الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

1398 22
الدرس التاسع

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من حلقات برنامجكم "البناء العلمي"، نستكمل وإياكم شرح كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- للإمام ابن كثير -رحمه الله-، يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{كنا قد وقفنا يا فضيلة الشيخ عند كلام المؤلف عن الأطعمة، قال -رحمه الله-: (ومن الأطعمة قال بعض الأصحاب: كان يحرم عليه أكل البصل والثوم والكرات، ومستند ذلك ما أخرجه "عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فقال لبعض أصحابه: «كلو» فلما رآه كره أكلها، قال: «كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي» وقد يشكل على هذا القائل ما حكاه الترمذي عن علي)} يعني: علي بن أبي طالب، {(وشريك بن حنبل: أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النيء)}، وشريك بن حنبل العنبشي الكوفي، شريك أظنه من التابعين، {(والصحيح الذي عليه الجادة: أن ذلك ليس حراماً عليه، بل كان أكل ذلك مكروها في حقه)}.
هذا هو الصحيح، أورد الحديث وذكر فيه كلمة أصحاب، وأصحاب يعني على مذهب الشافعي، وأصحابه في المذهب، وهذا مصطلح يعبر به أهل المذهب، فالمقصود بالأصحاب أصحاب المذهب الشافعي، وأنهم ذهبوا إلى أنه يحرم على النبي -صلى الله عليه وسلم- أكل البصل والثوم، وابن كثير -رحمه الله- يرجح أنه ليس بمحرم عليه، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتنبه لأمور سيبينها الآن الشارح، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يناجي من لا يناجون، ولا شك أن الثوم والبصل فيها رائحة، وصح في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى من أكل الثوم أو البصل أن يقرب المصلى أو أن يصلي في المسجد؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، وهذا لا يفيد التحريم وإنما يفيد الكراهة، وأن من أكلهما فعليه أن يجتنب، ولهذا يجتنب المصلي مثل هذه الأمور، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل هذا كان يترك أكل الثوم والبصل.
{قال: (والصحيح الذي عليه الجادة: أن ذلك ليس حراماً عليه، بل كان أكل ذلك مكروهًا في حقه، والدليل على ذلك ما رواه مسلم عن أبي أيوب أنه: صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه ثوم، فرده ولم يأكل منه، فقال له: أحرام هو؟ فقال: «لا؛ ولكنِّي أَكرَهُه» فقال: إني أكره ما كرهت. قال الشيخ أبو عمرو: وهذا يبطل وجه التحريم. والله تعالى أعلم)}.
وهذا ثابت في صحيح مسلم، إذاً هو لأجل الرائحة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتنبه، ولهذا من احتاج لأكله أو كان مثلاً في سفر ولا يصلي مع المسلمين وأراد أن يأكل فالأمر ميسور، ولهذا على المسلم الذي يصلي مع المسلمين أن يحرص على أن لا يُؤذيهم برائحة البصل والثوم وأن يراعي هذا وأن يحذر من أذى المصلين، لأنه وردت أحاديث بمنعه من صلاة الجماعة، فدل على أن الإنسان لا ينبغي له ولا يجوز له أن يؤذي الناس بروائح الثوم والبصل، وخاصة الثوم فإنه أقوى وأنفذ رائحة، فعلى المصلي أن يتقي الله -عز وجل- وأن يجتنب مثل هذه الأطعمة إذا كان يصلي مع المسلمين جماعة.
{شيخنا إذا أمكن تطيب الفم وإزالة الرائحة}.
في العادة المضطردة خاصة الثوم أنه لا يزول بيسر ولا بسهولة، وفيه أشياء لا شك أنها تساعد على تخفيف هذا؛ لأن الأمر مناط المصلين والملائكة، فإن الملائكة تعمر بيوت الله -عز وجل-، لهذا في الحديث «إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بنو آدمَ»، لهذا شرع السواك للمصلي حال الوضوء وعند الصلاة لأجل أن يطيب رائحة فمه، هذا يدل على عظمة هذا الدين أن التفاصيل الدقيقة تجد لها آدابًا ينبغي للمسلم أن يراعيها، ولا شك أن مثل هذه الأمور يتساهل بها بعض الناس وحقهم أن لا يتساهلوا بذلك، وأن يتقوا الله في هذا المصلين، كذلك يدخل في حكم الثوم بكل ما يتأذى منه المصلين من الروائح السيئة، فينبغي للمسلم يأتي إلى المصلى والمسجد وهو طيب الرائحة، ولا يعمد إلى أنه يخرج منه رائحة قذرة ويصلي مع المسلمين ويؤذيهم، فالأولى له أن يصلي في بيته، فيحرص على أن لا يأتي إلى المسجد إلا وهو في أحسن حال، وبخاصة أن الناس يصلون معك ويشاركونك، فإذا كانت الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فلا شك أن هذا مما يشعر المسلم بأهمية هذا الأمر.
{(مسألة: ومثل ذلك الضب، قال صلى الله عليه وسلم: «لَسْتُ بِآكِلِهِ، وَلَا مُحَرِّمِهِ» أي على الناس)}، هذا صح فيه الحديث في البخاري في كتاب الصيد، فالضب من الزواحف وهو يعيش في الصحاري، والضب من دلالة الأحاديث أنه لم يكن بأرض الحجاز، طبعًا الأزمنة هذه ربما يوجد، لكن في السابق إنما وجد من خلال النقل،كان في السابق لا يوجد في أرض الحجاز في مكة، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا أجده بأرضكم»، والضب هذا موجود في بعض الصحاري التي لا يكثر فيها الجبال، أما الحجاز وجد الآن في العصور المتأخرة بسبب الانتقال، بالسابق ما كان موجود، وهو من الزواحف ويأكل الأعشاب ويأكله جملة من الناس، فالصحيح أنه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس بمحرم، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- تركه لأنه لا يتقبل مثل هذا الحيوان، وهو من الصيد.
{(وإنما أمسك عن أكله تقذراً. وقد قال له خالد: يا رسول الله، أحرام؟ قال: «لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بأَرْضِ قَوْمِي فأجِدُنِي أَعَافُهُ»)}، ولا يلام الإنسان لأنه لم يأكل هذا ولأنه يتعلق بطبيعة الإنسان، بعض الناس تعاف نفسه بعض الحيوانات أو بعض الطيور لا يأكل منها، بعضهم يترك أكل الحمام يتقذر منه، كل إنسان بطبيعته.
{(وهكذا يكره لكل من كره أكل شيء أن يأكله، لما روى أبو داود "عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ»)}، يعني أنه ما تقرفه نفسك عليك أن لا تأكله، طبعًا الحديث ضعيف لكن معناه صحيح، لأنك إذا غصبت نفسك على أكل مثل هذا الذي لا تشتهيه أو تجد منه تقذرًا أو أنَّ نفسك تعافه، لا شك أنه يسبب للجسم ضررًا، فالأولى لك أن لا تأكل ما تعافه ولا تكره نفسك على مثل هذه المأكولات وهذا متعلق بطبيعة الشخص.
{(وقد كره الأطباء ذلك، لما يؤدي إليه من سوء المزاج. والله تعالى أعلم.
مسألة: وروى البخاري "عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما أنا فلا آكُلُ متَّكئً»، فقال بعض أصحابنا: إن ذلك كان حرام عليه. قال النووي: والصحيح أنه كان مكروهاً في حقه لا حراماً. قلت: فعلى هذا لا يبقى من باب الخصائص، فإنه يكره لغيره أيضاً الأكل متكئ)
}، يعني إذاً هذا عام للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولغيره وليس من خصائصه كما أشار إليه ابن كثير.
{(سواء فسر الاتكاء بالاضطجاع ـ كما هو المتبادر إلى أفهام كثيرين، لما يحصل به من الأذى، كما نُهي عن الشرب قائماً أم بالتربع كما فسره الخطابي وغيره من أهل اللغة، وهو الصحيح عند التأمل وإنعام النظر، لما فيه من التجبر والتعاظم، والله تعالى أعلم)}.
هذا الكلام فيه محل تأمل، أما ضابط الأكل متكأً، كل ما يعد متكأً أو متكأً أنه يعتمد على إحدى يديه أو يضطجع، أما التربع الذي أشار إليه الخطابي وذكره ابن كثير -الله أعلم- أنه لا يشمل حكم الاتكاء، لأنه ليس من الاتكاء في معنى اللغة ولا في معنى الاصطلاحي العرفي عند الناس، فمن تربع لم يكن متكأً، فهذا يدلنا على أن للإسلام في مسألة الطعام له أحكام وله آداب، وهي متنوعة بين الوجوب وبين الاستحباب وبين التحريم، هذه الآداب اسمها آداب ولكنها تختلف في الأحكام.
فمن آداب الطعام: غسل اليدين، والتسمية، والأكل باليمين، والأكل مما يلي الإنسان، وغسل اليدين بعده، والمضمضة بعد الطعام، والدعاء للمضيف، والأكل بثلاثة أصابع، وأكل اللقمة الساقطة، وعدم الاتكاء، والأكل مع الجماعة دون الانفراد، والأكل في القصعة الواحدة، وعدم ذم الطعام، والاعتدال في الطعام، واجتناب الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة هذا على التحريم -كما ذكرنا-، ثم حمد الله -عز وجل- بعد الفراغ، تجد آدابًا كثيرة جدًّا، هذه جملة منها قد يفوتنا بعضها، وهذا يدل على التفصيل في الشريعة، ويختم الطعام بحمد الله -عز وجل-، وثواب الحمد عظيم عند الله، «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَ» ، إذا كان من أسباب الله -عز وجل- أن تحمد الله على الطعام، وأن تثني على الله -عز وجل- الذي يسير لك هذا الطعام، وهذا من أسباب رضا الله -عز وجل-.
فالمسلم في حياته المتنوعة في نومه، في أكله، في شربه، في تعامله مع الآخرين هو يتعبد لله -عز وجل-، وهذه أذكار الطعام كثيرة جدًّا، أنه إذا فرغ من الطعام يقول: " «الحمدُ للهِ الذي أطعَمَني هذا الطَّعامَ ورَزَقَنيه من غيرِ حولٍ مِنِّي ولا قوةٍ»، «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى رَبَّنَ» أذكار كثيرة جدًّا صحيحة وثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي للمسلم أن يتعلم هذه الآداب وأن يعلم من استرعاه الله -عز وجل- من الرعية من الأبناء والبنات هذه الآداب، وهذا ما يُبَيِّنُ عظمة هذا الدين وشمولية هذا الدين لكل مناحي الحياة، فالتسمية وحمد الله -عز وجل- على الطعام.
وهذه آداب عظيمة جدًّا، فينبغي للإنسان أن يحرص عليها وأن يتعلمها وأن يعلمها الأبناء والبنات حتى يثاب أولاً، وحتى يكون في حال طعامه يتعبد الله -سبحانه وتعالى-، فإذا كان الحمد من أسباب رضا الله -عز وجل- بعد الطعام، كيف للإنسان أن لا يحمد الله -عز وجل- بعد أن يسر الله هذا الطعام وأطعمه من جوع وآمنه من خوف، هذه نعمة عظيمة ومن أعظم أسباب شكر النعم، أن يثنى على الله -عز وجل-، والثناء الله -عز وجل- بأن تشكره على هذه النعمة، اللهم أجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، قابلين لنا وأتمها علينا.
{هل يؤجر الإنسان إذا طعم الطعام وحمد الله؟ أو أطعم الطعام، يعني هل لا بدَّ من نية أو يؤجر بمجرد الطعام؟}
ذكر أهل العلم في مسألة الطعام وغيره أن بالنية الصالحة تتحول العادات إلى عبادات، وذلك إذا نوى بطعامه أنه يتقوى به على طاعة الله -عز وجل-، لا شك أنه يثاب، وهذه نية المؤمن كما جاء في الأثر، "نية المؤمن أبلغ من عمله"؛ لأن النية الصالحة في مثل هذه الأمور لا شك أنها مؤثرة، فالمسلم كل حياته عبادة في نيته وفي ما يفعله وما يتركه، لا شك أنه مُثابٌ على ذلك، وثواب الله -عز وجل- له عظيم، فهذه آداب الإسلام، وهذه عظمة الإسلام، وعظمة هذا الدين، لكن التقصير منا نحن المسلمين.
كذلك من الأمور التي ينبغي أن يستشعرها، العبد نعم الله -عز وجل- عليه، وأن يحفظها، لأن النعم إذا لم تحفظ تزول، وحفظها أن لا يبتذلها الإنسان في الزبائل ويضعها مع القمامة، فإن كثير من الناس تساهلوا في الأطعمة، وهذا والله مصيبة عظيمة جدًّا، فهذه الأطعمة التي تكون هناك موائد وإسراف وتبذير، ثم بعد ذلك يكون مصيرها إلى المزابل، وهذا لا شك أنه مؤذن بزوالها، فإن النعم إذا لم تحفظ فإنها تزول، والتاريخ يشهد بهذا والنصوص تدل على ذلك، فإن النعم تزول عمن لم يحفظ هذه النعم، فينبغي الإنسان في بيته أن يحفظ هذه النعم، وما فَضَلَ من الطعام إذا كان صالحًا للأكل فإنه يصرفه للجمعيات الخيرية وأنا أحسب بعض المناطق فيها بنك الطعام فيما يتعلق بالموائد، والأمور الكبيرة، وأما في بيته فعليه أن يحفظ النعمة ولا يلقيها في المزابل، عليه أن يحفظها إما بوضعها بالصندوق أو في كذا، ثم يخرج بها إما لحيوانات أو كذا، لكنه قبيح أن يرمي الإنسان هذه النعم، كبقايا الأزر وبقايا اللحم -الحمد لله-، إذا لم تؤكل فهناك حيوانات وهناك كذا ممن الإنسان أن يصرفها لهم، أما مؤلم جدًّا أن ترى في القمامة هذه النعم مكبوبة أو ملقاة في هذه الزبالة.
هذه مصيبة جدًّا، والله سبحانه سائل الإنسان عن هذه النعمة، سيسأل الإنسان يوم القيامة، الخطاب للأمهات وبعض الناس في بيوتهم خدم ويتساهلون، حتى الخدم، أنت مسئول عن هذه الخادمة التي تلقي، أنت مسئول عنها يوم القيامة، يلقي الطعام وبعض الطعام لم يفسد بعد ولكن ما يصلح هذا من كفران النعم، أسأل الله أن يعيذنا من كفران النعم.
{(مسألة: قال أبو العباس بن القاص: ونهي عن الطعام الفجأة، وقد فاجأه أبو الدرداء على طعامه فأمره بأكله، وكان ذلك خاصاً له صلى الله عليه وسلم، قال البيهقي: لا أحفظ النهي عن طعام الفجأة من وجه يثبت)}، يعني أنه ليس من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنه نُهي عن طعام الفجأة، لهذا كان البيهقي -رحمه الله- متجه، لأن هذا ما ذكر من الأثر ما يفيد أنه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-.
{ما المقصود بطعام الفجأة؟}
يعني أن يفاجأ بالطعام إما يهدى إليه وإما كذا ما كان معد له.
{قال البيهقي: لا أحفظ النهي عن طعام الفجأة من وجه يثبت، ثم أورد حديث أبي داود من رواية درست بن زياد، عن أبان بن طارق، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: «مَنْ دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرً»)}، مع هذا الحديث غير صحيح، الحديث فيه ضعف وفيه شيخ مجهول وفيه نكارة في متنه وفيه نكارة في سنده.
{(مسألة: قالوا: وكان يجب على من طلب منه طعاماً ليس عنده غيره أن يبذله له، صيانةً لمهجة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقاية لنفسه الكريمة بالأموال والأرواح، لقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب: 6].
قلت: ويشبه هذا الحديث الذي في الصحيحين: «لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِن نَفسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ»)
}، هذه من تفريعات المسائل ولها أصل ولكنها لم تقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يطلب طعاماً في سيرته مضطردة، هذه من تفريعات الشافعية -رحمهم الله- في هذا، هذا محل نظر جعلها من خصائص، ولا شك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب على كل مسلم أن يقدمه على ولده ووالده والناس أجمعين في محبته -صلى الله عليه وسلم-، وهذا من تمام الإيمان، بل من كمال الإيمان.
{(مسألة: روى البخاري " عن الصعب بن جثامة مرفوعاً: «لا حِمى إلَّا للهِ ولرَسولِهِ»")}، يعني الحماة: المقصود به أن يكون له أرض محمية، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له حمى لإبل الصدقة لأجل أن تُرعى، فالحمى مشهور ومعلوم، أن يكون مكان لا يرعى فيسمى حمى، وهذا وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- لإبل الصدقة، {(قال بعض أصحابنا: هو مختص به. وقال بعضهم: بل يجوز لغيره للمصلحة)}.
نعم يجوز لغيره، يعني: الإمام أو السلطان له أن يضع حمى لمصالح شرعية وهذا من حق ولي الأمر في هذا، أن يجعل حمى مثلاً للنبات، حمى للحيوان وهذا معمول به قديم وإلى يومنا هذا ولا شيء فيه، تحقيقاً للمصلحة الشرعية.
{(كما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع)}، يعني النقيع موضع قريب من المدينة، حماه النبي -صلى الله عليه وسلم- لخيله، {(وحمى عمر رضي الله عنه الشرف والربذة، إلا ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تغييره بحال.
ومن الهبة، مسألة: كان يقبل الهدية ويثيب عليها، ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وما ذاك إلا لما يرجو من تأليف قلب من يهدي إليه، بخلاف غيره من الأمراء)

النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحرم عليه أكل الصدقة ولكن كان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية، وهذا من كريم خلقه -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقبلها ويثيب عليها، ولهذا ذكر ابن كثير أنها من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- باعتبار الإمامة بخلاف غيره من الأمراء، يعني: كأنه يجعل هذا من خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف غيره من الأمراء والسلاطين أو ما كان له ولاية، فإنه لا يقبل الهدية.
{(بخلاف غيره من الأمراء، فإنه قد صح الحديث أن هدايا العمال غلول)} حديث هدايا العمال غلول رواه الإمام أحمد بسند حسن، ثمة قصة حصلت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من ابن اللتبية، وهو رجل من الأزد، جعل له النبي -صلى الله عليه وسلم- ولايةً على الصدقة، وأرسله إلى أقوام، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصدقة وهي الزكاة، فقال: هذا لكم وهذا لي، فلما سمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ارتقى منبره -صلى الله عليه وسلم- وخطب.
فقال: بلغني أن فلان يقول كذا وكذا، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إعلان عام نقله الصحابة للأمة وإلى يومنا هذا، «والذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ منه شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى رَقَبَتِهِ»، الحديث رواه البخاري ومسلم، ثم فصل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا كان أخذ بعيراً أنه يأتي به يوم القيامة وعلى ظهره وله رغاء، شاة، بعير، حتى ذكر الرقاق وهي الثياب تخفق، ذكر أشياء فصل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها زجراً وتحذيراً، وقبل ذلك الله -عز وجل- في محكم كتابه: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ﴾ [آل عمران: 161]، وعيد شديد، هذا تحذير للمسلمين وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أن يتقوا الله -عز وجل- في أموال المسلمين والأخذ من بيت المال والتأول وفي ذلك تأويلات غير مقبولة، فإن هذه الأمور مبنية على تحريم ولا يقبل فيها التأويل.
فهذا الرجل من جهله ظن أن الهدايا له أن يقبلها، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لماذا أهدي إليك؟ سؤال: أنت حينما يهدى إليك وأنت تكون لك ولاية، هم ما أهدوا إليك، هم أهدوا لأجل أن تمرر بعض الأمور، وحتى لو قلت إني سأطبق النظام، ليس بصحيح، سيؤثر ذلك في نفسك ولا يتساهل في هذا، لأن بطبيعة النفس البشرية أنها تميل إلى شخص أحسن إليه ولو شيء قليلاً ولو قضيباً من آراك، طبيعة النفس، فمن كان له ولاية فعليه أن يتقي الله -عز وجل- في مثل هذه الأمور وأن يحذر من الأخذ من بيت المال وأن يتأول وأن يتساهل وأن يقبل الهدية؛ لأن هؤلاء الذين يتولون مثل هذه الأمور ويسعون لهم طرق ولهم حيل ومكائد، ومن حيلهم أنهم يزينون لك أن هذه المسألة هدية، وهم الحقيقة يريدون أن يتوصلوا بها إلى شيء آخر، طبعًا هذا ولي أمرنا -وفقه الله- أنشأ هيئة خاصة بمثل هذه الأمور تقوم بعملها -أسأل الله أن يوفقها وأن يجزل لها الثواب، وهذا واجب على المسلمين قبل أن يكون، أنك تستغرب من تساهل الناس في مثل هذه الأمور والمسلمين جميعًا، يعني أعظم خطر يهدد الدول في اقتصادها هو الفساد، وجود الفساد هذا مناخ لعدم نماء الاقتصاد، فهذه الأمور النبي -صلى الله عليه وسلم- وضحها وبينها وزجر عنها، والقرآن قبل ذلك، وعيد شديد، يعني أنت الذي تأخذه في هذه الدنيا سيفضحك الله -عز وجل- يوم القيامة، وحتى يكون هذه الفضيحة -نسأل الله أن يكفينا الشر وأن يأمننا من الخوف ومن الخزي يوم القيامة- أنك ستحمله فوق رقبتك، ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾، وإذا كان بعير، هذا تمثيل سوف يكون له صوت لتفضح أمام الناس، الحديث «لِكُلِّ غَادِرٍ لِواءٌ يَوْمَ القِيامةِ يُوضَع عِندَ إسْتِه» يعني: بجواره، «فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان» يوم الفضائح، فإن خفيتَ عن الرقيب واستطعت أن تمر وأن تأخذ من المال العام ولا يقبض عليك أو تَسلَمَ في الدنيا، فاعلم أنك يوم القيامة تأتي بما غللت.
ولهذا من توفيق الله -عز وجل- لهذه الدولة ولولاة الأمر أن جعلوا هناك حساب براءة الذمة، يمكن الإنسان أنه إذا رأى أنه أخذ أشياء ولا يريد أن يدخل في أمور وأن يبرئ ذمته، سلم من الملاحقة ؛لأنه أخذ على وجه الخفاء، فعليه أن يبرئ ذمته حتى لا يؤتى به يوم القيامة، أنت ستأتي به ولكن احرص أن تتخلص منه قبل أن تأتي به يوم القيامة، أسأل الله أن يرزقنا الحلال وأن يبعدنا عن الحرام وأن يجعلنا من الممتثلين لأمر الله ولأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
{(فإنه قد صح الحديث أن هدايا العمال غلول، لأنها في حقهم كالرشى لوجود التهمة، والله تعالى أعلم)}، ولهذا لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي والرائش، الراشي معلوم هو الذي يدفع، والمرتشي هو الذي يأخذ، والرائش هو الوسيط بينهم، فعملية الرشوة تقوم على هذا، وهذا -والعياذ بالله- من الكبائر نسأل الله السلامة والعافية، ومن أكل الناس بالباطل، من الأكل الحرام، فهذا -لله الحمد- كامل في أحكامه ومعانيه، فحري بالمسلمين أن يتقيدوا به، وأن لا يكون الإنسان يخاف من قضايا أو من السلطان فقط ومن الإمام ومن العقوبة، عليه أن يخشى الله -عز وجل- قبل ذلك، رقابة ذاتية هذه أهم شيء والمؤمن أولى بها من غيره، إذا كان هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر يخشون من أنظمتهم ومن الجهات القانونية، فالمؤمن أولى أن يخشى من الله -عز وجل-، يكفيه من الوعيد هذه الآية والحديث الذي ذكرناه، يكفيه من الوعيد، تصور أنك يوم القيامة سوف تأتي به، أسأل الله أن يسلمنا وأن يعافينا.
{(مسألة: قال زكريا بن عدي حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن ابن عطاء، قال زكريا: "أراه عمر عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ﴾ [الروم: 39] قال: هو الربا الحلال، أن يهدي يريد أكثر منه، فلا أجر فيه ولا وزر)}.
طبعًا هذا كلام ابن عباس -رضي الله عنه- في أنه يُهدي أي: يريد النوال، يعني: العطاء، فلا أجر فيه، كان يعطي -طبعًا هذا خارج من العمال الذين لهم ولاية، إنما يعطي بعض الوجهاء وبعض الأثرياء لأجل أن يأخذ، طبعًا هذه آية الروم مكية ونزلت قبل أن ينزل تحريم الربا، ومعناها في العام الأغلب في كلام ابن كثير: أنه يُهدى لأجل أن يُثاب عليها، هذا هو أكثر، ولهذا قال بذلك ابن عباس كما ذكر ابن كثير ومجاهد، وأمَّا الحسن البصري فإنه رأى أنه الربا المحرم، وأما النخعي فيقول: "هو ما يُعطي الرجل من المال قرابته ليذكر" يعني: لا ليس لي، والشعبي يقول قريبًا من هذا المعنى، يقول: "ما يعطي لأجل أن يخدم" يعني يعطي لأجل أن يخدم إما من الناس لأجل كذا، فمعناها أنه نُهي وليس من الخلق أنك تتمنن لتستكثر، تمن لتعطي، لأن هذا في الحقيقة من مراد به شيء، والأصل بالمن والعطاء البذل لا لأجل أن يأخذ عليه ثواب.
{(ونهي عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ [المدثر: 6]. رواه البيهقي عن الحاكم)}، هذا كما ذكر {(وغيره عن الأصم، عن محمد بن إسحاق، عن زكريا. وهو أثر منقطع، إن كان عمر بن عطاء هو ابن وراز، وهو ضعيف أيضاً، وإن كان ابن أبي الخوار فقد روى له مسلم، وقد روى عن ابن عباس، ولكن الأمر فيه مبهم)}.
طبعًا -كما ذكر- ابن كثير -رحمه الله- ذكر كما ذكرنا التخصيص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- نقل عن بعض العلماء ولا الآية لا تقتضيه، ولكن هل هو للتحريم أو للتنزيه؟ الأقرب أن هذا للتنزيه، أنه يكره للإنسان أن يمنن ليعطى وليس على سبيل التحريم.
{(مسألة: وهو أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث، وأن ما تركه صدقة، كما أخرجاه في الصحيحين "عن أبي بكر رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها سألته ميراثها من أبيها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»)}، أول الحديث «نحنُ معشرَ الأنبياءِ»، هذا دل على أنه ليس من خصائصه -كما مر معنا- ليس من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- وإنما هي من خصائص الأنبياء، لأن الأحاديث في أوله «نحنُ معشرَ الأنبياءِ».
{("إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهده)}، يعني هذا من كلام أبي بكر -رضي الله عنه-، طبعًا هذه المسألة سبق الكلام عليها وكون فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها- كان أبو بكر -رضي الله عنه- لم يورثها، فهو بناءً على أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كما صح بذلك الحديث، وأجمع الصحابة على ذلك، لا يعلم لأبي بكر مخالفًا، ومما يثبت ذلك ويثبت هذا الإجماع وتوافقه مع الأدلة الشرعية، أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- هم من ورثته، وهم جملة من الأزواج، توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهن في ذمته، ومنهم عائشة الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها- وهي وارثة ولو كان لها حق في الميراث لطالبت، وأبوها أبو بكر إمام المسلمين هو الذي نفذ الحكم وهو خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ﴾ [التوبة: 40]، وهو الذي أنفذ وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر -رضي الله عنه- كان حازماً في مثل هذه الأمور، فإنه أنفذ هذه الوصية، أنه لا يورث، وأنفذ جيش أسامة بن زيد -رضي الله عنه- وهو الذي حارب المرتدين، كل هذه من مناقب أبي بكر -رضي الله عنه-، فقبح الله عقولاً تطعن في صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي فدى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل ما يملك وضحى بنفسه وماله -رضي الله عنه-، هذا ثابت ولا يخالف في هذا أحد، فيه بذل، فكيف يتصور من هذا الرجل الذي زكاه الله -عز وجل- وذكره أنه صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار، أنه يمنع ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حقها.
ولهذا هؤلاء الذين يفترون على أبي بكر -رضي الله عنه- كما قال عنهم ابن تيمية: هم من أكذب الناس في النقليات، كل النقليات التي يذكرونها كلها كذب وموضوعات وروايات مكذوبة على آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن أجهل الناس في العقليات، أما كونهم من أجهل الناس في العقليات، فإن العقل الصريح يثبت ويتوافق مع النقل الصحيح، كيف يتصور من أبي بكر هذا؟! ثم يطعن في أبي بكر ويتكلم فيه؟
كما قال ابن كثير في آخر هذا الذي سوف تقرأه، أنهم يعتمدون على خرافات، وهذه الخرافات يغرسونها غرساً في نفوس أبنائهم ويشبون عليها ويقلدون الآباء والأجداد، وهم في ذلك على طريقة أهل الجاهلية في التقليد، ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾[الزخرف: 22]، وإلا لو أعمل الإنسان عقله ورأيه لهداه إلى النقل الصحيح وهداه إلى ترك الطعن في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهم أبو بكر-رضي الله عنه وأرضاه- الذي له السابقة العظيم في الإسلام -رضي الله عنه وأرضاه- وقبح الله عقولاً تطعن في نقلة الوحي إلى هذه الأمة، لكنها -والعياذ بالله- حبائل الشيطان، وشياطين الإنس والجن التي تضل الناس عن الصراط المستقيم، أسأل الله أن يهدينا جميعًا إلى الصراط المستقين، وأن يرينا الحق حقًّا وأن يرزقنا إتباعه، وأن يهدينا إلى المختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
{(ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ»)}، هذا في البخاري {(وقد أجمع على ذلك أهل الحل والعقد، ولا التفات إلى خرافات الشيعة والرافضة، فإن جهلهم قد سارت به الركبان.
كتاب النكاح: وفيه عامة أحكام التخصيصات النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولنذكرها مرتبةً على الأقسام التي ذكرها الأصحاب، ليكون ذلك أخصر لها، وأسهل تناول)
}.
أولاً النكاح بما أن ابن كثير ذكر هذا، ثم يريد أن يقسم، من المهم جدًّا أن نقول: إن النكاح من أعظم أسباب الاستقرار النفسي والاجتماعي للفرد والمجتمع، وكل أمة تُعنى به فإن سبيلها الاستقرار والقوة، وكل أمة تتهاون بالنكاح فإن سبيلها إلى الضعف والاضمحلال، ولهذا جاءت توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم- صريحة وواضحة في مثل هذا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بهم الأمم»، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» إلى غير ذلك من الأحاديث، ولهذا الإسلام أناط مشروع النكاح بأحكام وآداب ينبغي للأمة أن تراعيها، من ذلك تيسير الزواج والحث عليه، وينبغي أن لا يفرط بهذا الواجب، ومن الآداب ومن الأمور التي كانت تُراعى أو جاءت فيها الأحاديث، يسر الصداق وهو المهر ينبغي أن ييسر، فجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ»، والثناء على من كان مهرها قليل، صداقها قليل، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المغالاة في صداق النساء، وقال: «كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ» يعني: الذهب، فينبغي أن يكون الصداق ميسرًا وأن لا يبالغ فيه، ويتبع ذلك الصداق المبالغة في حفلات الزواج وحفلات العرس، كل هذا مما لا يتوافق مع أحكام الإسلام.
كذلك من الأمور التي تُراعى والتي ينبغي هي إعلان النكاح بالولي وشاهدي العدل، وكذلك الوليمة، فصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما رأى عبد الرحمن بن عوف ورأى على أثره أو على ثيابه أثر الطيب الزعفران، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما هذا الذي في ثوبك؟ فقال: إني قد تزوجت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أولَمَ»، أأولمت، قال: لا، قال: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»، وليمة ومع ذلك عدم المبالغة في الوليمة، حفظ هذه النعمة، فهذا ينبغي أن يعلم وأن يعرف وحري بأهل الإسلام أن يتعاونوا على البر والتقوى في مثل هذا.
ولهذا يحمد مشاريع تيسير الزواج، مشاريع إعانة المتزوجين، وأذكر أن الشيخ ابن باز -رحمه الله- كان يهتم بهذا الأمر، وأفتى الشيخ -رحمه الله- أن من مصارف الزكاة الواجبة إعطاء الشباب ما يعينهم على الزواج، لأن بعض الشباب قد يتعسر عليه المهر أو يتعسر، فيعطى من الزكاة الواجبة لأجل هذا، وهذا يدلك على أهمية هذا الأمر وعلى أثاره الطيبة على الفرد وعلى المجتمع.
{قال: (كتاب النكاح: القسم الأول ـ وهو ما وجب عليه دون غيره)}.
فيما يتعلق بنكاح النبي -صلى الله عليه وسلم-، مر معنا في زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مقاصد النكاح عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها معاني غير معاني الإعفاف، فمن اطلع على سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته الاجتماعية وفي حياته الزوجية، فسيرى أشياءً تدل على ذلك، منها:
أنه تزوج خديجة وهي في الأربعين وكان هو في الخامسة والعشرين، ولم يتزوج عليها حتى توفيت، ثم تزوج بسودة وهي في الخمسين، وعادة من له رغبة في النساء فإنه لا يتخير إلا الصغيرة، فدل على أن معنى النكاح عند النبي -صلى الله عليه وسلم- يشمل معاني ومقاصد أخرى غير مقصد الإعفاف، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- له معاني: نشر الخير بين الناس، والعلم الذي لا يعلم إلا من خلال المنزل، ونقلة هذه السنن وهذا العلم إنما يكون عن طريق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك من مقاصده -صلى الله عليه وسلم- في زواجه، أنه كان يصاهر لأجل تأليف القلوب وهذه من عادته -صلى الله عليه وسلم-، يؤلف القلوب، قلوب الزعماء والقبائل والشعوب، تزوج صفية بنت حيي لمثل هذا الغرض، وتزوج ميمونة وتزوج غيرها لأجل المصاهرة من أجل تأليف القلوب، وهذا عادة العظماء والعقلاء والزعماء، أنهم يعرفون أنه قد تكون مقتضى السياسة الشرعية المصاهرة، لأن المصاهرة تذهب العدوات وتطفأ نيران العدوات وهذا ثابت في التاريخ وفي التجارب.
كذلك من مقاصد النكاح عند النبي -صلى الله عليه وسلم-: تطييب خواطر النسوة، لأن بعض النسوة تنكسر بعد وفاة زوجها والنبي -صلى الله عليه وسلم- الرحيم المحسن الكريم ينكحها لأجل هذا، وهذا وقع لأم سلمة -رضي الله عنها- حيث تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- مراعاة لحالها ولخاطرها، ولا شك أن النسوة يختلفن في هذا، فبعضهن يكون انكسارها شديد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- الرحيم يحسن وينعم ويكرم -صلوات ربي وسلامه عليه-، ولهذا أزواجه -رضي الله عنهن- خديجة بنت خويلد وسودة بن زمعة وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وزينب بن خزيمة وأم سلمة بنت أبي أمية -رضي الله عنها- وجويرية بنت الحارث وزينب بنت جحش وأم حبيبة بنت أبي سفيان وميمونة بنت الحارث وصفية بن حيي بن أخطب -رضي الله عنهن وأرضاهن، توفيت اثنتان في حياته -صلى الله عليه وسلم-، خديجة وزينب بنت خزيمة -رضي الله عنهن- هؤلاء أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن وأرضاهن-.
{قال: (القسم الأول ـ وهو ما وجب عليه دون غيره، أمره الله تعالى بتخيير أزواجه فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيم﴾ [الأحزاب: 28- 29]، وقد أخرجا في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ذكر هذا التخيير، وأن الله أمره بذلك)}.
طبعًا هذه الآية سبب نزولها كما ذكر جملة من المفسرين أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- سألنه شيئًا من عرض الدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتوسع في مثل هذا، فما عنده -صلوات ربي وسلامه عليه- مر بأحوال قل عنده المال -صلى الله عليه وسلم-، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربط على بطنه الحجر من الجوع، هذا وقع في غزوة الأحزاب، في حفر الخندق، فطلبنا منه شيء زيادة في النفقة بسبب غيرة بعضهن من بعض، وهذه من طبيعة النساء، فشق ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فآل منهن شهرًا، يعني: اعتزلهن، فمكث مدة ثم نزلت هذه الآية، فنزل من موضعه أو من حجرته التي كان قد آل فيها، وعرض عليهن هذه الآية، فأدب عائشة -رضي الله عنها- فاختارت الله ورسوله، ثم قالت: يا رسول الله لا تخبر أزواجك إني اخترتك، هذا من غيرتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله بعثني مبلغًا ولم يبعثني متعنت»، فلما اخترنه كلهن، اخترن النبي -صلى الله عليه وسلم- أثابهن الله بثلاثة أشياء:
التفضيل على سائر النساء، قال الله -عز وجل-: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: 36].
جعلهن أمهات المؤمنين ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6].
وحرم عليه النساء غيرهن في قول: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ [الأحزاب: 52]، فاختلف أهل العلم في الأمر الرابع، هل يحرم طلاق الواحدة منهن بعد هذا التخيير على أقوال.
لكن في الجملة هذا موضع القصة وأثارها التي وقعت بعد ذلك، فرضي الله عن أمهات المؤمنين وأرضاهن، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العلم النافع والعمل الصالح وأن يوفقنا إلى الحق والثواب.
{(واختلف الأصحاب، هل كان ذلك واجباً عليه أو مستحباً؟ على وجهين صحح النووي وغيره الوجوب، واختلف الأصحاب: هل كان يجب جوابهن على الفور أو على التراخي؟ على وجهين، قال ابن الصباغ ما معناه: ولا خلاف أنه خير عائشة على التراخي بقوله: «فلا عليك أن تستأمري أبويك».
قالوا: فلما اخترنه، فهل كان حرم عليه طلاقهن؟ على وجهين، وصححوا أنه لا يحرم. إلا أن الله تعالى حرم عليه النساء غيرهن مكافأة لصنيعهن، ثم أباحه له لتكون له المنة في ذلك، قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبيح له النساء)
}.
وهذا يعني أنه نسخ هذا الحكم، حرم عليه الطلاق ثم نُسخ هذا الحكم.
نكتفي بهذا القدر، ونكمل -إن شاء الله- الحلقة القادمة.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك