الدرس الرابع عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس الرابع عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات والأبناء والبنات من طلاب البناء العلمي، ونحن في الدرس الرابع عشر من دروس العقيدة التدمرية، التي هي في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع، وأسأل الله للجميع التوفيق لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ؛ وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَا، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ)}.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم.
لازال الحديث في القاعدة الخامسة التي عنون لها المصنف -رحمه الله- بقوله: (أَنَّا نَعْلَمُ مَّا أُخْبِرْنَا بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ)، الوجه الذي نعلمه المعاني، ما أخبرنا الله به عن نفسه وعن أحوال الآخرة، فكل ما أخبر الله به عن أمور الآخرة نعلمه من جهة المعنى، والذي لا نعلمه من جهة الكيفية، ثم ذكر الأدلة التي تدل على فهم المعاني، ثم ذكر فيما يتعلق بالتأويل وأنواع التأويل.
انتهى الدرس السابق إلى قاعدة ذكرها المصنف: هل أسماء الله مترادفة أم متباينة، وذكر أن التحقيق أنها مترادفة في دلالتها على الذات تدل على ذات واحدة، ومتباينة من جهة المعاني، فكل اسم له معنى وكل صفة لها معنى، ثم قال: (وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَ) أي: التباين والترادف وأنه قد يكون من باب اختلاف التضاد، فهذا التباين بين معاني الأسماء والتباين بين معاني الصفات هو من باب اختلاف التنوع لا من باب اختلاف التضاد، ولهذا أورد أمثلة يوضح بها القاعدة فيما يتعلق بأسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما يتعلق بأسماء القرآن، وما يتعلق بأسماء السيف، كلها مما يوضح أن اختلاف الأوصاف للشيء الواحد لا يعني التضاد.
قال: (وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَ) أي: هذا المعنى وهذه القاعدة (أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ) هذا وجه، (وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ) وهذا الوجه الثاني، (وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ).
إذًا القرآن وصف بهذه الأوصاف الثلاثة، في موضع بأن القرآن كله محكم، وفي موضع بأن القرآن كله متشابه، وفي موضع ثالث بأن منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه.
هل هذه الأوصاف الثلاثة متعارضة؟ والجواب: لا، بل هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، ولهذا قال معقبًا على هذه الأنواع الثلاثة: كيف يوصف القرآن بأن كله محكم، ويوصف القرآن بأنه كله متشابه، ويوصف في موضع ثالث بأن منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، قال: (فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ) لأن الغلط واللغط حصل بسبب عدم التفريق، مثل ما تقدم في آية "آل عمران"، فلما لم يفرق المتكلمون بين التأويل الذي يعلمه الله والتأويل الذي هو بمعنى التفسير، وقع الغلط واللغط عندهم.
(فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ؛ وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ) لدينا إحكام عام، تشابه عام، إحكام خاص، تشابه خاص، فيقول: فينبغي أن يفرق بينها، وأن هذه الأوصاف المتنوعة لا تناقض بينها، فكل وصف له معنى، كما قلنا: إن أسماء الرب لا تناقض بينها، وكذا صفات الرب لا تناقض بينها وإن تنوعت في المعاني، وإن تعددت، ثم ذكر الدليل على الإحكام العام والتشابه العام، ولهذا قال: (فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ؛ وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ)، من عرف التفريق زالت الإشكالات عنده، من لم يفرق بينها بسبب جهله فإنه سيقع في الغلط، بل يضرب كتاب الله بعضه ببعض، وهذا الذي وقع وسأبين ضلال هؤلاء وبسبب عدم التفريق.
مثل في مسائل كثيرة الذين لا يفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، غلطوا في باب القدر، فمنهم من وقع في الجبر، ومنهم من وقع في القدر، الذين لا يفرقون كذلك بين الإرادة الكونية والإدارة الشرعية في باب الصفات وقع عندهم إشكالات كثيرة في مسائل الصفات، وهكذا في الذين لا يفرقون بين الوعد والوعيد أو لا يجمعون بينهما، تجد الوعيدية من جهة والمرجئة من جهة.
ثم قال في معنى الإحكام العام: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَ) فهو محكم، (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ) فهذا هو الإحكام العام وهذا هو التشابه العام، ما معنى الإحكام العام وما معنى التشابه العام؟
{قال -رحمه الله-: (وَالْحُكْمُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَالْحُكْمُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ فَيُقَالُ: حَكَمْت السَّفِيهَ وَأَحْكَمْته إذَا أَخَذْت عَلَى يَدَيْهِ وَحَكَمْت الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتهَا إذَا جَعَلْت لَهَا حَكَمَةً وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْحَنَكِ مِنْ اللِّجَامِ وَإِحْكَامُ الشَّيْءِ إتْقَانُهُ فَإِحْكَامُ الْكَلَامِ إتْقَانُهُ بِتَمْيِيزِ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ وَتَمْيِيزِ الرُّشْدِ مِنْ الْغَيِّ فِي أَوَامِرِهِ)}.
هذا هو معنى الإحكام وعليه يحمل قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ [آل عمران: 7]، الإحكام يقول: (هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ) فيأتي بمعنى العدل، ويأتي بمعنى الصدق، ويأتي بمعنى الإتقان، ويأتي بمعنى الضبط، ويأتي بمعنى الصحة، ويأتي بمعنى الصدق، كلها معاني تدل على الإحكام، فالقرآن كله محكم من هذا الوجه، لا تناقض فيه، كله صدق وكله عدل وكله إتقان وصدق.
قال: (وَالْحُكْمُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ) ولهذا سمي بالفرقان، (فَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ) ولهذا يفرق بين أهل الجنة وبين أهل النار، بين أهل الإيمان وأهل الكفر، (وَالْحُكْمُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ فَيُقَالُ: حَكَمْت السَّفِيهَ وَأَحْكَمْته إذَا أَخَذْت عَلَى يَدَيْهِ وَحَكَمْت الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتهَا إذَا جَعَلْت لَهَا حَكَمَةً) إلى غير ذلك من المعاني التي يدل عليها الإحكام الذي هو الصدق في الأخبار والعدل في الأحكام.
إذاً الإحكام الذي جاء في القرآن الذي يعم القرآن: هو الصدق في أخباره والعدل في أحكامه، فكلها حق وكلها صدق وكلها عدل وكلها متقنة؛ لأنها جاءت من الله -تبارك وتعالى-، هذا معنى الإحكام العام.
{قال -رحمه الله-: (وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَكِيمًا بِقَوْلِهِ: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ فَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ؛ كَمَا جَعَلَهُ يَقُصُّ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ وَجَعَلَهُ مُفْتِيًا فِي قَوْلِهِ: ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ أَيْ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَجَعَلَهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا فِي قَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ﴾ )}.
هذا هو معنى الإحكام العام الذي جاء وصفه في القرآن بأنه كله محكم متقن صدق في أخباره، عدل في أحكامه، لا تناقض فيه، لا تعارض، هذا هو المعنى العام للإحكام، قال فيما يقابله.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ . فَالتَّشَابُهُ هُنَا: هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ: بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ؛ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ يَنْهَى عَنْهُ أَوْ عَنْ نَظِيرِهِ أَوْ عَنْ مَلْزُومَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسْخٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ لَمْ يُخْبِرْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ بَلْ يُخْبِرُ بِثُبُوتِهِ أَوْ بِثُبُوتِ مَلْزُومَاتِهِ وَإِذَا أَخْبَرَ بِنَفْيِ شَيْءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ بَلْ يَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي لَوَازِمَهُ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيُثْبِتُ الشَّيْءَ تَارَةً وَيَنْفِيهِ أُخْرَى أَوْ يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَيَمْدَحُ أَحَدَهُمَا وَيَذُمُّ الْآخَرَ فَالْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هُنَا: هِيَ الْمُتَضَادَّةُ. وَالْمُتَشَابِهَةُ: هِيَ الْمُتَوَافِقَةُ)}.
هذا هو التشابه العام الذي جاء في القرآن، فلما وصف الله -عز وجل- القرآن بقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ﴾ [الزمر: 23]، يعني: يشبه بعضه بعضًا، كيف؟ ذكر المصنف -رحمه الله- أمثلة في معنى التشابه، قال: التشابه بالمعنى العام، بعد أن ذكر الإتقان العام: (التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ) بأنه وصف القرآن بأنه متشابه (فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ* يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ ).
التشابه العام هو (هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ) يعني مثلاً: لَمَّا يذكر الله -عز وجل- قصص الأنبياء في سورة "الأعراف"، أو في سورة "هود"، أو في سورة "القصص"، في سورة "النمل" هي متشابه وإن اختلف السياقات وإن اختلفت الألفاظ ولكن القصة هي نفسها، لا يمكن أن نقول: قصة موسى في سورة "الأعراف" تعارض ما جاء في سورة "هود" أو تعارض ما جاء في سورة "القصص" لا يمكن أبدًا، نعم أحيانًا قد يختلف الأسلوب، يشير إليها باللوازم، إذا توهم الإنسان أن هذه الآية تعارض هذه الآية، هذه القصة تخالف هذه القصة، أين يكون الإشكال في نفس الكلام ولا في فهمه؟ في فهمه، فيكون الإشكال في فهمه، أما القرآن فلا يمكن أنه يحصل فيه اختلاف.
قال: (التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ: هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ: بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضً) ولهذا القرآن يفسر بالقرآن، فما أشكل عليك في هذه الآية يمكن يتضح في آية أخرى، وما أشكل في الآية يمكن أن يتضح من خلال الحديث، (بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضً) وهذا الذي يسلكه أهل العلم في التفسير، أنهم يفسرون القرآن بالقرآن، (فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) إلا في حالة ما هي؟ ذكرها في آخر السياق، إذا كان ثم وجود نسخ، لكن ما يلجئ للنسخ؟ إذا لم يمكن الجمع، لكن إذا أمكن الجمع فلا يمكن أن يُعارض الأمر الأمر، (فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ؛ بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ) مثل ما يأمر الله -عز وجل- بالصلاة، يأتي في موضع آخر يبين فضل الصلاة، ويأتي بموضع آخر يثني على المحافظين على الصلاة، هي كلها واحدة وإن اختلفت السياقات، يأمر بها أو يثني على المحافظين عليها والقائمين عليها أو يبن فضلها.
قال: (بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ؛ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) إلا في حال النسخ، (بَلْ يَنْهَى عَنْهُ أَوْ عَنْ نَظِيرِهِ أَوْ عَنْ مَلْزُومَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسْخٌ) إذا لم يكن نسخ في الأوامر، أما الأخبار فلا يقع فيها النسخ، وإذا وجد ما يوهم التعارض فهو في الفهم وليس في النص.
هذا هو التشابه العام، يشبه بعضه بعض، يؤيد بعضه بعض وإن اختلفت الألفاظ واختلفت الأساليب، بل يفسر بعضه بعض، هذا هو التشابه العام الذي وصف به القرآن، بناءً عليه: هل التشابه العام يعارض الإحكام العام؟ أبدًا لا تعارض بينهما، فالتشابه العام لا يمكن أن يخالف الإحكام، بل إنه الإحكام العام يؤكد صحة التشابه من جهة تنوع الأساليب، من جهة تنوع الدلالات، إلى غير ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَهَذَا التَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَلْفَاظُ فَإِذَا كَانَتْ الْمَعَانِي يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَيَقْتَضِي بَعْضُهَا بَعْضًا: كَانَ الْكَلَامُ مُتَشَابِهًا؛ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ الَّذِي يُضَادُّ بَعْضُهُ بَعْضً)}.
إذاً هذا التشابه يكون في شيئين: إما يكون في المعاني، وهذا سيكون في المعاني (وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَلْفَاظُ فَإِذَا كَانَتْ الْمَعَانِي يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَيَقْتَضِي بَعْضُهَا بَعْضًا: كَانَ الْكَلَامُ مُتَشَابِهً).
{(فَهَذَا التَّشَابُهُ الْعَامُّ: لَا يُنَافِي الْإِحْكَامَ الْعَامَّ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لَهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضً)}.
وهذه النتيجة الذي أراد الوصول إليها، وصف القرآن بأنه كله محكم أو وصف القرآن بأنه كله متشابه لا تناقض ولا تعارض بينهما؛ لأن الإحكام يعني الإتقان، يعني الصدق، يعني العدل، والتشابه أي أن الأوامر والنواهي يشبه بعضها بعض، والقصص يشبه بعضها بعض، وإن اختلفت الألفاظ.
{قال -رحمه الله-: (بِخِلَافِ الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّ التَّشَابُهِ الْخَاصِّ وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ إنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَذَا التَّشَابُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ؛ فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ)}.
قال: القسم الثالث الذي هو إحكام خاص وتشابه خاص، وهو الذي دلت عليه آية "آل عمران" ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ﴾ منه هذا إحكام خاص، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ وهو التشابه الخاص، فما جاء في آية "آل عمران" ويختلف عن الإحكام العام عند الإطلاق والتشابه العام عند الإطلاق، فهو إحكام خاص وتشابه خاص، هذا الذي يقع فيه الخطأ ووقع فيه الخطأ.
قال: (وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ) مثل ما ذكرنا في الأسماء، هي تشتبه في القدر المشترك وفي الحقائق تختلف، هنا حصل الخطأ عند المعطلة أو ما حصل؟ حصل عندهم، بمعنى أنهم جعلوها كلها من جنس واحد، فهو يشابهه من وجه من حيث المعاني والقدر المشترك، (بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ إنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ) مثل ما وقع عند المفوضة أو وقع عند المعطلة.
قال: (وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَ)، ما الإحكام في باب الأسماء والصفات؟ أن يقال: بأن القدر المشترك لا يعني التماثل عند التخصيص والإضافة والتقييد، نعم هناك قدر مشترك لأجل أن يفهم الاسم، تفهم الصفة وتفهم أمور الآخرة، لكن لا يفهم من هذا القدر المشترك تماثل الحقائق، ولذلك لاحظ قوله -عز وجل-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، هل شطر الآية الأول يعادل الشطر الثاني؟ أبدًا، دل على السميع البصير أن سمعه وبصره ليس كسمع المخلوقات.
لاحظ المعطلة الآن اشتبه عليهم الشطر الثاني، أو لا؟ والمشبهة اشتبه عليهم الشطر الأول، فوقعوا في التناقض في نفس الآية، فضلاً عن أن تكون آيات في سور مختلفة.
قال: (وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ) يشابهه من جهة المعنى ولكن يخالفه من جهة الحقيقة، (بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ)، لماذا قال بعض الناس؟ أهل العلم وأهل السنة وسلف الأمة اشتبه عليهم؟ أبدًا ما اشتبه، إذًا اشتبه عند: "البسطاء، الجهال، المتكلمين"، ما سبب هذا الاشتباه؟ ما السبب الذي جعل هذه النصوص تشتبه عليهم فوقعوا في التفويض والتمثيل والتعطيل؟
إما قلة علم خاصة بالقرآن والسنة أو بالآثار الواردة عن السلف، أو أحيانًا زيغ أو أحيانًا بسبب فساد المنهج، فهو لما ينطلق من منهج فاسد، يعني من منهج الفلاسفة ومنهج المتكلمين فإنه سيقع في هذا الغلط، ولهذا سبب فساد مناهج هؤلاء أنهم عرضوا أدلة الشرع وأدلة الوحي على عقولهم وعلى المنطق والفلسفة، فوقعوا في هذا الزيغ، فاشتبه عليهم.
يقول: (بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ) وأهل العلم لا يشتبه عليهم، أهل الإيمان والسلف ما اشتبه عليهم هذا، (إنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ)، قال: (وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَ) تفرق بين حقائق صفات الرب وبين حقائق صفات المخلوقين، بين حقائق أمور الآخرة وبين حقائق أمور الدنيا وإن اشتبهت في الأسماء في الأسماء المشتركة، (بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ) ولهذا، ماذا قال الإمام مالك في الاستواء؟
قال: الاستواء معلوم، هذا ليس فيه اشتباه، والكيف مجهول.
(وَهَذَا التَّشَابُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ مُشْتَرَكٍ) لماذا؟ لأجل أن تفهم (مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَ) الذي هو الحقائق المختلفة.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ؛ فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ)}.
وهذا الوجه الذي جاء في قراءة الوصل في الآية ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾ ، الراسخون في العلم وأهل العلم وأهل الإيمان وسلف الأمة يفرقون بين الإشكالات التي وقعت للمتكلمين والفلاسفة، فلا يقع عندهم اشتباه في الأسماء والصفات ولا في أمور الآخرة.
(ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي) وهم الحيارى الزائغين، هُم من ليس لهم خبرة بعلم السلف، (فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ) ولهذا تجده لَما جاء في قوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ فَهِمَ من المجيء أنه كمجيء المخلوق فاشتبه عليه، فلجأ إلى التحريف، ومنهم من ظن أن المجيء كمجيء المخلوق، فلجأ إلى التمثيل، فاشتبه عليه الأمر، ومن عنده عرف أن المجيء حقيقة ولكن ليس كمجيء المخلوق، والنزول حقيقة ولكن ليس كنزول المخلوق، والاستواء حقيقة وليس كاستواء المخلوق، وهكذا.
قال: (ثُمَّ مِنْ النَّاسِ) ممن زاغ في هذا الباب (مَنْ لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَ) أي بين المعنى والكيفيات (فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ) وهم أهل الإيمان والعلم، (فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ) التي تشتبه لبعض الناس دون بعض، (بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ)، لأنهم يفرقون بين صفات الرب، حقائق صفات الرب وبين حقائق صفات المخلوق، يفرقون بين حقائق الأمور الغيبية وبين حقائق الأمور المشاهدة، ثم ذكر أمثلة توضح هذه القاعدة، قال.
{قال -رحمه الله-: (كَمَا إذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَشْهَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا فَظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُهُ فَعَلِمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مُشْبِهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ)}.
مثل ما يتعلق بالنعيم في الجنة، والمثال ذكره في أول الكتاب، قد يشتبه على بعض الناس أن هذا النعيم مثل نعيم الدنيا في حقيقته، ( كَمَا إذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَشْهَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا فَظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُهُ فَعَلِمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ) فعلم العلماء أنه ليس مثله، (وَإِنْ كَانَ مُشْبِهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ) أي: في القَدْرِ المشترك في الأسماء، وهكذا ما يتعلق بأسماء الرب وصفات الرب، ولهذا وقع المعطلة في هذا الإشكال، فظنوا أن الربَّ لَمَّا سمى نفسه بأسماء وسمى بعض خلقه بنفس الأسماء ووصف نفسه بصفات، ووصف بعض خلقه بصفات لزموا منه التماثل، فاشتبه الأمر عليهم، بينما أهل العلم يفرقون بين حقائق صفات الرب وحقائق صفات العبد وحقائق أمور الآخرة وحقائق أمور الدنيا، لكن يقول أنه قد يشتبه على بعض الناس لأسباب من القصور العلمي أو الزيغي أو المناهج الفاسدة.
{قال -رحمه الله-: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ؛ وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ)}.
وهذه قاعدة عظيمة يبين أسباب الضلال، أسباب الشبه، أسباب الاختلاف الذي وقع في هذه الأبواب سواءً في باب الأسماء والصفات أو في باب القدر أو في باب الوعد والوعيد أو في نحوه من الأمور، ما السبب الذي أوقع هؤلاء في هذا الضلال والانحراف والزيغ؟
قال: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ) أي: باب الاشتباه والشبه (الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ) بل كثير ممن ضل، سبب هذا الاشتباه، (وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ) وهذا الذي وقع للقدرية والجبرية كما سيأتي، (حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ) فلا يميزه، اختلط الحق بالباطل فلا يستطيع التمييز، (وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ) فهي قاعدة عظيمة تدخل في أبواب كثيرة في أسباب الضلال والانحراف والزيغ، أنه بسبب التشابه ووجود القدر المشترك، وهذا في أشياء كثيرة، لاحظوا مثلاً في أبواب الإيمان مثل قضية مسائل الولاء والبراء، فيشتبه عليه التسامح والرحمة والرزق بالكفار وبين البراءة، يخلط بينهما، وهكذا في التعامل مع العصاة والإنكار عليهم، فهذا يختلط عليه المعاني، فتجد هؤلاء يكفرونهم وهؤلاء يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، فبسبب ذلك يحصل هذا الخلط وعدم التفريق في جميع الأبواب.
يقول: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ) في أبوابٍ كثيرةٍ تختلط المسائل عندهم، (وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ)، قال: (وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَ) فمثلاً يفرق بين البراءة وبين الموالاة والبر والإحسان، يفرق بين الإيمان الكامل وبين أصل الإيمان، يفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، يفرق بين نصوص الوعد وبين نصوص الوعيد، فلا تختلط الأمور، لاحظ مثلاً الخوارج لما جاءوا إلى حديث: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ» فهموا منه نفي الأصل، مع وجود الأدلة التي تثبت الإيمان لمرتكب الكبيرة، فوقع عندهم هذا الغلط وهذا التناقض والتعارض، لكن من الذي يفرق بينها هم أهل العلم، قال: (وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ) بل يميز بينهم، وهذا من الفقه التي يؤتيه الله من يشاء، ولذلك لاحظ أهل السنة لما فرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية وفرقوا بين النفي والإثبات وفرقوا بين الوعد والوعيد، وفرقوا بين أصل الإيمان وكمال الواجب وكمال المستحب، زالت إشكالات كثيرة مما يقع فيه أهل الأهواء.
سبب آخر من أسباب الضلال والانحراف: القياسات الفاسدة، السبب الأول ما هو؟ وجود التشابه والاشتراك في قدر معين، من أسباب الضلال والانحراف والزيغ أيضًا عند أهل الأهواء القياسات الفاسدة.
{قال -رحمه الله-: (وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّبُهَاتِ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ فَمَنْ عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ)}.
وهذا أيضًا يقول: (وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ) يعني مثل: قياس صفات الرب على صفات العبد، قياس صفات العبد على صفات الرب، قال: والقياس الفاسد أيضًا هو سبب من أسباب الشبهات، لماذا؟ قال: (لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ) تشبيه الخالق بالمخلوق أو تشبيه المخلوق بالخالق، (فَمَنْ عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ) حقائق صفات الرب وحقائق صفات العبد (اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ) الذي وقع فيه أهل الزيغ والضلال والانحراف في كل باب من أبواب الدين، فخلطوا الحق بالباطل ولم يميزوا بين الحق والباطل، بل لم يهتدوا إلى الفاصل بينهما.
{قال -رحمه الله-: (وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ، فَلِهَذَا كَانَ ضَلَالُ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ التَّشَابُهِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ لَا يَنْضَبِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رحمه الله-: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ؛ فَالتَّأْوِيلُ: فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ: فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَالْقِيَاسُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ)}.
وهذه الحقيقة قاعدة عامة وأصل عظيم ونافع لطالب العلم، يشخص أسباب الضلال والانحراف الذي وقع في بني آدم، يقول: (وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ) والذي لا يهتدي إلى التفريق يقع في الزلل والخطأ، الذي لا يهتدي للتفريق بين الإسلام دين رحمة ودين تسامح، والإسلام يفرق بين الكافر والمسلم، سيقع في الخطأ، وستجد في عصرنا من المصطلحات، المساواة والحرية والتسامح، يخلط بينها بحيث أنه لا يفرق بين المسلم والكافر أو يعكس فيجعل الإسلام دين عنف ودين اعتداء على البشر، لماذا؟ لأنه لا يفرق بين مسمى الرحمة والعدل والتسامح وبين مسمى العدل والإنصاف.
(وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ) في كل الأبواب التي مرت ، الذي لا يفرق يقع عنده الضلال والانحراف والزيغ، (فَلِهَذَا كَانَ ضَلَالُ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ التَّشَابُهِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ) هذان هم السببان في ضلال كثير من بني آدم، القدر المشترك سبب ضلال الفلاسفة وضلال المتكلمين، والقياسات الفاسدة عند المتكلمين.
من قبيل التشابه والقياس الفاسد الذي لا ينضبط، (وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ لَا يَنْضَبِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ) أكثر يعني: أسباب الضلال والانحراف، ثم عقب ابن تيمية قال: (فَالتَّأْوِيلُ: فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ: فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ) طبعًا التأويل عند المتكلمين والقياس عند الفلاسفة، وأيضًا قد يشترك أحدهم في هذا، (وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَ) لاحظ يقول: التأويل الخطأ معناه أنه فيه تأويل صحيح، التأويل الخطأ الذي هو من غير قرينة، الذي هو تحريف، (وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ) التي اشتبه عندهم صفات الرب، صفات العبد، اشتبه المجيء، اشتبه النزول، اشتبه الاستواء، فيقع في التأويل الخاطئ، (وَالْقِيَاسُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ)، فهذا هو سبب الضلال.
ثم ذكر أمثلة لأهل الزيغ والضلال والانحراف تطبيق على هذه القاعدة التي هي أكثر ضلال بني آدم إنما هو في التأويل الفاسد والقياس الفاسد، ثم ذكر أمثلة تطبيقية
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ وَقَعَ بَنُو آدَمَ فِي عَامَّةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ فَظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ فَجَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ مَعَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْعَدَ عَنْ مُمَاثَلَة شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ إيَّاهُ أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ؛ أَوْ حَالًّا فِيهِ مِنْ الْخَالِقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ فَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْخَالِقِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا حَتَّى ظَنُّوا وُجُودَهَا وُجُودَهُ؛ فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ضَلَالًا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِبَاهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَرَأَوْا الْوُجُودَ وَاحِدًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ)}.
هذه هي الطائفة الأولى التي وقعت في هذا الضلال والزيغ بسبب الاشتباه، (وَقَدْ وَقَعَ بَنُو آدَمَ فِي عَامَّةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْكَلَامُ) وهو التأويل الفاسد والقياس الفاسد، (مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ) ولهذا ذكرت لك أنه أنواع الضلالات في أبواب متعددة من أبواب الدين والعقيدة يقع الزيغ والضلال والانحراف بسبب القياس الفاسد والتأويل الفاسد سواءً في القديم أو في الحديث.
ذكر من الأمثلة قال: (حَتَّى آلَ الْأَمْرُ) أي: القياس الفاسد والتأويل الفاسد، (آلَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ) ومن هؤلاء؟ غلاة الصوفية، أحل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، (إلَى مَنْ يَدَّعِي) يعني هذا إدعاء كذب وزور وبهتان، (يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ) لاحظ لما الرب وصف بأنه موجود والمخلوق بأنه موجود اشتبه عليهم مسمى الوجود، فجعلوا عين هذا عين هذا، ولم يفرقوا بين وجود الرب الذي هو واجب الوجود ووجود المخلوق الذي هو جائز الوجود باتفاق العقلاء حتى عند المتكلمين، ولهذا ردَّ المتكلمون عليهم، قالوا: كيف تجعلون الوجود نوعاً واحدًا؟ فهم يردون عليهم، فهؤلاء اشتبه عليهم مسمى الوجود.
يقول: (حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ) اشتبه عليهم، (فَظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ) يعني لم يفرقوا بين وجود الرب وبين وجود المخلوق، بين حقيقة صفات الرب وحقيقة صفات المخلوق، بين حقيقة وجود الرب وبين حقيقة وجود المخلوق، كما تقدم في القاعدة: القول في الذات كالقول في الصفات، (فَجَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ)، لاحظ سبب الضلال والنتيجة، يرد عليهم: (مَعَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْعَدَ عَنْ مُمَاثَلَة شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ إيَّاهُ أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ؛ أَوْ حَالًّا فِيهِ مِنْ الْخَالِقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ)، المخلوقات قد يكون فيها شيء من التقارب في الوجود أو لا؟ لكن لا يوجد شيء أبعد من وجود شيء مثل وجود الخالق عن وجود المخلوق.
قال: (فَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْخَالِقِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَ) وهم أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، (حَتَّى ظَنُّوا وُجُودَهَا وُجُودَهُ) فيفرق بين العبد والرب، (فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ضَلَالًا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِبَاهِ) معناه أن الضلال دركات أو لا؟ دركات، فهؤلاء أعظمهم ضلالاً من جهة الاشتباه، اشتبه عليهم وجود الخالق ووجود المخلوق، ما الجواب، قال: (وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ) هذا هو القدر المشترك، من الذي يميز بين هذا؟ هم أهل العلم (فَرَأَوْا هُم الْوُجُودَ وَاحِدً) لم يفرقوا بين الأنواع، (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ) يقصد الواحد يعني الواحد بالعين أي تكون وحدة عينية لا الوحدة النوعية التي هي نوع الوجود، لكنه من حيث العين مختلف، (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ) وجود الرب هو عين ووجود المخلوق أو (وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ) يعني قدر مشترك في الوجود ولكن الحقائق مختلفة.
{قال -رحمه الله-: (وَآخَرُونَ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ التَّشْبِيهُ وَالتَّرْكِيبُ فَقَالُوا: لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَخَالَفُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودَاتِ)}.
هذه طائفة أخرى وتقدمت في أول الكتاب، طائفة من الفلاسفة الباطنية أرادوا الفرار من قول أصحاب وحدة الوجود، أن الوجود واحد بالعين، فأردوا الفرار أن يلغوا عن مسمى الوجود ما يعرفه العقلاء، فقالوا بأن الموجودات (وَآخَرُونَ تَوَهَّمُو) أيضًا هذا سبب ضلالهم، لما وجد المسمى المشترك أردوا الفرار فقالوا: زعموا أن، قالوا: (أن الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ التَّشْبِيهُ وَالتَّرْكِيبُ) فأرادوا الفرار، قالوا: بما أن الخالق موصوف بالوجود والمخلوق موصوف بالوجود يلزم تشبيه الخالق بالتركيب، يعني الأوصاف التي يشتبه فيها الخالق بالمخلوق، فأردوا الفرار (فَقَالُوا: لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ) ما معنى الاشتراك اللفظي؟ يعني تشترك في اللفظي فقط والمعاني مختلفة مثل ما تقول مثلاً: المشتري، فالمشتري يطلق على الكوكب ويطلق على من يبتاع السلعة، بمعنى أنه اشتراك في اللفظ، أما المعنى مختلف، معنى الوجود عند الخالق عندهم معناه مختلف، فهؤلاء قالوا أن من باب الاشتراك في الألفاظ، أيضًا مثل ما تقول العين، العين تطلق على العين الباصرة وعلى العين الجارية، المعنى مختلف، فجعلوا مسمى الوجود حتى يفروا من مقولة القدر المشترك ويفروا من شبهة أهل الحلول والاتحاد، قالوا: بأن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي يرد عليهم، هؤلاء الذين يريدون معالجة الإشكال بإشكال آخر (فَخَالَفُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ) يعني وجود الخالق ووجود المخلوق، (وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودَاتِ).
قال في القسم الثالث:
{قال -رحمه الله-: (وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْجُودٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقَةً مِثْلَ وُجُودٍ مُطْلَقٍ وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ وَجِسْمٍ مُطْلَقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَخَالَفُوا الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَجَعَلُوا مَا فِي الْأَذْهَانِ ثَابِتًا فِي الْأَعْيَانِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الِاشْتِبَاهِ)}.
وهؤلاء طائفة من الفلاسفة أرادوا أيضًا معالجة المشكلة بمشكلة أخرى، فقالوا: أنتم أهل الحلول والاتحاد جعلوا الوجود عين واحدة، طائفة قالوا لا إنه من باب الاشتراك اللفظي، هو اسم فقط ولكن معنى الوجود مختلف، جاءوا هم أرادوا أن يعالجوا الإشكالية فقالوا، وقالت: (طَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ) بما فيها وجود الخالق ووجود المخلوق (لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْجُودٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ) يعني هنا (فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقَةً مِثْلَ وُجُودٍ مُطْلَقٍ وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ وَجِسْمٍ مُطْلَقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَخَالَفُوا الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَجَعَلُوا مَا فِي الْأَذْهَانِ ثَابِتًا فِي الْأَعْيَانِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الِاشْتِبَاهِ).
يعني هو يريد أن يرد على هؤلاء أنهم جعلوا إنما هو وجود في الذهن فقط، لا حقيقة له في الواقع، قال: (وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الِاشْتِبَاهِ) فخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع الذي أثبت وجود للخالق يليق به ووجود للمخلوق يليق به، وهذا كله من باب ضرب الأمثلة، وإلى ضلال هؤلاء في هذا القدر والاشتباه كثير إنما المصنف -رحمه الله- أراد أن يبين أمثلة بسبب الأقيسة الفاسدة وبسبب التأويل الفاسد، فوقع هؤلاء في إنكار ما هو ثابت بالشرع والعقل والحس من إثبات وجود الخالق وجوداً يليق به -عز وجل-، فجاءوا بمثل هذه السفسطة التي هي خداع وتمويه وقرمطة في السمعيات، سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات، ثم ذكر طريق من هداهم الله.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمُورِ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَعَلِمَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالتَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَضِلُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ الْفَارِقِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَصْلِ وَالِافْتِرَاقِ)}.
يعني هم يردون المتشابه إلى المحكم ويفرقون بين القدر المشترك وبين الحقائق عند الإضافة والتخصيص والتقيد فلا يضربون النصوص بعضها ببعض.
{(وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ إنَّا وَنَحْنُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْفِعْلِ وَيَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ كُلُّ صِفَةٍ مَقَامَ وَاحِدٍ وَلَهُ أَعْوَانٌ تَابِعُونَ لَهُ؛ لَا شُرَكَاءَ لَهُ فَإِذَا تَمَسَّكَ النَّصْرَانِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ وَنَحْوَهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ كَانَ الْمُحْكَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ وَنَحْوُ ذَلِكَ)}.
يعني يقال هل قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ يعارض قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]؟ لا يعارض، فمن اشتبه عليه يكون الإشكال في فهمه، لكن الذي عنده علم يعرف أن نحن هنا الذي جاءت على صيغة العظمة كما هو معلوم في اللغة.
{(وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا يُزِيلُ مَا هُنَاكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ؛ وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ مُبَيِّنًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا لَهُ مِنْ الْجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا هُوَ ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ﴾ ، وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بِخِلَافِ الْمَلِكِ مِنْ الْبَشَرِ إذَا قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَك بِعَطَاءِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ وَأَعْوَانُهُ مِثْلُ كَاتِبِهِ وَحَاجِبِهِ وَخَادِمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ يَعْلَمُ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يُعْلِمُ عِبَادَهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ)}، يعني الكيف مجهول، يعرفون المعاني ولكن الكيف مجهول، الوجه الذي لا يُعلم.
{(وَلَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ مَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا حَقَائِقَ مَا صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ)}، إلا ما علمهم الله، لكن يمتثلون الأمر ويجتبون النهي ويصدقون الخبر ولله الحكمة البالغة.
{قال -رحمه الله-: (وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَاطِئَةِ وَإِنْ زَالَ الِاشْتِبَاهُ بِمَا يُمَيِّزُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ: مِنْ إضَافَةٍ أَوْ تَعْرِيفٍ)}، عند الإطلاق مثل أسماء النعيم في الجنة وأسماء الرب قد يحصل فيها التشابه من حيث القدر المشترك، لكن عند التقييد والتخصيص والإضافة يتميز الحقائق.
{( كَمَا إذَا قِيلَ: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ فَهُنَاكَ قَدْ خَصَّ هَذَا الْمَاءَ بِالْجَنَّةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَاءِ الدُّنْيَا لَكِنَّ حَقِيقَةَ مَا امْتَازَ بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا وَهُوَ مَعَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ - مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ مَدْلُولُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُنْكِرُونَ عَلَى الجهمية وَأَمْثَالِهِمْ - مِنْ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ - تَأْوِيلَ مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ: فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ والجهمية فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ)}، وهذا يدل على أن ابن تيمية يرى ثبوت نسبة الكتاب إلى الإمام أحمد؛ لأنه قطع بها، (كَمَا قَالَ أَحْمَدُ: فِي كِتَابِهِ) يدل على صحة نسبة الكتاب للإمام أحمد.
{(وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَلَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ: مِنْ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ الْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللَّهِ بِهِ فَذَلِكَ لَا يُعَابُ بَلْ يُحْمَدُ وَيُرَادُ بِالتَّأْوِيلِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا فَذَاكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}، وهذا جواب للسؤال الذي ذكره في أول القاعدة: هل هذا التأويل الذي هو صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى المعنى المرجوح بدليل مذموم أو ليس مذموم، يعني فيه التفصيل الذي ذكره هنا حسب القرينة.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا: اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُ مِثْلُ طَائِفَةٍ يَقُولُونَ إنَّ التَّأْوِيلَ بَاطِلٌ وَإِنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ وَيَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ هُنَاكَ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَجِهَةُ الْغَلَطِ أَنَّ التَّأْوِيلَ)}، وهذا رد على المفوضة الذين يقولون نفوض المعاني، نقول: معناه أنكم فهمتم المعنى وأردتم تفويضه، فهو الآن يقلب عليهم الدليل، ولهذا ما ذكره هنا يبين تناقض المفوضة الذين يقولون بأن هذه النصوص غير مفهومة المعنى.
{(وَجِهَةُ الْغَلَطِ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَذْمُومُ وَالْبَاطِلُ: فَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْل التَّحْرِيفِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ)
} وهو التحريف {(تَأْوِيلِهِ وَيَدَّعُونَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ نَظِيرُ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ بِالْعَقْلِ)}، إن زعموا أنهم إذا اثبتوا المجيء شبهوا الخالق بالمخلوق، ويقول: وهذا نظير فيما أثبتوه بالعقل التي هي الصفات السبع، هذا من تناقضهم، ولذلك هو أجاب على هذا، أنه أنتم تثبتون سبع صفات تزعمون أنها على الوجه اللائق به وتنفون الصفات السمعية والخبرية بزعمكم أنها تقتضي التمثيل، فيقول: (وَيَدَّعُونَ أَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ نَظِيرُ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ بِالْعَقْلِ)، وهي الصفات السبع.
{(وَيَصْرِفُونَهُ إلَى مَعَانٍ هِيَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ فَيَكُونُ مَا نَفَوْهُ)}، نفس السابق يعني، هو من باب القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر نفياً وإثباتًا.
{(فَيَكُونُ مَا نَفَوْهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَثْبَتُوهُ فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ حَقًّا مُمْكِنًا كَانَ الْمَنْفِيُّ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّ بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ الثَّابِتُ مِثْلَهُ)}، كالقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر نفياً وإثباتًا.
{قال -رحمه الله-: (وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّا خُوطِبْنَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ؛ أَوْ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ)}، لوازم، ونقول لهؤلاء الذين مفوضة أو معطلة: يلزمكم إما أننا خوطبنا بالقرآن بما لا نفهم، أو أن القرآن لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء، ولوازم الباطل باطل.
{(وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يُوَافِقُهُ؛ لإمَكَانَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ: لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ لَنَا فَإِنَّهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ فَلَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى دَلَالَةً عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَكُونُ تَأْوِيلًا وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعَانٍ لَا نَعْرِفُهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.
فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَدْ لَا نَكُونُ عَارِفِينَ بِهَا وَلِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ اللَّفْظَ وَمَدْلُولَهُ فَلِأَنْ لَا نَعْرِفَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إشْعَارَ اللَّفْظِ بِمَا يُرَادُ بِهِ أَقْوَى مِنْ إشْعَارِهِ بِمَا لَا يُرَادُ بِهِ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ لَا إشْعَارَ لَهُ بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى أَصْلًا لَمْ يَكُنْ مُشْعِرًا بِمَا أُرِيدَ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مُشْعِرًا بِمَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَوْلَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ الْمُخْتَصُّ بِالْخَلْقِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ)
}.
وهذا طبعًا يعود إلى قاعدة سبق ذكرناها: هل ظاهر النص مراد أو غير مراد؟ على التفصيل.
{(لَكِنْ إذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ أَوْ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ مِنْهَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ هُنَا مَعْنًى وَهُنَاكَ مَعْنًى: فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ كَانَ تَلْبِيسًا وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ أَيْ تَجْرِي عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ كَانَ إبْطَالُهُمْ لِلتَّأْوِيلِ أَوْ إثْبَاتُهُ تَنَاقُضًا؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ تَأْوِيلًا أَوْ نَفَاهُ فَقَدْ فَهِمَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي. وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَتَبَيَّنُ تَنَاقُضُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ وَمُثْبِتِيهَا فِي هَذَا الْبَابِ)}.
وهو في الحقيقة أجوبة عظيمة وعقلية ومهمة، يعني يلزم هؤلاء المعطلة والمفوضة بهذه الإلزامات وهذا التناقض، يقول: إنكم تقعون في التناقض كما مر في الأصول، يقول: (وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ) وهذه الأجوبة التي فيها بيان تناقض هؤلاء سواءً كانوا من النفاة المعطلة الذين يعطلون الصفات الخبرية والسمعية، ويثبتون ما يسمونه بالصفات المعنوية تناقض أو مثبتها من المشبهة والمفوضة لا بدَّ أن يقع أحدهم في التناقض.
بهذا انتهى المراد من هذه القاعدة، أن ما أخبرنا الله تعالى به فهو معلوم لنا من وجه دون وجه.
أسأل الله تعالى للجميع التوفيق والعلم الصالح وأن يجعلنا وسيلتنا إليه التوحيد والإخلاص، إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
وإياكم والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
جزاك الله خيرًا وشكر الله لكم وإياكم.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك