{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقةٍ جديدةٍ من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإيَّاكم على مائدة السيرة النبوية في شرح كتاب "الفصول في سيرة الرسول ﷺ" مع فضيلة ضيفنا/ أ.د. فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله يا شيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{اللهم أمين، كنا قد وقفنا عند قول المؤلف: (وكلمه ربه -سبحانه وتعالى- على أشهر قولي أهل الحديث، ورأى ربه عز وجل ببصره على قول بعضهم، وهو اختيار الإمام أبي بكر بن خزيمة من أهل الحديث، وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين)}.
طبعًا سوف يبيَّن ابن كثير -رحمه الله- أن هذه الرؤية -الرؤية البصرية- لم تقع على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإن كان اختلف فيها واختلف الصحابة، ولهذا كانت عائشة -رضي الله عنها- كما سيرد الآن، تجزم وتقطع بأن النبي ﷺ وهذا الذي تدل عليه ظواهر النصوص، أنَّ النبي ﷺ لم يرى ربه، وأن هذه الرؤية لا تكون إلا يوم القيامة، وأمَّا في الدنيا فإنها متعذرة.
{(وروى مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه رآه بفؤاده مرتين. وأنكرت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها رؤية البصر، وروى مسلم عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، رأيت ربك؟ فقال: «نور، أنى أراه»)}.
هذه من المرجحات، ولهذا ورد في الحديث «حِجَابُهُ النُّور»، وفي بعض الروايات «النَّارُ»، «لو كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ»، فَدَلَّ على أنَّ رؤية الله -عز وجل- متعذرة في الدنيا، وأنه احتجب عن خلقه بهذا النور.
{(وإلى هذا مال جماعة من الأئمة قديمًا وحديثًا اعتمادًا على هذا الحديث، وإتباعًا لقول عائشة رضي الله عنها. قالوا: هذا مشهور عنها، ولم يعرف لها مخالف من الصحابة إلا ما روي عن ابن عباس أنه رآه بفؤاده)}، رؤيا الفؤاد مختلفة طبعًا عن رؤيا البصر.
{(ونحن نقول به، وما روي في ذلك من إثبات الرؤيا بالبصر فلا يصح شيء من ذلك)}، وإنما الرؤيا التي جاءت في الروايات محمولة على رؤيا الفؤاد.
{(وما روي في ذلك من إثبات الرؤيا بالبصر فلا يصح شيء من ذلك لا مرفوعًا، بل ولا موقوفًا، والله أعلم. ورأى الجنة والنار والآيات العظام، وقد فرض الله سبحانه عليه الصلاة ليلتئذ خمسين ثم خففها إلى خمس، وتردد بين موسى -عليه السلام- وبين ربه جل وعز في ذلك)}.
كل هذا كان ليلة المعراج، وعرج به ﷺ إلى السماء، والإسراء كان ذهابه من مكة إلى بيت المقدس، {(ثم أهبط إلى الأرض إلى مكة إلى المسجد الحرام، فأصبح يخبر الناس بما رأى من الآيات)}، طبعًا لا شك أن هذه من مُعجزات النبي ﷺ -كما مر معنا- ولهذا فالأقيسة العقلية والأقيسة الحسية لا تتوجه لمثل هذه الأمور؛ لأن هذا أمر مُعجز، القول بأنه كيف يكون هذا؟ هذا الحقيقة انحراف عن المسلك الذي يجب تجاه هذه المعجزات، وإعمال العقول والأقيسة العقلية فيها ذريعة الخذلان وعدم التوفيق والزيغ عن الإيمان، هذا لابد من الإيمان بالغيبيات، وكما قلنا مما يبعثك على الإيمان بهذه الغيبيات إدراكك لمحدودية العقل، وأنَّ العقل محدود التصورات، ولهذا لا تعول على مدارك العقول، وأنا ذكرت فيما سبق أنَّ من مدارك العقول في الزمان السابق: أن الإسراء مُعجز، وأنه الآن في ذلك الزمان صار مُتيسر بل سهل، وربما يتحصل لكل إنسان، وهذا يدلك على أنَّ الاعتماد على العقول والأقيسة في مثل هذه الغيبيات، ولهذا لَما كان هذا من النبي ﷺ، أعني الإسراء والمعراج وإخبارهم، فأصبح يخبر الناس، حصل من بعض الناس توقف ممن أتبع النبي ﷺ أو ربما شيء من التردد مما يقوله المشركون ويسخرون من النبي ﷺ، قالوا: كيف تقول هذا؟ نحن نأخذ شهرًا لنصل إلى الشام، مسيرة شهر وشهرين وأنت تقول: ذهبتُ إلى بيت المقدس، ثم تزود على ذلك وتقول أني ذهبت إلى السماء وعُرج بي، فجعلوا يضحكون من النبي ﷺ ويجعلون موضوعه، حتى قالوا لأبي بكر: أما سمعت ما قال صاحبك أنه كذا؟ قال: "إن كان قد قاله فقد صدق"؛ لأن النبي ﷺ لم يُجرَّب عليه الكذب ولم يكن ليكذب، هذا هو التسليم لِمَا أخبر به النبي ﷺ، هو نبي ويوحى إليه، وكون أنك بعقل القاصر لا تدرك هذه الأمور، لا يعني أنها غير موجودة، فإذا أنت تعول على العقول، فأنت عند ذلك ستحرم الإيمان، وإنما كان الإيمان بالتسليم لِمَا جاء من الطريق الصحيح المنقول من كلام الله ومن كلام رسوله ﷺ.
{(فأما الحديث الذي رواه النسائي في أول كتاب الصلاة، قال: " أخبرنا عمرو بن هشام، قال: حدثنا مخلد هو ابن يزيد عن سعيد بن عبد العزيز، قال: حدثنا يزيد بن أبي مالك، قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتيت بدابة فوق حمار ودون البغل، خطوها عند منتهى طرفه)}، طبعًا هذه الدابة الذي حصل فيها الإسراء، والله -عز وجل- قادر على كل شيء، فهذا وصف النبي ﷺ لهذه الدابة، وصفها في هيئتها لم يُفَصِّل النبي وإنما وصف الهيئة العامة، أنها دابة ومركوبة وبين الحمار ودون البغل، وخطوها عند منتهى طرفها، دلَّ على أنها سريعة.
{(فركبت ومعي جبريل -عليه السلام-، فسرت، فقال: انزل فصل، ففعلت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة، وإليها المهاجر. ثم قال: انزل فصل، فصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء، حيث كلم الله موسى. ثم قال: انزل فصل، فصليت فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى)}.
طبعًا هذه زيادة على الحديث، أولها صحيح أما الزيادة هذه لا تصح، هذه التوصيلات، وأنا ذكرت لك أن بعض الأحاديث التي ورد فيها في متنها نكارة وفي سندها مقال، والآن لابن كثير بعد هذا الإيراد سيتكلم عنها.
{(ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل حتى أممتهم، ثم صعد بي إلى السماء الدنيا.. "وذكر بقية الحديث، فإنه حديث غريب منكر جدًا وإسناده مقارب. وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل على نكارته -والله أعلم)}.
بعض ما فيه في متنه صحيح وبعضه زيادات منكرة.
{(و كذلك الحديث الذي تفرد به بكر الله زياد الباهلي المتروك، " عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليلة أسري بي قال لي جبريل: هذا قبر أبيك إبراهيم انزل فصل فيه" لا يثبت أيضًا، لحال بكر بن زياد المذكور)}، وهذا لا يصح من جهة السند ومن جهة المتن، من جهة السند واضح أن فيه مقال وفيه مقدوح في أمانته وعدالته، فهذا بكر بن زياد كذاب، ونُقِلَ أنه كذاب في روايته يعني الحديث هذا أقرب ما يكون للحديث الموضوع، ثم في متنه نكارة لأن النبي ﷺ نهى عن الصلاة في المقابر، ونهى عن الصلاة عند القبور، يعني لا يكون هذا إلا ممن أضيف إلى السنة، والسنة النبوية من هذه الأحاديث بريئة، ولهذا صنفت المصنفات في الأحاديث الضعيفة والموضوعات تنقية لهذه السنة.
{(وهكذا الحديث الذي رواه ابن جرير في أول تاريخه من حديث أبي نُعيم عمر بن الصبح، أحد الكذابين الكبار)} قاعدة ينبغي أن تُعلم: أن أهل العلم في التصنيف إذا أوردوا بالأسانيد فإنهم يريدون الحديث الصحيح والضعيف، قد يرد الحديث الموضوع عادة ما يردون، لكن قد يرد الموضوع إما سهوًا من المؤلف أو خطًا من المؤلف، لكن هم يردون ويردون الضعيف جدًّا؛ لأن الضعيف والضعيف جدًّا بالمتابعات قد يقوى، قد يقوى بالمتابعات وبالطرق وبالشواهد، هذا يعرفه أهل الصنعة.
أنا أقصد أن ابن جرير أو ابن كثير أو غيرهم من أهل العلم حينما يورد هذه الأحاديث ويسوق هذه الأسانيد ويسوق هذه المتون، فإنه إنما يريد بها شيئًا آخر لا يريد بها أن الإنسان يأخذها ويعمل بها، لا بد للإنسان أن يتأكد من الحديث.
{(أحد الكذابين الكبار المعترفين بالوضع عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ذهب إلى يأجوج ومأجوج، فدعاهم إلى الله -عز وجل- فأبوا أن يجيبوه، ثم انطلق به جبريل -عليه السلام- إلى المدينتين ـ يعني [جابلق]، وهي مدينة بالمشرق)}.
كلها من الأحاديث القصاص، وظاهرة القصاص بدأت في عهد الصحابة ثم استمر الناس عليها، وبعض القصاص يعمد إلى مثل أحاديث الإسراء والمعراج، ولأن الناس يحبون أن يسمعوا مثل هذه الأحاديث ومثل هذه السيرة، فيضع فيها هذه الغرائب وربما يكون حاطب ليل فيورد كل ما نُقل لأجل الناس يرغبون في سماع هذا، لكن عند التحقيق وأحاديث الإسراء والمعراج -ولله الحمد- ثابتة في الصحيح، متونها الثابتة وما نقد فيها من جهة المتن أو من جهة السند فتكلم عليها أهل العلم، أصل القصة ما يُعلم أنه ثابت واضح وبين، كل هذا من الأحاديث التي لا تصح بحال.
{(وهي مدينة بالمشرق وأهلها من بقايا عاد، ومن نسل من آمن منهم، ثم إلى جابرس، وهي بالمغرب، وأهلها من نسل من آمن من ثمود ـ فدعا كل منهما إلى الله -عز وجل-، فأمنوا به. وفي الحديث أن لكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، ما بين كل بابين فرسخ، ينوب كل يوم على كل باب عشرة آلاف رجل يحرسون، ثم لا تنوبهم الحراسة بعد ذلك إلى يوم ينفخ في الصور، فو الذي نفس محمد بيده لولا كثرة هؤلاء القوم وضجيج أصواتهم لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هبدة وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب ومن ورائهم ثلاث أمم: منسك وتاويل، وتاريس)}.
كل هذه من أحاديث القصاص التي لا تصح بها، طبعًا أن ما أورده ابن كثير -رحمه الله- للبيان.
{(وفيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا هذه الثلاث أمم، فكفروا وأنكروا، وهم مع يأجوج ومأجوج. وذكر حديثًا طويلًا لا يشك من له أدنى علم أنه موضوع)} الآن ابن كثير يقول كل هذه الأحاديث موضوعة، مكذوبة، ولماذا أوردها؟ للحاجة يقول، الآن يبين لك السبب.
{(وإنما نبهت عليه ها هنا ليعرف حاله فلا يغتر به، ولأنه من ملازم ما ترجمنا الفصل به، ومن توابع ليلة الإسراء -والله أعلم)}.
رحم الله ابن كثير على نُصحه، وهذا الواجب على أهل العلم، أن يبينوا وأن يوضحوا للناس، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإذا الإنسان مَرَّ به مثل هذه الأمور إما في التصنيف وإما في الكلام، فلابد أن ينبه؛ لأن تنقية الدين من العوالق ومن الأكاذيب هذا من لوازم الدفاع عن دين محمد ﷺ.
{(فصل - وهاجر ﷺ من مكة إلى المدينة، وقدمنا ذكر غزواته وعُمره وحجته، وذلك كله من توابع هذا الفصل، فأغنى ذكر ما تقدم عن إعادته.
فصل سماعاته ﷺ:
قد قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم سمع كلام ربه عز وجل وخطابه له ليلة الإسراء، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «فنوديت أن قد أتممت فريضتي وخففت عن عبادي، يا محمد: إنه لا يبدل القول لدي، هي خمس، وهي خمسون»)}.
هذا الحديث في البخاري، يعني خمس في الفريضة وخمسون، وهي من فضائل الإسلام الظاهرة الصلوات الخمس، وهذه بشرى للمحافظين على الصلوات الخمس حيث ينادى بهن في المساجد، أن الله -عز وجل- قال وهو لا يُبَدَّلُ عنده القول: «إنها خمس وهي خمسون»، يعني: في الأجر والثواب، فهي بُشرى للمحافظين على هذه الصلوات بأن لهم أجر عظيم، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الذين هُم على صلاتهم دائمون، ويثبتنا على الإيمان حتى نلقاه، هذا مُهم جدًّا في مثل هذه الأمور.
{(فمثل هذا لا يقوله إلا رب العالمين، كما في قوله تعالى لموسى: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري»)}، كأن ابن كثير -رحمه الله- يشير إلى أن النبي ﷺ مُكلم وأن الله كلمه وأنه سمع صوت الرب -سبحانه وتعالى- وأنه كما أن موسى كليم الرحمن فمحمد ﷺ كليم الرحمن وكلمه الله -عز وجل-، وإنما كان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج، وهذا من فضائل النبي ﷺ.
{(قال علماء السلف وأئمتهم: هذا من أدل الدلائل على أن كلام الله غير مخلوق، لأن هذا لا يقوم بذات مخلوقة)}،
إنما قال بهذا القول أن القرآن مخلوق، قال بذلك الجهمية الذين فضحهم الله -عز وجل- بفتنهم التي امتحنوا الناس عليها حينما أظهروا هذا الأمر وزينوا للخليفة العباسي المأمون أن يمتحن الناس على هذه المسألة، التي هي مسائل الاعتقاد، وألزموا الصبيان في الكُتاب أن يتعلموا أن القرآن مخلوق، حتى وقف لهم إمام أهل السنة الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- فوقف تجاه هذا ونصر الله به السنة، ومن ذاك الوقت هو يسمى إمام أهل السنة، لهذا الموقف العظيم الذي بيَّن من خلاله كذب الجهمية والمعتزلة في نسبة هذا القول لأهل الإسلام، وأثبت ما تدل عليه الأدلة أن كلام الله -عز وجل- من صفاته -سبحانه وتعالى- وأنه غير مخلوق، وأن الله يتكلم بكلام لا يشابه ولا يماثل كلام المخلوقين، وأن الله يتكلم بحرف وصوت، بحرف يكتب وبصوت يسمع، وعلى هذا وقع إجماع أهل السنة وصنفوا المصنفات في ذلك، حتى أظهر الله تعالى به الحق، وإنما وقعت الجهمية والمعتزلة في مثل هذا حينما دخلوا في علم الكلام وخاضوا الخوض الباطل وأخذوا المقاييس العقلية والأقيسة العقلية ليجعلوها في دين محمد ﷺ، ودين محمد إنما قام على التسليم وعلى الوحي، ولم يقم على هذه الأقيسة العقلية التي هي زبالة أفكار الأمم من الرومان والإغريق وما شابههم، فكل هذا خلط بين الباطل والحق، والحق هو ما جاء عن الله وجاء عن رسوله ﷺ، بكتابه القرآن العظيم وبسنته ﷺ.
{(وقال جماعة منهم: من زعم أن قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه: 14] مخلوق، فهو كافر، لأنه بزعمه يكون ذلك المحل المخلوق قد دعا موسى إلى عبادته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.)}، يعني لوازم القول بخلق القرآن لوازم باطلة؛ ولهذا كفر الإمام أحمد من قال: إن القرآن مخلوق، وذكر أهل العلم تفاصيل لها مبسوطة في علم العقائد، ولعلنا ذكرنا ما يحصل به الفهم والعلم.
{( وقد روى صلى الله عليه وسلم عن ربه -عز وجل- أحاديث كثيرة، كحديث: «يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته..»)}، هو تكلم الآن عن القرآن، وأن القرآن كلام الله -عز وجل- من الله -سبحانه وتعالى- ليس بمخلوق، وقرر ذلك ابن كثير -رحمه الله- وأحسن، وهذا يبين عقيدة المصنف -رحمه الله- السلفية الأثرية، لكن هنا قال: (روى عن ربه) يعني: هنا الآن سيتكلم عن موضع آخر وهو الأحاديث الإلهية أو الأحاديث التي يُسميها بعض أهل العلم: الأحاديث القدسية، وهنا الحقيقة لا بدَّ من التنبيه إلى أن الأحاديث الإلهية والأحاديث القدسية صُنفت فيها مصنفات وذكرها أهل العلم، والفرق بين القرآن الذي هو كلام الله -عز وجل- لفظًا ومعنى وبين الأحاديث الإلهية، أن الأحاديث الإلهية هي كلام الله -عز وجل- أوحاها الله تعالى إلى رسوله، إما كفاحًا أو بواسطة جبريل، كفاحًا كما جاء في الحديث الذي سبق، فهي من كلام الله -عز وجل-.
إذًا القول بأن الحديث القدسي أو الحديث الإلهي هو كلام الله معنى واللفظ من النبي ﷺ هذا غلط، وإنما هذا تعبيرات المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة، أمَّا أهل السنة فيرون أن الحديث الإلهي أو الحديث القدسي هو كلام الله لفظًا ومعنى.
ما الفرق بينه وبين القرآن؟ ثَمَّ فروق وأظهر هذه الفروق: أنَّ الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، أمَّا القرآن فيتعبد بتلاوته، وكذلك أن الحديث القدسي ليس بمعجزٍ، أما القرآن فهو مُعجز في لفظه ومعناه، فمن خلال هذين الفرقين يتبين لنا الفرق بين القرآن الذي هو كلام الله وبين الحديث القدسي؛ لأنَّ الحديث القدسي الله -عز وجل- يتكلم بكلام -كما مر معنا- وكلامه في هذا ليس بمعجز، بمعنى أنه ليس بمعجز يعني يستطيع الإنسان ويمكن أن يُجعل أحاديث قدسية موضوعة، لكن القرآن لا، محفوظ وهذا من خواص القرآن.
{(وقد روى ﷺ عن ربه -عز وجل- أحاديث كثيرة، كحديث: «كلُّكُم جائِعٌ إِلَّا مَنْ أطعمْتُهُ ..» الحديث وقد رواه مسلم، وله أشباه كثيرة. وقد أفرد العلماء في هذا الفصل مصنفات في ذكر الأحاديث الإلهية، فجمع زاهر بن طاهر في ذلك مصنفً)}، زاهر بن طاهر النيسابوري، وتوفى سنة خمسمائة ثلاثة وثلاثين، جمع الأحاديث الإلهية وهو مطبوع الكتاب.
{(وكذلك الحافظ الضياء أيضً)} الحافظ الضياء صاحب الأحاديث المختارة من الحنابلة، اسمه عبد الواحد المقدسي وتوفي سنة ستمائة وثلاثة وأربعين، {(وكذلك الحافظ الضياء أيضًا، وجمع علي بن بلبان مجلدًا رأيته، يشتمل على نحو من مائة حديث)} ابن بلبانة هذا متوفى سنة ستمائة أربعة وثمانين تقريبًا، والمقصود أنَّ فيه مصنفات في الأحاديث القدسية وجمعت.
{(وقد ذهب جماعة من أهل الحديث والأصول أن السنة كلها بالوحي لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3 -4]، وهذه المسألة مقررة في كتب الأصول، وقد أتقنها الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "المدخل إلى السنن". واختلفوا هل رأى ربه سبحانه كما قدمنا.
وقد رأى جبريل -عليه السلام- هناك على صورته، وكان قد رآه قبل ذلك منهبطًا من السماء إلى الأرض على الصورة التي خلق عليها، وذلك في ابتداء الوحي)}.
هذا دل على أن جبريل رأى النبي ﷺ على هيئته مرتين، وكان من خواص الملائكة ومن خواص جبريل أنه يتصور، وهو قد يتصور بصورة أخرى، وجاء للنبي ﷺ في الحديث المشهور حديث عمر ليعلمهم أمور دينهم كما ورد في الحديث، قال: «رَجُلٌ شَدِيدُ بَياضِ الثِّيَاِب شَديدُ سَوَادِ الشَّعَرِ..» إلى آخر الحديث، كان جبريل يأتي في صورة أخرى، كان يأتي في صورة دحية الكلبي إلى النبي ﷺ ليبلغه الوحي، لكن صورته الحقيقية رآها النبي ﷺ كما ذكر ابن كثير مرتين.
{(وذلك في ابتداء الوحي، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ [النحم:5- 6])} ذو مِرَّة يعني: ذو رؤية حسنة {(﴿وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ فالصحيح من قول المفسرين ـ بل المقطوع به ـ أن المتدلي في هذه الآية هو جبريل -عليه السلام-، كما أخرجاه في الصحيحين "عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ذاك جبريل " فقد قطع هذا الحديث النزاع وأزاح الإشكال.
وقد قدمنا أنه اجتمع بالأنبياء ورآهم على مراتبهم، ورأى خازن الجنة وخازن النار، وشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، وتلقاه المقربون في الأخرى. وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد! مر أمتك بالحجامة». تفرد به عباد بن منصور)} الحديث فيه ضعف ظاهر.
{(وفي حديث آخر إلا قالوا: «مر أمتك يستكثروا من غراس الجنة: سبحان الله والحمد لله...» الحديث. وهما غريبان)}، لكن «أنهم غراس الجنة» ورد في أحاديث أخرى يصح فيها، يعني أن غراس الجنة: سبحان الله والحمد لله، وهذا فيه ترغيب في ذكر الله -عز وجل-.
{(ونزل عليه جبريل عليه السلام بالقرآن عن الله عز وجل على قلبه الكريم، وفي السيرة أنه أتاه ملك الجبال يوم قرن الثعالب برسالة من الله تعالى)}، قرن الثعالب هنا موضع تنبيه؛ لأنه يمر معنا قرن الثعالب ومر معنا قرن المنازل، هل هما موضعان مختلفان أم هما موضع واحد؟
الصحيح فيما يظهر أن قرن المنازل هو ميقات أهل نجد وأقرب ما يكون إلى الطائف، أما قرن الثعالب فهو موضع آخر، عند التحقيق في كتب البلدانيات يظهر أنه جبل مطل على عرفات، ممن قال ذلك الأصمعي هو متقدم وهو أقرب، فإذا تم فرق بين قرن المنازل وقرن الثعالب؛ لأنه ورد عن النبي ﷺ أنه َلَمَّا غاضبه قومه خرج النبي ﷺ على وجه وكان أسيفًا حزينًا، فلم يبصر إلا وهو بقرن الثعالب، قرن الثعالب أقرب ما يكون عرفة، يعني مسيرة بين مكة في حدود عشرين كيلو أو ما يُقاربها، فلعل هذا -إن شاء الله- يحصل به البيان.
{(وفي السيرة أنه أتاه ملك الجبال يوم قرن الثعالب برسالة من الله تعالى، فقال: إن شاء أن يطبق عليهم الأخشبين)}، جبلان في مكة، يحيطان بمكة {(فقال: بل أستأني بهم)} يعني: انتظر بهم وهذا من حلم النبي ﷺ، ومن نظر النبي ﷺ إلى مآلات الأمور، وفي بعض الروايات «لِعَلَّ اللهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يَعْبُدُ اللهَ لَا يُشْرِك بِهِ شَيئً»، وقد وقع ما تمناه النبي ﷺ أو ما كان يصبو إليه النبي ﷺ، فما مات النبي ﷺ إلا وقد أخرج الله من أصلاب هؤلاء من يعبد الله لا يشرك به شيء، قد قرت عين النبي ﷺ بذلك -صلوات ربي وسلامه عليه.
{(وفي صحيح مسلم أن ملكًا نزل بالآيتين من آخر سورة البقرة. وفي مغازي الأموي عن أبيه قال: وزعم الكلبي)}، مغازي الأموي هذه من كتب السيرة المفقودة، ومر معنا أنه من المصنفات في السيرة كتب المغازي، {(وزعم الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس)}، طبعًا الكلبي معروف أنه متهم بالكذب وهو كذاب، وهذا المثل الذي سيورده فيه نكارة ظاهرة، وكون الكلبي فيه ما يدل على أنه مكذوب.
{(عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الأقباض)} الأقباض هي المغانم {(وجبريل عن يمينه، إذ أتاه ملك من الملائكة قال: يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام فقال الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر: الذي أمرك به الحباب بن المنذر)}، وجه النكارة واضح، كيف تكون إذا كان هذه الأقباض معناها يجمع الأقباض ما جمع من الغنيمة؟ فواضح أن الأقباض لا تكون إلا بعد المعركة.
{(فقال صلى الله عليه وسلم لجبريل -عليه السلام- أتعرف هذا ؟ قال: ما كل أهل السماء أعرف، وإنه لصادق وما هو بشيطان". وهذا وإن كان إسناده ليس بذلك إلا أن له شاهدًا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل على أدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن كنت نزلت هذا المنزل بأمر الله فذاك، وإن كنت إنما نزلته للحرب والمكيدة فليس بمنزل. فقال: بل للحرب والمكيدة)} القصة صحيحة لكن هذه الرواية لا تصح، {(قال: فانطلق حتى تجلس على أدنى المياه من القوم ونعور ما وراءنا من المياه، كما تقدم في قصة بدر.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حدث عن قس بن ساعدة الإيادي بما سمعه يقول بسوق عكاظ، وفي سنده نظر.
و في صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس أنه صلى الله عليه وسلم حدث على المنبر عن تميم الداري بقصة الدجال)} حدث روى عنه،
وقصة الجساسة في صحيح مسلم من حديث فاطمة بنت قيس وفي آخر الصحيح في كتاب الفتن، من آخر الأحاديث قصة الجساسة وأن النبي ﷺ ذكر أن تميم الداري حدثه أنه ركب مع قوم، وأنهم ظلوا في البحر حتى أرستهم هذه السفينة على جزيرة، هم لا يعلمون ظلوا شهرًا في لجة البحر، فحدث تميم بما رأى وأنه رأى الجساسة، هذا الحديث حديث الدابة والدجال وأنه محبوس في صحيح مسلم، وهذا الحديث ثابت وصحيح وليس في متنه نكارة كما قال بعض الناس: إن في متنه نكارة، ليس منكر ولا يخالف ما ورد في الأحاديث وهو ثابت من جهة السند وليس فيه مقال من جهة المتن أو ليس فيه مما ينتقد، وهذا ذكره أهل العلم ورواه أهل الحديث، وهي قصة عظيمة وعجيبة وهي تبين قدرة الله -عز وجل- وتحذر من فتنة الدجال التي هي من أعظم الفتن التي ستقع في أهل الأرض أو تقع على أهل الأرض، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيذنا من فتنته ونحن نمتثل قول النبي ﷺ في الاستعاذة من فتنة الدجال.
{(فصل -السماع منه ﷺ:
وسمع منه أصحابه بمكة والمدينة وغيرهما من البلدان التي غزا إليها وحلها، وبعرفة، ومنى، وغير ذلك)} سمع الناس منه ونقلوا هذا السماع {(وقد سمع منه الجن القرآن وهو يقرأ بأصحابه بعكاظ، وجاءوه فسألوه عن أشياء، ومكث معهم ليلة شهدها عبد الله بن مسعود، إلا أنه غير مباشر لهم. لكنه كان ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان محوط عليه لئلا يصيبه سوء، فأسلم منهم طائفة من جن نصيبين رضي الله عنهم أجمعين)}.
مدينة على جادة القوافل، على طريق القوافل في الشام فيما يظهر، وبعضهم قال: إنها قرية في اليمن، لكن هؤلاء ينسبون إليها، {( فأسلم منهم طائفة من جن نصيبين رضي الله عنهم أجمعين)}، طبعًا
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ﴾ [الأحقاف: 29] هذا دليل أنَّ النبي ﷺ هو رسول الله -عز وجل- إلى الإنس والجن، وأن هؤلاء الجن سمعوا كلام النبي ﷺ ونقلوه وسمعوا القرآن وذهبوا لتبليغ هذا الجنس، يعني الجن هذا المكلف، ومن المكلفين الجن برسالة النبي ﷺ، وكون أن الجن لا يرون لا يعني أنهم ليس لهم وجود، وجودهم واضح وثابت في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، والله -عز وجل- قال: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ [الأعراف: 27]، قبيلته يعني الجن ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾، هذه من الأمور المعجزة العظيمة، أن الإنسان في هذه الحياة وفي هذه الدنيا وفي هذه المعمورة أي الأرض، يجالسه أو يصاحبه ويخالطه من الخلائق ما لا يحصون، منهم ما يراهم ومنهم من لا يرون، وممن لا يُرى هم الجن، ولهذا شرع الإنسان أن يستعيذ بالله -عز وجل-، وأن يُسمي، وأن يذكر الله -عز وجل-، وأن يعتصم من مردة الجن والشياطين؛ لأن لهم تسلط على الإنسان، فأعني أنه ليس كل ما لا يراه الإنسان بحواسه يقول: إنه غير موجود، وقد أثبت العلم الحديث وهذا فيه عبرة وعظة لأهل الإيمان ولغيرهم، أنه ليس كل ما لا يُرى أنه ليس له حقيقة، فثم مخلوقات خلقها الله -عز وجل- في هذا الكون لا تُرى، أثبت العلم الحديث الجراثيم والفيروسات أنها لا تُرى بالعين المجردة ومع ذلك لها وجود، من خلال المكبرات يرون الجراثيم والفيروسات وأشياء كثيرة جدًّا، هذا يفيدك في الإيمان أنك تعلم أنه ليس كل ما لا تبصره ولا تحس به أو لا تسمعه أن يكون ليس له وجود، لأن هذا النواميس الكونية ونواميس الأرض، الله -عز وجل- جعلها بنواميس، أعني قوانين تحكمها، فلا بدَّ أن تعرف أن هذا خلق الله -عز وجل-، والله -سبحانه وتعالى- خلقك لغاية عظيمة وعليك أن تعمل بهذه الغاية، أما الأمور الثانية فأنت لا تدرك أمورها ولا حقائقها ولا مآلاتها.
{(وقد روينا في الغيلانيات خبرًا من حديث رجل منهم يقال له عبد الله سمحج، وفي إسناده غرابة)}، روينا يعني :روى الحافظ ابن كثير، والغيلانيات نسبة إلى أبي طالب محمد بن إبراهيم بن غيلان، وهذا ابن غيلان تلميذ البزار واشتهر بهذا المسمى، والبزار هو أبو بكر محمد بن عبد الله البزار المتوفى سنة ثلاثمائة أربعة وخمسون، وهو غير صاحب المسند البزار المتوفى سنة مائتين اثنين وتسعين، كتابه -أعني البزار- اسمه الفوائد المنتخبة العوالي عن الشيوخ، فإذًا البزار كان ينتخب من الأسانيد العوالي، العوالي يعني: الإسناد العالي هو الذي ليس يكون بينه وبين النبي إلا عدد قليل من الرجال، هذا كان مطلوب عند أهل الحديث من المتقدمين ومن المتأخرين، ولهذا ابن كثير اعتبره متأخر، ورواه أبو طالب بن غيلان وهو آخر من روى عن البزار، ولهذا سميت أسانيده العالي بالغيلانيات، وهي أسانيد غالية مطبوعة الآن طبعتها مكتبة أضواء السلف موجودة في الأسواق.
{(وقد جاءه جبريل في صورة رجل أعرابي فحدثه عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة.
فصل -عدد المسلمين حين وفاته، وعدد من روى عنه من الصحابة:
قال الإمام أبو عبد الله الشافعي -رحمه الله-: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ستون ألفًا، ثلاثون ألفًا بالمدينة، وثلاثون ألفًا في غيرها.
وقال الحافظ أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي -رحمه الله تعالى-: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف)} طبعًا هذا في الظاهر، ولهذا قال بعض أهل العلم: أن من شهد حجة الوداع ما يقارب هذا العدد.
{(وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري: روى عنه صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف صحابي.
قلت: قد أفرد الأئمة أسماء الصحابة في مصنفات على حدة، كالبخاري في أول تاريخه الكبير، وابن أبي خيثمة)} كل هذا من طريقة التصنيف، بعض أهل العلم يصنف على أسماء الصحابة، وعلى هذا جرى الأئمة، ومنهم مسند الإمام أحمد، المسند الكبير العظيم، كان مصنف أو هو مصنف على رواة الحديث عن النبي ﷺ من الصحابة.
{(والحافظ أبي عبد الله بن مندة، والحافظ أبي نعيم الأصبهاني، والشيخ الإمام أبي عمر بن عبد البر، وغيرهم. وقد أفرد أبو محمد بن حزم أسماءهم في جزء جمعه من الإمام بقي بن مخلد الأندلسي، -رحمه الله تعالى)}، رسالته مطبوعة ألحقت بجوامع السيرة لابن حزم، اسمها أسماء الصحابة لكل واحد من العدد رسالة ابن حزم.
{(وذكر ما روى كل واحد منهم. وسنفرد ذلك في فصل بعد -إن شاء الله تعالى، ونضيف إليه ما ينبغي إضافته، وإن يسر الكريم الوهاب ذكرت من المسانيد والسنن ما روى كل صحابي من الأحاديث، وتكلمت على كل منهما، وبينت حاله من صحة وضعف إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)}، وأظن أن ابن كثير لم يتحقق له هذا.
{(فصل -خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
في ذكر شيء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يشاركه فيها غيره)}، طبعًا من المهم جدًّا في مسألة خصائص النبي ﷺ، أن يقصد أن النبي ﷺ خُص بأشياء، وهذا التخصيص للنبي ﷺ يُبَيِّنُ أمرين:
الأمر الأول:
أفضلية النبي ﷺ على غيره من الأنبياء وهذا ظاهر وبيَّن، ومع هذه الأفضلية كذلك لا بدَّ مِنَ العِلم أنَّ هذه الخصوصية وهذه الأفضلية تقتضي أَن لا يُخير بين الأنبياء، كون النبي ﷺ خُص بذلك لا يخير بين الأنبياء على وجه ما يُوهم التنقص من المفضول أو ما يُفضي إلى الخصام والنزاع، وهذا وردت فيه أحاديث.
فإذًا كون النبي ﷺ سيد ولد آدم كما قال: «أَنَا سَيدُ وَلَدِ آَدَمَ وَلَا فَخْر»، لا يقتضي ذلك هذا التخصيص وهذا التخيير وأنه خير الأنبياء وأنه خُص بأشياء لم يُخص بها ما سواه من الأنبياء، لا يعني ذلك أن يحمل هذا أو يذكر هذا على وجه التنقص، لأن من خصائص أهل الإيمان ومن لوازم الإيمان ومن أركان الإيمان: الإيمان بالرسل، ولهذا في خواتم سورة "البقرة" ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، يعني لا نفرق في الإيمان، وهذه من فضيلة شعيرة الإسلام، ومن فضيلة عقيدة المسلمين على غيرهم.
ولهذا مثلًا الأديان الأخرى، مثلًا اليهود والنصارى ربما يقولون في نبوة النبي ﷺ ما يقولون، نحن نؤمن بنبوة موسى نقول لليهود، ونقول للنصارى: نحن نؤمن بنبوة عيسى ونحن نعتقد أنهم أنبياء، ونعتقد فضلهم ونعتقد أنهم من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك فهذا الإيمان الذي نؤمن به ونؤمن بخيرتهم وبأن الله اصطفاهم، هذا لا يحملنا عليه إلا الإيمان بمحمد ﷺ، لأن الذي أمرنا بالإيمان بهؤلاء هو محمد ﷺ، ومن هنا يظهر لك فضل ما جاء به محمد ﷺ وفضل الدين الإسلامي على غيره من الأديان، بينما الأمم أو الديانات الأخرى مثل اليهود يكذبون بنبوة محمد ﷺ، وكذلك النصارى يكذبون بنبوة محمد ﷺ، وبعضهم يقول أنه أرسل للناس أو أرسل للعرب خاصة.
كل هذا تكذيب لرسالة النبي ﷺ وعدم إيمان، ومع هذا فالله -عز وجل- مع أن هؤلاء الأنبياء بعثوا بالتوحيد وقاموا بما أمرهم الله -عز وجل-، فإن أديانهم وشرائعهم منسوخة، لأن الله -عز وجل- لا يقبل بعد ما أرسل محمد ﷺ إلا دين محمد، ودين محمد الإسلام ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾[آل عمران: 85] هذه قاعدة أجمع عليها أهل العلم، فالتسوية بين دين اليهود ودين النصارى هذا انحراف عن الصراط المستقيم ولا يحقق شيء، لأن الإيمان بالإسلام هو إيمان بنبوة الأنبياء جميعًا، وهذا مما شرفت به عقائد أهل الإسلام.
{(فصل -خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
في ذكر شيء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يشاركه فيها غيره، وقد أكثر أصحابنا وغيرهم من ذكر هذا الفصل في أوائل كتب النكاح من مصنفاتهم، تأسيًا بالإمام أبي عبد الله صاحب المذهب)}، أي الشافعي {(فإنه ذكر طرفًا من ذلك هنالك وحكى الصيمري عن أبي علي بن خيران)}كذلك الصيمري أحد فقهاء الحنفية مُتوفى سنة أربعمائة ثلاثة وستين {(أنه منع من الكلام في خصائص رسول الله ﷺ في أحكام النكاح، وكذا في الإمامة، ووجهه أن ذلك قد انقضى فلا عمل يتعلق به، وليس فيه من دقيق العلم ما يقع به التدريب، فلا وجه لتضييع الزمان برجم الظنون فيه.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بعد حكايته ذلك: وهذا غريب مليح، -والله أعلم.
وقال إمام الحرمين: قال المحققون: وذكر الخلاف في مسائل الخصائص خبط لا فائدة فيه، فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس الحاجة إليه، وإنما يجري الخلاف فيما لا نجد بدًا من إثبات حكم فيه، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة)}.
يعني إيراد ابن كثير لهذه النقول هو الآن سيلتفت إليها ويبين أن هذا غير صحيح، وأن هذا من تفريعات الفقهاء وتزيدهم -رحمهم الله- الذي ليس هو مناسب، فالكلام في خصائص النبي ﷺ من العلم والعلم الذي يقع به النفع ويقع به الفائدة.
{(وقال الشيخ أبو زكريا النووي: الصواب الجزم بجواز ذلك، بل باستحبابه ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيدًا إذ لم يمنع منه إجماع، وربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتًا في الصحيح فيعمل به أخذًا بأصل التأسي، فوجب بيانها لتعرف، فلا يشاركه فيها، وأي فائدة أعظم من هذه؟!)}.
هذا أكيد ولا شك في ذلك، النبي ﷺ خُص بأشياء منها: أن النبي ﷺ تزوج أكثر من أربع نسوة، فكون أنه يعلم أن هذا من خصائص النبي ﷺ لا شك أن هذا مفيد له في العلم وفي العمل، فكيف يقال: إن خصائص النبي ﷺ لا فائدة من العلم بها؟!
{(وأما ما يقع في أثناء الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل جدًا لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدرب ومعرفة الأدلة. وأما جمهور الأصحاب)}، يقصد أصحاب الشافعية، لأن ابن كثير -رحمه الله- شافعي وكان يدرس في أربطة الشافعية ومدارس الشافعية كما معلوم من سيرته.
{(وأما جمهور الأصحاب فلم يعرجوا على ما ذكره ابن خيران وإمام الحرمين، بل ذكروا ذلك مستقصى لزيادة العلم)} يعني: إنما لم يلتفتوا لهذا الكلام وذكروه إنما هو في تفريعات مسائل العلم {(لاسيما الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص الطبري صاحب كتاب التلخيص)} هذا متون الشافعية المشهور، {(وقد رتب الحافظ أبو بكر البيهقي على كلامه في ذلك سننه الكبير، ولكن فرع كثيرًا من ذلك على أحاديث فيها نظر، سأذكرها إن شاء الله تعالى)}، كان لابن كثير -رحمه الله- أنه يسلك مسلك البيهقي -رحمه الله- في التفصيل.
{(وقد رتبوا الكلام فيها على أربعة أنحاء:
الأول: ما وجب عليه دون غيره.
الثاني: ما حرم عليه دون غيره.
الثالث: ما أبيح له دون غيره.
الرابع: ما اختص به من الفضائل دون غيره.
فذكروا في كل منها أحكام النكاح وغيرها، وقد رأيت أن أرتبها على نوع آخر أقرب تناولًا مما ذكروا -إن شاء الله تعالى-، فأقول وبالله التوفيق:
الخصائص على قسمين:
أحدهما: ما اختص به عن سائر إخوانه من الأنبياء، -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الثاني: ما اختص به من الأحكام دون أمته.
القسم الأول ـ ما اختص به دون غيره من الأنبياء ـ
أما القسم الأول: ففي الصحيحين " عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، فأيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي المَغَانِمُ ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً». فقوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»، قيل: كان إذا هم بغزو قوم أرهبوا منه قبل أن يقدم عليهم بشهر، ولم يكن هذا لأحد سواه)}.
هذه من خصائص النبي ﷺ كما ذكر ابن كثير -رحمه الله-، هذا خُص به النبي ﷺ، ولهذا من كان على هدي النبي لا يتحصل له مثل ما حصل للنبي ﷺ لكن له أثر، يعني هذا أثر دعوة النبي ﷺ والقيام بالحق له أثر في قلوب الأعداء، فكل ما كان الإنسان مستظهر بالحق الذي جاء محمد ﷺ، يكون له شيء من هذا الأثر، أثر أنه ينصر بهذا الحق الذي جاء به محمد ﷺ.
{(وما روي في صحيح مسلم في قصة نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- إلى الأرض، وأنه لا يدرك نفسه كافرًا إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي بصره، فإن كان ذلك صفة له لم تزل من قبل أن يرفع: فليست نظير هذا، وإلا فهو بعد نزوله إلى الأرض أحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني أنه يحكم بشرعه ولا يوحي إليه، بخلافها. -والله تعالى أعلم)}.
وهذا من عقيدة المسلمين الذين يفرقون بهذه العقيدة في الإيمان بعيسى عقيدة النصارى، أن النصارى يعتقدون أنه ابن الله -تعالى الله عما يقولون-، وأما أهل الإسلام فيعتقدون أنه رفع وقبضه الله -عز وجل- كما صرحت النصوص بذلك، وأنه -عليه الصلاة والسلام- أعني عيسى، أنه في آخر الزمان سينزل إلى الأرض ويحكم بشريعة محمد ﷺ، ومن خصائصه كما جاء في الروايات: أنه لا يدرك نفسه كافرًا إلا مات، ومن خصائص عيسى هذا ولهذا تكلم عليها، فهذه مفارقة للسابقة ولا تعني أنه دون النبي أو هو أعلى من النبي ﷺ، لأن مقام النبي ﷺ أعلى من مقام عيسى -عليه الصلاة والسلام-، وعيسى حينما ينزل إلى الأرض يحكم بشريعة محمد ﷺ، فهذا تفصيل ابن كثير لهذه المسألة.
{(وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورً» فمعنى ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: «إن من كان قبلنا كانوا لا يصلون في مساكنهم، وإنما كانوا يصلون في كنائسهم». وقوله «وطهورً» يعني به التيمم، فإنه لم يكن في أمة قبلنا، وإنما شرع له صلى الله عليه وسلم ولأمته توسعة ورحمة وتخفيفً)}.
هذه من خصائص هذا الدين ومن خصائص ما جعل بمحمد ﷺ، أن جعلت له الأرض مسجدًا وطهورا، ويعني بذلك أنه يصلي المسلم في أي مكان، والطهور عند تعذر الوضوء بالماء فإنه يتيمم، وهذه من خصائص هذا الدين الإسلامي، لعلنا -إن شاء الله- نكمل ما ذكره ابن كثير -إن شاء الله- في الحلقة المقبلة، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- الجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين}.
جزاكم الله خيرًا.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.