-،
والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن الغلو في حقه وأن نقف في مثل هذه الأمور الموقف الوسطي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تُطْروني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريم»، ولهذا غلا أقوامٌ وفئامٌ من الناس في النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى زعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خُلق من نور وأنه ليس كغيره من البشر، هذا من الغلو، وقعوا في محاذير وخالفوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا تُطْروني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريم»، وانحرفوا عن الصراط المستقيم.
وأفضل الهدي وخير الهدي هدي الصحابة -رضوان الله عليهم-، ولهذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يقفون من النبي -صلى الله عليه وسلم- الموقف المعتدل، لا شك أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة على كل مسلم، وأن من كمال الإيمان أن تكون محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب للإنسان من ولده ووالده ومن الناس جميعًا ومن نفسه، هذا أمرٌ مهم جدًّا، لكن هذه المحبة لا تحملنا على أن نغلو في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
تبعًا لذلك وقعوا في الغلو في النبي -صلى الله عليه وسلم-، فوقعوا في المحاذير، منها دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو -عليه الصلاة والسلام- نهى عن دعائه وعن دعاء غيره من الغائبين، بل القرآن من أوله إلى آخره فيه إبطال منهج أو طريقة أهل الشرك والكفر من دعاء غير الله -عز وجل-، ولهذا ضلَّ فئامٌ من الناس بسبب هذا الغلو، وقد حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغلو.
قال الله -عز وجل- قبل ذلك: ﴿يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ﴾ [النساء: 171]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في حَجة الوداع أخذ حُصيَّاتٍ يرمي بها الجمرات فقال بمثل هذا: «فارْموا وإيّاكم والغُلُوَّ، فإنَّما أهلَكَ مَن كان قبلَكمُ»، فلهذا مثل هذه المسائل تكون معلمًا عقديًا مهمًا، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يغلى في حقه ولا يتجاوز، وينبغي أن يكون الإنسان واقف على النصوص ما ثبت منها أُخذ، وما لم يثبت رُد، ولهذا نحن -بحمد الله- على طريقة الصحابة والتابعين، مثل: التبرك بما انفصل عن جسده -صلى الله عليه وسلم- هذا ثابت ووقع عليه الإجماع، ولهذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يتبركون بما انفصل عن جسده وبما باشر جسده الشريف -صلوات ربي وسلامه عليه- من اللباس ومن الآنية ومما انفصل عنه مثل الشعر ومثل الريق، كانوا يتبركون بريقه -صلى الله عليه وسلم- وثبتت هذا بأحاديث صحيحة، ولكن هذا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا ابن كثير -رحمه الله- ما أشار إليها، لكنه مُهم جدًّا أن يُعلم أنَّ التَّبرك بذات النبي -صلى الله عليه وسلم- وبما انفصل عنه إنما هو من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ثابت بيقين والأدلة واضحة ومتواترة ولا يخالف فيه أحد، بل وقع عليه الإجماع.
كذلك وقع إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- أنَّ التبرك بغيره -صلى الله عليه وسلم- ممنوع، ولهذا لم يُنقل ولو بإسناد ضعيف واهٍ أنَّ عُمَر -رضي الله عنه- أو الصحابة تبركوا بأبي بكر وهو خير الناس وأفضلهم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك بإسناد ضعيف، فدلَّ على أنَّ من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أن البركة متعلقة به.
وهذا ينقلنا إلى المسألة التي بعدها، هل بقي من آثاره -صلى الله عليه وسلم-؟
الصحيح شرعًا وتاريخيًا أنه لم يبقَ من آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء، لا من آنيته ولا بُردته ولا مِن شَعره -صلى الله عليه وسلم-، ولا مِن نَعله -صلى الله عليه وسلم-، فكل ما يُقال في هذا الباب الأصل فيه الكذب، ولا يثبت من جهة تاريخية؛ لأنَّ المنقول في كتب التاريخ أن كل آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- فنيت إما أنها دفنت مع من اقتناها طلبًا لبركة آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أنها فنيت مع تعاقب الزمن.
ثم إنَّ التعلق بهذه الآثار الحقيقة حيدة عن المعنى المهم والعظيم في الرسالة، وهو أن الآثار الحقيقية الباقية هو ما ورَّثه النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة من العلم النافع، وهو القرآن العظيم وما جاء في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن يزعم محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدعي محبته، فعليه أن يتابع ما جاء عن الله وجاء عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الذي به حياة القلوب، وأما هذه الأمور هي بركة انقطعت بانقطاع الزمان، لكن بركة سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبركة القرآن هذه ما زالت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليه، هذا معلم مهم جدًّا ينبغي أن يتنبه الناس له؟
{أحسن الله إليكم، (قلت: فلهذا قال بعض أصحابنا بطهارة سائر فضلاته -صلى الله عليه وسلم- حتى البول والغائط من وجه غريب)}، يعني هذا غير صحيح فهو استغربه ابن كثير، {(واستأنسوا في ذلك بما رواه البيهقي "عن أبي نصر بن قتادة، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن حامد العطار، حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا حجاج، عن ابن جُريج قال: أخبرتني حكيمة بنت أميمة، عن أميمة أمها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول في قدح من عيدان)}، قدح من عيدان يعني: أعواد من خشب {(ثم يوضع تحت سريره، "فبال فيه ووضع تحت سريره")}.
طبعًا هذا ثابت، في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخذ قدحًا من عيدان ويبول فيه ويضعه تحت سريره، هذا ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن الزيادة هذه هي موضع الكلام وهي غير صحيحة.
{(فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم لأم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة: "أين البول الذي كان في هذا القدح؟" قالت: شربته يا رسول الله". هكذا رواه، وهو إسناد مجهول)}، إذًا الإسناد فيه من هو مجهول ولا يصح {(فقد أخرجه أبو داود والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج، وليس فيه قصة بركة)}، يعني: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اتخذ قدحًا من عيدان، أمَّا قصة بركة فهي غير ثابتة ولا تصح، وقد قررنا فيما سبق أنَّ فضلاته -صلى الله عليه وسلم- باقية على الأمر البشري وذكرنا من الأدلة ما يكفي.
{(كتاب الصلاة: فمن ذلك الضحى والوتر، لما رواه الإمام أحمد في مسنده)}، الآن ابن كثير يتابع فيه أبو العباس بن القاص في كتابه في خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيذكر أن من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوب الضُّحى والوتر عليه، {(لما رواه أحمد في مسنده والبيهقي، من حديث أبي جناب الكلبي ـ واسمه يحي بن أبي حية ـ "عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى». اعتمد جمهور الأصحاب)}، الحديث هذا فيه نظر وفي إسناده من هو مضعف، ولهذا من المعاصرين -معاصرين الشيخ أحمد شاكر- حَكَمَ على هذا الإسناد في المسند بأن سنده ضعيف.
{قال -رحمه الله-: (اعتمد جمهور الأصحاب)}، الأصحاب المقصود به الشافعية {(على هذا الحديث في هذه الثلاث، فقالوا بوجوبه)}، يعني: على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{(قال الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله تعالى: "تردد الأصحاب في وجوب السواك عليه")}، تردد الأصحاب، يعني: الشافعية، الأصحاب هم الشافعية {(قال: رحمه الله: "تردد الأصحاب في وجوب السواك عليه، وقطعوا بوجوب الضحى والأضحى والوتر عليه، مع أن مُستنده الحديث الذي ذكرنا ضعفه)}، كأن ابن الصلاح -رحمه الله- يستنكر عليهم أنهم قالوا بوجوب الضحى والأضحى والوتر عليه مع أن الحديث ضعيف، بينما جزموا بأن السواك لا يجب عليه.
{قال -رحمه الله-: (ولو عكسوا فقطعوا بوجوب السواك عليه)} يعني: على النبي -صلى الله عليه وسلم- {(وترددوا في الأمور الثلاثة لكان أقرب، ويكون مستند التردد فيها أن ضعفه من جهة ضعف راويه أبي جناب الكلبي، وفي ضعفه خلاف بين أئمة الحديث)}، أبو جِناب الكلبي ضعيف الحديث وأحاديثه منكرة {(وقد وثقه بعضهم، والله أعلم.
قلت: جمهور أئمة الجرح والتعديل على ضعفه)}، هذا كلام ابن الصلاح، ابن الصلاح -رحمه الله- يقول: وثقه بعضهم، والآن يعقب عليه ابن كثير، يعني: الكلام على أبي جناب.
{قال -رحمه الله-: (قلت: جمهور أئمة الجرح والتعديل على ضعفه، وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في الثلاثة المذكورة ترددًا لبعض الأصحاب، وأن منهم من ذهب إلى استحبابها في حقه صلى الله عليه وسلم)}.
إذًا الخلاصة أنه لا تجب أو هذه الأمور ليست من خصائصه، {(وهذا القول أرجح لوجوه:
- أحدها: أن مستند ذلك هذا الحديث، وقد علمت ضعفه، وقد روي من وجه آخر في حديث مندل بن علي العنزي وهو أسوأ حالًا من أبي جناب)}.
مندل بن علي العنزي فيه كلام كثير أقرب ما يكون متروك الحديث.
{(وهو أسوأ حالًا من أبي جناب.
- والثاني: أنَّ الوتر قد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أنه كان صلى الله عليه وسلم يصليه على الراحلة)}، الآن بعد ما تكلم عن الضحى والصحيح أنه ليس بواجب، انتقل إلى المسألة التي بعدها وهو الوتر، الوتر هذا فيه كلام كثير جدًّا لكلامهم، هل واجب على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وهل من خصائصه أنه يجب عليه الوتر؟
{(والثاني: أن الوتر قد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر: أنه كان صلى الله عليه وسلم يصليه على الراحلة. وهذا من حجتنا على الحنفية في عدم وجوبه)}، الأحناف يرون وجوب الوتر، وهذه من مفردات مذهب أبي حنيفة وجوب الوتر، وجمهور أهل العلم على أنه ليس بواجب، ولهذا يقول ابن كثير: ومن حججنا، يعني في الرد على القول بوجوب الوتر، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الوتر على الراحلة ولو كان واجبًا لَمَّا صلاه على راحلته.
{(لأنه لو كان واجبًا لما فعله على الراحلة، فدل على أن سبيله في حقه سبيل المندوب، والله أعلم)}، طبعًا الصحيح في هذا أن الوتر وقيام الليل كان مفروضًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر، ثم نسخ في حقه -صلى الله عليه وسلم-، فصار مندوبًا ومستحبًا له ولأمته -صلوات ربي وسلامه عليه.
{(وأما الضحى فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنه كان لا يصلي الضحى إلا أن يقدم من مغيبه)}، يعني يقدم من مغيبه يكون مسافرًا أو غائبًا ثم يصلي، {(فلو كانت واجبة في حقه لكان أمر مداومته عليها أشهر من أن ينفى)}، الصحيح من دلالة الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يداوم عليها وإنما حث النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها، أي: على: صلاة الضحى، فكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يداوم عليها -كان يصليها ويتركها-، أما إثبات أنها سنة فهذا ثابت في الحديث، «يُصْبِحُ عَلى كُلِّ سُلامَى مِنْ أَحدِكُمْ صَدَقةٌ: وَيُجْزِيءُ ذلكَ ركْعتَانِ يَرْكَعُهُما منَ الضُّحَى»، وأحاديث صلاة الضحى واضحة وبينة وثابتة.
أحب أنبه إلى أن وقت صلاة الضحى يبدأ من شروق الشمس وارتفاعها قيد رمح، هذا هو وقتها، بعض الناس يُسميها صلاة الإشراق وكذا، حيث تبدأ هذا وقت الضحى وينتهي وقت صلاة الضحى بما يقارب الزوال، حينما تقرب الشمس من الزوال، وفي بعض الأحاديث: «حين يقوم قائم الظهيرة»، يعني: قبل الزوال، قبل أذان الظهر بعشر دقائق أو ربع ساعة ينتهي وقت صلاة الضحى، والوقت الباقي فهو مشروع، وأفضلها حين تَرمَضُ الفِصالُ، يعني: وقت اشتداد الشمس في وقت الضحى، ما يقارب التاسعة إلى العاشرة، هذا أفضل ما يكون من الوقت.
أما ما يفعله الناس من جهة صلاة الضحى وأنهم يمكثون في المسجد هذا فيه أحاديث في فضلها، ولا تسلم من المقال، وكان من هدي الصحابة ومن هدي أهل العلم أنهم يمكثون في المسجد إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح، ثم يصلوا، تكون هذه صلاة الضحى، ولا شك أن في ذلك فضيلة وفيها أحاديث للترغيب فيها، لا تسلم من مقال لكن مجموعها يدل على أن لها أصل، هذا فيما يتعلق بصلاة الضحى.
{أحسن الله إليكم، قال -رحمه الله-: (وما في هذا الحديث الآخر أنه كان يصليها ركعتين، ويزيد ما شاء الله)} من جهة عددها الأصل فيها أنه يصلي ركعتين، هذه صلاة الضحى، وله أن يزيد فيها، {(فمحمول على أنه يصليها كذلك إذا صلاها وقد قدم من مغيبه)}، في حديث أم هانئ في يوم فتح مكة النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ثماني ركعات في بيت أم هانئ، فدلَّ على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصليها ويترك وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث على هذه الصلاة، {(جمعًا بين الحديثين والله أعلم.
مسألة:
وأما قيام الليل -وهو التهجد- فهو الوتر على الصحيح، لما رواه الإمام أحمد "عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الوتر ركعة من آخر الليل " وإسناده جيد)}.
هذا فيما يتعلق بقيام الليل وقوله: إنه التهجد، وإنما يكون قيام الليل يصح عليه معنًى ولغة أنه يكون بعد نوم، هذا هو قيام الليل، ولكن هو صحيح أن قيام الليل يشمل ما بعد صلاة العشاء، فيعتبر من قيام الليل، فأفضله أن يكون بعد نوم كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جاءت فيه من الأحاديث، وقيام الليل صلاة الليل مثنى كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يصلي مثنى ثم يوتر، وأفضل الوتر لصلاة الليل أن يصليها ثلاث بسلام واحد أو يفصل بينهما بسلامين، يصلي ثنتين ويقرأ في الأولى بسورة: "الأعلى" والثانية: "الكافرون" ويوتر بركعة واحدة، هذا هو الوتر الذي يختم به قيام الليل، ولهذا يُستحب أن يكون آخر صلاة المسلم بالليل الوتر، فيختم بوتر، فله أن يصلي فيها ما يشاء، يصلي مثنى مثنى، النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته الدائمة ما زاد عن إحدى عشر ركعة كما قالت عائشة، كما ثبت في البخاري في رمضان ولا في غيره، ولهذا قال أهل العلم هذا لمن يطيل في صلاته، وأما من يختصر في صلاته أو يشق عليه الإطالة، النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطيل في صلاته -صلوات ربي وسلامه عليه- بل إنه مرة كما روى ذلك عنه بعض أصحابه استفتح بالبقرة فأكملها ثم النساء ثم آل عمران في ركعة واحدة، دل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم مقامًا طويلًا، فمن لم يستطع القيام الطويل فله أن يكثر من صلاة الليل، يصلي ثنتين يتجاوز الإحدى عشر.
{قال -رحمه الله-: (وإذا تقرر ذلك فاعلم أنه قد قال جمهور الأصحاب: إن التهجد كان واجبًا عليه، وتمسكوا بقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودً﴾ [الإسراء: 79].
قال عطية بن سعيد العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿نَافِلَةً لَّكَ﴾: يعني بالنافلة أنها للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، أُمر بقيام الليل فكتب عليه.
وقال عروة، "عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر قدماه")}، في بعض النسخ رجلاه وقدماه، ولا شك أن هذا يدل على أنه كان يقوم مقامًا طويلًا، وهذا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليس لغيره، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك، بلغه أن أحد النساء علقت حبلًا حتى إذا ضعفت تعلقت به، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّو»، ونهى أن الإنسان يطيل على نفسه، ولكن هذا من النبي، هذا مقام النبوة مختلف ليس لغيره، فالإنسان يصلي قدرته ولا يشق على نفسه في مثل هذا، ورغب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدوام على الأعمال وإن كانت قليلة، بعض الناس ينصرف أو يصلي ثم يطيل ثم يترك، المطلوب كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وأَنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللهِ أَدْوَمُها وإنْ قَلَّ»، الدوام مع القلة خيرٌ من الكثرة مع الانقطاع، ولكن هذا خاص من النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سيذكر.
{(فقالت عائشة: "يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟»)}، طبعًا هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- ولم يشر إليها ابن كثير، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا ليس لغيره ومع ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم هذا المقام الطويل ويخبت إلى الله -عز وجل-، هذا في مقام الشكر لله -عز وجل-، ولهذا قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورً».
{(رواه مسلم عن هارون بن معروف، عن عبد الله بن وهب، عن أبي صخر، عن ابن قسيط، عن عروة به)}، طبعًا هذا في الحقيقة فيه سنة عظيمة في مسألة قيام الليل أحب أن أنوه بها، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا حديث ثابت في الصحيحين، في البخاري ومسلم، أنه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن تَعارَّ مِنَ ليلة»، هذا يحدث للناس كثيرًا، «مَن تَعارَّ مِنَ ليلة» يعني قام من الليل، قد يقوم لحلم، قد يكون لآلم، قد يقوم لحاجة، «مَن تَعارَّ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو علَى كُلِّ شيءٍ قَديرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وسُبْحَانَ اللَّهِ، ولَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ، ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ، ثُمَّ دَعَا أو صَلى؛ اسْتُجِيبَ له».
وهذا فضل عظيم ينبغي للإنسان أن لا يغفل عنه، فإذا حصل منك أنك تعريت من الليل فلا تغفل عن هذا، فإن استطعت أن تدعو، فادعوا، وإن نشطت في قيامك فصليت، فلا شك أن هذا فضيلة عظيمة، ولهذا فيه ترغيب لقيام الليل، يعني سواءً كان هذا القيام عن دوام أو عن مفاجأة في حال النوم، فلا تنقطع عن هذا، لأن الإنسان قد يثقل عن قيام الليل، لكنه في الأعم الأغلب قد لا يثقل عن أن يتعار من الليل، لأن التعار يصيب كل أحد، أو أنه يقوم من الليل إما لحاجة -كما ذكرت- أو آلم أو شيء أو يشكل ذلك أو اتصال، فعليه أن لا يغفل عن هذه السنة النبوية وهذا الحديث فضيلة عظيمة جدًّا، أن يقول هذا الذكر ثم إن حصل له أن يصلي فهذا جيد وطيب وأفضل، وإن كسل عن هذا فليرفع يديه بالدعاء إلى الله -عز وجل- ويسأل الرب -سبحانه وتعالى- من كريم فضله وواسع جوده، وفي هذا الوقت الذي يجاب فيه الإنسان، ومع هذا لا يستعجل الإجابة، بعض الناس يقول حدث هذا، لا تستعجل الإجابة، عليك أن تدعو ربك وأن تلح على الله -عز وجل- وتنتظر من الله -عز وجل- الفرج وإجابة الدعاء، فإن انتظار إجابة الدعاء من العبادة لله -عز وجل- وانتظار الفرج بالإجابة وتسأل الله الكريم من فضله، وأعظم شيء أن تسأل الله الجنة وأن تستعيذ بالله من النار، لك ولذريتك ولأولادك وأن لا تنسى في هذا المقام أن تستغفر للمسلمين والمسلمات، لعل الله -سبحانه وتعالى- أن يصيبهم من بركات دعواتك خيرًا.
{(وأخرجاه من وجه آخر عن المغيرة بن شعبة. وروى البيهقي "من حديث موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة عليَّ فريضة وهن سنة لكم: الوتر، والسواك، وقيام الليل»)}.
مر معنا أن هذا غير ثابت، وأن الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مفروضًا عليه قيام الليل ثم نسخ، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك قيام الليل، ولهذا ربما عرض له حاجة أو عرض له عذر فلم يقم تلك الليلة، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي كان يقضيها في حال النهار.
{ثم قال -رحمه الله-: (ثم قال: موسى بن عبد الرحمن هذا، ضعيف جدًا، ولم يثبت في هذا إسناد، والله أعلم.
وحكى الشيخ أبو حامد رحمه الله تعالى)}، الغزالي، أبو حامد الغزالي {(عن الإمام أبي عبد الله الشافعي رحمه الله تعالى: أن قيام الليل نُسخ في حقه صلى الله عليه وسلم كما نُسخ في حق الأمة، فإنه كان واجبًا في ابتداء الإسلام على الأمة كافة)}، ثم نسخ، هذا كلام الإمام الشافعي -رحمه الله- واضح وبيَّن وهو الصواب.
{(قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وهذا هو الصحيح الذي تشهد له الأحاديث، منها حديث سعد بن هشام عن عائشة، وهو في الصحيح معروف. وكذا قال أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى-. قلت: والحديث الذي أشار إليه رواه مسلم من حديث هشام بن سعد أنه دخل على عائشة أم المؤمنين فقال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولً)}، يعني سنة، حول سنة، {(حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عش شهرًا في السماء، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة)}، هذا الحديث الذي ذكره حجة في هذا الباب وعلى ما ذكره الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة.
{(وقد أشار الشافعي إلى الاحتجاج بهذا الحديث في النسخ، ومن قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ قال: فأعلمه أن قيام الليل نافلة لا فريضة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة: وفاتته ركعتان بعد الظهر فصلاهما بعد العصر وأثبتهما، وكان يداوم عليهما كما ثبت ذلك في الصحيح. وذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم على أصح الوجهين عند أصحابن)}.
وهذا الظاهر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من خصائصه أنه كان إذا صلى أدام على هذه الصلاة، ففاتته ركعتان بعد الظهر وهذا الفوات لعذر، فصلاهما بعد العصر وأثبتهما، ولهذا الصحيح أن من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصلي بعد العصر ركعتين، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصلاة سائر الأمة؛ لأن من أوقات النهي بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، هذه من أوقات النهي، ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث أنه نهى عن أوقات ثلاث، الوقت الأول بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس قيد رمح، والوقت الثاني حين يقوم قائم الظهيرة إلى أن تزول الشمس، يعني قبيل الزوال بعشر دقائق أو ربع ساعة، هذا وقت نهي، والوقت الثالث من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، وهذا ثابت عنه -صلى الله عليه وسلم- من أحاديث كثيرة جدًّا، ولكن هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا صلى أدام على صلاته، فهذه المسألة.
{قال -رحمه الله-: (وقيل: بل لغيره إذا اتفق له ذلك أن يداوم لله عليهم)}، طبعًا هذه المسألة كلام، هل لغيره أن يقضي في وقت النهي؟
جماعة من أهل العلم يرون أنه هو من قضاء النافلة، الصحيح أن قضاء النافلة مستحب، يعني إذا فاتتك النافلة فيستحب لك أن تقضيها، هذه المسألة، وخُص قيام الليل بحكم آخر، وهو أن من كان من عادته الوتر مثلًا وكان يوتر في الليل لكن إما أنه شغله شاغل فلم يصله، فيشرع له أن يصليها في النهار ولكن لا يصليها وترًا وإنما يصليها شفعًا، إذا كان مثلًا يصلي عادته في الوتر أنه يصلي ثلاثًا، فليصليها أربعًا، يصليها ركعتين ركعتين قضاءً لهذه النافلة الوتر، وهذا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولغيره.
المسألة التي بعدها وهذا الذي أشار إليه ابن كثير -رحمه الله-: هل لغيره أن يفعل كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقضي النوافل وهذا ثابت، وهنا فاتته نافلة الظهر، فصلى صلاة العصر، صلاها بعد العصر ركعتين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى أدام على ما يفعل صلواته، هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-، هل هذا من خصائصه؟ هل يُقضى النوافل؟ يعني غيره لو فاتته نافلة الظهر، هل له أن يقضي النوافل في وقت النهي؟ أما الفرائض فالصحيح بإجماع أهل العلم أنها تُقصى الفرائض، النوافل هذه الذي حصل فيها خلاف، فجمع من أهل العلم، جمهور أهل العلم يرون أنه لا يُقضى في وقت النهي، وبعضهم هذا الذي أشار إليه ابن كثير، وهو الذي يظهر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنها من ذوات الأسباب، قضاء النوافل، فله أن يصلي، والصحيح -والله اعلم- والذي تدل عليه ظواهر الأدلة، أن النوافل مثل هذه التي يمكن قضائها في غير وقت النهي، فإنها لا تقضى في وقت النهي حتى لا يبقى للنهي عمومه وبقاء حكمه، فإنه لو قيل بمثل هذا لم يكن لهذا النهي واقع، فلا بدَّ أن يشعر هذا، يفهم هذا ويدرك، فوقت قضاء النافلة يسع في أوقات غير أوقات النهي، هذا الظاهر من هذه الأحاديث.
{(والله تعالى أعلم).
قال -رحمه الله-: (مسألة: وكانت صلاته النافلة قاعدًا كصلاته قائمًا إن لم يكن له عذر بخلاف غيره فإنه على النصف من ذلك)}، يعني هو ابن كثير -رحمه الله- كأنه يميل إلى أن صلاة النافلة.
ولعله -إن شاء الله- في الحلقة المقبلة نفصل فيها، لكن بما أنك قرأت بداية، صلاته -صلى الله عليه وسلم- في النافلة يخص بحكم آخر، وأنه إذا صلاها قاعدًا فله أجر القائم وذكر في هذا الحديث، ولعلنا -إن شاء الله- في الحلقة المقبلة نستوعب الكلام في مثل هذه المسألة، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{شكر الله لك فضيلة الشيخ ما قدمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصول لكم أعزائي المشاهدين والمشاهدات على طيب المتابعة، وإلى حلقة أخرى من حلقات برنامجكم البناء العلمي، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.