الدرس السادس

فضيلة الشيخ أ.د. فهد بن سعد المقرن

إحصائية السلسلة

2543 22
الدرس السادس

الفصول في سيرة الرسول (2)

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، نحن وإياكم في ظلال السيرة النبوية مع كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم-، يشرحه فضيلة شيخنا الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله، وحيَّى الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
{كنا قد وقفنا يا فضيلة الشيخ عند الكلام عن الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم، قال المؤلف -رحمه الله-: (ومن ذلك أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، فقد تواترت عنه -صلوات الله وسلامه عليه-: "أن من كذب عليه متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". روي هذا الحديث من طريق نيف وثمانين صحابيًا: فهو في الصحيحين من حديث علي وأنس، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وعند البخاري من رواية الزبير بن العوام، وسلمة بن الأكوع، وعبد الله بن عمرو، ولفظه: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار». وفي مسند أحمد: عن عثمان، وعمر وأبي سعيد وواثلة بن الأسقع، وزيد بن أرقم. وعند الترمذي عن ابن مسعود. ورواه ابن ماجه عن جابر وأبي قتادة. وقد صنف فيه جماعة من الحفاظ كإبراهيم الحربي، ويحيى بن صاعد، والطبراني، والبزار وابن مندة، وغيرهم من المتقدمين وابن الجوزي، ويوسف بن خليل من المتأخرين. وصرح بتواتره ابن الصلاح، والنووي، وغيرهما من حفاظ الحديث، وهو الحق، فلهذا أجمع العلماء على كفر من كذب عليه متعمدًا مستجيزًا لذلك. واختلفوا في المتعمد فقط، فقال الشيخ أبو محمد يكفر أيضًا، وخالفه الجمهور. ثم لو تاب فهل تقبل روايته؟
على قولين: فأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو بكر الحميدي قالوا: لا تقبل، لقوله صلى الله عليه وسلم «إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار»، قالوا: ومعلوم أن من كذب على غيره فقد أثم وفسق، وكذلك الكذب عليه، لكن من تاب من الكذب على غيره يقبل بالإجماع، فينبغي أن لا تقبل رواية من كذب عليه، فرقًا بين الكذب عليه والكذب على غيره. وأما الجمهور فقالوا: تقبل روايته، لأن قصارى ذلك أنه كفر، ومن تاب من الكفر قبلت توبته وروايته، وهذا هو الصحيح)
}.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، تكلم المصنف -رحمه الله تعالى- على مسألة الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ذكر الحديث الصحيح المتواتر، والمتواتر هو من رواه عدد كبير من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-
ولفظه: «مَن كذَبَ عليَّ متعَمِّدًا فلْيَتبَّوأْ مَقعَدَه مِنَ النَّارِ» ، ولا شكَّ أن هذا وعيد شديد في حق من كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدخل في ذلك من نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا لم يقله النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا أورد المؤلف الحديث الآخر « بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً»، مسألة بلاغ الدين مطلوب من المسلمين جميعًا، لمن علم أنَّ هذا من الدين أو أن هذا من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذا مقيد بأن يكون الإنسان في مثل هذه الأمور متثبتًا فيما ينسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي للمسلم والمسلمة أن يتحرى في ثبوت هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يُنسب للنبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا لم يقله النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يفعل بعض الناس من خلال شبكات التواصل بنشر الأحاديث الموضوعة أو الأحاديث الضعيفة جدًّا التي هي أقرب ما تكون للواهيات والموضوعات، ونشرها بين الناس دون تحقق من معرفتها، فهذا يخشى عليه أنه يدخل في الوعيد الشديد الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكذب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبحمد الله تيسر للأمة الآن العلم، فالتحقق من ثبوت الحديث مطلوب من الجميع لأنه ثم برامج الكترونية وثم كتب ولله الحمد مثل كتاب البخاري ومسلم، هذان كتابان أجمعت الأمة على قبول ما فيهما، فالنقل عنهما والتحديث عنهما لا شك أنه مناسب، لأنها أحاديث صحيحة، وكذلك السنن في عمومها أغلب هذه الأحاديث صحيحة وحسنة ويوجد فيها الضعيف الذي قد ينجبر.
فالحاصل أن الإنسان ينبغي أن يتحرى في حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويتحقق من أن هذا الحديث ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لا ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا لم يقله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وضابط هذا عند أهل العلم أن أخبار بني إسرائيل يُحدث عنها ما لم يرد في الشرع ما يخالف ذلك من أخبار بني إسرائيل، ولا يعتمد عليها حكم شرعي وإنما يستأنس بما فيها من الروايات والقصص.
ثم قال في الحديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وهذا وعيدٌ شديدٌ، ثم تكلم الشيخ -رحمه الله- هل تقبل توبة من كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وساق الخلاف في ذلك، لكن من فروع هذه المسألة المهمة: أن هذا الوعيد الذي فيه تعظيم الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخل فيه من يفتري على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشريعة، أو ينسب لدين الله أو دين رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما هو برئ منه أو ما ليس من الإسلام، ويدخل في ذلك أهل البدع والمحدثات الذين ينسبون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقوله ولم يفعله، مثل الروايات الضعيفة الواهية في الصلوات المبتدعة أو الأذكار المبتدعة، وينسبون ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا شك أنهم قد يدخلون في هذا الوعيد الشديد؛ ولهذا ورد معنا في أحاديث الحوض: أن أقواما من هذه الأمة يزادون عن حوضه لأنهم أحدثوا، فلا شك أن المسلم والمسلمة ينبغي أن يتحرى في دين الله -عز وجل-، كما قال ابن سيرين -رحمه الله تعالى-: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فلا يأخذ هذا الدين إلا عن أهله الثقات الذين يرجعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويحذر من أهل البدع والمحدثات الذين يعتمدون على الأحاديث الضعيفة والموضوعة في تسويق ما هم عليه من البدع والمحدثات خشية من هذا الوعيد على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك يدخل في هؤلاء الذين ينسبون لدين الله ولشريعة الله -عز وجل- ما يعلمون أنه ليس من دين الله في شيء، يدخلون في ذلك؛ لأنهم يكذبون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكذبون على شريعته، هذا الوعيد الشديد يشمل هذه الفئات كلها -نسأل الله السلامة والعافية من هذه الأمور ومن هذه المزالق الخطيرة.
{(وأما الجمهور فقالوا: تقبل روايته، لأن قصارى ذلك أنه كفر، ومن تاب من الكفر قبلت توبته وروايته، وهذا هو الصحيح)}.
هذه مسألة خلافية: إذا تاب هل يقبل،
وللأسف يعني في تاريخ الإسلام هناك بعض الشخصيات التي كانت تكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وتتأول تأويلًا سمجًا في مثل هذا، ثم ما ذكر عن عصمة بن أبي مريم، أحد الوضاعين كان يكذب في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفرط جهله لَمَّا حُدث بهذا الحديث، قال: أنا لا أكذب عليه وإنما أكذب له، فكانوا يكذبون للتسويق لبعض أو لترويج بعض ما يظنونه حسن من الأعمال، فيكذبون مثلًا في الترغيب في صلاة الجنازة أو في بعض الأذكار الواردة ويجعلون لها أحاديث يركبونها، فيزعمون أنهم يكذبون للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يكذبون، هذا -والعياذ بالله- من التأويل الذي ينم عن الجهل، فئة تكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل نصرة دينه، هذا يدلك على الجهل العظيم، وهذا العمل لا يمثل الإسلام في شيء، دين الإسلام وما جاء عن شريعة الله -عز وجل- لا يحتاج إلى إكمال ولا يحتاج لهؤلاء أن يكملوه بهذه الأحاديث الموضوعة، بحمد الله ما في القرآن وما في السنة الصحيحة غُنية لوعظ الناس وتذكيرهم.
ولهذا بعض القصاص والوعاظ يحصل منهم هذا، يتجوزون أو يتساهلون مثلًا في الروايات الموضوعة لأجل ترغيب الناس في بعض الأعمال، وهذا خطأ؛ لأن الأعمال الصالحة لا تحتاج للترغيب بالأحاديث الموضوعة أو الأحاديث الضعيفة جدًّا أو الأحاديث المنكرة، مر معنا أنَّ النكارة قد تكون في جهة السند وفي جهة المتن، فالإسلام ما يحتاج هذا، ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3]، الإسلام فيه غُنية كاملًا في تشريعاته وفي أحكامه، ولهذا الله -عز وجل- بيَّن لنا الطريق في تقريب الناس للدين، فقال الله -عز وجل-: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾[ق: 45]، وقال الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]، فإرجاع الناس للدين وحثهم على الاستقامة لا يكون بمثل الأحاديث الموضوعة ولا بالقصص المكذوبة، القرآن فيه غُنية والسنة فيها غُنية والسنة الصحيحة فيها غُنية.
قد يقول بعض الناس: إننا نحتاج مثلًا إلى القصص لتقريب الناس أو لأن الناس قد يستثقلون بعض الأمور، فيحتاجون إلى القصص، نقول كذلك القصص، في القصص النبوي وفي قصص القرآن ما فيه غُنية من الأخبار والأحداث وما يجعل الناس يقبلون عليك حينما ترى أنهم قد يستثقلون بعض الأمور، مع أن القرآن فيه -كما ذكرنا- الغُنية وفيه الشفاء وفيه حياة القلوب متى ما كانت القلوب قابلة لذلك، ولهذا ينبغي للداعية ولطالب العلم أن يسلك هذا المسلك، يعتمد على ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويترك الأحاديث الضعيفة جدًّا أو المناكير ولا يحدث بها وإنما يعتمد على الصحيح، وكما ذكرنا ولله الحمد قد تيسر الحمد، البرامج الالكترونية كثيرة جدًّا تبين درجة الحديث، ولهذا شبكات التواصل والواتساب وما شاكلها يأتي للإنسان حديث ثم بعد ذلك ينشره في المجامع والجروبات، هذا في الحقيقة قد يدخل وهو لا يشعر في الوعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدً»، بعض هذه الأحاديث موضوعة أساسًا، فأنت تسوق وتروج لأحاديث مكذوبة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي الحذر وينبغي الالتزام بالمنهج النبوي في مثل هذا.
{قال: (وأما الجمهور فقالوا: تقبل روايته، لأن قصارى ذلك أنه كفر، ومن تاب من الكفر قبلت توبته وروايته، وهذا هو الصحيح)}، طبعًا أهل الحديث أنهم لا يقبلون، صحيح أنهم لا يقبلون ممن ثبت عنه الكذب ولو تاب، لأن رواية الأحاديث مبننية على التحوط والاحتياط، هذا الصحيح، لأنه من جرى منه احتياطًا لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- والمحدثون -رحمهم الله- كما لا يخفى حرصوا على ضبط الأسانيد وعلى ضبط نقل هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفنوا أعمارهم في سبيل ذلك، ولا أظن في تاريخ البشرية مرحلة علمية في جمع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- مرت بها كما مرت في مرحلة الإسلام، لأن الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان في القرن الأول والقرن الثاني بذلوا كل ما يملكون والرحلة في طلب العلم وقضوا أنفاسهم في جمع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتقاء هذا الحديث.
ومن ذلك حديث الإمام البخاري -رحمه الله-، والإمام مسلم، رحلة البخاري في الحديث رحلة شاقة حتى جمع الصحيح البخاري جامع مسلم، وانتقى هذه الأحاديث وشرط شروطًا عظيمة لأجل أن تكون هذه الأسانيد مثل الذهب، وفي روايته رجال البخاري -رحمهم الله- الذين روى عنهم البخاري، سلسلة ذهبية من الضبط والإتقان والحفظ، حتى جاء هذا الحديث نسمعه الآن كما كان أو كما خرج من في النبي -صلى الله عليه وسلم-، رزقنا الله التأسي والحرص على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وحفظه وتعليمه.
{(ومن ذلك أنه من رآه في المنام فقد رآه حقًا كما جاء في الحديث: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي»، لكن بشرط أن يراه على صورته التي هي صورته في الحياة الدنيا، كما رواه النسائي عن ابن عباس. واتفقوا أن من نقل عنه حديثًا في المنام أنه لا يعمل به، لعدم الضبط في رواية الرائي، فإن المنام محل تضعف فيه الروح وضبطها. والله تعالى أعلم)}.
هنا مسألتان، المسألة الأولى: حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابت الصحيح البخاري، «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ قَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيطَان» أو في بعض الروايات «فإنَّه سَيَرَانِي فَإِنَّ الشَّيطَانَ لا يَتَمَثَّلَ بِي»، رؤية المنام يراها الإنسان،
والتفريق بين الرؤية وبين الحُلم مُهم جدًّا لأن الحُلم من الشيطان، والحُلم قد يكون من الشيطان وقد يكون أضغاث أحلام، حديث النفس وهو ما يمر بالإنسان في عقله الواعي قبل أن ينام يتكرر عليه في صورة المنام كحديث نفس، فهذا ليس هو هذا الباب، كذلك الحُلم وهو من الشيطان أن يُري الإنسان نفسه مثلًا في مضايق أو يُريه في المنام أنه تحت ظرف أو مشكلة أو تحت أذى جسدي كما جاء في الحديث الذي جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في البخاري، "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أرى أن رأسي يتدجرح أمامي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُخْبِرْ أَحَدًا بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ»، الشيطان يتلاعب ويلعب وخاصة إذا لم يرد الإنسان ولم يذكر أذكار النوم، فإنه يتسلط عليه الشيطان بمثل هذه الأحلام المزعجة، وبخاصة أنه إذا كان قليل ذكر الله -عز وجل-، فهذه من أسباب تسلط الشيطان، هذه ليست هي الباب، وهذه علاجها كما جاء في الحديث، أن الإنسان يتفل وينفث عن يساره ثلاثًا ويتعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى فإنها لا تضره، هذا كلام الصادق المصدوق، فإنها لا تضره، الرؤية المزعجة أو الحُلم لا يضره.
الرؤى هذه كما جاء في الحديث جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، وهي من المبشرات لأهل الإيمان، لأن الرؤية قد تكون للبشارة وقد تكون للنذارة، ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [يونس: 62- 64].
قال بعض المفسرين في قوله: ﴿لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَ﴾ يعني: الرؤية صالحة يراها أو تُرى له، فمن الرؤى الصالحة ومن بشائر الخير أن يرى الإنسان النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أحب إلينا من أنفسنا من والدينا وأولادنا -صلوات ربي وسلامه عليه-، هذه من المبشرات، لكن متى تكون هذه الرؤية صحيحة؟
في الحديث قال: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي في اليقظة بِي»، هذه مبشرة لا شك، وورد باتفاق أهل العلم: أنَّ رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمنام بصفاته المعروفة، فلو رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ذكرنا صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- في أوصافه -صلى الله عليه وسلم-، لو رآه مثلًا أحول العينين، هذا لم يرى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لو رآه مثلًا لا لحية له، هذا لم يرى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا بدَّ يراه بصفاته ويراجع كتب الشمائل حتى يتحقق من هذا الوصف، فيه عام من أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كث اللحية، أن وجه -صلى الله عليه وسلم- كفلقة القمر، وأنه أبيض وبياضه ليس بالأمهق، أدعج العينين، ما ورد يتحقق منه، فإذا رآه بهذه الصفات، فقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا حكم، هذه بشارة، مجرد بشارة له لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سيراني في اليقظة»، أنه سيراه -إن شاء الله- وسيكون من بشائر الخير له، هذا لا يكون إلا لأهل الصلاح من عباد الله -عز وجل- الذين ينعم الله -عز وجل- عليهم برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا باب.
الباب الثاني:
هل للإنسان أن يتلقى من النبي -صلى الله عليه وسلم- أحكامًا؟ هذا الباب مغلق، بمعنى أن هذه مجرد رؤية بشارة، لو جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو قال: إن هذا الحديث أو حدثه بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فإنه لا يُقبل؛ لأن باب النبوة أغلق بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا تكلم ابن كثير -رحمه الله- قال: هل يقبل؟
الصحيح أنه الدين أتم ولا يمكن أن يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حال منامه شيء فيه استدراك للدين؛ لأن الدين كامل، ولهذا لا يعتمد على الرؤى في الأحكام الشرعية، وإنما هي بشارة، ولهذا مصادر التلقي عند أهل السنة معروفة من الكتاب والسنة والإجماع، ولا يمكن أن ينعقد الاجتماع إلا على دليل من كتاب الله أو من سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فليس ثمة مصادر أخرى.
الطرق المبتدعة مثل: الصوفية والطرقية ومن كان على منهجهم عندهم من مصادر التلقي الكشف والإلهام والرؤى، هذا غير موجود في منهج أهل السنة، كل هذه لا يعتمد عليها ولا يُستفاد منها أحكامًا، ولو تكاثرت فترة هذه الرؤى، فإنه لا يعتمد عليها ولا يستفاد منها بحكم، وباب الفتن في الرؤى باب عظيم ويختلط فيه الحُلم بالرؤية، تميز هذا ليس على سبيل اليقين وإنما على سبيل الظن، وأحكام الشريعة إنما تبنى على أحكام اليقين وليس على أحكام الظن.
خلاصة الكلام: أنَّه من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفاته المعروفة، فإنه سيراه في اليقظة كما جاء، وهذه من الفضائل وهي كرامة للإنسان ونعمة عليه أن يحمد الله -عز وجل- عليها، ولكن يتحقق من وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها مطابق لما ذكره أهل العلم في كتب الشمائل وما ثبت حتى تكون هذه الرؤية، ثم لا يعتمد عليها في شيء وإنما تفيد بشارة خير للرأي.
{(ومن ذلك ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه الكبير عن أبي العباس بن القاص في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، قال أبو العباس: وليس كذلك غيره حتى يموت، لقوله تعالى ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [البقرة: 217]، قال البيهقي: كذا قال أبو العباس، وذهب غيره إلى أن المراد بهذا الخطاب غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم المطلق محمول على المقيد. انتهى كلامه. قلت: وهذا الفرع لم يكن إلى ذكره حاجة لعدم الفائدة منه، وما كان ينبغي أن يذكره، لولا ما يتوهم من إسقاطه إسقاط غيره مما ذكروه وإلا فالضرب عن مثل هذا صفحًا أولى، والله أعلم)}.
طبعًا الشيخ -رحمه الله- ذكر ما ذكره الحافظ البيهقي وهو شافعي في سننه عن أبي العباس بن القاص، وهذا ذكرنا أنه من فقهاء الشافعية، في قول الله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾، وليس كذلك غيره حتى يموت، يعني المقصود أن من وقع في الشرك ثم تاب فإن الله يقبل توبته، وقال -وهذا كلام أبو العباس- قال: أن هذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه بمجرد الإشراك يحبط العمل، قال: (وليس كذلك غيره حتى يموت)، يعني غير النبي -صلى الله عليه وسلم- ممكن، طبعًا هذا الآية كما ذكر أهل العلم أدبٌ من الله لنبيه وتهديدٌ لغيره؛ لأن الله عصم الأنبياء، مر معنا أن الأنبياء معصومين من الوقوع في الشرك، فإنما هو أدبٌ لنبيه ووعيد وتهديد لغيره ولأتباعه أن يقعوا في الشرك، ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، يعني: حبوط العمل ودخول النار بالموت، حتى وإذا وقعوا في الشرك؛ لأن التوبة بابها مقبول.
(قال البيهقي: كذا قال أبو العباس، وذهب غيره إلى أن المراد بهذا الخطاب غير النبي -صلى الله عليه وسلم-)، يعني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم، (ثم المطلق محمول على المقيد) يعني: المطلق في النصوص محمول على المقيد فيما دل عليها، (قلت) وهذا كلام ابن كثير: (وهذا الفرع لم يكن إلى ذكره حاجة) تفصيلات (لعدم الفائدة منه، وما كان ينبغي أن يذكره، لولا ما يتوهم من إسقاطه إسقاط غيره مما ذكروه) يشير إلى عدم الحاجة لهذا القيد، التقييد في هذا، (وإلا فالضرب عن مثل هذا صفحًا أولى).
يعني هي تفصيلات ينبغي أن لا يستطيل فيها المؤلف، المؤلف -رحمه الله- كما ذكرنا أن على مدرسة الشافعية، فيعلق على نفس المنهج الشافعية وإلا مثل هذا الكتاب لا يحتاج فيه إلى مثل هذه التفصيلات التي ذكرها ابن كثير -رحمه الله-، وكان ينبغي الإجمال في مثل هذه الأمور وذكر ما عليه الاتفاق، لكنه يتوسع في ذكر خلاف الشافعية كأنه يميل على طريقة فقهاء الشافعية في ذكر من يخالف في ذلك.
{(ومن ذلك أنه لم يكن له خائنة الأعين، أي أنه لم يكن له أن يومئ بطرفه خلاف ما يظهره كلامه، فيكون من باب اللمز، ومستند هذا قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح حين كان قد أهدر صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح في جملة ما أهدر من الدماء، فلما جاء به أخوه من الرضاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بايعه، فتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقوم إليه رجل فيقتله، ثم بايعه، ثم قال لأصحابه: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد أمسكت يدي فيقتله؟!» فقالوا: يا رسول الله هلا أومأت إلينا فقال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين»)}.
وهذا كون النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس له خائنة أعين، هذا على ما جبل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من كريم الأخلاق والسجايا -فصلوات ربي وسلامه عليه-، فقد تمثل الخلق العظيم ومن ذلك أنه لم يكن له خائنة أعين، يعني ظاهره يقابل الباطن، فما يكون عنده خديعة أو مكر، لأن الخيانة لا توافق مقام النبوة.
طبعًا هذا يستدعينا للكلام عن ابن أبي سرح، وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان بالرضاعة -كما جاء معنا-، طبعًا النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدر دمه، ثم أستأمن له عثمان يوم الفتح، فأمنه، وبعد ذلك حسُن إسلامه ورضي الله عنه كان له صحبة كما لا يخفى، وكان له ولاية في زمن عثمان، من مناقبه -رضي الله عنه- اعتزل ما وقع بين علي ومعاوية.
يقول الذهبي بن أبي سرح أو ابن أبي السرح: لم يتعدَّ ولا فعل ما ينقم عليه بعدها، يعني بعد فتح مكة، وفي بعض الروايات أنه أزله الشيطان، فلحق بالكفار، وكان يكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعد ذلك تاب وحسُن إسلامه، فيه سمة شخصية أخرى يحصل فيها الخلط بينها وبين شخصية ابن أبي سرح، وهو رجل نصراني أسلم ثم ارتد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال هذا: ما يدري محمد ما كتب له، فأماته الله فدفنوه، فلفظته الأرض، هذا يخلط بين شخصية ابن أبي سرح وبين هذا الرجل.
ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "الصارم المسلول على شاتم الرسول" قال معلقًا على هذا الأثر: "فهذا المعلون" هذا النصراني "الذي افترى على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ما كان يدري ما كُتب له قسمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارًا"، يقول: "وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله، وأنه كاذبًا في قوله، إذا كأن عامة الموتى يموتون مثل هذا ولا يكون لهم هذا، وأن الله تعالى منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه مظهرًا لدينه ولكذب الكاذب، إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد"، هذا كلام جميل وهذا يعودنا في مسالة «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وأن عادة الله -عز وجل- في هؤلاء الذين ينسبون للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو يزعمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل كذا أو قال كذا، وهذا كله افتراء، وأنه كان في زمن النبي كذا وكذا افتراءً على النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن عادة الله -عز وجل- في هؤلاء، فينبغي حفظ مقام النبوة، حفظ مقام الصحابة من أن يتحدث الإنسان بأمور لا يعلمها أو يظنها أنها صحيحة وهي غير صحيحة، فعليه أن يتحرى، أو ينسب للنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- كما فعل.
فإذًا عادة الله -عز وجل- في الانتقام من هؤلاء، وكذلك مقام النبوة في مسألة السب، ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في قصة عساف النصراني صار له قضية في مسألة عساف النصراني الذي تعرض لمقام النبوة بالسب، وألف كتاب "الصارم المسلول في الرد شاتم الرسول"، وهو أنه لو حصل منه سب وهو كفر بالله -عز وجل-، السب لله -عز وجل- فإن حق الله -عز وجل- مبني على المسامحة، لأن الله -عز وجل- فتح باب التوبة، لكن سب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو التعرض لمقامه، فإنه متعلق بمخلوق، وهذا المخلوق وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات، فلا يمكن أن يعفو عنه، ولهذا كانت أحكام سب النبي -صلى الله عليه وسلم- مختلفة عن حكم سب الله تعالى، فينبغي للإنسان أن يحذر غاية الحذر في كلامه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، مقام النبوة أو يسترسل في الحديث، أو يقول على النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو ينسب لشريعته، أو يتعرض لمقام النبوة بشيء من التنقص، وهذا يحدث من فئة من الناس يتساهلون، يتساهلون مثلًا فيما يتعلق بزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته، توسع في الكلام فيتعرض لمقام النبوة بشيء من النقص وهو قد لا يريد، لكن ينبغي أن يعرف أنه لا يقبل مثل هذا، مقام النبوة عظيم ومحروس، وأهل الإسلام وشرائع الإسلام وأحكام الشريعة وضعت للزجر عن هذا المقام، فلا يتعرض لمقامه، لأن مقام النبوة ليس كمقام غيره من الناس، مقام النبوة عظيم، الطعن فيه أو التوسع في الكلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- توسعًا ربما يفهم منه قد لا يكون قاصدًا، التنقص من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو وعيد شديد، يكفي في هذا مع عظيم الجريمة أن الحق الشرعي ثابت عليه حتى لو أظهر التوبة، الحق الشرعي، فإذًا من انتقص من النبي -صلى الله عليه وسلم- لا شك أنه يقام عليه الحد ويقتل، وهذا أجمع عليه المسلمون.
وابن تيمية -رحمه الله- حكا الإجماع في هذه المسائل، فينبغي الإنسان أن يحذر مقام النبوة، مقام النبوة مقام عظيم، فلا يتوسع في الكلام أو كذا، يظن أن له عقله السقيم أنه يريد أنا أتكلم عن العموم، لأن بعض الناس يتوسع في هذا الكلام، إما لتخصصه في علم النفس أو لتخصصه في علم الاجتماع أو كذا، يدخل في علاقة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته، لماذا تزوج فلانة؟ أو ترك زوجته، ثم يتوسع فيقع في شيء يفهم منه التنقص، فينبغي الحذر كل الحذر من التعرض لمقام النبوة، أسأل الله أن يرزقنا تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعذيره وتوقيره الذي يليق به -صلى الله عليه وسلم-.
{قال: (كتاب الطهارة: فمن ذلك أنه كان قد أمر بالوضوء لكل صلاة، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك، ومستنده "ما رواه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا وغير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة.". أخرجه أبو داود)}.
كتاب الطهارة ما يميز شريعة الإسلام عن غيره من الشرائع هذه الطهارة، والطهارة والتنزه هذه من شعائر الإسلام العظام التي يتفاضل بها أهل الإسلام على غيره، ولهذا لو وجدت الشرائع كلها الآن، الديانات كلها لم تجد في دين من الأديان كما في دين الإسلام، الطهارة والوضوء لكل صلاة، والمؤمن يتنزه عن النجاسات ويتطهر، وهذه الطهارة ظاهرة في وجهه وفي أجزاء جسمه وفي ملابسه، الصلاة لا يقوم عليها الإنسان إلا وهو طاهرٌ، فهذا مهم جدًّا أن يعرف أن هذه من شعارات الإسلام.
المؤلف -رحمه الله تعالى- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ لكل صلاة، طبعًا الحديث أخرجه أبو داود وفيه كلام، حديث ضعيف.
خلاصة الكلام: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ لكل صلاة على وجه الاستحباب، وليس على سبيل الوجوب الصحيح، وربما صلى بالوضوء الواحد أكثر من صلاة، كما في حال الجمع، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع..، ابن تيمية -رحمه الله- ذكر أنه لا يُشرع أن يتوضأ إذا لم يصلي بذلك الوضوء، وهذا كلام تدل عليه الأدلة، يعني أنه لم يصلي بذلك الوضوء فإنه لا يشرع له أن يتوضأ.
بمعنى الآن نحن مثلًا في صلاة توضأ لصلاة الظهر مثلًا قبل نصف ساعة، لا يشرع له أن يتوضأ وهو لم يصلي، لكنه لو صلى نافلة ثم أراد أن يجدد الوضوء فلا بأس، لكن لا يشرع له، وذكر أن هذه من المحدثات.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما من لم يصلي به فلا يُستحب له إعادة الوضوء، بل تجديد الوضوء في مثل هذه الحال بدعة مخالف لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما عليه المسلمون في حياته وبعده"، واضحة الصورة يا شيخ.
يعني: إذًا لو صلى نافلة الحكم مختلف، الكلام على أنه إذا توضأ ولم يصلي لا فرضًا ولا نفلًا، فإنه لا يُشرع له إعادة الوضوء.
{(فالظاهر من هذا أنه أوجب عليه السواك، وهو الصحيح عند الأصحاب)}، يعني الشافعية، الصحيح أنه ليس بواجب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تدل على ذلك.
{(قاله أبو زكريا، ومال إلى قوته الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد "عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أمرت بالسواك حتى ظننت أنه سينزل علي به قرآن أو وحي». "وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى خشيت على أضراسي" رواه البيهقي، وقال: البخاري: هذا حديث حسن. "وقال عبد الله بن وهب: حدثنا يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عمرو مولى المطلب، عن المطلب عبد الله، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد لزمت السواك حتى تخوفت أن يدردني». رواه البيهقي، وفيه انقطاع بين المطلب وعائشة)}، طبعًا يدردني يعني يذهب بأسناني، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتسوك وينظف أسنانه ويبالغ في ذلك -صلوات ربي وسلامه عليه-.
{(فيشكل على هذا ما رواه الإمام أحمد "عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي»، ولهذا قال بعض أصحابنا: إنه لم يكن واجبًا عليه بل مستحبً)}.
طبعًا يغنى عن هذه الأحاديث التي ذكرها ابن كثير، الحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم، « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء »، والسواك من السنن العظيمة التي تهاون الناس بها، ولا شك أن السواك محبوب إلى الله -عز وجل-، في الحديث « مطهرة للرب مرضاة للرب »، ولا يمنع منه الصائم على الصحيح، لا يمنع منه الصائم والسواك مع أنها طهارة ونظافة للفهم فكذلك هو عبادة وسنة عظيمة، فينبغي للمسلم والمسلمة، لأن بعض النساء تمتنع من السواك، وفي الحقيقة هذا ابتعاد عن السنة، أن يحرص الجميع على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى تطبيقها وعلى الحرص عليها، ولقد تيسر -ولله الحمد- وصول المسواك وأفضله الأراك كما هو معلوم، وبعض المناطق يتسوكون بالبشامة وأنواع أخرى، لا بأس لكن أفضله الأراك، ويشرع عند الوضوء، ينبغي الإنسان أن يحرص، وهذه سنة عظيمة جدًّا ينبغي أن يحرص الناس على إحيائها، الآن تجد قلة من يتسوك بينما هذه عبادة عظيمة وسنة عظيمة ينبغي أن تشهر وأن يكون هناك من يحيها، لأنها سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيحرص الإنسان على هذه السنة.
كون أنها مطهرة للفهم ومرضاة للرب ونظافة، أن الله -عز وجل- والنبي -صلى الله عليه وسلم- حث عليها، لاحظ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- « لولا أن أشق على أمتي »، لولا المشقة لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، فدل أنه مستحب، فيحرص الإنسان على السواك وأن يكون السواك بين يديه وقت الوضوء وقبل الصلاة وأن يكون ملازم لهذه السنة، إحياء السنة عند هجرانها أو ضعف الإقبال عليها، ما نقول هجر لكن ضعف الإقبال عليها لا شك أن الثواب يكون عند الله -عز وجل- عظيم، والحمد لله ميسر الآن المسواك ويجلب إلى كل مكان، وينبغي أن أهل الخير والذين يشتغلون في هذا يحتسبون الأجر في نشره بين الناس، أنت حينما تبيع المسواك تحي سنة، فتحسب الأجر في ذلك في نشره بين الناس وفي إهداءه بين الناس، لأنك تحي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي سنة عظيمة ينبغي للإنسان أن لا يغفل عنها وأن يحرص عليها وأن يحث الناس عليها، رزقنا التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا وعمل.
{(ومن ذلك أنه كان لا ينتقض وضوؤه بالنوم، ودليله حديث ابن عباس في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ، ثم جاءه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ وسببه ما ذكر في حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألته فقالت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة، إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي» أخرجاه)}، إنه المقصود -عليه الصلاة والسلام- هذه من خصائصه وهذا ثابت، أن عيناه -عليه الصلاة والسلام- تنام وقلبه معه، يعني يعقل، فبهذا لا يصل إليه الحدث أو أنه لو وقع منه الحدث لعلم بذلك.
{(واختلفوا: هل كان ينتقض وضوؤه بمس النساء؟ على وجهين، والأشهر منهما الانتقاض. وكأن مأخذ من ذهب إلى عدم الانتقاض حديث عائشة في صحيح مسلم: أنها افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فوقعت يدها عليه وهو ساجد، وهو يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»، وجاء من غير وجه عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ وكأن هذا القائل ذهب إلى تخصيص ذلك به صلى الله عليه وسلم، ولكن الخصوم لا يقنعون منه بذلك، بل يقولون: الأصل في ذلك عدم التخصيص إلا بدليل)}.
طبعًا هذا كلام ابن كثير -رحمه الله- كما ذكرت لك، هو كان من المدرسة الإشرافية على الطريقة أو على المذهب الشافعي، ولهذا يقرر في بعض المسائل مذهب الشافعي، كلام ابن كثير في أن مس المرأة ناقضٌ من نواقض الوضوء هذا على مذهب الشافعية، مشهور من مذهب الشافعية أن مجرد المس أنه من نواقض الوضوء، لقول الله -عز وجل- قراءة: "أو لمستم النساء"، فإنهم يرون الملامسة هو مس البشرة البشرة أو بشرة الرجل ويد الرجل أو جزء من عضوه، فبمجرد هذا المساس يحصل انتقاض الوضوء، طبعًا كلام ابن كثير -رحمه الله- وتعبيرات تعلم أن التمذهب له أثر عليه وخاصة المذهب الشافعي كان منتشر في الشام، بل لا يكون في زمن ابن كثير القضاء والخطابة وغيرها إلا من كان شافعيًا، فهذا تقريراته -رحمه الله- على هذا المذهب لأجل هذه المدرسة التي كان يدرس فيها، ولأجل هو على هذا المذهب.
الصواب: عدم النقض بمس المرأة لأدلة كثيرة جدًّا، أولها البراءة الأصلية، يعني لا يحكم بأنه ناقض إلا بدليل سالم من المعارضة، فلا يجب الوضوء إلا بدليل سالم المعارضة، ولأمر آخر عموم البلوى بذلك، يعني أن مخالطة المرأة ومسها من قبل الزوج لزوجته هذا عام، ولو كان ناقضًا لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانًا واضحًا، بقي ما عمدة من خالف في هذا هم الشافعية، الآية على قراءات "أو لمستم النساء"، والصحيح أن الملامسة كما تدل عليه القراءة الأخرى ﴿أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [النساء: 43]، المراد به الجماع كم فسر ذلك إمام المفسرين عبد الله بن عباس -رضي الله عنه وأرضاه-.
طبعًا هذه المسألة من مفردات مذهب الشافعي -رحمه الله تعالى-، يعني المسائل التي انفرد بها، فالشافعية -رحمهم الله- لهم مفردات والحنفية لهم مفردات وكذلك المالكية في هذه المخالطة، يخالفهم في ذلك الحنفية في أن المس غير ناقض مطلقًا، يعني يقابل مذهب الشافعية مذهب الحنفية، والمالكية والمشهور من الحنابلة التفريق بين المس لشهوة أو لغيرها، يعني يقولون إذا مس المرأة وكان على وجه الاشتهاء لها، فإنه ناقض، أما إذا كان مس طبيعي فإنه غير ناقض، ما تدل عليه الأدلة والنصوص -كما ذكرنا- والبراءة الأصلية وما ذكرناه، تدل على أن المس غير ناقض مطلق، كما هو مذهب الحنفية وهذا هو اختيار ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وجملة من المفتين المعاصرين في هذه المسألة.
أما ما يحصل من الإنسان عند المس إذا حصل منه شيء، فالنقض متعلق بغير المس، لا بمجرد المس وإن كان المس سببًا في ذلك، لكن هو متعلق بغيره لأنه قد يوجد منه المس ولا يحصل منه شيء، فالصحيح على هذا، فمن وجد بعد مسه لامرأته أو لزوجته خروج مثلًا المذي، فإنه ينتقض وضوءه لأجل خروج المذي، لا لأجل هذا الشيء، فهذا ما تدل عليه الأدلة.
{(مسألة: هل كان يحتلم؟ على وجهين)}.
طبعًا ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم، والأدلة كثيرة وهذا ما كان من سنته مع أزواجه -صلوات الله وسلامه عليه-.
{قال: (هل كان يحتلم؟ على وجهين: صحح النووي المنع، ويشكل عليه حديث عائشة في الصحيحين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم.
والأظهر في هذا التفصيل، وهو أن يقال: إن أريد بالاحتلام فيض من البدن، فلا مانع من هذا، وإن أريد به ما يحصل من تخبط الشيطان، فهو معصوم من ذلك -صلى الله عليه وسلم-. ولهذا لا يجوز عليه الجنون ويجوز عليه الإغماء، بل قد أغمي عليه في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها في الصحيح، وفيه أنه اغتسل من الإغماء غير مرة، والحديث مشهور)
}.
طبعًا هذه مسألة: هل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتلم؟
قال: (صحح النووي المنع، ويشكل عليه حديث عائشة في الصحيحين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من غير جماع)، طبعًا الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتلم ولا يحتلم ولا يقع منه الاحتلام، أما ما ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبًا من غير جماع ثم يغتسل ويصوم، هذا ما فيه دليل على أن الجنابة سببها الحلم، يصبح جنبًا من غير من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم، الحديث هذا يعني من غير جماع، أنه يصبح جنب من غير جماع، ما حصل جماع.
الحديث طبعًا رواه البخاري باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، طبعًا الحديث ما فيه دلالة على وقوع الاحتلام من النبي -صلى الله عليه وسلم-، لأن موجبات الغسل متعددة، منها المباشرة دون الجماع، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله مع نسائه وخاصة إذا كان في الحيض، فكان يأمر عائشة أن تتزر ويباشرها دون الإزار، فهذا واقع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدل على أن كون دليل أنه يصبح جنب من غير جماع، الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقع منه الاحتلام، أما ما يتعلق بالإغماء فهذا كما ذكر رواة الأحاديث، وكما جاء في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قبل وفاته أغمي عليه، فهذا يقع منه، الإغماء -عليه الصلاة والسلام- لشدة الوعك والمرض -صلوات ربي وسلامه عليه.
{(ومن ذلك ما ذكره أبو العباس بن القاص أنه لم يكن يحرم عليه المكث في المسجد وهو جنب واحتجبوا بما رواه الترمذي)}.
إذًا نكتفي يا شيخ ولعلنا نكمل في الحلقة القادمة ما يتعلق بهذه المسائل -إن شاء الله-، ويكون فيه -إن شاء الله- مزيد بيان ومعرفة لهذه المسائل، يأتي معنا -إن شاء الله- أبواب كثيرة -إن شاء الله- فيما يتعلق بخصائصه -صلى الله عليه وسلم-.
وأسأل الله -سبحانه وتعالى- للجميع العلم والعمل الصالح، وأن يجعلنا موفقين وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يوفقنا لكل خير وأن يصرف عنا كل سوء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وشكر لكم، ونفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في الحلقة القادمة -بإذن الله-، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك