الدرس الثاني والعشرون

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس الثاني والعشرون

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والأبناء الطلاب والطالبات في برنامج البناء العلمي، ونحن في الدرس الأخير وهو الثاني والعشرين من دروس العقيدة في شرح الرسالة التدمرية في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم ممن يحققوا الإيمان في أسماء الله وصفاته على الوجه الذي يرضيه، وأن يحقق الجمع بين شرعه وقدره على الوجه الذي يرضيه، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{قال -رحمه الله-: (وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ " الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ " فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَوْحِيدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِك رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ)}.
قال -رحمه الله-: (وَالْمَقْصُودُ) أي: نتيجة ما سبق، بعد أن بيَّن الواجب في القدر اعتقاداً، والواجب في الشرع اعتقاداً، وحقيقة الإسلام وحقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وحقيقة شهادة أن محمدًا رسول الله، وحقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل، والجمع بين الشرع والقدر، ثم ذكر ما يتعلق بالأسباب وضلال من انحرف بهذا الباب، فجعل الأسباب مُؤثرة بذاتها أو جعل الأسباب لا تأثير لها وبيَّن مسلك أهل الحق في إيمانهم بوجود الأسباب الكونية والشرعية وإيمانهم بتأثيرها بقدرة الله -تبارك وتعالى-.
قال: (وَالْمَقْصُودُ) بعد هذا (أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ "الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ" فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ) أي: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية عموماً، وكذلك توحيد الأسماء والصفات فهو يدخل في كل هذه الأبواب، يدخل في توحيد الربوبية لأنه إيمان بقدرة الله، ويدخل في توحيد الأسماء والصفات؛ لأنه إيمان بعلمه وكتابته ومشيئته وقدرته وخلقه وإيمان كذلك بألوهيته؛ لأنه إيمان بأمره الشرعي، فالأمر نوعان: هناك أمر كوني، وأمر شرعي، إرادته نوعان: إرادة كونية وإرادة شرعية، فلذلك الإيمان بالقدر هو من تمام تحقيق التوحيد، فإيمان بمشيئة الله -عز وجل- وإيمان بإرادته الكونية وإرادته الشرعية، وإيمان بأمره الكوني وأمره الشرعي.
(كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ) عموماً، (فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ) بأنواع التوحيد الثلاثة (وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ) أي: في نوع من أنواع التوحيد، يعني: في الأسماء والصفات وفي الربوبية فقط، يزعم هكذا، (وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَوْحِيدَهُ) يكون توحيده غير صحيح؛ لأن هذا تناقض.
قال: (وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ) أي: بزعمه كما يقرر المتكلمون والصوفية في كتبهم عن التوحيد، نقول: الذي تقرره ليس هو التوحيد؛ لأنه توحيد متناقض، وتقرير متناقض مثل ما تقدم، أي: تناقض المتكلمين في باب الأسماء والصفات، يثبت الأسماء وينفي الصفات، يثبت بعض الصفات وينفي بعضها ثم يسمي نفسه موحداً، ألا ترى التناقض الذي تقع فيه، والتعارض الذي لا يقره شرع ولا يقبله عقل ولا فطرة؟ ولهذا قال: (وَمن آمَنَ بِالْقَدَرِ) أي: بزعمه وإدعائه، (تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ) أي: بدعواه (وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَوْحِيدَهُ)، يكون متناقضًا، ثم قال: هذا الواجب في القدر (وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ).
إذاً هذا هو الدين الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ولأجله خلق الخلق، ولا يتم التوحيد ولا يتحقق الإيمان إلا بتحقيق الإيمان بالقدر والشرع معاً.
ثم ذكر اضطرار الإنسان إلى الشرع، وهذا رد على الجبرية، ضرورة الإنسان إلى الشريعة فيه رد على الجبرية.
{قال -رحمه الله-: (وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى شَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ؛ وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَتْرُكُونَهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ بَلْ الْإِنْسَانُ الْمُنْفَرِدُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هَمَّامٌ حَارِثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ»، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَاتِ فَإِذَا كَانَ لَهُ إرَادَةٌ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُرِيدُهُ هَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُ أَوْ ضَارٌّ؟ وَهَلْ يُصْلِحُهُ أَوْ يُفْسِدُهُ؟ وَهَذَا قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهُ النَّاسُ بِفِطْرَتِهِمْ كَمَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاعَهُمْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَمَا يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ بِفِطْرَتِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ كَاَلَّذِي يَهْتَدُونَ بِهِ بِعُقُولِهِمْ وَبَعْضُهُ لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِتَعْرِيفِ الرُّسُلِ وَبَيَانِهِمْ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِمْ لَهُمْ)}.
قال: (وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى الشَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ) يعني: هذا أمر فطري وأمر عقلي وأمر واقع، أن الإنسان يحتاج إلى الشريعة، ولهذا البشرية لا تقوم إلا بالنظم والقوانين والتشريعات التي تضبط حياة الناس، وهذا واقع، حياة الإنسان اليوم لا تنضبط ولا يأمن الناس ولا تستقيم أمور حياتهم إلا بالنظم والقوانين والتشريعات، فهو أمر يضطر إليه الإنسان في حياته، يعني: الأوامر والنواهي والشرائع والنظم والقوانين والتنظيمات، والإنسان مضطر إلى شرعٍ سواءً كان هو شرع رباني أو تشريعات بشرية.
(وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى الشَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ) تتعرض المصالح والمفاسد وتتعارض مصالح الآخرين، ما الذي ينظم ذلك؟ الشرائع والأوامر والنواهي والنظم التي يقرها البشر.
قال: (وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَتْرُكُونَهُ)، هنا يقارن بين الشريعة الربانية وبين النظم البشرية، لأن النظم البشرية مهما بلغت هي قاصرة، أو تنظر إلى جانب فقط من جوانب الحياة، بينما الشرع الرباني هو أكمل، ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
فتتميز الشرائع بأنها تميز بين ما يصلح للإنسان وبين ما لا يصلح له، ما ينفعه وما يضره، ولذلك قال: (وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَهو نُورُهُ) كما قال -تبارك وتعالى-: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ﴾ [الأعراف: 157]، وأيضًا قال -عز وجل-: ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَ﴾ [الشورى: 52]، فشرع الله نور وسعادة وعدل.
قال: (فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ) ولذلك لاحظوا هذه النظم التي يضعها من يضعها فيها قصور، ولهذا تجدهم يعدلون ويغيرون ويبدلون أو قد تناسب إنسانًا في مكان ولا تناسبه في مكان آخر، قال: (فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَتْرُكُونَهُ)، ثم أيضًا لو أسند الأمر لعقول البشر، هل عقول البشر تعرف كل شيء؟ هل تميز كل شيء؟ هي قاصرة، ولهذا لاحظوا أنهم إذا أرادوا أن يصوتوا على أمر تختلف الأصوات، لدرجة تصل أحيانًا الأصوات والمجالس خمسين وخمسين، معناه نصف النصف معارض ومع ذلك إذا زاد بعدد يفرض على الآخرين رأي ما ارتضوه، إذاً ما الذي يربط حياة الناس؟ هو الشرع الرباني.
ثم قال: (وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ) إذا قلنا التشريعات والنظم والقوانين، (وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ)، وهذا الذي تُعنى بها القوانين البشرية، تعنى بالجانب المادي، لكن ما يتعلق بسعادته في الآخرة ونجاته في الآخرة، علاقته بالخالق -سبحانه وتعالى-، علاقاته بالمخلوقات النظم البشرية لا تُعنى بهذا، فمهما بلغت النظم البشرية في نظر أصحابها من كمال هي قاصرة، ولهذا قال: (وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ) الدنيوية، هذا جزء من حياة الإنسان، الإنسان كم يبقى في هذه الحياة؟
{يعني: مائة سنة هذا يعتبر معمر}.
وأين بقية حياته؟
{في الآخرة}.
هل القوانين البشرية تُعنى بها؟ لا تُعنى بها، إذاً هي قاصرة، ولهذا يقول: (وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ) فقط، طيب الجوانب الأخرى، جوانب العقائد وجوانب الحقوق إلى غير ذلك، (بَلْ الْإِنْسَانُ الْمُنْفَرِدُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ) يعني: حتى لو كان الإنسان لوحده يحتاج إلى تشريع فيما يتعلق بسعادته وما ينفعه وما يضره، ولهذا انظر لو ترك الأمر للإنسان لتعاطى الإنسان وما يضره وأهلك نفسه، (فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هَمَّامٌ حَارِثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إذاً إلى غير ذلك حاجة الإنسان إلى الشرائع، فلا بدَّ أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار، وهل يصلح له أو يفسد ولو ترك الأمر لعقول البشر، فالعقول قاصرة، بل تلاحظ أحيانًا الشاذين يطالبون بالحقوق، مما يدل على قصور القوانين البشرية والنظم البشرية.
قال: ما يصلح للناس وما يفسدهم، هل يمكن للعقول والفطر أن تدركه من كل وجه، ذكر أنواع ما تدركه العقول والفطر من مصالح ومضار، قال وهذا ما يتعلق بالمنافع والمضار والمصالح والمفاسد، قال: (وَهَذَا قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهُ النَّاسُ بِفِطْرَتِهِمْ) يعني فيه أمور فطرية، ولهذا لاحظ الإسلام وجد بعض القيم الأخلاقية التي كانت في الجاهلية فأقرها وهذبها، فمن الأمور ما يدركها البشر بفطرهم، (كَمَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاعَهُمْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ) لكن بعضه وليس كله، (وَكَمَا يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ بِفِطْرَتِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ كَاَلَّذِي يَهْتَدُونَ بِهِ بِعُقُولِهِمْ) يعني: يدركه العقلاء وليس أحاد الناس، ولهذا في بعض الأمور لا تحتاج أنك تصوت للجماهير؛ لأن الجماهير ستصوت على أشياء مغلوطة، هذا يحتاجه أهل العلم والعقل والخبرة وخاصة الناس ممن يدركون ذلك بعقولهم.
لاحظ الآن في قضية جائحة كورونا، لو تترك الأمر لعموم الناس ربما أوقعوا أنفسهم في الهلاك، فتحتاج إلى حزم وأهل خبرة وعلم، فمنه ما يدركه بعقولهم.
ثم صنف ثالث: (وَبَعْضُهُ لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِتَعْرِيفِ الرُّسُلِ وَبَيَانِهِمْ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِمْ لَهُمْ)، إذاً لاحظ إدراك المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، منه ما يدرك بالفطر، ومنه ما يدرك بالعقول، ومنه ما تحتاج فيه إلى الرسل، ولهذا الإنسان يحتاج إلى الرسل في التعريف بالخالق -سبحانه وتعالى-، والتعريف بشرعه وما يحبه ويرضاه، وكذلك فيما يتعلق بالجزاء الأخروي.
ثم انتقل إلى مسألة: هل العقول والفطر تدرك كل شيء أم لا؟ وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين.
{قال -رحمه الله-: (وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ هَلْ يُعْرَفُ حُسْنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ أَمْ لَيْسَ لَهَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ. فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يُلَائِمُ الْفَاعِلَ أَوْ يُنَافِرُهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ الْفَاعِلُ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَسَبَبًا لِمَا يُبْغِضُهُ وَيُؤْذِيه وَهَذَا الْقَدْرُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً وَبِالشَّرْعِ أُخْرَى وَبِهِمَا جَمِيعًا أُخْرَى)}.
مسألة الحسن والقبح للأشياء قبل ورود الشرع، هل العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها، يقول: (وَفِي هَذَا الْمَقَامِ) أي: معرفة النافع والضار والحسن والقبيح، (وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ هَلْ يُعْرَفُ حُسْنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ) الأقوال فيه ثلاثة: المعتزلة قالوا نعم، العقل يميز بين الحسن والقبيح ويعتمد عليه في الحكم، هؤلاء غلوا في هذا الجانب.
الأشاعرة قالوا: إننا لا نعرف حسن الأشياء وقبحها إلا بالشرع، وهذه مغالطة ومكابرة مع أنه ينقد أصلهم مع تقديم العقل على النقل.
أهل الحق قالوا: إن العقل يدرك في الجملة، وإن كان هناك أمور لا يدركها لقصوره، ولكن مع إدراكه هذا الإدراك لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب إلا بالشرع، ولذا قال: (هَلْ يُعْرَفُ حُسْنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ أَمْ لَيْسَ لَهَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)، وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين قبل ورود الشرع، (وَبَيَّنَّا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ) أي من الخلاف الذي حصل، (فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يُلَائِمُ الْفَاعِلَ أَوْ يُنَافِرُهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ) في الجملة، (وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ الْفَاعِلُ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَسَبَبًا لِمَا يُبْغِضُهُ وَيُؤْذِيه).
قال: (وَهَذَا الْقَدْرُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً) لاحظ إذاً العقل محدود، (يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً وَبِالشَّرْعِ أُخْرَى وَبِهِمَا جَمِيعًا أُخْرَى) يعني يأتي الشرع موافق للعقل أو أحيانًا يكون الحكم فيه للشرع لأن العقل لا يدرك كل شيء.
{قال -رحمه الله-: (لَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةَ الْغَايَةِ الَّتِي تَكُونُ عَاقِبَةُ الْأَفْعَالِ: مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ)}.
ولذلك كثير من الحكم في العبادات والعلل قد تدرك بالعقول، ولهذا يذكر الفقهاء في كتب الفقه بعض الحكم، تلاحظ أن بعض هذه الحكم هي استنباطات وبعضها يقول إن الحكمة تعبدية، لأن الحكم ليست خاصة بالدنيا بل هي أمور للدنيا والآخرة أو هما معاً.
{قال -رحمه الله-: (فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَمَرَتْ بِهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ جُمَلَ ذَلِكَ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ وَجَاءَ بِهِ الْكِتَابُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ إنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ﴾ )}.
هنا الآن ذكر الراجح وهو أن العقول قد تدرك بعض ذلك لكن على سبيل التفصيل والكمال لا يكون إلا عن طريق الشرع، فثَمَّ أمور العقل لا يدركها، ثم ذكر من ذلك قال: (لَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةَ الْغَايَةِ الَّتِي تَكُونُ عَاقِبَةُ الْأَفْعَالِ: مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ)، يعني: قضية العلم بأسماء الله وصفاته على جهة التفصيل، العلم بأمره ونهيه على جهة التفصيل، العلم بالجزاء الأخروي، هذا لا يكون إلا عن طريق الشرع وليس لعقول الناس، عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعلم إلا بالشرع، (فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ) هذه أمور غيبية لا تُدرك بالعقول، (وَأَمَرَتْ بِهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ) وأن أدركت ذلك في الجملة، (كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ).
لاحظ هو ذكر قضية الأسماء والصفات وقضية الأوامر والنواهي وقضية الجزاء الأخروي، هذه الأمور لا تدرك إلا عن طريق الرسل، فالعقول قاصرة أن تدرك هذه الأشياء، وكذلك الحكم، ولهذا المسلم يمتثل الأمر وإن لم يعرف الحكمة ويجتنب النهي وإلا لم يعرف الحكمة، لكن يعلم أن الله -عز وجل- ما أمر بأمر إلا وهو مصلحة، إما مصلحة محضة أو مصلحة راجحة، وما نهى الله عن شيء إلا وهو مفسدة، إما مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، فهو يؤمن بأمره وشرعه ويمتثل الأمر ويجتنب النهي، ويعرف أن الله -عز وجل- له الحكمة البالغة في كل شيء، فيؤمن بها وإلا لم يعرف الحكم من ذلك، ولهذا جاء في الأثر: "لا تكونوا كاليهود، يقولون لماذا أمر ربنا؟ ولكن قولوا: ماذا أمر ربنا"، فيتمثل الأمر ويعلم أن الله له الحكمة البالغة.
يقول: (وَهَذَا التَّفْصِيلُ) يعني: التفصيل فيما يدركه العقل وما لا يدركه، الراجح في مسألة التحسين والتقبيح العقليين (الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ وَجَاءَ بِهِ الْكِتَابُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ)، ثم ذكر الأدلة على ذلك، وأن العقول تدرك في الجملة ولكن على جهة التفصيل لا يكون إلا عن طريق الرسل.
ثم ذكر من ضل في هذا الباب ورد عليهم وهم الذين اعتمدوا على العقل في التحسين والتقبيح العقليين على جهة التفصيل ومن نفوا إدراك العقل للحسن والقبح.
{قال -رحمه الله-: (وَلَكِنْ تَوَهَّمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا وَأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَقَابَلَتْهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ظَنَّتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ: يَخْرُجُ عَنْ هَذَا فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَثْبَتَتَا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ أَوْ الشَّرْعِيَّيْنِ وَأَخْرَجَتَاهُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ غَلِطَتْ)}.
يعني ماذا؟ يقول الغالية والجافية، يعني: التي جعلت العقل يدرك كل شيء وهو مناط التكليف ومناط الثواب والعقاب وهم المعتزلة، أو الطائفة الأخرى التي جعلت أن العقل لا يدرك الحسن والقبح وهم الأشاعرة، قال: (فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ قد غَلِطَتْ) أي: في هذا الباب.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ إنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمَّا كَانَتَا تُنْكِرُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالْفَرَحِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ: تَنَازَعُوا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مِنْهُ قَبِيحٌ)}.
طبعًا وهذا من ذكاء ابن تيمية، قلب عليهم الدليل، مثلما قال: أنتم تقولون العقل مقدم على النقل، ثم تأتون في باب الحسن والتقبيح العقليين وتقولون: إن العقل يدرك، كيف هذا؟ تناقض أو لا؟
ثم أيضًا هم في باب الصفات الأشاعرة والمعتزلة ينكرون صفة المحبة وصفة الرضا وصفة السخط، كيف ذلك وأنتم تقولون: إن الحسن والقبح عائد للشرع والعقل، قال: (ثُمَّ إنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ) يعني: سواءً كانوا المعتزلة أو الأشاعرة (لَمَّا كَانَتَا تُنْكِرُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالْفَرَحِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ) على إثبات الصفات كما تقدم (تَنَازَعُوا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مِنْهُ قَبِيحٌ) كيف؟ هل السبب أن ذلك (مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قُدْرَتُهُ عَلَى مَا هُوَ قَبِيحٌ؟ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ لِمُجَرَّدِ الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ؟) اضطربوا في هذا على قولين؛ لأنه عاد لقضية التلازم بين ضلالهم في الأسماء والصفات وضلالهم في الحسن والقبح العقليين.
{قال -رحمه الله-: (وَالْقَوْلَانِ فِي الِانْحِرَافِ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أُولَئِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ؛ فَلَا جَعَلُوهُ مَحْمُودًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْعَدْلِ أَوْ مَا تَرَكَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَلَا مَا فَعَلَهُ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ التَّعْذِيبِ وَالنِّقْمَةِ وَالْآخَرُونَ نَزَّهُوهُ بِنَاءً عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَسَوَّوْهُ بِخَلْقِهِ فِيمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ، وَشَبَّهُوهُ بِعِبَادِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ)}.
يعني يقول: إن هؤلاء جبرية وهؤلاء قدرية، (وَالْقَوْلَانِ فِي الِانْحِرَافِ) أي: في التحسين والتقبيح العقليين (مِنْ جِنْسِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ) في القدر، (أُولَئِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ) وهم المعتزلة (وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ؛ فَلَا جَعَلُوهُ مَحْمُودًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْعَدْلِ أَوْ مَا تَرَكَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَلَا مَا فَعَلَهُ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ التَّعْذِيبِ وَالنِّقْمَةِ وَالْآخَرُونَ) بضدهم (نَزَّهُوهُ بِنَاءً عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَسَوَّوْهُ بِخَلْقِهِ فِيمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ، وَشَبَّهُوهُ بِعِبَادِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ) يعني هؤلاء جبرية وهؤلاء قدرية في طرفي نقيض، وهؤلاء أخذوا بالشرع ونفوا القدر، والآخرون أخذوا بالقدر ونفوا الشرع بل لم يحققوا الجمع بينهما، ثم أيضًا بيَّن ضلال طائفة أخرى في زعمهم وجود تناقض بين الشرع والقدر.
{قال -رحمه الله-: (فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ فَقَطْ وَعَظَّمَ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَوَقَفَ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ: لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ)}.
وهؤلاء من؟ الصوفية وهي عقيدة الجبرية، فمن نظر إلى القدر فقط أهمل الشرع، يصبح الآن إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع والأوامر ما لها قيمة عند هؤلاء، (فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ فَقَطْ وَعَظَّمَ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ) ظنه هذا أن هذا هو التوحيد المطلوب، وألغوا الشريعة، (وَوَقَفَ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ) هؤلاء الجبرية ومنهم الصوفية، رد عليهم قال.
{قال -رحمه الله-: (لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ بِالضَّرُورَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَشَرَائِعِهِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالذَّوْقِ وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ)}.
إذاً رد على هؤلاء، بيَّن ضلال هؤلاء وهم الجبرية ويسمون شهود الحقيقة الكونية وترك الحقيقة الشرعية، بيَّن من هؤلاء لم يميزوا بين العلم والجهل، والصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، تصبح الآن عندهم كلها سواء والشريعة تصبح ما لها قيمة، ثم قال: إن هذا المذهب وهو مذهب الجبرية أنهم بهذا (مُخَالِفُونَ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالذَّوْقِ وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ) فرد أولاً ما وجه مخالفتهم لضرورة الحس والذوق قال.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَذَّ بِشَيْءِ وَيَتَأَلَّمَ بِشَيْءِ فَيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَمَا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَبَيْنَ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ)}.
وهذا هو الجواب الأول في الرد عليهم وهو الجانب الحسي وجانب الذوق.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَشَرَ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ دَائِمًا: فَقَدْ افْتَرَى وَخَالَفَ ضَرُورَةَ الْحِسِّ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ)}.
يعني: الجواب الأول الذوق، خالف الذوق، والجواب الثاني: خالف الحس.
{( وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَارِضٌ كَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ عَنْ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ فَأَمَّا أَنْ يَسْقُطَ إحْسَاسُهُ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّ النَّائِمَ لَمْ يَفْقِدْ إحْسَاسَ نَفْسِهِ بَلْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُوءُهُ تَارَةً وَمَا يَسُرُّهُ أُخْرَى فَالْأَحْوَالُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ عَدَمَ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ مَعَ نَقْصِ صَاحِبِهَا - لِضَعْفِ تَمْيِيزِهِ - لَا تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْقُطُ فِيهِ التَّمْيِيزُ مُطْلَقً)}.
وهو أيضًا يرد على هؤلاء بزعمهم بدعوى سقوط التكاليف والوصول إلى اليقين والوصول إلى شهود الحقيقة الكونية، يقول: (وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَشَرَ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ) تسقط عنه التكاليف ولا يحتاج إلى الشريعة، كما هو موجود عند الخرافيين من الصوفية وعند الجبرية، يرون أنه لا حاجة إلى الشريعة إذا وصل إلى تحقيق شهود الحقيقة الكونية والحقيقة الربوبية، كما خالف الذوق خالف الحس أيضًا، ثم ذكر أنه قد تحصل مثل هذا لبعض الناس عارض السكر والإغماء فلا يشعر بتركه للتكاليف الشرعية.
ذكر بعض المصطلحات الصوفية، قال: (فَالْأَحْوَالُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَ) أي: في كتب الصوفية (بِالِاصْطِلَامِ)، الِاصْطِلَامِ يقول ابن عربي: نوع وَلَهٍ يَرِد على القلب فيسكن تحت سلطانه، هكذا مصطلحات صوفية يسمونها الِاصْطِلَامِ.
والفناء يعبر عنه أيضًا ابن عربي فيقول: عدم رؤية العبد لفعله بقيام الله على ذلك، هذا يصل عندهم يسمونه الحلول والاتحاد، والسكر أيضًا يقول عنه القشيري وهو يتكلم عن الأحوال، يقول: والحال عند القوم معنى يَرِد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب، القوم يقصد الصوفية، ولا اكتساب لهم من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو شوق أو انزعاج أو هيبة أو احتياج.
السُّكْرِ يقول عنه القشيري: غيبة بوارد قوي، كلها مصطلحات صوفية تدل على سقوط التكاليف إذا وصل إلى هذه الأحوال وهذه الحالات، وهي أشبه ما تكون بحالات الإغماء، طبعًا شيخ الإسلام يسميها السُّكْرِ، السكران لا يعي ما يقوله، فهم يزعمون أنه إذا وصل إلى هذه المرحلة ليس بحاجة إلى التكاليف، هل هذه صفات كمال ولا صفات نقص؟ صفات نقص.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ نَفَى التَّمْيِيزَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُطْلَقًا وَعَظَّمَ هَذَا الْمَقَامَ فَقَدْ غَلِطَ فِي الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ: قَدْرًا وَشَرْعًا وَغَلِطَ فِي خَلْقِ اللَّهِ وَفِي أَمْرِهِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ وُجُودَ هَذَا؛ لَا وُجُودَ لَهُ وَحَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ وَلَا مَدْحَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ: الْعَقْلُ وَالْمَعْرِفَةُ)}.
الإشكال أنهم جعلوه هو الغاية، جعلوا أن هذا هو الغاية من العبد وهو أن يصل إلى هذه المرحلة التي تسقط عنه التكاليف ويلزمونها وصل إلى الحقيقة الكونية وتحقيق الربوبية، ظنوا أن هذا هو الغاية من الخلق والغاية من إرسال الرسل والغاية من إنزال الكتب وقد ضلوا ضلالًا مبينًا، ذكر من خرافاتهم.
{قال -رحمه الله-: (وَإِذَا سَمِعْت بَعْضَ الشُّيُوخِ)}، بعض الشيوخ يعني الصوفية، سواءً سمعت منهم أو قرأت في كتبهم، ماذا يقول أحدهم؟
{(يَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ)} كيف؟ يعني بمعنى أنه مسلوب الإرادة.
{(أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ لَا حَظَّ لَهُ وَأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ)}، بمعنى أنه مسير لا مخير، يعني: هو مجبر، هذه عقيدة الجبرية، ولذلك قد يوجد أحيانًا عند الطرق الصوفية كما يوجد عند بعض من يتأثرون بالطرق الصوفية من التبلغيين وغيرهم مثل هذه العبارات، وبعضهم يرددها وهو لا يعرف هذه المعاني.
{(وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا إنَّمَا يُمْدَحُ مِنْهُ سُقُوطُ إرَادَتِهِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا وَعَدَمُ حَظِّهِ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ بِطَلَبِهِ وَأَنَّهُ كَالْمَيِّتِ فِي طَلَبِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِطَلَبِهِ وَتَرْكِ دَفْعِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِ وَمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَبْطُلُ إرَادَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ؛ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ. وَمَنْ مَدَحَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ)}.
يعني: من مدح من هذه الحالة، التي يقول بهذا القول فهذا مخالفة للذوق والحس والعقل والشرع، هل حصلت للأنبياء؟ هل حصلت للصحابة؟ هل حصلت لخيار الخلق؟ الإشكال أنهم يسمون هؤلاء المعتوهون بالأولياء، وهذه لم تحصل لسادات الخلق، ثم ذكر أقسام الفناء الذي يقرره الصوفية في كتبهم.
{قال -رحمه الله-: (وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: فَيَفْنَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَعَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ؛ وَعَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ بِخَوْفِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَّبِعُ الْعَبْدُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ، وَبِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ)}.
قال: (وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ) على وجه العموم كما يقال في التأويل، التأويل مثلاً على ثلاثة أنواع عموماً، هنا أيضًا أراد الفناء على جهة العموم (أَحَدُهَا: هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ) سماه من حيث المعنى لا من حيث المصطلح، وإلا هو من حيث المصطلح الشرعي يسمى الإخلاص، يسمى تحقيق العبودية، يسمى تحقيق التقوى، وهذا هو الذي جاءت به الرسل من حيث المعنى لا من حيث الاصطلاح، ونزلت به الكتب وهو الإخلاص لله كما جاء في الآيات، العبودية لله كما دعا إليها الرسل، التقوى كما أمر الله بها في كتابه، هذا هو المعنى الصحيح، إخلاص العمل لله وتقوى الله -عز وجل- فيما أمر ونهى، وعبادته -عز وجل- في كل شيء.
قال: (فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ) وهو حقيقة الدين، حقيقة الإخلاص وحقيقة العبودية وحقيقة التقوى، هذا المعنى محمود وإن كنا لا نسميه بالفناء الديني لكن نسميه بالتقوى والعبادة والإخلاص، طبعًا الصوفية يسمونه في كتبهم إرادة السوى، يعني: إرادة الله وحده لا شريك له، هذا المعنى لا إشكال فيه وإن كنا لا نوافق على المصطلح.
المعنى الثاني عندهم يقولون.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا الْفَنَاءُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا حَالٌ نَاقِصٌ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ طَرِيقِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نِهَايَةَ السَّالِكِينَ فَهُوَ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِكُلِّ سَالِكٍ)}.
وهذا الذي يسمونه شهود ما سوى الله، وهو الذي يذكره بعض الصوفية ليس كل الصوفية، (وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى) بمعنى أنه لا يلتفت إلى الأسباب، لا يحتاج إلى أحد من الخلق، (فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ لِمَا سِوَى اللَّهِ)، ولذلك تجد أحيانًا في كتب الوعظ يذكرون مثل هذه الأشياء التي خلاف الواقع، كأن يقوم أحدهم يصلي فانهدم المسجد وهو لم يشعر، كيف هذا؟ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ويسمع بكاء الصبي في الصلاة ويخفف الصلاة، فهذا الذي يقولون بحيث أنه يغيب عمن حوله، قال هذه الحال هي: (حَالٌ نَاقِصٌ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ) أي: لبعض العُباد وهو موجود في كتبهم خاصة إحياء علوم الدين وكتب الوعظ، قال: (وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ طَرِيقِ) يعني: هي كمالات، ولهذا لم يعرض مثل هذا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا السابقين، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم- ما سمع بكاء الصبي، ما فتح الباب لعائشة، هل حصل لهم لما شاهدوا النار يغمى عليه أيامًا، ما حصل لهم مثل هذا، هذا يحصل لبعض العُباد، ولم يجعل أيضًا هو الغاية، (مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ) زعموا أن هو الكمال ولذلك يعرض (فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ) بمعنى أنها حالات تعرض لبعض الناس دون بعض، فليس هو من اللوازم التي تحصل بهذا، ولذلك خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم.
لكن هم جعلوا هذه الحالات هي غاية السالكين للطريق، هذا الذي يسميه الصوفية يفنى عن الشهود ما سوى الله، وأحيانًا قد يصل فيها إلى نوع من ترك الأسباب، مثل ما ذكر الغزالي عن أحد العُباد أنه خرج للصحراء بزاد قليل، توكل على الله، ثم عقب وقال: وأفضل منه من خرج إلى الصحراء بلا زاد ثقة بالله، هذا مدح ولا ذم؟ ما حصل من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ماذا فعل في الهجرة؟ أخذ بالأسباب، وماذا فعل في غزوة الأحزاب؟ فيما يقررونه أحيانًا من ترك الأسباب والمغالاة في هذا الشيء هذا لا شك أنه خلاف ما جاء به الرسل.
النوع الثالث قال.
{النوع الثاني لكنه يقع ليس أكذوبة}.
واقع لكنه ليس هو الغاية، ولذلك هو يقول: إنه عوارض تحصل، لكنها ليست هي الغاية، ليست هي من صفات كمال، ليست صفات مدح، ولهذا ما حصلت لخيار الخلق.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السَّوِيِّ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ)}.
الذي هو وحدة الوجود، يسمونه الاتحاد ووحدة الوجود، يفنى المخلوق تمامًا.
{(وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَضَلِّ الْعِبَادِ وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ)}.
طبعًا هو الآن رد على الصوفية، الوجه الأول: أنهم خالفوا ضرورة الحس والذوق، والثاني: خالفوا ضرورة العقل والقياس.
{(وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ: فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْرُدَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْقَدَرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ فَعُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُجَاعَ حَتَّى يُبْتَلَى بِعَظِيمِ الْأَوْصَابِ وَالْأَوْجَاعِ فَإِنْ لَامَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ وَعَابَهُ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلُهُ وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ)}.
ولذلك هذا الذي يدعي أنه لا يلتفت إلى الأسباب، لو جاء لص ودخل عليه وسلب الأموال وانتهك الأعراض، هل سيتركه ويقول مؤمن بالقدر، سيدافع أو لا؟ سيدافع، نقول: إذاً أنت بدعواك لما تركت الشريعة بدعوى إيمانك بالقدر خالفت الحس والعقل في أمور دنياك، هل سيمكث في بيته ويدع السماء تمطر عليه ذهبًا وفضة، إذا جاع ماذا يفعل؟ يخرج للعمل، إذاً مع إيمانك بأن الأرزاق مقدرة فعلت الأسباب، فهو خالف أيضًا العقل والحس، هذا جواب عقلي.
{(وَقِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُهُ: مُتَنَاوَلٌ لَك وَلَهُ وَهُوَ يَعُمُّكُمَا فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك)}.
احتجاجه بالقدر على ترك العبادات، نقول له: لماذا لم تحتج بالقدر على ترك المعاش والأكل والشرب والزاد ونحو ذلك؟ تناقض عقلي.
{(هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُهُ: مُتَنَاوَلٌ لَك وَلَهُ وَهُوَ يَعُمُّكُمَا فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَذَا وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَا لَك وَلَا لَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ وَيُعْرِضُ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ)}.
ولهذا يذكر أن لصاً في زمن عمر لما سرق وحكم عليه بإقامة الحد اعترض وقال: كيف تقطعون يدي وأنا وإنما سرقت بقدر الله، فرفع إلى عمر، قال: "سرقت بقدر الله ونقطع يدك بقدر الله"، فما الذي أخرج الشرع عن القدر، هو من قدر الله، فهذا أيضًا يرد به على هؤلاء.
ثم انتهى من هذا انتقل إلى لما ذكر الواجب في القدر عملاً، ذكر الواجب فيما اعتقاداً، انتقل للواجب في الشرع والقدر عملاً، وبه يختم هذه الرسالة.
{قال -رحمه الله-: (وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ)}، يعني: يجمع بين الشرع والقدر، وهذا حقيقة الجمع بينهما.
{(كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئً﴾ . وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ: ﴿إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ ، فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ ، فَأَمَرَهُ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّبْرِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ» وَقَالَ: «إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ». وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَهَزْلِي وَجِدِّي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لا إلهَ إلَّا أنتَ»)}.
وهذا الحقيقة من ذكاء ابن تيمية كيف أنه بيَّن حقيقة الجمع بين الشرع والقدر وأن المؤمن مأمور يفعل المأمور ويترك المحذور ويصبر على المقدور، وإذا حصل تقصير عليه أن يستغفر الله -عز وجل- من تقصيره في طاعة الله، ذكر أدلة الاستغفار وأهمية الاستغفار وهذا ظاهر.
{(وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ؛ وَعَنْ إبْلِيسَ أَبِي الْجِنِّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَصَرَّ مُتَعَلِّقًا بِالْقَدَرِ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ فَمَنْ أَذْنَبَ وَتَابَ وَنَدِمَ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً﴾ وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ: «يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ؛ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً»، وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ»)}.
هذه هي الخاتمة، خاتمة هذا الكتاب وهي جماع الواجب في الشرع وجماع الواجب في القدر وبه يختم هذا الكتاب.
{وقال -رحمه الله-: (وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ مَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِنْ أَصْلَيْنِ. فَفِي "الْأَمْرِ" عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الِامْتِثَالِ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا تَزَالُ تَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ. ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمَأْمُورِ وَتَعَدِّيهِ الْحُدُودَ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ﴾ فَقَامُوا بِاللَّيْلِ وَخَتَمُوهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابً﴾ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ وَأَمَّا فِي "الْقَدَرِ" فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ)}.
كما أن الواجب في الشرع أمران، الواجب في القدر أمران، وهذا ظاهر في الشاشة أمام الإخوة المشاهدين.
(وَأَمَّا فِي "الْقَدَرِ" فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ؛ وَيَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ وَيَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ؛ وَإِذَا آذَاهُ النَّاسُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِجَاجُ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا قَالَ: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَبِكَمْ وَجَدْتَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ قَالَ: بِكَذَا وَكَذَا فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَتَبُهُ لِآدَمَ لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ كَانَ تَابَ مِنْهُ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ؛ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِنْ المعائب)}.
ولهذا يقال: يحتج بالقدر على المصائب ولا يحتج بالقدر على المعائب.
(وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ فَمَنْ رَاعَى الْأَمْرَ وَالْقَدَرَ كَمَا ذَكَرَ: كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقً)}، وهذا هو حقيقة الجمع بينهما.
{(وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً﴾ فَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْأُضْحِيَّةِ: «اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك» فَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ.
وَلَا بُدَّ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالثَّانِي مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا؛ وَقَالَ الفضيل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلً﴾ قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا يَا أَبَا عَلِيٍّ: مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْعَمَلُ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا؛ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَفِعْلِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ مِنْ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ. وَالدِّينُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ.
ثُمَّ إنَّ النَّاسَ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: فَالْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ هُمْ لَهُ وَبِهِ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَهُ. وَطَائِفَةٌ تَعْبُدُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا صَبْرٍ فَتَجِدُ عِنْدَ أَحَدِهِمْ تَحَرِّيًا لِلطَّاعَةِ وَالْوَرَعِ وَلُزُومِ السُّنَّةِ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَوَكُّلٌ وَاسْتِعَانَةٌ وَصَبْرٌ؛ بَلْ فِيهِمْ عَجْزٌ وَجَزَعٌ. وَطَائِفَةٌ فِيهِمْ اسْتِعَانَةٌ وَتَوَكُّلٌ وَصَبْرٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ عَلَى الْأَمْرِ وَلَا مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ فَقَدْ يُمَكَّنُ أَحَدُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الْحَالِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيُعْطَى مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ مَا لَمْ يُعْطَهُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى؛ فَالْأَوَّلُونَ لَهُمْ دِينٌ ضَعِيفٌ وَلَكِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بَاقٍ؛ إنْ لَمْ يُفْسِدْهُ صَاحِبُهُ بِالْجَزَعِ وَالْعَجْزِ؛ وَهَؤُلَاءِ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ وَقُوَّةٌ وَلَكِنْ لَا يَبْقَى لَهُ إلَّا مَا وَافَقَ فِيهِ الْأَمْرَ وَاتَّبَعَ فِيهِ السُّنَّةَ وَشَرُّ الْأَقْسَامِ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ؛ فَهُوَ لَا يَشْهَدُ أَنَّ عِلْمَهُ لِلَّهِ وَلَا أَنَّهُ بِاَللَّهِ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ - مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْقَدَرَ - هُمْ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالصُّوفِيَّةُ هُمْ فِي الْقَدَرِ)
}.
وهنا يعمل مقارنة بين من ضل في باب القدر ويوازن بينهما.
{(وَالصُّوفِيَّةُ هُمْ فِي الْقَدَرِ وَمُشَاهَدَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ: خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ نَوْعُ بِدَعٍ مَعَ إعْرَاضٍ عَنْ بَعْضِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هِيَ مُشَاهَدَةُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَصِيرُونَ أَيْضًا مُعْتَزِلِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُنَّتِهِمْ فَهُمْ مُعْتَزِلَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ يَكُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْبِدْعَةِ شَرًّا مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةِ وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ نَشَأَتْ مِنْ الْبَصْرَةِ)}.
وبهذا يختم هذه الرسالة، بما كان عليه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- وهو دين الله الحق الذي جاءت به الرسل.
{(وَإِنَّمَا دِينُ اللَّهِ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرِ الْقُرُونِ وَأَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ فَرَضِيَ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رِضًا مُطْلَقًا وَرَضِيَ عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ؛ أُولَئِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا؛ قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمُوهُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ حَوْلَهُ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ »، وَقَدْ أَمَرَنَا سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ فِي صِلَاتِنَا ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ»، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَالنَّصَارَى عَبَدُوا اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ: تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُهْتَدُونَ مُفْلِحُونَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ والصديقين وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمَ الدِّينِ)
}.
اللَّهمَّ صل وسلم على نبينا محمد، بهذا ختم -رحمه الله- هذه الرسالة العظيمة، بذكر هذه الآثار عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، وهو طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا وإخواننا المسلمين منهم، وأن يجعلنا من المحققين لأسمائه وصفاته على الوجه الذي يرضيه، ومن المحققين لشرعه وقدره على الوجه الذي يرضيه، وأن يحفظنا وإخواننا المسلمين من الزيغ والضلال، إنه جواد كريم ونسأله -عز وجل- أن يرحم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه- وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء وأوفاه، وأن ينفعنا جميعًا بما نقول ونسمع.
شكر الله لك شيخ عبد الرحمن وللإخوة المخرجين ونسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين، وإياكم والإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك