الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2012 22
الدرس الخامس

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات، والمستمعين والمستمعات، وأسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في موضوع شواهد أمثلة الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (وَكَذَلِكَ سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى صِفَاتِ عِبَادِهِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ﴾ ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ وَقَالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ وَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وَسَمَّى صِفَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَقُوَّةً فَقَالَ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلً﴾ وَقَالَ: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ وَقَالَ: ﴿فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ وَقَالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾ وَقَالَ: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ﴾ وَقَالَ: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ أَيْ بِقُوَّةِ وَقَالَ: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ﴾ أَيْ ذَا الْقُوَّةِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ كَالْعِلْمِ وَلَا الْقُوَّةُ كَالْقُوَّةِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، واصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فأرحب بالإخوة والأخوات في هذا الدرس العلمي الخامس في الشرح والتعليق على الرسالة التدمرية التي هي في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع.
لا يزال الحديث موصولاً في ذلك الشواهد التي ذكرها شيخ الإسلام في الدليل على القاعدة التي ذكرها، وهي أنَّ الاشتراك في الاسم المطلق لا يلزم منه التماثل عند التقييد والتخصيص، بعد أن ذكر طريقة الزائغين للرسل وأنهم على درجات:
منهم من وصف الخالق -تبارك وتعالى- بالنقيضين، ومنهم من وصفه بالسلب ونفى جميع الصفات، ومنهم من نفى جميع الأسماء والصفات، ومنهم من نفى الصفات، ومنهم من نفى بعض الصفات، وذكر الشُّبه التي وقعت لهؤلاء جميعًا، وهم ظنوا أن التوافق في الاسم المطلق والقدر المشترك الكلي، أنه يلزم منه التماثل، فأرادوا الفرار من هذا الفهم الخاطئ فنفوا جميع الأسماء والصفات أو بعضها.
الشيخ يقرر بالأدلة العقلية أو بالأدلة النقلية، أن الاشتراك في القدر المشترك المسمى المشترك لا يلزم منه التماثل وليس هذا هو الذي دلت عليه النصوص، وليس هو التمثيل الذي نفته النصوص، وإنما المنفي هو التماثل حال التقييد والتخصيص والإضافة؛ ولهذا لَمَّا ذكر طرائق الزائغين والحائدين عن الرسل ورد عليهم باللوازم والمقتضيات الباطلة لقولهم، فذكر بأن قولهم في تعطيل الصفات وتحريفها هو غاية التعطيل وغاية التمثيل وأيضًا يلزم منه التحريف ويلزم منه التعطيل وكذلك هو سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات وأيضًا هم بهذا المنهج سووا بين المختلفات وفرقوا بين المتماثلات، هذا هو الجواب العقلي من جهة الإلزام.
ثم أجاب بالأدلة الشرعية التي تدل بأن الاشتراك في الاسم المطلق لا يلزم منه التماثل، بدليل أن الله -تبارك وتعالى- سمى نفسه بأسماء وسمى بعض عباده بهذه الأسماء، لكن عند التقييد والإضافة والتخصيص أسماء الخالق تليق به -عز وجل-، وأسماء المخلوق تليق به، وإنما ثمة قدر مشترك لأجل أن يفهم المعنى، ولهذا السبب يفهمون معاني هذه الصفات، وإلا لو كانت هذه الصفات غير مفهومة المعنى لا يمكن فهم القرآن ولا تدبر القرآن.
ثم ذكر الشواهد أيضًا على أن الله -عز وجل- قد سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك، وهذا هو القدر المشترك الكلي، أمَّا عند التقييد فصفات الخالق تليق به وصفات المخلوق تليق به، وهذا القدر المشترك الكلي لا يلزم منه التماثل وليس هو التمثيل الذي نفته النصوص، هذا الذي أراده المصنف -رحمه الله- بحشد هذه الأدلة، ويلاحظ الإخوة والأخوات أن المصنف -رحمه الله- مع أن هذه الرسالة مختصرة إلا أنه حشد الأدلة الكثيرة مما يدل على أن أئمة السلف كما يستدلون بالأدلة العقلية والأدلة الحسية، كذلك يستدلون بالأدلة الشرعية، فلا يقتصرون في الاستدلال على الدليل الشرعي فقط، بل كانوا يستدلون بالدليل الشرعي، يستدلون كذلك بالدليل العقلي.
لاحظ قال: (سَمَّى صِفَاتِهِ) وأسماء الرب أعلام وأوصاف -كما سيأتي- أعلام وأوصاف إن دلت على الذات فهي أعلام وتكون مُترادفة، وإن دلت على المعاني فهي صفات، وتختلف من جهة المعاني، ولهذا في إعراب البسملة: نعرب الرحمن الرحيم صفة، الرحمن صفة والرحيم صفة، وإذا أفردت فالرحمن اسم والرحيم اسم، فهي أعلام وأوصاف ومترادفة في دلالتها على الذات ومتباينة من جهة المعاني.
ذكر الشواهد على هذه القاعدة في ثبوت القدر المشترك في صفات الله -عز وجل- وصفات المخلوق حال الإطلاق، فقال: إن الله -تبارك وتعالى- (سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى صِفَاتِ عِبَادِهِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ)، فمن ذلك مَثَّل بمثال العلم، فالخالق عليم والمخلوق عنده علم، والخالق -عز وجل- له القوة ﴿ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾ [الذاريات: 58]، والمخلوق كذلك وصفه الله -عز وجل- بالقوة، وهذا أمر كما تدل عليه أدلة الشرع، أيضًا العقل والحس يدل على ذلك.
ثم قال: وَسَمَّى صفة المخلوق علماً وقوة، هذا هو القدر المشترك، إلى أن قال: (وَلَيْسَ الْعِلْمُ كَالْعِلْمِ وَلَا الْقُوَّةُ كَالْقُوَّةِ) في حال التقييد والإضافة والتخصيص، وهذا هو الذي نفته النصوص، هو التماثل حال التقييد والإضافة والتخصيص، أما حال الإطلاق فثمة قدر مشترك في حال الإطلاق وهو فهم الاسم.
 يلاحظ أيضًا أنَّ المصنف في الشَّاهد الخامس في قوله -تبارك وتعالى-: (﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات: 47] قَالَ: أَيْ بِقُوَّةِ)، هذا لا يقال إنه تأويل ولا تحريف؛ لأنَّ الصفة هنا لم تُضَف إلى الخالق -تبارك وتعالى- بل نكرت، والسياق يدل على أنَّ المراد هنا القوة، فلا يقال: إنَّ السلف إذا فسروا الأيدي هنا بالقوة أنهم حرفوا، بل يقول هذا هو معنى الآية، وذلك أيضًا قوله: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ﴾ [ص: 17]، أي: ذا القوة، هذه معنى الأيدي بحسب الإطلاق أو التخصيص أو التقييد.
ثم استمر في ذكر الشواهد التي تدل على أنَّ القدر المشترك في الصفات لا يلزم منه التماثل وليس هو التشبيه الذي نفته النصوص.
{قال -رحمه الله-: (وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ وَقَالَ: ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلً﴾ ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمً﴾ وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِرَادَةِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْإِرَادَةِ فَقَالَ: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْمَحَبَّةِ فَقَالَ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ وَقَالَ: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرِّضَا وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالرِّضَا فَقَالَ: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ مِثْلَ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ، وَلَا إرَادَتَهُ مِثْلَ إرَادَتِهِ وَلَا مَحَبَّتَهُ مِثْلَ مَحَبَّتِهِ، وَلَا رِضَاهُ مِثْلَ رِضَاهُ)}.
ومعلوم أيضًا عند أهل الإسلام وعند أهل اللغة في حالة التقييد والتخصيص والإضافة، فمشيئة الرب تليق به، له الكمال المطلق، ومشيئة المخلوق تليق به حسب حاله.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَمْقُتُ الْكُفَّارَ وَوَصَفَهُمْ بِالْمَقْتِ فَقَالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ وَلَيْسَ الْمَقْتُ مِثْلَ الْمَقْتِ وَهَكَذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ كَمَا وَصَفَ عَبْدَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ وَقَالَ ﴿إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدً﴾ ﴿وَأَكِيدُ كَيْدً﴾ وَلَيْسَ الْمَكْرُ كَالْمَكْرِ وَلَا الْكَيْدُ كَالْكَيْدِ)}.
وهذه الصفات يسميها أهل العلم الصفات التي يوصف الخالق بها بقيدها، فيقال: يمقت الكافرين ويستهزأ بالمستهزئين، ويخادع المخادعين وهكذا يكيد بالكائدين ويمكر بالماكرين، بمعنى أنَّ الرَّبَّ يوصف بها بقيدها، فهي صفة مدح إذا قيدت في مُقابل من يستحق ذلك، فالرب وصف نفسه بهذه الصفات على الوجه الذي يليق به ووصف المخلوق كذلك بهذه الصفات.
أما عند التقييد والتخصيص فصفات الرب تليق به، وصفات المخلوق تليق به، ولهذا قال: (وَلَيْسَ الْمَقْتُ مِثْلَ الْمَقْتِ، وَلَيْسَ الْمَكْرُ كَالْمَكْرِ وَلَا الْكَيْدُ كَالْكَيْدِ)، هذا هو المنفي.
{قال -رحمه الله-: (وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ فَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْعَمَلِ فَقَالَ ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وَلَيْسَ الْعَمَلُ كَالْعَمَلِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمُنَادَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ فَقَالَ: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّ﴾ وَقَالَ: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ﴾ وَقَالَ: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَ﴾ وَوَصَفَ عِبَادَهُ بِالْمُنَادَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ فَقَالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ وَقَالَ: ﴿إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ﴾ وَقَالَ: ﴿إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ وَلَيْسَ الْمُنَادَاةُ وَلَا الْمُنَاجَاةُ كَالْمُنَاجَاةِ وَالْمُنَادَاةِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ وَلَيْسَ التَّكْلِيمُ كَالتَّكْلِيمِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّنْبِئَةِ وَوَصَفَ بَعْضَ الْخَلْقِ بِالتَّنْبِئَةِ فَقَالَ: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ وَلَيْسَ الْإِنْبَاءُ كَالْإِنْبَاءِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّعْلِيمِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالتَّعْلِيمِ فَقَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ وَقَالَ: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ وَقَالَ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ وَلَيْسَ التَّعْلِيمُ كَالتَّعْلِيمِ وَهَكَذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْغَضَبِ فَقَالَ: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفً﴾ وَلَيْسَ الْغَضَبُ كَالْغَضَبِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَوَصَفَ بَعْضَ خَلْقِهِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى غَيْرِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ وَلَيْسَ الِاسْتِوَاءُ كَالِاسْتِوَاءِ)}.
بمعنى أن استواء الرب يليق به، ولهذا السلف فسروا معنى الاستواء بمعنى أنه علا وارتفع واستقر وصعد، هذا هو المعنى، السلف يعرفون المعاني وليس كما يزعم المعطلة أن السلف ناس بُسطاء لا يعرفون المعاني، وبالتالي هم فوضوا هذه الآية، هذا اتهام للسلف أنهم أناس لا يعرفون اللغة أو أنهم أناس بلهاء كما يدعي هؤلاء المعطلة، فيزعمون أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وأن طريقة السلف أسند، تقول: لماذا؟ يقول: لأن السلف ما فهموا هذه المعاني، وبالتالي أمروها كما جاءت، هذا اتهام للسلف وكذب عليهم، بل يعرفون المعنى كما سيأتي في الآثار عن مثل قول الإمام مالك: الاستواء معلوم، فاستواء الرب معلوم المعنى، أمَّا الكيف فهو مجهول.
كذلك وصف بعض خلقه بالاستواء على غيره والعرب تعرف هذا المعنى، لكن يقال استواء المخلوق يليق به واستواء الخالق يليق به -تبارك وتعالى-، فهذا القدر المشترك في الاسم لا يلزم منه التماثل حال الإضافة والتقييد والتخصيص، وتلاحظ أن المصنف -رحمه الله- نوع الشواهد ونوع الأدلة وركز على الصفات التي كثر فيها النزاع والخلاف.
{قال -رحمه الله-: (وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِبَسْطِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ وَوَصَفَ بَعْضَ خَلْقِهِ بِبَسْطِ الْيَدِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ وَلَيْسَ الْيَدُ كَالْيَدِ وَلَا الْبَسْطُ كَالْبَسْطِ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَسْطِ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ: فَلَيْسَ إعْطَاءُ اللَّهِ كَإِعْطَاءِ خَلْقِهِ وَلَا جُودُهُ كَجُودِهِمْ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ)}.
لاحظ المصنف بعد أن ذكر المثال التاسع عشر في أن الرب -تبارك وتعالى- وصف نفسه ببسط اليدين، فالرب موصوف بصفة اليدين وأيضًا موصوف بصفة البسط والقبض والعطاء ونحو ذلك، ذكر معاني البسط فقال: (وَلَيْسَ الْيَدُ كَالْيَدِ وَلَا الْبَسْطُ كَالْبَسْطِ)، معلوم أنَّ بعض الصفات لها أكثر من معنى، فالبسط قد يقال: إنه بسط اليد، وقد يقال: إن المراد بالبسط الإعطاء والجود، وكلاها معاني صحيحة، ولذلك بعض الصفات لها أكثر من معنى، مثال: السميع، السميع يرد بمعنى الذي يدرك الأصوات ويرد بمعنى الذي يستجيب الدعاء، لهذا المصلي إذا قال في صلاته: سمع الله لمن حمد، المقصود أجاب، فالسمع يقصد به إدراك الأصوات ويقصد به إجابة الدعاء،كذلك البصير، البصير يطلق على البصر ويطلق على البصيرة، من الصفات من يكون له أكثر من معنى، ولهذا المصنف أشار إلى معاني البسط، قال: (وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَسْطِ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ: فَلَيْسَ إعْطَاءُ اللَّهِ كَإِعْطَاءِ خَلْقِهِ وَلَا جُودُهُ كَجُودِهِمْ).
يعني مهما كان تعدد المعاني للصفات، فالرب له الصفات التي تليق به والمخلوق وإن وصف بهذه الصفات فهي على الوجه الذي يليق به، ثم قال: (وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ)، نظائر ذلك مما ورد في القرآن الكريم في مواضع متعددة، وفي آيات كثيرة، وفي سور كثيرة تدل على أن الاشتراك في الصفات لا يلزم منه التماثل حال التقييد والإضافة، مما يدل على صحة مذهب السلف وبطلان مذهب الزائغين وبطلان الشبهة التي زعموا أن القدر المشترك يلزم من التماثل، فأرادوا الفرار من هذا المفهوم الخاطئ، فوقعوا فيما هو أسوء منه؛ لأنهم فروا من تشبيهه بالمخلوقات، فمنهم من نفى الصفات، فشبهه بالجمادات، ومنهم من نفى الأسماء والصفات عموماً، فشبهه بالمعدومات، ومنهم من نفى النقيضين، فشبهه بالممتنعات، فأرادوا الفرار بزعمهم من التشبيه وزعموا أن هذا ظاهر النصوص، ثم وقعوا فيما هو أسوء وأقبح منه.
المصنف يُبَيِّنُ بهذه الشواهد صحة مذهب السلف، وأن النصوص لا يمكن أن يعارض بعضها بعض، ولهذا قال: (وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ)، أي الشواهد التي جاءت في القرآن الكريم والتي تدل على أن الاشتراك في الاسم المطلق ليس هو التمثيل الذي نفته النصوص، وأن الاشتراك أيضًا في الاسم المطلق في أن الله وصف نفسه بالصفات ووصف بعض خلقه بهذه الصفات، وسمى نفسه بأسماء وسمى بعض خلقه بهذه الأسماء، أن هذا لا يلزم منه التماثل في حال التقييد والتخصيص والإضافة، مما يدل على صحة مذهب السلف وبطلان مذهب الزائغين والحائدين عن منهج السلف ومنهج الرسل.
إذا نازع المخالف في هذه الشواهد وهذه الأدلة، فإنه يُرد إلى صفة الوجود، فيقال: هل تثبت وجود الخالق أو لا تثبت وجود الخالق؟ هؤلاء هم ينتسبون إلى الإسلام، قطعاً سيثبت وجود الخالق، سيقال له: هل وجود الخالق كوجود المخلوق؟ سيقول: لا، الخالق واجب الوجود والمخلوق جائز الوجود، كان عدمًا فوجد، فيقال: إذا أثبت للخالق وجود يليق به، فيلزمك أن تثبت له بقية الصفات التي تليق به، وهذا من باب رد المتنازع فيه والمختلف فيه إلى المتفق عليه، لكن المصنف ينوع الأدلة العقلية والأدلة الشرعية ويعيد ويكرر.
ثم عقب بعد ذلك بخاتمة لهذه المقدمة لهذا الفصل، قال: (وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ) بمعنى أنَّ هذه الشواهد وهذه الأدلة الكثيرة لا يلزم منها التماثل والاتفاق في الحقيقة عند التقييد والإضافة.
{قال -رحمه الله-: (فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَنَفْيِ مُمَاثَلَتِهِ بِخَلْقِهِ فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَا قُوَّةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى وَلَا نَادَى وَلَا نَاجَى وَلَا اسْتَوَى: كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ)}.
نعم هذا خلاصة هذه المقدمة ونتيجة هذه المقدمة، بعد هذه الأدلة العقلية والأدلة الشرعية الكثيرة والمتنوعة، النتيجة التي أراد أن يصل إليها بهذا الاستدلال، قال: (فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ) فالله أعلم بنفسه وأصدق قيلا وأحسن حديثاً، ورسله كذلك أعلم بخالقهم -تبارك وتعالى- وبما أرسلهم به، فلا بدَّ من إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
(وَنَفْيِ مُمَاثَلَتِهِ بِخَلْقِهِ) يعني نحن نثبت الإثبات الذي يليق بالرب والنفي هو المماثلة، فهذا القدر المشترك من الاسم لا يلزم منه المماثلة، فلا بدَّ من إثبات ما أثبته الله لنفسه وهي الأسماء والصفات، ليس كما فعل الزائغون والحائدون من نفي هذه الأسماء والصفات، بل لا بدَّ من إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي مماثلته لخلقه -عز وجل-؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
ثم أراد التطبيق على هذه القاعدة، قال: (فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَا قُوَّةٌ) هؤلاء المعطلة بدرجاتهم (وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى وَلَا نَادَى وَلَا نَاجَى وَلَا اسْتَوَى) النتيجة (كَانَ مُعَطِّلً) أولاً معطلاً للآيات التي جاءت في وصف الرب -تبارك وتعالى- بهذه الصفات، ومعطلاً للخالق -عز وجل- من صفاته، (جَاحِدً) بما أثبته الله -تبارك وتعالى- لنفسه في كتابه، وأيضاً جاحداً لصفات الخالق، ثم أيضًا هو لَمَّا نفى هذه الصفات فراراً من التشبيه كما يزعم وكم يدعي وقع في أسوء مما فَرَّ منه.
 (مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ) من الذين مثلوه بالمعدومات؟
الجهمية، نفوا الأسماء والصفات، هذا لا يعرف إلا معدوم، والذين مثلوه بالجمادات له أسماء ولكن بدون صفات، المعتزلة، بقي صنف ثالث، الذين مثلوه بالممتنعات المستحيل الفلاسفة والباطنية، فهؤلاء أرادوا الفرار من تشبيهه بالمخلوقات، فوقعوا في تشبيهه بالجمادات أو المعدومات أو الممتنعات، فوقعوا في أسوء مما فروا منه، هذا لازم لهم، إذا نفوا هذه الصفات فيلزمهم التعطيل، ثم يلزمهم التمثيل.
ولهذا يقال: كل مُعطل ممثل، هو مَثَّل أولاً، ثم عَطَّل ثانيًا، ثم مَثَّل ثالثًا.
مَثَّل أولاً: لأنه فهم أن ظواهر النصوص يلزم منها التمثيل، فوقع في التمثيل في الفهم الخاطئ ابتداءً، فأراد الفرار من هذا الفهم الخاطئ فعطّل، ثم يلزمه إذا عطل أن يقع في تمثيل أقبح وأسوء وهو تمثيل الخالق بالجمادات أو المعدومات أو الممتنعات، (كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدً) يعني: هذا يلزمه (مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ) ويضاف كذلك والممتنعات، حسب طوائفهم.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ قَالَ لَهُ عِلْمٌ كَعِلْمِي أَوْ قُوَّةٌ كَقُوَّتِي أَوْ حُبٌّ كَحُبِّي أَوْ رِضَاءٌ كَرِضَايَ أَوْ يَدَانِ كيداي أَوْ اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَائِي كَانَ مُشَبِّهًا مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْحَيَوَانَاتِ)، وهذا هو الصنف الآخر المشبهة المجسمة الذين شبهوا الخالق بالمخلوق، فجعلوا صفات الخالق حال الإضافة والتقييد والتخصيص كصفات المخلوق -تعالى الله  عن ذلك علوا كبيراً والله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ، كان مُشبهًا للخالق بالحيوانات المخلوقة، السلف وسط بين طرفي النقيض، وسط بين الغلاة والجفاة، فأثبتوا إثباتاً بلا تمثيل ونزهوا تنزيهاً بلا تعطيل، ولهذا قال: (بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتٍ بِلَا تَمْثِيلٍ وَتَنْزِيهٍ بِلَا تَعْطِيلٍ) هذا هو الوسط كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فيثبتون لله الصفات على الوجه الذي يليق به، لا يَغلون في الإثبات لحد التمثيل وينزهونه -تبارك وتعالى- ولا يغلون في التنزيه إلى حدِّ التعطيل، بل يقولون: له الصفات التي تليق به، هذه النتيجة التي أراد المصنف -رحمه الله- الوصول إليها من خلال هذه الشواهد والرد على شُبهة المعطلة بأنواعهم ودرجات الانحراف عندهم.
سيأتي ما هو موقف هؤلاء من النصوص؟ منهم من يرد أخبار الآحاد ولا يحتج بها، ومنهم من يتسلط عليها بالتأويل الذي هو التحريف، فيحرفها إلى صفات أخرى أو إلى مخلوقات، ومنهم من أعياه التأويل والتحريف لكثرة الإيرادات التي تُورد عليه، فقال بالتفويض، بمعنى أنها غير مفهومة المعنى، فلما تسلَّط على النصوص بأنها غير مفهومة المعنى وأن السلف ما كانوا يفهمون، تسلط المبتدعة الآخرون على نصوص الوحي، فلما قال المتكلمون بأن آيات الصفات وأحاديث الصفات تحتاج إلى تأويل ليست على ظاهرها، جاء الفلاسفة وقالوا: إن آيات المعاد ليست على ظاهرها تحتاج إلى تأويل، ثم جاء الباطنية، قالوا: إذا كنتم أيها المتكلمون تقولون: إن آيات الصفات ليست على ظاهرها تحتاج إلى تأويل وأنها مجازات، وجاء الفلاسفة وقالوا: إنَّ آيات المعاد ليست على ظاهرها تحتاج إلى تأويل وهي مجازات.
جاء الباطنية لأن هؤلاء فتحوا لهم الباب، أي: باب البدع، جاء الباطنية قالوا: إذا كان ذلك فآيات الأحكام والأوامر والنواهي ليست على ظاهرها تحتاج إلى تأويل وهي مجازات، فلما أراد المتكلمون الرد على الفلاسفة ما استطاعوا؛ لأن الفلاسفة قلبوا عليهم الدليل، قالوا: ما الذي يبيح لكم تأويل نصوص الصفات وتحرمون على غيركم تأويل نصوص المعاد؟ وما الذي يبيح لكم تأويل نصوص الصفات وتحرمون على غيركم تأويل آيات الأحكام؟
يقول شيخ الإسلام في جهود المتكلمين في الرد على الفلاسفة: "لا للإسلام نصروا ولا للفلسفة كسروا" لماذا؟ لأنهم هم أصلاً حجتهم باطلة، هو يقع في بدعة ويرد على المبتدع بنفس بدعته.
ثم قال بعد خاتمة، ثم نحن نلخص كما هي الشريحة ظاهرة أمام الإخوة والأخوات من المتابعين، وهذا الشريحة التي أمامكم هي ملخص المقدمة؛ لأن المصنف وضع مقدمة للكتاب، ثم ابتدأ الأصل الأول الذي هو التوحيد في الصفات وأطال في هذه المقدمة من باب التأصيل والتأسيس، وما ذكره هنا سيعيده مرة أخرى بأساليب مختلفة، ففي هذه المقدمة بيَّن الأصل في توحيد الصفات وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بيَّن طريقة السلف والأئمة، ثم ميزات طريقة السلف في هذا الباب، ثم طريقة الرسل وهو الإثبات المفصل والنفي المجمل، ثم ذكر الشواهد من الكتاب وأطال في الشواهد النفي المجمل وشواهد الإثبات المفصل، ثم طرائق الزائغين والحائدين وذكر المصدر الذي جاءت منه هذه البدع، بدعة التعطيل، ثم أصناف الزائغين، ثم ذكر بعض المذاهب، مذهب الباطنية ومذهب الفلاسفة ومذهب المعتزلة، ثم منشأ الضلال، ثم أجاب عن شبهاتهم بالإلزامات، ثم بالأدلة الشرعية، ثم وضع هذه النتيجة التي هي خلاصة هذه المقدمة.
ثم قال بعد هذا التقديم والتأصيل للأصل الأول، قال:
{قال -رحمه الله-: (وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِأَصْلَيْنِ شَرِيفَيْنِ، وَمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ -وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى-. وَ بِخَاتِمَةٍ جَامِعَةٍ، وَيَتَبَيَّنُ هَذَ) يعني: هذا التأصيل وهذا التقعيد الذي ذكره في هذه المقدمة يتبين هذا، وهذا الجواب أيضًا في أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يلزم منه التماثل، تماثل الحقائق حال التقييد والإضافة والتخصيص، يتبين هذا الجواب الذي ذكره ونوَّع في أدلته أيضًا (بِأَصْلَيْنِ شَرِيفَيْنِ)، وهذان الأصلان ليس هما ما ذكره في المقدمة التي هي موضوع الكتاب، الذي هو تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر، فهذان الأصلان هما موضوع الكتاب، أما مراده بهذين الأصلين، أي: في الجواب عن شبهة الزائغين في أن هذه الشبهات تتبين بأصلين شريفين، ووصفهما بأنهما شريفين لعظم هذين الجوابين، وهما دليلان عقليان، بل يعتبران من الأدلة العقلية الكلية المجردة، مثل منع اجتماع النقيضين أو ارتفاع النقيضين، فهذا دليل عقلي كلي تقول به جميع العقلاء، أنه لا يمكن أن يجتمع النقيضين ولا يمكن أن يرتفع النقيضان، فذكر دليلين عقلين ثم أيضًا مثلين مضروبين، والمثلان أيضًا دليلان عقليان مبنيان على الاضطراد الحسي الذي يدل على القطع، والدليل العقلي إمَّا قطعي كلي ضروري وإمَّا قطعي حسي، فهذان الدليلان العقليان والمثلان المضروبان وكذلك القواعد السبع التي سيذكرها تدل على صحة مذهب السلف في باب الأسماء والصفات وعلى بطلان مذاهب المعطلة.
فهذان الأصلان وهذان المثلان وهذه القواعد كلها تدل على صحة مذهب السلف وبطلان مذهب الزائغين.
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ فَأَمَّا الْأَصْلَانِ: فَأَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ)}.
قال: (فَصْلٌ) الآن انتقل إلى الموضوع الثالث في هذا الكتاب المقدمة، مقدمة الكتاب، ثم مقدمة الأصل الأول، ثم قال: (فَصْلٌ) ذكر فيه الأصلين، قال: (فَأَمَّا الْأَصْلَ فَأَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ)، وهذا الأصل على جهة العموم، (أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ) نفياً أو إثباتًا، ذكر الإخوة المستمعون أنه في الإلزامات في الرد على الزائغين والحائدين، قال: أنهم لو سووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات؛ لسلموا، فهو يلزمهم أيضًا، يعني هذا الأصل هو تأكيد لما ذكره سابقًا، وهو مساواة الضرورة العقلية، الضرورة العقلية تقتضي المساواة بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، فمن ساوى بين المختلفات وفرق بين المتماثلات، هذا لا يقول به عقل، ولهذا هم ساووا بين صفات الخالق وبين صفات المخلوق، فهذا الذي أوقعهم في هذا الضلال والانحراف.
طبعًا هذا الأصل هو من باب التغليب وإلا ذكر تحت هذا الأصل فروع وقواعد أخرى، إنما ذكر هذا من باب الأغلب وإلا فرع تحته القول في الصفات كالقول في الأسماء والقول في بعض الصفات كالقول في الذات، ستأتي التفريعات والتطبيقات والأمثلة مما يدل على أن هذا الأصل وهذه القاعدة العقلية هي أغلبية.
أيضًا يلاحظ أنه في هذا الأصل ناقش طوائف من المعطلة، ناقش من أثبتوا بعض الصفات وعطلوا بقية الصفات وهم الأشاعرة وإن لم يذكر اسمهم، لأن المصنف -رحمه الله- لا يهتم بذات الاسم وإنما هو يناقش الفكرة والبدعة، ولهذا ما ذكر اسم الأشاعرة أصلاً، ومناقشته لمن يثبت بعض الصفات ويحرف بقية الصفات، فناقش الذين نسميهم في كتبهم الصفاتية وهم الأشاعرة والماتريدية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، ثم الفلاسفة، ثم الباطنية، فناقش في هذا الأصل خمس طوائف بنفس الحجة ونفس الدليل.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يَقُولُ: بِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ بِحَيَاةِ عَلِيمٌ بِعِلْمِ قَدِيرٌ بِقُدْرَةِ سَمِيعٌ بِسَمْعِ بَصِيرٌ بِبَصَرِ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ مُرِيدٌ بِإِرَادَةِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً وَيُنَازِعُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا وَيُفَسِّرُهُ إمَّا بِالْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ فَيُقَالُ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَهُ بَلْ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ)}.
هذه هي الطائفة الأولى الذين ناقشهم بهذا الأصل، وأطال في نقاشهم وهم الذين يُثبتون بعض الصفات ويحرِّفون بقية الصفات، ويدخل في هذا الأشاعرة والماتريدية ومن قال بقولهم، يلاحظ أنه ذكر سبع صفات وهي التي يثبتها الأشاعرة في العموم وإن كان بينهم اختلاف فالمتقدمون منهم قد يزيدون، إنما هذا هو المشهور والأغلب وإلا داخل المدرسة الأشعرية ثَمَّة اختلاف في بعض الصفات، هل تثبت أو لا تثبت في العقل؟
قال: (فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يَقُولُ: بِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ بِحَيَاةِ عَلِيمٌ بِعِلْمِ قَدِيرٌ بِقُدْرَةِ سَمِيعٌ بِسَمْعِ بَصِيرٌ بِبَصَرِ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ مُرِيدٌ بِإِرَادَةِ)، كم صفة؟ سبع صفات وهي التي يثبتها جمهور الأشاعرة، وإذا قيل لهم: هل تثبتونها على الوجه اللائق بالرب؟ قالوا: نعم، (وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً) تليق بالرب، وينازع في بقية الصفات التي جاءت في أدلة الكتاب والسنة، مثل: المحبة والرضا والغضب والكراهية.
ماذا يقول في الأدلة التي جاءت في هذه الصفات؟ يقول: إن الأدلة التي جاءت في هذه الصفات غير الصفات السبع التي يسمونها الصفات المعاني ويسمونها صفات عقلية دل العقل عليها، ينازع في البقية ويقول: إن الأدلة التي جاءت فيها هي مجازات ليست على ظاهرها، وتفسر إمَّا بإحدى هذه الصفات السبع أو تفسر بالنعيم أو بمخلوق من المخلوقات، مثل: من يفسر مجيء الرب بمجيء ملك، ونزول الرب بنزول الرحمة أو نزول ملك أو نحو ذلك، ولاحظ هذه العبثيات.
ويقول: وبقية الصفات (وَيُفَسِّرُهُ إمَّا بِالْإِرَادَةِ) يعني بصفة أخرى، (وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ) فيقول مثلاً المحبة هي إرادة الثواب والغضب إرادة العقاب، لاحظ هنا: اختلفت القاعدة أم لا؟ اختلفت عند هؤلاء.
قد يقول قائل: هل الأشاعرة الذين يثبتون هذه الصفات السبع، يثبتونها كما يثبتها أهل السنة؟ والجواب: أن الأمر يختلف، في حال التفصيل ستجد أن إثبات الأشاعرة لهذه الصفات يختلف.
صفة الكلام على سبيل المثال: عندهم أنَّ الله لا يتكلم متى شاء، كيف يشاء، إذا شاء، بل هو صفة قائمة بذات الرب ليست حادثة أو متعلقة بالمشيئة وبغير حرف ولا صوت، ولهذا يقولون في القرآن: إنه عبارة عن كلام الله أو هو حكاية عن كلام الله، حتى لو أثبتوها في الظاهر، فثمة اختلاف، كذلك الإرادة ليس عندهم إرادة كونية وإرادة شرعية.
الشاهد: أنهم أثبتوا هذه الصفات السبع ونفوا بقية الصفات، وهنا يرد عليهم سؤالان، السؤال الأول: يقال لهم: لماذا أثبتم هذه الصفات السبع ونفيتم بقية الصفات؟ لماذا فرقتم والقول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات؟
إن قالوا: إن العقل أثبتها، نقول: وهل العقل لم يثبت بقية الصفات؟
وإن قالوا: العقل أثبتها ولم يثبت بقية الصفات، نقول: وهل العقل نفى بقية الصفات؟ لاحظ أن الشيخ -رحمة الله عليه- هنا يجري مناظرة عقلية مع هؤلاء، وهذه المهمة مفيدة لطالب العلم، فهذا الكتاب مهم لطلاب العلم في الدفاع عن معتقد السلف والعقيدة الإسلامية، في أنه كيف يناظر المبتدعة الذين يلبسون على الناس، فيسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات، كيف يبطل هذه الشبهة التي يوقعونها على المسلمين.
المصنف هنا أجرى مناظرة عقلية، والمناظرات العقلية تقتضي المنع ابتداءً، منع الدليل أو بقلب الدليل على المخالف أو بالتسليم قبولاً لأجل المناظرة، ثم نقض الدليل، وهذه المهارات التي استخدمها الشيخ -رحمة الله عليه- هنا.
أيضًا لاحظ أنه استعمل مهارة أخرى، وهو أنه عمل مناظرة بين الأشعري والمعتزلي، لأجل أن يُبَيِّنُ بُطلان مذهب هذا وبُطلان مذهب هذا، فضرب عقيدة الأشاعرة بالمعتزلة وضرب عقيدة المعتزلة بالأشاعرة مثل ما يفعل أهل السنة في شبهة الجبرية والقدرية، فشبهة الجبرية يضرب بها القدرية، وشبهة القدرية يضرب بها الجبرية، فهو عمل مناظرة بين الأشعري والمعتزلي، ليتبين فساد مذهب هذا وفساد مذهب هذا، ولهذا أورد هنا ثم إيرادات، أن يقال ما وجه دلالة العقل على هذه الصفات السبع، ثم يقال: هل العقل لم يدل على بقية الصفات؟ لأن القاعدة العقلية والضرورة العقلية تقتضي أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وهذه الصفات كلها مصدرها الوحي، فما الذي جعلكم تنتقون من نصوص الوحي ما تشاءون؟ فهذا تثبتون وهذا تحرفون.
قال في الجواب: (فَيُقَالُ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَهُ بَلْ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ)، هذا هو الوجه الأول في تطبيق القاعدة، أن يقال لمن يثبت بعض الصفات وينفي البعض الآخر، أن يقال له: لا فرق بين ما نفيت وبين ما أثبت، بل القول في أحدهم كالقول في الآخر، هذا هو التطبيق الأول، لديه جواب، فإن قال:
{(فَإِنْ قُلْت: إنَّ إرَادَتَهُ مِثْلُ إرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ فَكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَهَذَا هُوَ التَّمْثِيلُ وَإِنْ قُلْت: إنَّ لَهُ إرَادَةً تَلِيقُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّ لِلْمَخْلُوقِ إرَادَةً تَلِيقُ بِهِ قِيلَ لَك: وَكَذَلِكَ لَهُ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلَهُ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ)}.
إن أجابك هذا المعطل وقال أو من باب الإلزام له لو قيل له اعتراضاً على إثباته من باب التسليم والمناظرة اعتراضاً على إثباته للإرادة، لو قيل له: لو أن إرادته مثل إرادة المخلوقين، هو لا يقول بهذا ولكن هذا من باب الإلزام، فكذلك محبته ورضاه وغضبه وهذا هو التمثيل؛ لأنك أنت نفيت المحبة ونفيت الرضا ونفيت الغضب بزعمك أن هذا لا يعلم إلا للمخلوق، سيقال له والإرادة للمخلوق، فإن قال أجاب هو قال لا، بل إرادته تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، وهذا حق وهو سلم بهذا، فماذا يجيبه المثبت للصفات، يقال له: (كَذَلِكَ لَهُ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلَهُ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ)، هذا هو الجواب الأول.
{(وَإِنْ قال: الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لَهُ: وَالْإِرَادَةُ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَإِنْ قُلْت: هَذِهِ إرَادَةُ الْمَخْلُوقِ قِيلَ لَك: وَهَذَا غَضَبُ الْمَخْلُوقِ)}.
وهذا متى يكون؟ غضب المخلوق عند التقييد والتخصيص، هذه الإشكالية أنه جعل الصفات في حال الإطلاق هي مثل الصفات في حال التقييد والإضافة، هذا من باب الإلزام.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ الْقَوْلُ فِي كَلَامِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ إنْ نُفِيَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ؛ فَهَذَا مُنْتَفٍ عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَجَمِيعِ الصِّفَاتِ وَإِنْ قَالَ: أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذَا إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِينَ؛ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ: وَهَكَذَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ)}.
منشأ الخطأ والضلال عند هؤلاء الذين يثبتون سبع صفات وينفون الباقي، عندهم عدم التفريق بين الإطلاق والتقييد وأيضاً التناقض الذي وقعوا فيه، فيقال لهم على سبيل التنزه: لماذا أيها الأشعري وأيها الماتريدي لماذا صحح عقلك أن يكون للرب سمعاً يليق به وبصراً يليق به وإرادة تليق به، ولا يوصف بالمحبة والرضا؟ لماذا؟ كيف تصور العقل أنه يوصف بالسمع والبصر والقدرة والعلم والإرادة ولا يتصور العقل أنه يوصف المحبة والرضا؟ فلماذا تفرقون بين المتماثلات، وتسوون بن المختلفات؟ هذا هو الجواب العقلي.
{قال -رحمه الله-: (فَهَذَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضٍ يُقَالُ لَهُ: فِيمَا نَفَاهُ كَمَا يَقُولُهُ هُوَ لِمُنَازِعِهِ فِيمَا أَثْبَتَهُ فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: لَيْسَ لَهُ إرَادَةٌ وَلَا كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهَا الْقَدِيمُ وَلَا تَكُونُ كَصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ فَهَكَذَا يَقُولُ لَهُ الْمُثْبِتُونَ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَنَحْوِ ذَلِكَ)}.
أيضًا هذه مناظرة لطيفة، مناظرة لطيفة أن يقول: (فَهَذَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضٍ)، الذي يثبت بعض الصفات وينفي البعض الآخر بزعمه أن العقل أثبت هذا ولم يثبت الأخرى، (يُقَالُ لَهُ: فِيمَا نَفَاهُ كَمَا يَقُولُهُ هُوَ لِمُنَازِعِهِ فِيمَا أَثْبَتَهُ)، يعني الآن يعمل مناظرة بين الأشعري والمعتزلي، المعتزلي ينفي جميع الصفات بزعمه أن إثبات الصفات تشبيه وتمثيل للخالق -عز وجل-، فيأتي الأشعري فيريد أن يناظره في أن الصفات السبع تليق بالرب، (فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ) رداً على الأشعري: (لَيْسَ لَهُ إرَادَةٌ وَلَا كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ) بمعنى أن المعتزلي ينفي جميع الصفات بما فيها الصفات السبع، لماذا نفيت؟ قال: (لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْمَخْلُوقَاتِ) فبماذا هو يجيب؟ يجيب أن هذه الصفات يتصف بها الخالق على الوجه الذي يليق به، ولهذا  (فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهَا الْقَدِيمُ وَلَا تَكُونُ كَصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ) وهذا هو جواب أهل السنة للأشاعرة في بقية الصفات، (فَهَكَذَا يَقُولُ لَهُ الْمُثْبِتُونَ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَنَحْوِ ذَلِكَ).
هذا هو الجواب الذي هو إلزام لهم وهو دليل آخر لأهل السنة في إلزام الأشاعرة بهذه اللوازم، ربما الوقت شارف على الانتهاء، سنكمل -إن شاء الله- بقية الأجوبة العقلية في الدرس القادم -بإذن الله- أسأل الله -عز وجل- لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم آمين، ويحفظنا وإياكم من الزيغ والضلال والإلحاد في أسمائه وصفاته.
{وفي الختام هذه تحية عطرة مني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك