{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكم أعزائنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم "البناء العلمي"، لا زلنا وإياكم نتفيأ ظلال سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتاب "الفصول من سيرة الرسول" -صلى الله عليه وسلم- يشرحه فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ فهد بن سعد المقرن، باسمي وباسمكم جميعًا أرحب بفضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله فضيلة الشيخ، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، ونسأل الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{قال -رحمه الله-: (فرع: وهل يقال له صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين؟ نقل البغوي عن بعض الأصحاب الجواز. قلت: وهو قول معاوية، وقد قرأ أبي وابن عباس رضي الله عنهم ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾. ونقل الواحدي عن بعض الأصحاب المنع، لقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ [الأحزاب: 40]، ولكن المراد أباهم في النسب، وإلا فقد "روى أبو داود: «إنما أنا لكم مثل الوالد..» الحديث في الاستطابة)}.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، هذا الفرع تحته مسائل مهمة
وإنما ذكر ابن كثير هذه المسألة لتعلقها بفهم الآية لقول الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، أما أولًا من جهة النسب: القرآن قطع بنفي ذلك كما صرح الله -عز وجل- بذلك في محكم كتابه -سبحانه وتعالى-، وأما من جهة التربية والتوجيه فوصفه بذلك بأنه في مقام الأب والوالد سائغ، واستدل ابن كثير عليه بقراءة: "وهو أب لهم"، {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم}، والمشهور أن هذه قراءة أُبي بن كعب وأنه انفرد بها عن غيره من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: إنها قراءة منسوخة، وإنما هي في مصحف أُبي بن كعب، لكن عند التحقيق في سند هذه الرواية وأنها قراءة عن أُبي، الرواية في أسانيدها من هو متهم ومن فيه ضعف، كما أن سندها فيه انقطاع، وعلى التحقيق هذه القراءة ليست من القراءات المتواترة والثابتة، وإنما يذكرها من ذكرها على أنها قراءة في مقام بيان المعنى، فقد يذكر المفسرون بعض القراءات الشاذة وغير الثابتة لبيان معنى الآية، فما ذكره ابن كثير وما ذكره المفسرون إنما لبيان المعنى، ولا تصح هذه القراءة ولم تثبت أنها من القراءات الثابتة والواردة في القراءات.
وهذا يدعونا للكلام عن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمته -صلى الله عليه وسلم-، القرآن صرح بذلك فقال الله -عز وجل-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾، وهذه الأولية تعني معاني متعددة ذكرها أهل العلم، من المعاني المهمة والعظيمة التي ينبغي للمسلم أن يفهمها وأن يدركها وأن يعتقدها: محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجب أن تكون مقدمة على محبة الولد والنفس والوالد، وأنه لا يتم الإيمان ولا يكمل الإيمان إلا بمثل هذا، يدلك على هذا ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من رواية بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "كُنَّا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ» فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الآنَ يا عُمَرُ»، الآن كمُل إيمانك وعظم إيمانك وأكتمل إيمانك، وهذا من رواية البخاري، ويدل على أن كون الأولوية أن الإنسان يقدم محبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على محبة نفسه ووالده والناس جميعًا، ويفدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه وولده ووالده.
يدلك على ذلك ما رواه البخاري كذلك، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ»، وهذه المحبة لها آثار حتى تكون محبة صادقة، فإنَّ دعوى المحبة قد يدعيها جملة من الناس، لكن هذه المحبة لا بدَّ أن يكون لها آثار حتى تكون صادقة، وحتى يعلم الإنسان من نفسه أنه على هذه المرتبة، وذلك بأن يُقدم محبوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على محبوب نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، وذلك بطاعته -صلى الله عليه وسلم- وبامتثال أمره، قال الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[الأنفال: 20- 24].
فدل على أن الاستجابة لمراد الله ومراد رسوله، وتقديم مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- على مراد النفس والولد والوالد والوالدين والناس أجمعين، هذا يحصل به كمال الإيمان وكمال محبة النبي -صلى الله عليه وسلم.
ومن التصديق بنبوته -صلى الله عليه وسلم- وهو كذلك من آثار محبته -صلى الله عليه وسلم-: تعظيمه وتصديقه فيما أخبر، والإيمان بما أخبر -صلى الله عليه وسلم-، واجتناب ما نهى عن وزجر، فهذه هي حقيقة الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه الأولية وأنه أولى بالمؤمنين كانت لها آثار في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه، ولهذا لما نزلت هذه الآية، قال أهل العلم: إن الله أزال بها أحكامًا كانت في صدر الإسلام، ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾، فقالوا: كان لا يُصلي على ميت عليه دين، ثم لما فتح الله عليه بالفتوحات وبالغنائم، قال: «مَن تُوفِّى من المؤمنينَ فعلَيَّ قضاؤُهُ»، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقضي عن أصحابه -صلوات ربي وسلامه عليه.
وكذلك من معاني الأولية وأنه أولى بهم من أنفسهم: أنه -صلى الله عليه وسلم- حريصٌ على هدايتهم ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة: 128]، ومن حرصه على هداية أصحابه وهداية الناس جميعًا، أن الله -عز وجل- عاتبه في موضعين في القرآن، قال: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾[فاطر: 8]، وقال الله -عز وجل-: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَف﴾[الكهف: 6]، فحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية الناس وهداية أصحابه وتعليمهم الخير قد بلغ مبلغًا عظيمًا حتى عاتبه الله -عز وجل- على ذلك، وقد ذكر ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه يدعوهم إلى الهداية وإلى النجاة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف نفسه بذلك، قال: «أَنَا آخِذ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّار وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا تَقَحُّم الْفَرَاش».
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على هداية الناس جميعًا وحريصًا على أهل الإيمان وكان رحيمًا بهم، قال الله -عز وجل- في وصفه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4]، قال الله -عز وجل-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾[آل عمران: 159]، إلى غير ذلك من الآيات تخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمة ومقامه ومرتبته، فلا شك في ذلك، فلهذا التعرض لمقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من السلب أو التنقص هذا من أخطر ما يكون، ولعل -إن شاء الله- المؤلف يتكلم عن هذه المسألة فيما يأتي من المسائل.
{قال: (مسألة وأزواجه أفضل نساء الأمة لتضعيف أجرهن، بخلاف غيرهن، ثم أفضلهن خديجة وعائشة. قال أبو سعيد المتولي: واختلف أصحابنا أيتهما أفضل، وقول ابن حزم)}، طبعًا هو من فقهاء الشافعية، {(وقول ابن حزم: إن أزواجه -صلى الله عليه وسلم- أفضل من سائر الصحابة، حتى من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قول لم يسبقه إليه أحد، وهو أضعف الأقوال)}.
هذه من الأقوال الشاذة، وهذا ذكره ابن حزم في رسالته في المفاضلة بين الصحابة، ولا شك أن أزواجه أن أزواجه -صلوات ربي وسلامه عليه- أفضل نساء هذه الأمة بالإجماع، والتفضيل يجري في مسألتين تقريبًا: التفضيل بين أزواجه، التفضيل بين عائشة وخديجة مع الاتفاق على أن عائشة وخديجة -رضي الله عنهما- هما من أفضل نسائه، لكن أيهما أفضل؟
فخديجة وعائشة في أزواجه، أما من جهة النساء فأفضل الناس على الإطلاق بالاتفاق خديجة بنت خويلد أم المؤمنين وعائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنه- وفاطمة بنت محمد -صلوات ربي وسلامه عليه- فاطمة، فهذا محل اتفاق، لكن في التفضيل بينهن نزاع، وهذا يدعونا إلى السؤال: ما منشأ الخلاف؟ لماذا مع الاتفاق على فضل عائشة وخديجة وفاطمة -رضي الله عنهن-؟
منشأ الخلاف هو وجود جمع من النصوص في فضلهن، يعني: تجد نصًا في فضل خديجة، جاءه جبريل فقال: " بَشِّر خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ"، في عائشة -رضي الله عنها- "فضل عائشة على سائر الناس كفضل السريد على سائر الطعام" وكذلك فاطمة "سيد نساء الجنة" وغير ذلك من النصوص.
فإذًا جمع من النصوص ورد في فضلهن وليس ثَمَّ نص واحد في التفضيل بينهن، يعني هذه أفضل، وهذا ليس نظير لما جاء في حديث العشرة المبشرين بالجنة في التفضيل، فحديث العشرة ثابت وهو يرتب الصحابة في الفضل، فاتفاق أهل العلم كما هو دلالة الحديث الوارد في العشرة، أن أفضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم باقي العشرة من المبشرين بالجنة الذين ورد ذكرهم في حديث واحد.
بعد هذا إن علم هذا ابن كثير -رحمه الله- قال: (والأحسن) في غير الفصول، (والأحسن الوقف في هذه المسألة) يعني أن يتوقف، لأن النصوص -كما ذكرت- كلٌ من أصحابه أو كلٌ من أزواجه، فاطمة ورد فيها فضل، وابن القيم -رحمه الله- يقول عبارة، يقول في التفضيل بين عائشة وفاطمة، طبعًا اختلفوا في خديجة طبعًا، خديجة وعائشة في مقام من جهة أنهن من أزواجه، ويتكلم عن التفضيل بين عائشة وفاطمة -رضي الله عنهن-، قال: (إذا حرر محل التفصيل صار وفاقًا، فالتفصيل بدون التفصيل لا يستقيم) يعني يفصل في هذا، فيقول هي أفضل في كذا وأفضل في كذا، لكن لا شك في أنهن -رضي الله عنهن- من أفاضل النساء كما وردت النصوص بذلك.
{(مسألة: ويحرم نكاح زوجاته اللاتي توفي عنهن إجماعًا، وذلك لأنهن أزواجه في الجنة، والمرأة إذا لم تتزوج بعد موت زوجها فهي له في الآخرة، كما روي أن أبا الدرداء قالت له زوجته عند الاحتضار)}، عند الاحتضار يعني: عند الموت، يعني: إذا حضره الموت سُمي احتضارًا {(يا أبا الدرداء، إنك خطبتني إلى أهلي فزوجوك، وإني أخطبك اليوم إلى نفسك، قال: فلا تتزوجي بعدي. فخطبها بعد موته معاوية -وهو أمير - فأبت عليه. وروى البيهقي من حديث عيسى بن عبد الرحمن السلمي، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن حذيفة، أنه قال لامرأته: إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا. فلذلك حرم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أن ينكحن بعده، لأنهم أزواجه الجنة)}.
هذا يدعونا إلى مسألة مُهمة: وهي طبعًا كون زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- محرمات على الأمة، فقد صح النص فيه وثبت في القرآن كما هو دلالة النص في القرآن، ﴿وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَد﴾ [الأحزاب: 53]، وهذا محل إجماع، لكن طرد هذه المسألة فيمن مات عن زوجه، لا شك باتفاق أهل العلم أنه يجوز لها أن تتزوج ولا خلاف في ذلك، ولكن إذا لم تتزوج المرأة بعد موت زوجها، فإذا دخلت الجنة فمن تكون؟ الثابت من النصوص أنها له في الآخرة، أي: أنها إذا لم تتزوج فإنها لزوجها الذي مات وهي في عصمته، فإنها تكون من زوجاته في الجنة، هذا ظاهر في النصوص وأورد ابن كثير -رحمه الله- جملة من النصوص، وفي معجم الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي الدرداء مرفوعًا «المرَأَةُ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَ»، وهذا ثبت من خلال مجموع النصوص.
وهذا إنما من باب الفضائل، لكن زواج المرأة التي يُتوفى عنها زوجها بعد وفاة زوجها خيرٌ لها من عدم الزواج، لكن هذا الفضل أو مثلًا هذه الرغبة لا تقوم عليها أو تحققها وتضيع ما هو أهم، فاكتمال الواجبات أهم من تحصيل الفضائل لما في زواجها بعد زوجها من المنافع لها، خاصة إذا كانت شابة وخاصة في هذه الأزمنة التي عظمت فيها الفتنة، وبخاصة إذا تقدم لها الكفء لها؛ لأن تركها للزواج قد يترتب عليه شر وفتنة لها ولغيرها، إلا إذا كانت ليس لها رغبة في الرجال أو كانت كبيرة، هذا شأنها، فلا يمنع هذا، يعني: أن يجعل هذه المرأة تمتنع بتحصيل هذه الفضيلة أو كونها تحب زوجها الذي مات عنها ورحل عنها، أن تترك وربما تقع في شيء لأجل تحصيل هذه الفضائل، فتحقيق الواجبات وإحصان المرأة أولى من تحصيل هذه الفضيلة التي جاء الحديث بها، إنما هو إخبار لهذا، فينبغي أن يُراعى هذا.
أما كون أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- محرمات، فهذا ثبت بالنص القاطع الذي لا شك فيه.
{قال: (واختلفوا فيمن طلقها في حال حياته على ثلاثة أوجه: ثالثها أن من دخل بها تحرم على غيره، ونص الشافعي على التحريم مطلقًا، ونصره ابن أبي هريرة، لقوله تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾)}، وهذا من فقهاء الشافعية {(وعلى هذا ففي أمة يفارقها بوفاة أو غيرها بعد الدخول وجهان. وقيل: لم يكن زوجاته حرامًا على غيره إلا أن يموت عنهن، والدليل على ذلك آية التخيير، فإنه لو لم تخير للغير، لما كان في تخييره لهن فائدة، والله أعلم)}.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما طلق أحدًا من أزواجه، لن يثبت أنه طلقها أو استدام طلاقها، إنما ثبت طلاق حفصة.
{(مسألة: ومن قذف عائشة أم المؤمنين قتل إجماعًا، حكاه السهيلي وغيره، ولنص القرآن على براءتها. وفيمن عداها من الزوجات قولان)}.
طبعًا هذه مسألة مُهمة جدًّا، وإنما خصت عائشة بهذا لقصة الإفك التي مرت معنا، فعائشة -رضي الله عنها- أولًا داخلة وكذلك أمهات المؤمنين داخلات في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- محذرًا وناهيًا: «لا تَسبُّوا أصحابي لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ»، حديث ثابت في النهي عن سب أصحابه، وأن سب أصحابه من المحرمات والموبقات ومن كبائر الذنوب، وهذا باتفاق أهل العلم، وأصحابه على التحقيق من كلام أهل العلم: كل من حصلت له أو من كان له اللقاء مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو ساعة، كل هؤلاء داخلون في فضل الصحبة وإن كانت الصحبة مراتب ودرجات، ولكن كل هؤلاء يشملهم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمومه، فكل الصحابة لا يجوز التنقص منهم ولا لزمهم ولا الطعن فيهم بأي وجه كان، ولا شك أن عائشة -رضي الله عنها- لها المقام العظيم من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمور:
فقد أجمع أهل الإسلام قاطبة على أن من طعن في عائشة بما برأها الله منه فهو كافر مكذب للقرآن، قال الإمام مالك -رحمه الله-: "من سب أبا بكر وعمر جلد ومن سب عائشة قُتل، قيل: لما؟ قال: لأن الله تعالى يقول: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [النور: 17]"، قال مالك: "فمن رماها" يعني قذفها "فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قُتل"، طبعًا حكم القتل من ولي الأمر هذا باتفاق المسلمين.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "قول مالك هاهنا صحيح وهي ردة تامة وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءته".
قال أبو يعلى الحنبلي: "من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف" ما فيه خلاف في هذا.
قال النووي من الشافعية -رحمه الله-: "براءة عائشة -رضي الله عنها- من الإفك براءة قطعية بنص القرآن، فلو تشكك فيها إنسان -والعياذ بالله- صار كافرًا مرتدًا بإجماع المسلمين، وهذا لا بدَّ أن يكون على ذُكر في ذهن كل مسلم ومسلمة من التعرض لمقام عائشة -رضي الله عنها-، وقد جاء في سورة "النور" براءتها، ولهذا من خطورة قذف عائشة، من آثاره الوخيمة: أن عائشة -رضي الله عنها- في قذف عائشة قذف لأهل بيته؛ لأنها من أهل بيته قطعًا، وإيذائها بالقذف أو بالسبِّ إيذاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإيذاءه -صلى الله عليه وسلم- كفر.
فقد قام على منبره -صلوات ربي وسلامه عليه- كما مر معنا في قصة الإفك، قال: «يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَن يَعْذِرُنِي مِن رَجُلٍ قدْ بَلَغَ أَذَاهُ في أَهْلِ بَيْتي فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ علَى أَهْلِي إلَّا خَيْرً»، وتلي القصة أنه لما تكلم أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ إلى آخر القصة.
وهذا المراد هو عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ رأس المنافقين الذي أنزل الله في دمه قول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[النور: 11]، هو عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيّ في قول جمع من المفسرين، فجمع المفسرين أن المراد عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ رأس المنافقين، فاجتمع له ونقل مقولته الكاذبة جمع من المسلمين ومن أصحابه صلى الله عليه وسلم وتسرعوا في ذلك وأقام عليهم النبي حد القذف كما مر معنا، وهذا لا بدَّ أن يعلم.
فإذًا قذف عائشة له مآلات خطيرة، أنه إيذاء لأهل بيته وإيذاء للرسول -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته، وإيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته على خطرٍ عظيم، كذلك الطعن فيها، يعني القذف وما دون القذف، يعني في مسألة القذف وفي مسألة السب، الطعن فيها كذلك، يعني هذا غير القذف، سلبها وتنقصها، الطعن فيها يستلزم الطعن في الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقذف وما هو دونه، الله -عز وجل- يقول: ﴿الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ [النور: 26]، ولهذا يقول ابن كثير -رحمه الله-: ما كان الله ليجعل عائشة زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وهي طيبة، ولهذا تكلم أهل العلم وأهل التفسير في قول الله -عز وجل- في امرأة نوح ولوط: ﴿فَخَانَتَاهُمَ﴾ قالوا: أن الخيانة ليس المراد بها الخيانة بالزنا وإنما بعدم الإيمان، وقالوا: لا يمكن أن يكون النبي تحته من هي زانية باتفاق أهل العلم وإجماع المفسرين وإجماع أهل العلم.
فُعلم من هذا أن قذف عائشة لا شك أنه كُفر وتكذيب بالقرآن؛ لأن ابن كثير -رحمه الله- ذكر أنه قُتل وهو يقتل كفرًا، يقتل لكفره، وما دون القذف لا شك أنه على خطر عظيم، السب أو السلب أو التنقص، وهذا يشمل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم، ولكن عائشة لمقامها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكونها من أهل بيته لا شك أن التنقص منها أو التعرض لها بسوء مذلة الخطأ والضلال والانحراف، نسأل الله السلامة والعافية.
{(مسألة: وكذلك من سبه صلى الله عليه وسلم قتل، رجلًا كان أو امرأة، للأحاديث المتضافرة في ذلك، التي يطول ذكرها ها هنا، فمن ذلك حديث ابن عباس في الأعمى الذي قتل أم ولده لما وقعت في النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا اشهدوا أن دمها هدر")}، رواه النسائي واستدل به جمع من أهل العلم على قتل الساب، {(وقال شعبة عن توبة العنبري، عن أبي السوار، عن أبي برزة: أن رجلًا سب أبا بكر، فقلت: ألا ضربت عنقه؟ فقال: ما كانت لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي والبيهقي. وروى ابن عدي، من حديث يحيى بن إسماعيل الواسطي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا يقتل أحدكم بسب أحد إلا بسب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صنف في ذلك الشيخ الإمام أبو العباس بن تيمية كتابه الصارم المسلول، على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من أحسن الكتب المؤلفة في ذلك. والله أعلم)}.
طبعًا هذه مسألة مهمة بخاصة أنها قد تقع بين المسلمين، في المجتمع المسلم وفي مجتمع غير المسلمين، أعني سب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا بدَّ من فهمها وفهم مآلاتها وفهم اعتبارتها الشرعية،
لا شك أنَّ سبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نوع من أنواع الكفر والردة عن دين الله -عز وجل- بأي وجه كان هذا السب، فإن أظهر الساب -هذا باتفاق أهل العلم- فإن أظهر الساب توبة وكان صادقًا نفعه ذلك عند الله؛ لأن الله -عز وجل- قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيع﴾ [الزمر: 53]، ولم تُسقط التوبة عقوبة الساب وهذا موضع مهم جدًّا، وحكمه أن يقتل كما ذكر جماعة من أهل العلم وعدد غير واحد نصوا على أنه يقتل، وقتله يعني: قتل الساب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإقامة الحد عليه -الحد الشرعي- على أنه سب النبي -صلى الله عليه وسلم- مناط بولي الأمر وليس لأفراد الناس، والحدود إنما تناط بولي الأمر كما هو معلوم، هذا إذا كان مسلمًا، أما إذا كان السابُّ معاهدًا فلا شك أنه قد انتقض عهده ويجب أن يقتل، ونص على ذلك أهل العلم، المعاهد هو الذي يقيم بين أظهر المسلمين بعهد، وهذا إذا كان هناك من يقيم الحد ولاية شرعية وحاكم شرعي، وإذا لم يكن ثَمَّ من يقيم الحد فعلى المسلم أن يحذر من التعدي أو يؤدي ما يترتب عليه الضرر المتعدي على نفسه وعلى المسلمين، أنه قد يقع في بلدان أخرى تزعم الحرية وتزعم أنه ليس ثَمَّ شيء مقدس، ومن أن يتعرضون للأنبياء، ومن ذلك من نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيتعرضون بالسخرية والسب والتنقص لنبينا ولغيره، والإسلام صان مقام الأنبياء جميعًا، فساب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وساب الأنبياء في مقام وهو كفر، من سب عيسى سب محمد، من سب موسى باتفاق أهل العلم وتكلم العلماء في كفره وتكلموا في قتل من سب الأنبياء وإقامة الحد عليه، لكن هذا الحد مناط بولي الأمر وغيره من الحدود، وهذا الذي تتحقق به المصالح الشرعية، لهذا يعمد فئام من الناس وهو يريد أن ينتصر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيعمد إلى التعدي أو الوقوع في مخالفة الأنظمة المرعية في تلك البلدان، فيضر بنفسه ويضر بالجالية المسلمة ويضر بالمسلمين، وما ينفع في مثل هذه الأمور إلا أن تُناط بولاة الأمر.
ولهذا حدثت واقعة من بعض الناس أنه تعرض لمقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وحصل أحداث، وأنفع ما يكون حينما كانت الدول الإسلامية زادها الله توفيقًا وولاة الأمر أنهم استنكروا هذا الأمر وأعلنوا استهجانهم وبينوا أن هذا الأمر خطير وأن مآلاته لا تحقق السلام للبشرية، ولا تحقق السلم الاجتماعي في بلدانهم أو في بلدان العالم، وإنما هي سفاهة ومحاداة وبغض للأنبياء والمرسلين ولما جاءوا به من الحق المبين، وهذه لا يفعلها إلا الملاحدة والذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
أما أن قد قام الدليل على أنه مرتد في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65- 66]، استدل بها أهل العلم وهو محل إجماع.
هنا مسألة ربما تعرض في ذهن المشاهد والمشاهدة: أن سابَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كافر وأن حكمه القتل، وأنَّ سابَّ الله -عز وجل- لا شك أنه كفر، سب الله -عز وجل- كفر ولكن لا يترتب على من سب الله -عز وجل- حد القتل إذا تاب، فما وجه التفريق إذا تاب؟
إذا تاب من سبَّ الله تعالى لا يقام عليه الحد، بينما من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم تنفعه التوبة بينه وبين الله إذا تاب ولكن وجب أن يقام عليه الحد، فما وجه التفريق؟
التفريق بين ساب الله وساب رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجهه أن الله أعلمنا بعفوه وفضله هذا من كرم الله -عز وجل- عن الذنوب جميعًا، فقال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيع﴾ فهذا السب لله تعالى كفر، فإذا تاب منه غفر الله له، لأن الله إذا صدقت توبته كان داخل في عموم هذه الآية، أما من سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا نعلم عفوه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان في حياته يمكن، لكن بعد موته -صلى الله عليه وسلم- لا نعلم، وتعين فيه حق مخلوق وحق النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيم ليس كحق غيره، فتعين أن يقتل لأجل ذلك، هذا تعليل أهل العلم في هذه المسألة، وابن كثير -رحمه الله- وأجزل لهم مثوبة نوه بكتاب ابن تيمية الماتع الذي هو الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول، وهو من الكتب العظيمة النفع في تحقيقها وفي تفصيل هذه المسألة.
ولا زال أهل العلم ينتفع به وبتقريرات ابن تيمية كعادته -رحمه الله- من التقريرات النافعة ما يحقق الفائدة للجميع، ولهذا نوه بالكتاب ابن كثير ومع أن ابن كثير شافعي -رحمه الله- وابن تيمية محسوب على المدرسة الحنبلية، ولكن التنويه بكتب أهل العلم والإشادة بها، فهذا من باب نسبة الفضل لأهله، وهذا يدل على أن العلم رحم بين أهل العلم.
وتنويه ابن كثير بالكتاب يدعونا إلى هل للكتاب قصة؟ وفعلًا الكتاب له قصة حدثت في زمن ابن تيمية، ابن تيمية -رحمه الله- إن صحت العبارة (أُمَّةٌ فِي رَجلٍ)، يعني كان أمةً -رحمه الله- في الاقتداء وفي التعليم والعلم وفي الاحتساب والإنكار وفضله على بلده وعلى المسلمين لا يزال ينتفع الناس به، فتاوى ابن تيمية -رحمه الله- شاهدة في ذلك.
لماذا صنف ابن تيمية -رحمه الله- في الذبِّ عن عرض رسول الله والدفاع عنه؟
لأنه حصل التساهل في زمن ابن تيمية في مثل هذه المسائل، فالرجل الذي سب أو نسب أنه سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- رجل نصراني يقال له: عساف النصراني من أهل السويدة في شيام، في بلاد الشام، سوريا الآن، قال ابن كثير في البداية: شهد عليه جماعة أنه سبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- واستجار عساف بأحد أمراء البادية ممن له وجاهة ليمنعه من الناس، وفعلًا حصل له الامتناع، فحصل الكلام والناس لهم غيرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف تجرأ هذا المعاهد وهذا النصراني فيسب النبي -صلى الله عليه وسلم-!؟
فاجتمع ابن تيمية مع الشيخ الفارقي شيخ دار الحديث في الشام أو في دمشق، ودخل على الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطان في دمشق، فكلمه في أنه يجب عليه أن يحضر عساف وأن يقيم عليه الحد، فأجابهم وأرسل ليحضره، فخرج من عنده، يعني ابن تيمية -رحمه الله- والفارقي ومعهم خلق من الناس؛ لأن هذه قضية رأي والناس اجتمعوا عليها، وتوافق ذلك أن عساف جلب من السويدة إلى دمشق، فرأى الناس عساف حين قدم، فسبوه وشتموه وشتموا عساف هذا، فهذا الذي أجاره، قال مجيره -أخذته الحمية الجاهلية- قال: هو خير منكم، ولا شك أن هذه الكلمة استفزت الجماهير واستفزت، فرجمهم الناس بالحجارة وأصابت عساف النصراني، يقول: ووقعت خبطة قوية، يعني حصل فيها خصومة ولا شك أن السلطة هناك تدخلت، فأرسل النائب في طلب الشيخين، يعني عز الدين، ورسم عليهما، يعني تم إيقافهما في السجن، وقدم النصراني وأسلم، يعني في الظاهر أنه تخلص وأثبت بينة أن بينه وبين الشهود الذين شهدوا عليه عداوة، إذًا فشهادتهم ساقطة، وانحلت القضية بذلك ولحق هذا النصراني عساف بعد ذلك ببلاد الحجاز؛ لأنه أظهر الإسلام، ويقال أنه قتل في الطريق، قتله ابن أخيه، كانت عاقبته القتل ولكن كانت على غير يدي الإسلام، فالله اقتص لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بإذنه الكوني القدري وإن لم يتحقق ذلك على أيدي المسلمين.
فلا شك أنَّ التعرض لمقام النبوة بأي وجه كان خطير كما بيننا، فمقام النبوة يجب أن يحفظ وأن يراعى، سلامة الإنسان لدينه وسلامة لأمن المجتمعات؛ لأن التعرض للثوابت ومنها التعرض للأنبياء لا يخدم مصالح الناس في دينهم وفي دنياهم، يعني حتى الدنيا لما تتجه للثوابت والمقدسات وتُسيء إلى الآخرين لا شك، كما نهينا عن سب آلهة المشركين، إذا كان يترتب على سبهم والإعلان بالسب، نحن نكفر بهم لكن أذى ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108].
هذا يدلك على أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان وله ثوابت، فالإساءة إلى الإسلام وثوابته لا شك أنه خطر عظيم، ويدلك على تفاهة المسميات التي ينادي بها الغربيون، يُسمى الحرية وحرية الرأي مع أنهم يتناقضون، فيفتحون المجال للتنقص من الأنبياء؛ لأن عندنا نتكلم عن الأنبياء جميعًا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا شك أنه من أفضلهم وأعظم، لكن الإسلام لا يفرق بين الإسلام ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾[البقرة: 285]، نحن نؤمن بالرسل والإيمان بالرسل من أركان الإيمان عندنا، موسى وعيسى وسائر أنبياء الله الذين جاء ذكرهم، فالتعرض لمقام الأنبياء لا يخدم الحقيقة، والزعم بأن هذه حرية، هذه حرية منتقضة ومتناقضة لأنهم مثلًا لا يقبلون الإساءة إلى بعض الأعراق أو بعض الشعوب أو لإنكار بعض الحقائق التاريخية أو لإنكار ما يسوغ، فتجد مثلًا أنهم يجرمون مثلًا في قضية معينة بتهمة كذا، ويجرمون بالمحافظة على كذا، هذا تناقض الحقيقة، ولهذا انتقد هذا المسمى، مسمى الحرية لأنه يكون في باب ويغلق في باب، فإن الحرية إذا كانت واقعة واقع عملي فينبغي أن تكون على الجميع، لكن الانتقاء أن يكون للإنسان أن يسيء للأنبياء وإلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ويمنع وربما يحجب وربما يحاكم لأنه أنكر واقعة تاريخية وقعت في هذه البلدان بحكم أن ذلك معادي للسامية، وهذا تناقض، إذًا هذا المسمى يفصل، وهذا الحقيقة لا يخدم بلدانهم، ولهذا العقلاء منهم يعرفون أن التعرض لمقام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحقق شيء، لا يحقق إلا الانفلات الأمني وتزايد العمليات الإرهابية التي في الحقيقة ننكرها في بلادنا وفي بلاد الآخرين، ننكرها لأننا ضد الإرهاب، الإسلام ضد الإرهاب والتعدي على الممتلكات وعلى الآمنين واحترام الأنظمة المرعية في البلدان التي يعيش فيها المسلمون، المسلمون أهل عهد وميثاق وليسوا أهل غدر، لكن يجب على هؤلاء أن يراعوا أحوال المسلمين لمصالحهم قبل أن تكون مصالح المسلمين، ولا مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يضره، وبالعكس هؤلاء كلما تجروا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلما ازداد الناس له حبًا وكلما تنقصوا كلما انتشر هذا الدين، فهم يريدون أو يزين لهم الشيطان أن ذلك إسقاط لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كل ما تعرض مقامه إلى السب أو الشتم يزداد نورًا وضياءً وسيرته -صلوات ربي وسلامه عليه- حافلة، ولا شك أنه يجب أن يعلم المسلمون وغير المسلمين أن مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فينا أنه أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فلا مزايدة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا محبته والإتباع له.
{قال: (مسألة: وكان من خصائصه أنه إذا سب رجلًا ليس بذلك حقيقًا، يجعل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفارة عنه، ودليله ما أخرجاه في الصحيحين "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني اتخذت عندك عهدًا لن تخلفه، إنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، أو شتمته أو جلدته، أو لعنته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة»، ولهذا لما ذكر مسلم في صحيحه في فضل معاوية، أورد أولًا هذا الحديث، ثم أتبعه بحديث «لا أشبع الله بطنًا.. » فيحصل منهما مزية لمعاوية رضي الله عنه. وهذا من جملة إمامة مسلم رحمه الله تعالى)}.
هذه مسألة مهمة جدًّا، الله -عز وجل- قال عن رسوله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾، قال الله عنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، وقال الله عنه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[التوبة: 128]، هذا هو المتقرر من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله أثنى عليه برحمته بأهل الإيمان،
وأنس بن مالك -رضي الله عنه- لما خدم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خدمته عشر سنين، فما قال لي لما فعلت كذا ولم ينهرني لو فعلت كذا" فيما ورد عنه -رضي الله عنه-، فمقامه -صلى الله عليه وسلم- وتعامله مع الناس في غاية الخلق الكريم وهذا الغالب العام، ولهذا ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو للناس إلا بالخير، فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعانًا ولا سبابًا ولا شتامًا ولا صخابًا بالأسواق ولا يجزئ بالسيئة، إنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجزئ بالحسنة وكان يصبر على الأذى، ويعفو ويكرم، والقليل الذي خرج عن هذا الأصل، وكان في حق الأعداء الذين استطالوا في ظلمهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين.
وفي قصص مذكورة في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لرِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، وفي دعائه على من قتل أصحابه في بئر الرجيع، الذي مر معنا في السيرة، وقائع يسيرة وقعت في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو على أقوام ممن كان معه، ومن ذلك أنه دعا على الذي أكل بشماله، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: رأى رجلًا يأكل معه في صحفة، فقال له: كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر، كان يأكل بشماله، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لاستطعت، قال الراوي: فما رفعها إلى فيه، يعني شلت، قيل: أنه كان منافق، وقيل لأنه قاصد للمعصية وكذب في اعتذاره فكان هذا العقاب، ولأجل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المقام خص الله -عز وجل- بخصيصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في قوله أو ما جاء عن النبي أنه قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» يعني بطبيعته البشرية قد يغلب عليه شيء فيدعو، فتوافق محل غير قابل، فتكون رحمة لذلك الذي تحقق فيه أو جاء فيه هذا الدعاء، لهذا شارط ربه أو سأل ربه أنه قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ» بطبيعة البشرية «فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ» يعني: من الله «يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وهذا واقع.
فإذًا من خصائصه أنه إذا دعا على أحد لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ كانت هذه الدعوة رحمة، فمن طبيعته أنه قد تجد الألفاظ على لسانه -صلى الله عليه وسلم-، لأجل ذلك سأل ربه، فحقق الله له هذه الخصيصة، وفي حديث رواية ابن عباس أنه قال: " كُنْتُ أَلْعَبُ مع الصِّبْيَانِ" الذي ذكره ابن كثير "فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ، قالَ: فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً، وَقالَ: «اذْهَبْ وَادْعُ لي مُعَاوِيَةَ» قالَ: فَجِئْتُ فَقُلتُ: هو يَأْكُلُ، قالَ: ثُمَّ قالَ لِيَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لي مُعَاوِيَةَ» قالَ: فَجِئْتُ فَقُلتُ: هو يَأْكُلُ، فَقالَ: «لا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ»، فذكر أهل العلم وربما ذكر ابن كثير -رحمه الله- أن مسلم ذكر من فضائل معاوية هذا الحديث ودعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل الحديث الذي قبله وأنه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً».
فكانت هذه الدعوة من النبي -صلى الله عليه وسلم- التي جرت على لسانه زكاة وقربة لمعاوية وكانت من فضائله، ولعلنا -إن شاء الله- نكمل في الحلقة القادمة ما يتعلق بهذه المسألة -إن شاء الله-.
{أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.
في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.