{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{شيخنا الفاضل تحدثنا في الحلقة الماضية عن غزوة الخندق وما فيها من الدروس والعبر، فهل تحدثوننا في هذه الحلقة عن صلح الحديبية، هذا الحدث العظيم الذي يحتوي على الكثير من الدروس والعبر.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
صلح الحديبية سماه الله تعالى فتحًا، وبما يتعلق بالحديبية فالنبي -صلى الله عليه وسلم- عزم أن يعتمر، ورأى -صلى الله عليه وسلم- رؤيًا أنه دخل مكة مع المسلمين وأنه طاف بالكعبة محرمًا معتمرًا، فبشر أصحابه، وأنزل الله -عز وجل-: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ...﴾ [الفتح: 27]، الآيات.
فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وخرج -صلى الله عليه وسلم- ومعه ألف وأربعمائة يريدون العمرة، خرجوا محرمين لا يحملون معهم من السلاح إلا سلاح السفر، ولَمَّا وصلوا الحديبية وهي مكان قريب من مكة منعهم المشركون من دخول مكة، والحديبية الآن موضعها أقرب ما يكون إلى الشميسي، الشميسي الآن بجوار مكة معروف قبيل الدخول إلى الحرم أو على حدود الحرم، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قريشاً جهزت لحربه، فأرسل خراشة بن أمية، ثم عثمان بن عفان لإخبارهم أنه إنما جاء معتمرًا لا مقاتلًا، لكن قريش احتبست الرسل وتأخر مجيء عثمان، بل أشاع بين المسلمين أن قريشاً قتلت عثمان -رضي الله عنه-، فجمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه لمبايعته تحت الشجرة على مواجهة قريش، وسميت تلك البيعة المشهودة التي نوه الله بذكرها في القرآن ببيعة الرضوان، وفيها أنزل الله -عز وجل-: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيب﴾[الفتح: 18].
عند ذلك تكلم أهل النفاق في ما حدث، فلما منع المشركون النبي -صلى الله عليه وسلم- من دخول الحرم، بدأ أهل النفاق يطعنون في محمد -صلى الله عليه وسلم-، يقولون: وأين الرؤيا التي رآها محمد -صلى الله عليه وسلم- أنهم يدخلون مكة معتمرين محرمين، عند ذلك لما علمت قريش بهذا وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تجهز لقتالهم وأن أصحابه بايعوه على أن يقاتلوا حتى الموت، أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي لاستطلاع أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، إن كانوا أتوا إلى العمرة أو أتوا لقتال قريش، ثم بعد ذلك لَمَّا رأوا ما رأوا أرسلت قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنهم لا يعتمرون في هذه السنة وإنما يكون بعد ذلك في العام المقبل، وهذا بند من بنود صلح الحديبية.
طبعًا المسلمون متجهزون لقتال قريش، فلما قدم عليهم سهيل بن عمرو ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سهيلاً قال: «لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»، وجاء سهيل ببنود الصلح مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وافق عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت هذه البنود بعضها في ظاهرها أنه فيه حيف على أهل الإسلام.
ومن ضمن البنود التي اتفقوا عليها: أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ومن معه يعودون إلى ديارهم وأن لا يعتمروا في هذا العام، وإنما يعتمرون في العام المقبل حفظًا لمكانة قريش، وأن تقام هدنة بينهم وبين قريش إلى أمد، هذا الأمد سمي عشر سنوات، ومن ضمن بنود الصلح: عدم الاعتداء على أي قبيلة في أي عهد منهم، يعني: من عهد محمد -صلى الله عليه وسلم- أو عهد قريش، ومن أراد الدخول في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد الدخول في عهد محمد -صلى الله عليه وسلم- دخل فيه، ومن ضمن البنود أن يرد، -وهذا يمكن أقوى أثر على المسلمين، وقد ظهر للصحابة أن فيه حيف عليهم- وكان هذا الشرط أن يرد من أتى إلى المدينة أو أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريش، من أتاك من مكة أو خرج من مكة ترده إلينا، وأن لا يرد من جاء إلى المدينة من أهل مكة، لا شك أن هذا شرط ثقيل على الصحابة، ولهذا واجه النبي -صلى الله عليه وسلم- صعوبة في إقناع المسلمين بتلك البنود التي يظهر فيها الحيف والظلم، ثم استجاب الصحابة لأمره -صلى الله عليه وسلم- وانقادوا لتوجيهاته -صلى الله عليه وسلم-.
طبعًا هذا الأمر لا شك أنه كان له أثر في صلح الحديبية، ولهذا كان ثقيل على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن خلاصة هذه القصة ممكن أن نقف وقفات للعبر والاعتبار فيها.
أولاً: هذا الصلح مضى بقدر الله الكوني القدري الذي فيه اختيار العبد غير ظاهر، فكانوا يريدون العمرة لكنهم منعوا وألزموا بالصلح، واختاروا الصلح ولم يطوفوا بالبيت، رغبتهم وشدة الرغبة عندهم في ذلك لكنهم منعوا، ولهذا نقول: إن اختيار الله للعباد خير من اختيارهم، دائمًا اختيارات الله -عز وجل- لا بدَّ الإنسان أن يستجيب لقدر الله -عز وجل- ويرضى به، ولهذا شرع للأمة صلاة الاستخارة وأن تطلب الخير من الله -عز وجل- «اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ،فإنَّكَ تَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ» حديث جابر المشهور في دعاء الاستخارة؛ لأن الإنسان لا يعرف ما فيه الخير وعلمه قاصر، ودائمًا فيما يعطى وما يمنع دائمًا يستصحب الإنسان أن الأمر قد يكون اختيار من الله -عز وجل-، فلا يأسى على ما فات ولا يفرح بما وقع، بل يستجيب ويدعو ويسأل الله -عز وجل- أن يجعل في هذه الاختيارات الخير له والعاقبة الحميدة له، كم من الأمور قد تكون في ظاهرها ظلم عليك وحيف عليك وأذى عليك، ثم تكون عاقبتها حميدة، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 216].
فعلم الله -عز وجل- شامل لكل شيء، فقد يكون اختيار الله -عز وجل- خير من اختيارك، فعليك أن ترضى وتسلم لهذه الاختيارات التي ليس لك فيها مشيئة ولا اختيار.
عمر -رضي الله عنه- اعترض على هذا البند من بنود الصلح أو هذا الشرط، وهو أن من جاء مسلماً يرد إلى قريش، جعل عمر يأسى ويحزن لهذا، أنه في أثناء عقد الصلح وهم يكتبون هذه الشروط جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، جاء خارجاً من مكة وقد كان أسلم ويعذب حتى يترك دينه، فجاء يرصف في قيوده، رآه المسلمون، هذا من عظيم الابتلاء، فقال سهيل: هذا أول من أشاركك عليه، يعني أول من يكون له أثر في هذا الشرط، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إننا لم ننته من الكتاب بعد، قال: إذاً لا أكتب شيء ولا أمضي، والنبي -صلى الله عليه وسلم- له رغبة في أن يكون هذا البند، وإن كان في ظاهره أن فيه حيف؛ لأن المصلحة العظمى تشمل وتغتفر لأجلها المفسدة الأقل، وهذه قاعدة في الشريعة: أن جلب المصالح والمصلحة الأعظم هو أولى من ارتكاب أدنى المفسدتين، ولا شك أن رد أبا جندل إليهم فيه مفسدة، لكن المصلحة الأعظم تقتضي أن يمضى الصلح، ولهذا غضب عمر وقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ ألسنا على الحق يا رسول الله وهم على الباطل؟ قال: «بلى»، قال: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟
شخصية عمر شخصية قوية، لكن جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حاسمًا، ولهذا أتى بأبي بكر بعد ذلك فوجهه، أمَّا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- له، قال: «إنِّي رَسولُ اللَّهِ، ولَسْتُ أعْصِيهِ، وهو نَاصِرِي»، فدل على أن إمضاء الصلح كان وحي من الله -عز وجل-.
وعند الوحي لا مكان للرأي، ولهذا لما جاء لأبي بكر، قال أبو بكر: "إنه رسول الله ونحن لا نعصيه"، استجابة من أبي بكر -رضي الله عنه-، ولهذا هذا الصلح سماه الله -عز وجل- فتحًا بقول جمع من المفسرين ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِين﴾ [الفتح: 1]، أنه المراد به صلح الحديبية.
ولهذا قد يؤتى الإنسان من قِبل اختياره وحرصه، فهذا الشرط الذي حرص عليه سهيل وحرصت عليه قريش كان فيه الأذى لهم وهم لا يعلمون، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، ولهذا قالوا: مَن جَاء مسلمًا يرد إلينا، وهذا البند سَبَّبَ لهم مشكلة اقتصادية، لماذا؟ لأنه شكل خطراً اقتصادياً على قوافلهم؛ لأن أبا بصير وأبا جندل ومن كان معهم من المستضعفين في مكة، أي: من كان له فرصة للهروب لم يذهب إلى المدينة؛ لأن أبا بصير حدث له ما حدث لأبي جندل، وأعاده النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث جاء رسولان للنبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا محمد أوفِ بما عهدت عليه، فأرجع معهم أبا بصير، فرجع أبو بصير في قصة معروفة في السيرة، لكنه احتال عليهما، وأخذ سيف الأول والثاني ذهب لقضاء حاجته فخدعه وأخذ سيفه فقتله، ثم ولى الثاني هاربًا، ثم ذهب أبو بصير فكان على تخوم مكة على طريق القوافل القادمة من الشام، فَشَكَّلَ لهم أذى وبسببه سقط هذا البند فيما بعد، لكن أبا بصير وأبأ جندل ومن معهما جعل الله لهم فرجًا.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى أبا بصير قال: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ»، هذه إشارة إلى أنه لو معه رجال، وفهم الصحابة وفهم أبو جندل أنه بحاجة إلى رجال وبحاجة إلى أن يشكل تهديدًا على قريش، وفعلاً شكل تهديدًا، اجتمع أكثر من سبعين من المستضعفين فجعلوا يهددون القوافل، فكان هذا الشرط فيه الأذى البالغ، فالإنسان قد يُؤتى من قبل حرصه واختياره، فدائماً الأمور يطلب الإنسان الخير من الله -عز وجل- لأنه لا يعلم الأمور، فقد تحرص على الشيء ويكون فيه حتفك، ويكون فيه أذاك، ويكون فيه ذهاب مالك أو فقد أشياء، فإذاً عليك أن توكل الأمر إلى الله -سبحانه وتعالى- في مثل هذه الأمور.
من الدروس والعبر: أهمية التعليم بالقدوة، ولهذا يقول علماء التربية: إن أعظم وسيلة لتعليم النشء وتعليم الأجيال وتعليم الناس هي الاقتداء، دائمًا يكثر الناس من الكلام ومن التوجيه ومن الترغيب ومن الترهيب لكن القدوة هي الأساس في التربية، هي المحور الأساسي للتربية، لا يكفي أن تكون موجهًا مرغبًا في الخير ومرهبًا من الشر، لذا وجد المجتمع أو وجد الأبناء أو وجدت الأسرة منك أنك لا تمثل هذا الشيء، فحينما تنهاهم عن الخلق السيئ وتمارسه يكون هناك تناقض، حينما تأمرهم بالصلاة ويراك الأبناء أنك من المتأخرين في الصلاة، لا شك أن هذا مؤثر فيه، فالقدوة مهمة، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان هو القدوة، قال الله -عز وجل-: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الممتحنة: 4]، فهو القدوة الحسنة التي ينبغي الإنسان أن ينصبها بين عينيه، وجود أو فقدان هذه القدوة لا شك أن له أثر في المجتمع.
فإذًا الدعوة إلى الله -عز وجل- والدعوة إلى الخير قد تكون بالقول وبالفعل، فأفعالك تؤثر في الناس وأنت لم تدعوهم إلى شيء، لكن إذا رأوا منك القدوة الحسنة سيتأثرون ويقتدون بك في هذه الأمور؛ لأن الخلق الحسن والأمور الطيبة كلٌ يرغب فيها بالفطرة السوية، ولهذا التعليم بالقدوة مهم جدًّا، ولهذا حينما أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحلقوا رؤوسهم ويذبحوا الهدي الذي جاءوا به إلى مكة، وهم وعدوا أن يطوفوا وأن يعتمروا فشق ذلك عليهم، كان هذا موقف فريد أنهم لم يستجيبوا لكلامه صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أم سلمة، فشكا لها ما وجد من الناس، فقالت: يا رسول الله اخرج إليهم، وانحر هديك، وادعوا الحلاق يحلق رأسك، وعند ذلك سيستجيب الناس، وفعلاً لَمَّا فعلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وعاينوه استجابوا.
إذاً كان التردد أو التوقف ليس من باب العصيان، بل لعل الله -سبحانه وتعالى- أن يرحم ضعفهم وفقرهم وحاجتهم ويأتي الوحي بصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، لكن لما حدث الأمر ونحر النبي -صلى الله عليه وسلم- هديه وحلق رأسه، فعاينوا الحقيقة، فكان منهم الامتثال والاستجابة، ولهذا كانوا يرجون من الله -عز وجل- أن ينزل في الأمر وحي لأجل إخماد تلك المشقة التي وقعت بهم.
فإذاً التعليم بالقدوة محور أساسي من الجوانب التربوية التي ينبغي أن يعتني بها المربين والدعاة إلى الله -عز وجل.
كذلك من الوقفات المهمة في صلح الحديبية: إشاعة التفاؤل بين الناس، دائمًا التشاؤم لا يأتي بخير، والنظر إلى الأمور بمنظار أسود، والنظر بأن الكرب لا يزول وأن الشدة لا تزول لا يحقق في النفوس إلا الحزن والهم والغم والنكد، بينما انتظار الفرج عبادة يتعبد الإنسان بها إلى ربه -سبحانه وتعالى-، وبخاصة إذا صاحب ذلك الدعاء إلى الله -عز وجل- والإلحاح إليه والتضرع، فإن الإنسان على خير مهما عظم الابتلاء، ومهما كانت الشدائد على الأمة، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه التفاؤل، وقد تفاءل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمور لا يحسب لها حساب، فهم في شدة وفي كرب، وقد منعوا الطواف بالبيت، وقريش قد أعدت لهم العدة على القتال، لا شك أن الحالة النفسية تحتاج إلى بلسم من التفاؤل ومن التبشير، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان مبشراً، فلما رأى سهيل بن عمرو، قال: «سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ»، فربط النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الاسم وبين تسهيل الأمور.
فإذاً التفاؤل هو في الحقيقة ربط أحداث لا علاقة لها بالمستقبل لكن هذا المتفائل يتفاءل ويتعلق بأشياء، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتفاءل بالأسماء ويتفاءل بالأحداث التي تقع وبالأمور يعتبرها بشائر الخير، دائمًا الإنسان يستبشر الخير ويبشر ولا يلام على ذلك، يعني: بعض الناس يلومك أنك متفائل وتصبرهم وتقول: أبشروا بالخير، هذا منهج صحيح، المنهج السيئ هو أن تُقنط الناس من فرج الله -عز وجل-، كما أنَّ التفاؤل فيه حسن ظن بالله -عز وجل-، وحسن الظن مطلوب من العبد لأنه يبعثه على العمل، وأما القنوط فإنه يقطعه عن العمل، التفاؤل مطلوب، وهذا يدعونا إلى ملحظ مهم جدًّا: أنه ما الفرق بين التفاؤل والتطير؟
أما التطير فهو التشاؤم، والتفاؤل مختلف عنه تمامًا، لكن بينهما فرق، التطير تشاؤم بالطيور أو بالأحداث التي تقع، ربما لم ينكسر أمامك شيء وأنت في صباحك فإنك تتشاءم بما سوف يأتي، هذا هو التشاؤم، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الطيرة، قال: «الطِّيرةُ شركٌ»، وهي من الشرك الأصغر، وكانت العرب تتطير بالحيوانات وبالطيور ويرون أن لها أثر في المستقبل، جاء الإسلام بتحريمها، والفرق بينهما: أن المتطير بسبب هذا العارض الذي عرض له ممتنع ومستجيب، أما المتفائل فهو ماض في حاجته.
ولهذا نُقل عن ابن عباس ضابط مهم جدًّا، لعل المشاهدين والمشاهدات يستوعبون هذا الضابط ويعرفون الفرق بينه وبين الطيرة -وإن كان هذا الضابط فيه ضعف لكن معناه صحيح- قال: "الطيرة ما أمضاك أو ردك"، ما أمضاك يعني: جعلك تمضي أو ترجع، ولهذا بعض الناس إذا كان في السابق إلى يومنا هذا تجده يتشاءم مثلاً، جاءه شخص مثلاً من ذوي العاهات وهو يريد أن يفتح هذا الدكان أو المحل، فربما يغلق محله ثم يرجع، يقول: هذا يوم مشئوم الذي قابلت فيه هذا الشخص، مع أنه لا علاقة، فإذاً رده أو يسير ماضٍ إلى حاجة معينة فيرى شيئًا ثم يرجع، هذا هو التطير.
أما المتفائل فهو ماضٍ في حاجته غير مكتئب لكنه يستبشر، كونه يعرض إلى شيء يتفاءل إما باسم أو بمكان أو بحدث، فهو ماضٍ في حاجته ثم يستبشر، هذا هو متفائل، فليس الذي أمضاه هو ذلك العارض الذي عرض له، هذا الفرق بين التطير والتفاؤل، كذلك التشاؤم من عادات الجاهلية ولهذا ذكر الله -عز وجل- عن أصحاب القرية ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ [يس: 18] يعني: تشاءمنا بكم، فدل على أنها عادة قديمة.
لهذا ورد في الحديث أن الطيرة قد تعرض في القلب وهي التشاؤم، وكفارتها ما ورد في الحديث «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» أو أن تقول: «اللَّهُمَّ لا يَأتي بالحَسَناتِ إلا أنتَ، وَلا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلا أنْتَ، وَلا حوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِكَ»، هذا فيه البراءة من العوارض الشيطانية والوساوس الشيطانية التي قد تعرض الإنسان في تشاؤمه، ولهذا ينبغي الإنسان أن يكون متفائلاً لا متشاءماً في مثل هذه الأمور، وأن يقبل وهو بروح طيبة.
من دروس صلح الحديبية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل الإسلام هم من أعظم الناس تعظيمًا لحرمات الله -عز وجل-، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مُنع يقول: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَ»، يعني كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يعظم هذا الحرم ولا يريد أن يسفك فيه دم، لأن الموقف ما هو منع من حق مكفول للجميع، هو أن يأتون إلى هذا البيت ويطوفون به، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يميل إلى أن تعظم هذه الكعبة وأن تحترم وأن تقدس، فتعظيمها من تعظيمات حرمات الله -عز وجل-، ولهذا لما أرسل عثمان قال: «أخْبرهُم أَنّا لم نِأتِ لقِتَال أحد، وَإِنَّمَا جِئْنَا زوّارا لهَذَا الْبَيْت معظمين لِحُرْمَتِهِ، مَعنا الْهَدْي نَنْحَره ونَنْصَرف»، يعني مطلب سهل، ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحِلْسَ بنَ عَلقَمَةَ الكِنَانِيَّ وهو سيد الأَحَابِيش، قال: «إن هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهونَ فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ»، فلما رأى ذلك الحِلْسَ، قَالَ: سُبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، هذا يعرفونه العرب، أنه من أتى معظم لهذا البيت حقه أن يكرم لا أن يمنع، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أظهر لهم هذا الأمر ظاهراً في مثل هذا الموقف العظيم، وكان هذا شاع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء لتعظيم البيت ولنحر الهدي، فوائده لأهل مكة ولفقراء مكة، هو معظم ما جاء للقتال، فشاع في العرب هذا ولا شك أن هذا كان مؤثر في قريش وجعلهم يسمحون للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي في العام القادم وإنما أخذتهم حمية الجاهلية أنهم لا يتحدث العرب أننا أخذنا بغتة يعني: بالقوة ودخلنا، فأجعل لك عمرتك في العام المقبل.
كذلك من دروس صلح الحديبية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرف الرجال، والمعرفة للرجال من أدبيات القيادات، ومن أساس القيادة، الذي لا يعرف الرجال لا يستطيع أن يوظفهم في وظائفهم الصحيحة، من ليس له معرفة وهذه ملكة يعطيها الله -عز وجل- لمن يشاء من عباده، وكانت في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- واضحة بينة، لما قال لأبي بصير -رضي الله عنه-: «وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ»، لا شك أنه يعرف أن أبا بصير رجلاً شجاعًا قويًّا يستطيع أن يجيش الجيوش، ونفعت هذه الكلمة أبا بصير، وهذا ما جعله يشكل قوة للضغط على قريش.
قال في حق مِكْرَزَ بْنُ حَفْصٍ لما رآه: «هَذَا مِكْرَزٌ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ»، وقال في حق الحِلْسَ بنَ عَلقَمَةَ: «إن هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهونَ فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ»، إذاً هو يعرف الرجال ويعطيهم ما يخدم قضيته التي أراد إليها، تعامله مع الحلس غير تعامله مع مكرز، الرجل الفاجر الذي لا يوثق فيه ولا بوعوده وربما يكون كاذب ويكذب ويتحوط له.
كذلك من دروس صلح الحديبية: حلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، حلمًا بلغ غايته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينظر إلى الغيب بستر رقيق، عنده مصلحة هو إمضاء هذا الصلح، إنه فتح مبين، وفعلاً أنه ساهم في سقوط قريش في مدة وجيزة من دون حرب، ولهذا تعنت سهيل بن عمرو في مواضع لما أرادوا أن يكتبوا الكتاب، لما رفض أن يكتب (هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-)، فقال: والله لو كنا نصدقك ما منعاك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، اسمك واسم أبيك، فاستجاب النبي.
وقبل ذلك لما قال: «اكتب بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، قال: ما الرحمن، ما نعرف، اكتب باسمك اللهم، ثم استجاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لاحظ وهم يكتبون جاء أبو جندل وهو يرصف في قيوده، فقال: ارفع، رفع يده عن الكتاب، قال: لا أمضيك هذا الكتاب حتى أول ما أقاضيك عليه أن ترد ابني إلى مكة، ومع ذلك حلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، يريد مصلحة أن يكتب هذا الكتاب الذي هو فتح مكة، فاستجاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالحلم سيد الأخلاق، فحلمك مع المتعنت في تحقيق المصلحة مهم جدًّا، وهذا يحتاج إليه أهل الإصلاح، الذين يريدون أن يصلحوا بين الناس ويقربوا وجهات النظر عليهم أن يتحملوا، لعل الإنسان يجمل نفسه بالحلم والصبر بتحقيق المصالح العظمى، ويتبرأ الإنسان من الأنفة والتعنتات من الخصم الذي جاء لتحقيق مصلحة، فيه أشياء تحتاج أنك تصبر وتحلم، وهي مجرد أشياء صورية، قال اكتب بسم الله وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لا، لا بدَّ أن تكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم، ما الذي يحدث؟ لا شيء، ما الذي حدث لما كتب بسمك اللهم، ما تغير شيء، كذلك لما قال لو كنت رسول الله لما منعناك من البيت، لكن اكتب محمد بن عبد الله، هل تغير شيء؟ هذه أمور شكلية، لهذا الإنسان في بعض الأمور الشكلية قد يتجاوز فيها لتحقيق المادة والأساس من هذا الصلح.
كذلك من دروس صلح الحديبية: اعتذار النبي -صلى الله عليه وسلم- على من تخلف عن شيء ولم تكن من عادته ذلك، يعني: الإنسان من عادته مهما كان يقع منه الزلة، فهذه الزلة مغتفرة، جاء في الحديث «أَقِيلُوا ذَوي الهَيئَات عَثَراتِهم»، يعني: من كان له هيئة، قد يزل فعليك أن تعتذر له، ربما في حالة ضعف وليس من عادته هذا، يكون مساحة الإعذار، والإعذار من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشمل فقط الإنسان بل شمل الحيوان، إعذار النبي -صلى الله عليه وسلم- ورحمته وتلمس الأعذار للآخرين حتى للحيوان، ولهذا لما أرادت ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تجتاز السنية بركت، فقالوا: خَلَأَتْ الْقَصْوَاء، ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاء وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ»، ليس من عادتها، اعتذار «لَكِنْ حَبَسَهَا حَابِس الْفِيل»، يعني: لاحظ تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مع الحيوان كان في غاية المداراة واللطف، وهذا درس مهم جدًّا أن الإنسان يضع مساحة للعذر للناس، لعل له عذر وأنت لا تعلم، ليس من عادته أن يتأخر، فإذا تأخر ما تغضب عليه، لعل له عذر، أصلاً ليس له بعادة.
من دروس الحديبية العظيمة: تحقيق السلم من خلال الصلح، عمل مشروع في الإسلام بل حث الله -عز وجل- عليه في القرآن، وهذا مهم جدًّا، ولهذا قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾[الأنفال: 61]، وهذا مهم أن يعلمه الجميع ويعلمه أعداء هذا الدين، والذين يجهلون تعاليمه، أن الأصل في الدين هو السلم وليس الحرب، يعني: الآن تصوير أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- جاء بالسيف وجاء للقتال وتصوير الإسلام فوبيا من المعادين للدين، هذا مقصد خبيث الحقيقة، أما الإسلام فهو دين السلم، والحرب ليست هدفًا في الإسلام وإنما هي وسيلة وليست غاية، وسيلة لنشر الدين وإحقاق الحق وإقامة العدل، ولهذا جملة من بلدان المسلمين انتشر فيها الإسلام من دون سيف وإنما كانت معارك المسلمين تعتبر معدودة، وعدد الذين قتلوا لنشر الإسلام عدد بسيط جدًّا في مقابل عدد الذين أسلموا طواعية من غير إكراه، بل لا إكراه في الدين كما هو معلوم، ولكن لما يرونه من أهل الإسلام ومن نبي الإسلام ومن تعاليم الإسلام من الرحمة والإحسان والشمول والعدل هو الذي جعلهم يقبلون عليه، الإسلام حفظ الحقوق، فتصوير الإسلام أنه جهاد وقتال فقط هو تصوير جزئي للإسلام، الإسلام يتشوف للسلم ولعقد الصلح وهذا مارسه النبي -صلى الله عليه وسلم- ممارسة واقعية في صلح الحديبية.
بل إن كثيرًا من الأعداء صالحهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرض عليهم الصلح، عقد صلحًا مع اليهود ولكنهم نقضوا، ولما جاء الأحزاب عرض على الأوس والخزرج مصالحتهم، ولما جاء سهيل بن عمرو ووضع هذه الشروط التي فيها حيف صالحهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدل على أنَّ مساحة الصلح والسلم في الإسلام هي أعظم من مساحة القتال والجهاد، فتصوير الإسلام على أنه دين قتال هذا تصوير للمعادي للإسلام، أما شرائع الإسلام وقواعده الكبرى إنما تحث على السلم، فلم تجد دين يحث على السلم كما في القرآن، هذه آية ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَ﴾، والمسلمون لا يزالون يعانون من الأعداء، من تسلط الأعداء عليهم في الحروب والقتال والتدمير، ومع ذلك أهل الإسلام رحمة لغيرهم.
كذلك من دروس فتح أو صلح الحديبية درس مهم جدًّا: مشاركة المرأة في الشورى والأخذ برأيها يدل على عظيم مكان المرأة في الإسلام، ثَمَّ معالم كبيرة جدًّا أن المرأة في الإسلام حفظ لها حقها واحترامها ورأيها، ولا يراها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا في المكان العالي، بل إنه يشاورها في أمر جلل وأمر عظيم، لهذا لما أشارت عليه بنحر الهدي وأن يدعوا الحلاق لحلق رأسه، فأخذ برأيها وكان رأيها -رضي الله عنها- رأيًا سديد، ولهذا يقول ابن حجر -رضي الله عنه-: "وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة"، فضل أم سلمة ..، ليس كل النساء، يعني بعض الناس عقلها يزن عقول رجال كثير، يعطي الله -عز وجل- ذلك العقل فضل الله -عز وجل- يؤتيه من يشاء، وليس لكونها امرأة أنها تستبعد أو أنها تميز عن الرجل، لا، المدار هو على العقل والرأي، إن كانت المرأة لها عقل ورأي فإنها تقدم في الشورى ويعتبر لها اعتبارها، هذا مهم، يعني كثير من الذين يزايدون على أن الإسلام ذكوري أو أن الإسلام يجعل المرأة دونية، هذا غير صحيح، وقائع السيرة، أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم-، توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمرأة، أأتني بدين أو بشرع من الشرائع فيه من المشرع أنه يوصي بالمرأة خير، «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرً»، هذه وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، استيصاءها، هل هذا الدين ينتهك كرامتها «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرً»، بل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ»، يعني: ربط الخيرية بالإحسان إلى المرأة، أليست هذه تعاليم الإسلام؟ دعنا من ممارسات المسلمين، نحن نتكلم عن الأسس التي لا يمكن أن يحاج بها أحد، هذا واقع المسلمين، فكيف يتهم الإسلام بأنه يتعدى على حقوق المرأة، لم تجد من الشرائع ما يحفظ حقوق المرأة كما حفظها الإسلام، في المعاشرة الزوجية، في الانفصال الزوجي، يعني: الخلع بين الزوجين موجود عند المسلمين دون غيرهم، هل تجد هذا للمرأة هذا موجود، الأديان الأخرى لم تجد فيها، الميراث كله حفظ لحقوق المرأة.
كذلك من دروس صلح الحديبية: أن الإنسان دائمًا يتهم رأيه في الدين في مقابل الوحي، ولهذا قال أبو بكر لعمر لما جاء يشكو إليه، "إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ"، يعني: استمسك بما جاء، فدائماً الإنسان يتهم رأيه، ولهذا يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لو كان الدينُ بالرأي لكان مسح أسفلُ الخف أولى مِن أعلاه"، فليس الدين فيه مجال للرأي، الإنسان يرى أو يحكم عقله فيما جاء به الوحي.
قال سهل بن حنيف: "أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ"، دائمًا الإنسان يتهم رأيه، "لقد كُنَّا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ، ولو نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا" في الصلح، يعني على أن لا يكون هذا الصلح، الذي كان بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين.
فدائماً الإنسان يتهم رأيه، قد تأتي من النصوص ما يستشكل عليه، فدائماً رأيك متهم، لأنه رأي عقلي والوحي مقدم على العقل، لأن العقل محدود ولا يعرف المآلات، فهذا وحي للنبي -صلى الله عليه وسلم- مارسه أن يمضي هذا الصلح، والعقل يقول هذا الصلح فيه ظلم، فيه حيف، فيه دنية كما قال، فيه ذلة على المسلمين، هذا العقل لكن لا يقدم العقل على النقل، النقل هو أن يمضي النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الصلح، هذا أصل من أصول أهل السنة، يرون أن تقديم الوحي على العقل، لأنهم يرون أن العقل محدود وأن العقل قاصر ومقتضى الأمر أن يستجيب الإنسان لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا قاعدة في الشريعة أنزل الله فيها آية: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك"، يعني: الهلاك أنك تبدأ تنظر للنصوص بعقلك المجرد، تقول: هذا في الحديث كيف يقع؟ هذا العقل لا يصدق بهذا، هذا لا يمكن، هذا أسطورة، تجعل العقل حاكم على ما جاءت فيه النصوص، عند ذلك يكون هناك زيغ -نسأل الله السلامة والعافية-، فإذاً هذا معنى مهم في هذا.
فيه درس آخر وهو وفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعقود والعهود، وهذا أمر تميز به أهل الإسلام عن غيره، الوفاء بالعقود والعهود شرع ودين يتدين به المسلم، فالمسلم ليس من أهل الغدر، وليس من أهل النكس في العهود والعقول، لهذا قال الله -عز وجل-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُول﴾ [الإسراء: 34 ].
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية: «إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ»، وقال الله -عز وجل-: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58]، الخيانة محرمة في الإسلام.
ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الرُّسُلَ»، فما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكس في العهود وكانت من معالم دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بين غيره ينقض كما سيأتي معنا -إن شاء الله- في الكلام على فتح مكة، أن قريش نقضت الصلح وأخلت بالبنود التي بينها وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هذه معالم عظيمة جدًّا ودروس مفيدة للإنسان، وربما فاتنا شيء كثير من هذه الدروس والمعالم، ولكن أحببنا أن نذكر شيئًا منها، وإلا صلح الحديبية فيه من الفوائد والعبر ما هو أكثر وأمتع.
{أحسن الله إليكم، شيخنا هل اتباع أوامر الله -عز وجل- والنبي -صلى الله عليه وسلم- بركة يراها الإنسان، في هذه القصة نرى أن إتباع الصحابة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حصل لهم من البركات في أجل هذا الصلح، هل هذا في كل أمور الشريعة؟}
لا شك أن الاستجابة لله ولرسوله بركة وأن ترك هذا الأمر يكون حسرة على الإنسان في دينه ودنياه، ومفهوم البركة مفهوم إسلامي مهم جدًّا؛ لأنه مخالف لمفهوم الكثرة، يعني: المادية لا يؤمنون بشيء اسمه البركة والخير الذي قد يكون في الشيء القليل، وهذا ظاهر في معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسية من بركة الطعام، ولا شك أن اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- كله بركة وعاقبته عظيمة، ومن بركة ذلك هذا الفتح العظيم الذي وقع لهم بعد صلح الحديبية.
{أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم}.
بارك الله فيك.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.