الدرس العشرون

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2012 22
الدرس العشرون

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والأبناء الطلاب والطالبات في برنامج البناء العلمي، وفي جمعية الأكاديمية الإسلامية المفتوحة في التعليق على الرسالة التدمرية في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر، أسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. بَلْ وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ بَلْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ: مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُهُ مِثْلَهُ بَلْ عَامَّتُهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ صَنَمًا؛ كَمَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ" فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ وَقَالَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك»)}.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وعلى كل من صلى وسلم عليه إلى يوم الدين، أما بعد.
فنكمل التعليق على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الأصل الثاني الذي هو بيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر، بعد أن ذكر الواجب في القدر اعتقاداً، والواجب في الشرع اعتقاداً، ثم ذكر حقيقة العبادة، ثم ذكر أهمية العبادة، وذكر أن العبادة بهذا المفهوم هو الدين الذي بعث الله به جميع الأنبياء، الذي هو الاستسلام لله وحده لا شريك له، ثم ذكر الأدلة على ذلك، ثم بيَّن معنى الإسلام، وأن الإسلام هو طاعة الله، واستسلام لله وانقياد لأمره، هو بهذا المعنى الذي دعا إليه جميع الأنبياء.
ثم أشار إلى تنبيهٍ مُهمٍّ: وهو أنَّ الشرك الذي ذكره الله في كتابه بالملائكة وبالأنبياء وبالكواكب وبالأصنام، وأصل الشرك الذي هو شرك في الشيطان إنما هو شرك في العبادة، شرك في الألوهية وليس هو شرك في الربوبية.
إبليس أكفر الكفرة لا شك في ذلك، شركه في الربوبية أو في الألوهية؟ وهذا السؤال يوجه للمتكلمين في كتبهم، فيقال للمتكلمين في كتبهم الذين يقررون في علم الكلام التوحيد والشرك، شرك إبليس بأي شيء؟ في الربوبية أو في الألوهية؟
هم يقولون في الربوبية والواقع أنه شرك في الألوهية، هو خالف الله في أمره، ولهذا قال: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر: 36]،
نقول للمتكلمين: هل إبليس أكفر الكفرة - لا شك في هذا- هل إبليس يقر بأن الله رب؟ نعم، يقر بأن هناك بعث؟ نعم، يقر بالجنة، كل هذا يقر به، إذاً أين المشكلة؟ أنه لما أمره الله بالسجود رفض، هذا هو حقيقة الشرك، ولذلك الشرك في الملائكة، والشرك في الأنبياء، والشرك في الكواكب وفي الأصنام، وأصل الشرك إنما كان في الألوهية، هذا التقعيد مهم؛ لأنه سيستفيد منه في الرد على الانحراف الذي حصل لدى المتكلمين في توحيد العبادة.
ولهذا قال: (وَمَعْلُومٌ) لاحظ هو يستدل الآن بالجانب العقلي والجانب الفطري، (وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)، لا أحد يقول بهذا القول، (بَلْ وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. بَلْ) وهذا دليل ثالث: (بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ) هذا ما يوجد عند جميع العقلاء قاطبة، (بَلْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ) لاحظ يقول عامة المشركين سواءً كانوا عبدة أصنام أو عبدة كواكب أو عبدة أنبياء أو عبدة أولياء أو عبدة صالحين، (عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ: مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُهُ مِثْلَهُ)، إذاً لماذا عبدتم هذه الأشياء؟
قالوا: لأجل أن تقربهم إلى الله زلفى، (بَلْ عَامَّتُهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكً) من الملائكة، (أَوْ نَبِيًّا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ صَنَمًا؛ كَمَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك) ثم يستثنون ("إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ" فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ) ما التوحيد؟ («لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك»).
ثم ذكر أيضًا ما نقله أرباب المقالات عن المشركين عموماً، يقال للمتكلمين: هل يوجد في البشرية من يشرك بالربوبية؟ انظر ماذا ينقل أصحاب المقالات؟ ماذا يقولون؟
{(وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ: مَا جَمَعُوا مِنْ مَقَالَاتِ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ فَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَحَدٍ إثْبَاتَ شَرِيكٍ مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الثنوية الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْأَصْلَيْنِ "النُّورِ" و"الظُّلْمَةِ" وَأَنَّ النُّورَ خَلَقَ الْخَيْرَ، وَالظُّلْمَةَ خَلَقَتْ الشَّرَّ ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَدِيمَةٌ لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ إلَّا الشَّرَّ فَكَانَتْ نَاقِصَةً فِي ذَاتِهَا وَصَفَاتِهَا وَمَفْعُولَاتِهَا عَنْ النُّورِ)}.
بعد أن ذكر الأدلة من كتاب الله، ذكر أيضًا الواقع الذي عليه المشركين في القديم والحديث،
ثم قال: (وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ)، من يقصد بأرباب المقالات؟ يعني ممن كتبوا في مقالات الفرق والديانات، وممن كتبوا في علم الأديان، وممن كتبوا في علم الفرق ومقالات الفرق، (وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ) أي: المصنفون، (مَا جَمَعُوا مِنْ مَقَالَاتِ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ فَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَحَدٍ إثْبَاتَ شَرِيكٍ مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ)، عند الفيزيائيين الملاحدة لا ينكرون وجود خالق، هذا ما يقول به عاقل، الذي ينكر وجود خالق هذا ليس بعاقل؛ لأنه ما من مخلوق إلا وله خالق، ما من موجود إلا وله موجد، لا يوجد، هذا ليس بعاقل أصلاً ولهذا لا يستحق أن تناقشه.
(فَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَحَدٍ إثْبَاتَ شَرِيكٍ مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ) نعم قد يوجد من يزعم أنه يشارك في بعض، لكن أن يوجد مشارك له في جميع المخلوقات هذا لا يوجد عند العقلاء قاطبة، ولذا أهل العلم لما يقولون الشرك في الربوبية قليل هم يقصدون من هذا الوجه، وإلا قد يوجد الشرك في بعض الوجوه لكنه الغالب على البشرية هو الشرك في الألوهية، أما الشرك في الربوبية فهو قليل ونادر إلا على جهة المكابرة والمعاندة.
(وَلَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ) حتى الذين وقع منهم التشبيه فيما سبق، لا يقولون بوجود مماثل له في جميع الصفات، (بَلْ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الثنوية) وهم المجوس (الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْأَصْلَيْنِ "النُّورِ" و"الظُّلْمَةِ") ويزعمون (وَأَنَّ النُّورَ خَلَقَ الْخَيْرَ، وَالظُّلْمَةَ خَلَقَتْ الشَّرَّ) إذاً عندهم لا يكون هناك تساوي، مع أنهم ثنوية لا يقولون بالتساوي، (ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهَا قَدِيمَةٌ لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ إلَّا الشَّرَّ فَكَانَتْ نَاقِصَةً فِي ذَاتِهَا وَصَفَاتِهَا وَمَفْعُولَاتِهَا عَنْ النُّورِ)، وبالتالي هم لَمَّا جعلوا خالقين، هل جعلوا الظلمة مثل النور؟ لا، حتى أقبح ما نقلوا عن الثنوية ومع ذلك لم يقولوا بالتساوي من كل وجه.
ثم قال.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ* قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ وَقَالَ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ )}.
وهذا أيضًا أصل مهم: وهو أن القرآن الكريم قد بيَّن حقيقة ما عليه المشركون، وهو أن المشركين الذين أنكر الله عليهم في القرآن كانوا يقرون بالربوبية، وهذا سيستفيد منه في الرد على المتكلمين الذين يفسرون التوحيد بالربوبية، والشرك الذي جاء النهي عنه هو الشرك بالربوبية.
(وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ)، إذاً هذا دليل من كتاب الله على أن هؤلاء المشركون يقرون بالربوبية، وبالتالي أيها المتكلمون تفنون أعماركم وأوقاتكم وتسودون الكتب بأمر يسلم به المشركون عبدة الأوثان، وهذا هو وجه من أوجه الضلال والانحراف في فهم التوحيد لدى بعض المنتسبين للإسلام.
فالله أخبر في كتابه عن إقرار المشركين بالربوبية وهذه الآيات ظاهرة (﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ )، إذاً أين الإشكال عندهم؟ الإشكال في العبودية.
الآية التي بعدها: (﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ )، وهكذا بقية الآيات.
النتيجة التي يريد الوصول إليها من هذه الأدلة وهذا التقرير، ما هي؟ قال.
{قال -رحمه الله-: (وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ: يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ: غَايَتُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ)}.
لاحظ ما ذكره سابقًا من حقيقة الإسلام وأنه دين الأنبياء وحقيقة الشرك الذي وقعت فيه الأمم وما نقله أصحاب المقالات وما عليه المشركون سيستفيد منه أن ما يقرره المتكلمون في كتبهم في مسمى التوحيد وتعريف التوحيد هو غلط، وهذا نوع من أنواع الضلال والانحراف، فكما انحرف هؤلاء المتكلمون في باب الأسماء والصفات، فعطلوا واضطربوا ووقعوا في تناقض وأخذ بعضهم يرد على بعض، كذلك في هذا الباب الذي هو التوحيد، فهذه المقدمة مقدمة لتأصيل معنى التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء.
النتيجة، قال: (وَبِهَذَ) ما سبق بيانه، وكذلك (وَغَيْرِهِ) مما لم يذكره في هذا المختصر (يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ)، بل لاحظ لما يسمون الكتب عندهم مسمى التوحيد، فتنظر ما التوحيد هذا الذي سموا الكتب به؟ وإذا هو توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون، لما تنظر في مسمى التوحيد سواءً عند المعتزلة ولا عند المتكلمين عامة ويألفون كتب التوحيد ويقولون علم التوحيد، ثم تنظر ما التوحيد هذا الذي يقصدونه، وإذا هو توحيد الربوبية، ولذلك يقول: (وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ: يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ) يسمون علم الكلام، غاية ما يقررونه توحيد الربوبية.
قال: (غَايَتُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ)، العجيب أن المتكلمين ينكرون على السلف الذين يقسمون التوحيد ثلاثة أقسام، وهي قسمة شرعية دلَّ عليها القرآن في أول سورة الفاتحة، ودل عليها القرآن في سورة الناس، أي: في أول المصحف وآخره، دل بالاستقراء والتتبع على أن التوحيد توحيد ربوبية وتوحيد أسماء وصفات وتوحيد العبودية، هؤلاء ينكرون هذا التقسيم، ثم يأتون بتقسيم محدث مبتدع لا دليل عليه.
يقول: (غَايَتُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ. فَيَقُولُونَ) وهذا موجود في كتب المتكلمين.
{(فَيَقُولُونَ: هُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الثَّالِثُ وَهُوَ "تَوْحِيدُ الْأَفْعَالِ" وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ دَلَالَةِ التَّمَانُعِ وَغَيْرِهَا وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمَطْلُوبُ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى قَدْ يَجْعَلُوا مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ)}.
من هنا بدأ في مناقشة الضلال والانحراف والزيغ الذي حصل في هذا الأصل العظيم، وهو معنى التوحيد الذي دعا إليه جميع الأنبياء، الإسلام الذي دعا إليه جميع الأنبياء.
قال: بما سبق تقريره وتأصيله، (وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ: يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ: غَايَتُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ)، ما هي؟
(فَيَقُولُونَ: هُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ)، وهذا عجيب، (وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ) وبهذا ينفون الصفات، (وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ)، إذاً جميع الأنواع الثلاثة ترجع إلى أي شي؟ إلى الربوبية مع الانحراف فيها أيضًا، أشهر الأنواع عندهم هو الثالث وهو: قولهم واحد في أفعاله لا شريك له، وهو توحيد الأفعال وهو أن الخالق خالق العالم واحد، هل يوجد من ينكر هذا؟ ما أحد، هذا من العجب، تفنى الأعمار ويشغل الناس وصفحات الكتب في أمر مسلم به عند جميع البشر، هل إبليس عنده مشكلة في هذا؟ لا إشكال عنده، وهو أن خالق العالم واحد.
ما الدليل؟ قال: (وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ دَلَالَةِ التَّمَانُعِ وَغَيْرِهَ) يعني أدلة إثبات الربوبية، لما تأتي وتناقش إبليس في إثبات الربوبية، يقول: وهل هو أنكرها؟ تأتي وتناقش أبا جهل وأبا طالب، يقول: وهل يوجد أحد ينكر هذا؟ بل لاحظ الغلط أيضًا: (يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمَطْلُوبُ) الذي من أجله خلق الله الخلق ومن أجله أرسل الرسل، ومن أجله أنزل الكتب، ومن أجله شرعت الشرائع، انظر الضلال والانحراف عند هؤلاء المتكلمين، بل أسوء، يجعلون أن هذا هو معنى لا إله إلا الله، فعندهم من قال: (لا إله إلا الله) مقرًا بأنه لا خالق إلا الله، هذا هو الإسلام، لو كان هذا معناها لقالها أبو جهل.
ولهذا يقول شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب "كشف الشبهات": "قبح الله مَنْ مُشركي الجاهلية أفقه منه بـ (لا إله إلا الله)"؛ لأنهم عرفوا المعنى، فلما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قولوا: (لا إله إلا الله)، قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِد﴾ [ص: 5]، هؤلاء المتكلمون جعلوا معنى: (لا إله إلا الله) أنه لا قادر على الاختراع إلا الله، لا خالق إلا الله، لا رزاق إلا الله.
قال: (وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى قَدْ يَجْعَلُوا مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ) التي هي العبودية، يقال: الإلهية، ويقال: الألوهية، من أله يأله ألوهة وإلهة، ولهذا يقال: توحيد الإلهية أو توحيد الألوهية، كلاهما صحيح، (يَجْعَلُوا مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ) التي هي العبودية، يجعلونها (الْقُدْرَةَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ) وهذا ضلال وانحراف في أعظم ما دعا إليه الأنبياء.
{وما له فائدة يا شيخ، كان توحيد الأفعال هو الخلق، فما الفائدة من الاختراع؟}
أحسنت هذا أيضًا مما يدل على الاضطراب والضلال، ثم أراد أن يرد عليهم في ضلالهم وانحرافهم وفساد مذهبهم في التوحيد، قال في الجواب.
{قال -رحمه الله-: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا: لَمْ يَكُونُوا يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا بَلْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ أَيْضًا وَهُمْ مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ)}.
هذا هو الجواب الأول في الرد على المتكلمين الذين فسروا التوحيد بتوحيد الربوبية، وفسروا (لا إله إلا الله) بمعنى الربوبية، يقال لهم أولاً: إن المشركين الذين بعث فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا يخالفون في توحيد الربوبية -كما تقدم في الآيات-، بل كانوا يقرون بأن الله هو الخالق كما تقدم في الآيات، بل كانوا يقرون بالقدر، ولهذا كانوا يحتجون على شركهم بالقدر كما ذكر الله عنهم أنهم قالوا: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَ﴾ [الأنعام: 148]، ومع هذا الإقرار منهم بأن الخالق هو الله، هذا الإقرار منهم بالقدر، هل أخرجهم عن الشرك؟ هل جعلهم مسلمين موحدين؟ لا، فدل على أن هذا هو ليس التوحيد الذي دعا إليه الأنبياء، وليس هذا هو الشرك الذي نهى عنه الأنبياء.
هذا هو الجواب الأول في بيان غلط المتكلمين في تفسير التوحيد بأنه توحيد الله في أفعاله لا شريك له.
الجواب الثاني، أن يقال.
{قال -رحمه الله-: (فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَصْلِ هَذَا الشِّرْكِ؛ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُقَالُ: إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ خَلْقًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعِبَادِ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِنْ قَالُوا إنَّهُمْ خَلَقُوا أَفْعَالَهُمْ)}.
أيضًا الجواب الثاني يقال كما تقدم، الذين نقلوا عن أصحاب المقالات، الذين نقلوا أقوال الأمم والديانات، هل نقلوا أن أحدًا من البشر يزعم أن ثَمَّ شريك مع الله في كل وجه؟ نقول: هذا لا يوجد، ولهذا قالوا: (فَقَدْ تَبَيَّنَ) أي: فيما تقدم، (أَنْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ) أي: في الأمم، (مَنْ يُنَازِعُ فِي أَصْلِ هَذَا الشِّرْكِ) الذي هو الشرك في الربوبية، (وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُقَالُ) يعني: غاية الانحراف الذي حصل في هذا: (إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ خَلْقًا لِغَيْرِ اللَّهِ) فقط، وأما أن يقول هناك خالق مع الله هذا لا يوجد أصلاً في الأمم، (كَالْقَدَرِيَّةِ) الذين زعموا أن الإنسان يخلق أفعاله، والذين يسمون بمجوس هذه الأمة، لكن هؤلاء القدرية أيضًا -ولاحظ القدرية الذين ضلوا في باب القدر- هل نفوا خلق الله لكل شيء؟
لا، إذا أين الإشكال عندهم؟ في أفعال العباد، نقول: حتى هؤلاء القدرية إنما ضلالهم كان في خلق أفعال العباد ولم ينفوا أن يكون الله هو الخالق لكل شيء، (لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعِبَادِ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِنْ قَالُوا إنَّهُمْ خَلَقُوا أَفْعَالَهُمْ)، إذاً هذا هو ضلالهم.
ثم قال.{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَالطَّبْعِ وَالنُّجُومِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُبْدِعَةٌ لِبَعْضِ الْأُمُورِ هُمْ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْفَاعِلَاتِ مَصْنُوعَةً مَخْلُوقَةً لَا يَقُولُونَ إنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْخَالِقِ مُشَارِكَةٌ لَهُ فِي الْخَلْقِ)}.
يعني: عند العقلاء من هؤلاء الفلاسفة، بل حتى عند الفيزيائيين، وكذلك أهل الفلسفة والطبيعة الذين ينسبون الأشياء للطبيعة والنجوم، الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور فينسبونها للطبيعة، (هُمْ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْفَاعِلَاتِ مَصْنُوعَةً مَخْلُوقَةً)، يعني يقال مثلاً في باب علم الفيزياء: هل عند الفيزيائيين أن القوانين الفيزيائية هي التي تصرف الكون؟ ما أحد يقول هذا، يقول: سلوا الفيزيائيين اليوم وفيهم ملاحدة، هل القوانين الفيزيائية التي تصرف الكون؟ سيقولون: لا، لا بدَّ من قدرة خارقة، فلا يوجد، في الواقع من يقول ثمة شريك في الخالق مع الربوبية، هذا جواب ثاني.
(قال -رحمه الله-: (فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ فَذَاكَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ لِلصَّانِعِ كَالْقَوْلِ الَّذِي أَظْهَرَ فِرْعَوْنُ وَالْكَلَامُ الْآنَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ الْمُقِرِّينَ بِوُجُودِهِ)).
وهل فرعون لما أنكر الخالق، أنكره على جهة الاعتقاد ولا جهة المكابرة؟ المكابرة، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ﴾ [النمل: 14].
يقول: (فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ فَذَاكَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ لِلصَّانِعِ) مكابرة (كَالْقَوْلِ الَّذِي أَظْهَرَ فِرْعَوْنُ وَالْكَلَامُ) هنا ليس مع هؤلاء، الكلام (مَعَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يقرون بوجود الخالق، فنقول للمتكلمين: هؤلاء المشركون عبدة الأصنام، هؤلاء عبدة الأنبياء، هؤلاء عبدة الكواكب، هل هؤلاء الإشكال عندهم في الربوبية أو الإشكال في الألوهية؟ هذا هو السؤال موضع النقاش.
{(وَالْكَلَامُ الْآنَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ الْمُقِرِّينَ بِوُجُودِهِ فَإِنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ الَّذِي قَرَّرُوهُ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بَلْ يُقِرُّونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ)}.
إذاً لاحظ الآن هو الآن يحرر موضع النزاع، فيقول: ما تقررونه أيها المتكلمون في كتبكم في مسمى التوحيد، فهؤلاء المشركون الذين ذكر الله شركهم هم لا ينازعونكم في هذا التوحيد، بل لو سمع المشركون ما تقررونه في كتبكم، لقالوا: هذا لا إشكال فيه، وليس هو موضع النزاع والخلاف، (مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ الْمُقِرِّينَ بِوُجُودِهِ)، فإذاً (هَذَا التَّوْحِيدَ الَّذِي قَرَّرُوهُ) أي: المتكلمون في كتبهم (لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بَلْ يُقِرُّونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ) في الألوهية، ( كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ) في الآيات التي ذكرت وكذلك في السنة، بل إبليس أكفر الكفرة يقر بالربوبية، (وَالْإِجْمَاعِ) على أنَّ المشركين يقرون بالربوبية، وأيضًا دليل رابع: (وَكَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ) بأنه عند جميع العقلاء لا يوجد من ينكر وجود خالق للكون.
هذا ما يتعلق بضلال المتكلمين في النوع الأول وهو ما يسمونه بتوحيد الأفعال وهو زعمهم واحد في أفعاله لا شريك له، وظنوا أنَّ هذا هو التوحيد المطلوب، وهو الغاية من إرسال الرسل والغاية من إنزال الكتب، وهو معنى: (لا إله إلا الله) كما يزعمون.
ثم قال في ضلالهم في النوع الثاني.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ "النَّوْعُ الثَّانِي" - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَا شَبِيهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ - فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَمِ مَنْ أَثْبَتَ قَدِيمًا مُمَاثِلًا لَهُ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ قَالَ إنَّهُ يُشَارِكُهُ. أَوْ قَالَ: إنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ؛ بَلْ مَنْ شَبَّهَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَإِنَّمَا يُشَبِّهُهُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ)}، وهو توحيد الصفات الذي سبق في الأصل الأول.
{(وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يُشَارِكُهُ فِيمَا يَجِبُ أَوْ يَجُوزُ أَوْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعُلِمَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا فَلَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كَاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالذَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ)}، نعم في الأصل الأول والرد على شبهاتهم.
{(ثُمَّ إنَّ الجهمية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَدْرَجُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَصَارَ مَنْ قَالَ: إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إنَّهُ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُشَبَّهٌ لَيْسَ بِمُوَحَّدٍ)}.
قال: (ثُمَّ إنَّ الجهمية مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ) سمي المعتزلة جهمية؛ لأنهم قالوا بقول الجهمية في تعطيل الصفات وإن أثبتوا الأسماء، لكن عندهم هي أسماء بلا معنى، ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، فيسمون نفي الصفات توحيدًا، وهذا عن المعطلة عموماً، فجعلوا نفي الصفات توحيدًا وهذا ضلال وانحراف.
{(وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَنَفَوْا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَقَالُوا: مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: فَهُوَ مُشَبِّهٌ لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْغُلَاةِ وَقَالُوا: لَا يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْبِيهًا لَهُ)}.
وهؤلاء الأصناف تقدم ذكرهم في الأصل الأول، الذين نفوا الأسماء والصفات، والذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، والذين نفوا بعض الصفات وأثبتوا بعضاً، والذين نفوا النفي والإثبات وهم الغلاة، هؤلاء كلهم تقدم الكلام والرد عليهم.
{(وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَقَعُوا مِنْ جِنْسِ التَّشْبِيهِ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِهِمْ - بِزَعْمِهِمْ - لَهُ بِالْأَحْيَاءِ)}، ,تقدم توضيح هذا وبيان في الأصل الأول.
{(وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةَ لِلَّهِ لَا تَثْبُتُ لَهُ عَلَى حَدٍّ مَا يَثْبُتُ لِمَخْلُوقِ أَصْلًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الذَّاتِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ)}، -كما تقدم- القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا سبق بيانه.
{(فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الذَّاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لِلذَّوَاتِ: لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الجهمية الْمُعَطِّلَةُ يَجْعَلُونَ هَذَا تَوْحِيدًا؛ وَيَجْعَلُونَ مُقَابِلَ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْمُوَحِّدِينَ)}.
وهذا من العجائب: أن أولئك جعلوا التعطيل توحيداً، وهؤلاء الذين فسروا العبادة بالربوبية جعلوا هذا هو التوحيد، وجعلوا هذا معنى (لا إله إلا الله)، وجعلوه هو الغاية، فكما ضلَّ أولئك في توحيد الأسماء والصفات، ضلَّ أولئك أيضًا في توحيد الألوهية.
{(وَكَذَلِكَ "النَّوْعُ الثَّالِثُ" وَهُوَ قَوْلُهُمْ: هُوَ وَاحِدٌ لَا قَسِيمَ لَهُ فِي ذَاتِهِ أَوْ لَا جُزْءَ لَهُ أَوْ لَا بَعْضَ لَهُ؛ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؛ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَرَّقَ أَوْ يَتَجَزَّأَ أَوْ يَكُونَ قَدْ رُكِّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ؛ لَكِنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ وَامْتِيَازَهُ عَنْهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْيِهِ وَتَعْطِيلِهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ)}، وهذا ظاهر وتقدم في هذا.
{(فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا: فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ، وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ)}، أين الحق فيه؟ (فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا: فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ) وهو إثبات الربوبية، لا نعارض في إثبات الربوبية، وإثبات الربوبية هو ضمن إثبات الألوهية، وإثبات الربوبية يلزم منه إثبات الألوهية، فالربوبية هو داخل في المعنى لكن ليس هو كل المعنى بحيث يكتفى به ويقال من أقر به فهو الموحد، فهو الناجي، لو كان هذا كان إبليس وكان المشركون قد حكم بإسلامهم وأقروا به، ففيه ما هو أحق وهو قضية الربوبية مع ضلالهم وانحرافهم في هذا، (وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ).
{(فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا: فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ، وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ جَمِيعُهُ حَقًّا؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي وَصَفَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ)}، ولذلك المشركون ما أقروا به حق أو لا؟ حق وهو الربوبية، ولكن هذا لا يكفي، ولم يدخلهم في الإسلام، ولم يعصم دماءهم وأموالهم، ومع إقرارهم بتوحيد الربوبية، فإن القرآن وصفهم بالشرك وقاتلهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل لا بدَّ أن يعترفوا بأنه (لا إله إلا الله) الذي هو لا معبود بحق إلا الله.
{(وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِلَهِ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ كَمَا ظَنَّهُ مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ)}.
وهذا أيضًا الجواب، لأن هؤلاء لما فسروا التوحيد بالربوبية جعل الإله هو القادر على الاختراع، والإله في لغة العرب هو المعبود، أله يأله إلوهة، أي: عبادة، ولهذا قال الله -عز وجل- في أعظم سورة في سورة "الفاتحة": ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، توحيد الألوهية يختلف عن توحيد الربوبية، كما ظنه من أئمة المتكلمين ممن كتبوا في علم الكلام.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بَلْ الْإِلَهُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِأَنْ يُعْبَدَ فَهُوَ إلَهٌ بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ؛ لَا إلَهَ بِمَعْنَى آلِهٍ)}، "آلِهٍ" يعني: خالق، وإله بمعنى: مألوه ومعبود.
{(وَالتَّوْحِيدُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِشْرَاكُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ)}، وهذا هو التوحيد الذي من أجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وشرعت الشرائع وهو دين الأنبياء جميعًا، وليس هو الربوبية كما يقرره المتكلمون.
{(وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ غَايَةَ مَا يُقَرِّرُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ؛ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ هَذَا فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ)}.
قال: (وَإِذَا تَبَيَّنَ) أي: ما قرره سابقًا، (وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ غَايَةَ مَا يُقَرِّرُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ) في كتبهم من مسمى التوحيد، (أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ) يعني: هؤلاء يثبتون القدر، فهم في الغالب جبرية، ولهذا تجد أنهم يغالون في باب القدر، ولكنهم يخرجون الشرائع والأوامر والنواهي عن مسمى التوحيد، فعندهم من أقر بالخلق والرزق، يعني أقر بالربوبية فعندهم يسمونه توحيدًا، (الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ) لأنهم يزعمون أنفسهم أهل السنة، وهذا موجود عند المعتزلة وموجود عند الأشاعرة والماتريدية يسمون أنفسهم بأهل السنة، (إنَّمَا هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ هَذَا فَالْمُشْرِكُونَ مُقِرِّينَ بِذَلِكَ) كذلك الضلال عند الصوفية.
{(وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ: غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّوْحِيدِ هُوَ شُهُودُ هَذَا التَّوْحِيدِ وَأَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ لَا سِيَّمَا إذَا غَابَ الْعَارِفُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وَجُودِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَدَخَلَ فِي فَنَاءِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِحَيْثُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ)}.
وهذا هو التوحيد عند الصوفية، سيأتي أنواع الفناء عندهم الذين يدعون التحقيق ويسمون أنفسهم أهل الحقيقة، أنهم وصلوا إلى توحيد الربوبية، وصلوا ليقين في وجود الخالق، وجود الخالق هذا عند كل أصحاب الديانات.
غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد الذي هو توحيد الربوبية، وهو (أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ) هذا غاية ما يقررونه، (لَا سِيَّمَا إذَا غَابَ الْعَارِفُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وَجُودِهِ) موجوده يعني: الخالق عن وجود نفسه، فعندهم ما سمى موجود إلا الله، (وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَدَخَلَ فِي فَنَاءِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ) عندهم، (بِحَيْثُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ) وهو العبد لا وجود له (وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ) وهو الرب، هذا هو التوحيد الذي يقرره الصوفية في كتبهم.
(فَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَ)، وبالتالي هل الشرائع والأوامر والنواهي لها قيمة عند الصوفية؟ لا، بل يزعمون أن الإنسان إذا وصل هذه المرتبة تسقط عنه التكاليف، وهذا من الضلال والانحراف عند هؤلاء في مفهوم التوحيد.
{قال -رحمه الله-: (وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ: يُقَرِّرُونَ هَذَا التَّوْحِيدَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَيَفْنَوْنَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ إثْبَاتِ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِ الْمُبَايِنِ لِمَخْلُوقَاتِهِ)}.
في الجواب، فيه جواب قبل ذلك، قال يرد على الصوفية: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا هُوَ تَحْقِيقُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ التَّوْحِيدِ)، يعني: لو كان هذا التوحيد الذي تقرره الصوفية هو المطلوب، هذا يقر به إبليس ويقر به المشركون، (وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّوْحِيدِ مُسْلِمًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّ) من أولياء الله كما يدعي هؤلاء الصوفية، فيزعمون أنه ولي وهو لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي، فيزعمون أنه ولي من أولياء الله.
فيقول: هذا التوحيد يقر به المشركون، ولم يصبح الواحد منهم مسلماً فضلاً أن يكون ولياً من أولياء الله، ولهذا تجد أن هؤلاء يدفعون في هؤلاء الولايا وهم لا يعبدون الله أصلاً.
(وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ: يُقَرِّرُونَ هَذَا التَّوْحِيدَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَيَفْنَوْنَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ إثْبَاتِ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِ الْمُبَايِنِ لِمَخْلُوقَاتِهِ)، ثم أخذ يقارن بين هذه الفرق ودرجات الانحراف عندها.
{(وَآخَرُونَ يَضُمُّونَ هَذَا إلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ فَيَدْخُلُونَ فِي التَّعْطِيلِ مَعَ هَذَا، وَهَذَا شَرٌّ مِنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ جَهْمٌ يَنْفِي الصِّفَاتِ وَيَقُولُ بِالْجَبْرِ فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ جَهْمٍ)}.
كيف يكون وهذا شر من حال كثير من المشركين؟
المشركون يقرون بالصفات ولا لا؟ يقرون بالصفات، إبليس يقر بالصفات ولا لا؟ يقر، يقول: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ ، ﴿رَبِّ﴾ ، والمشركون هل يقرون؟ فرعون أقر بالعلو؟ نعم، فيقول: إن هؤلاء الذين نفوا الصفات أشر من المشركين، (وَآخَرُونَ يَضُمُّونَ هَذَا إلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ فَيَدْخُلُونَ فِي التَّعْطِيلِ مَعَ هَذَا، وَهَذَا شَرٌّ مِنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)، الذين يقرون بالربوبية ويثبتون مثل هذه الصفات، (وَكَانَ جَهْمٌ يَنْفِي الصِّفَاتِ) جهمٌ جمع بدعة التجهم وهي: التعطيل مع بدعة الجبر مع بدعة الإرجاء، فجمع البدع الثلاثة، يقول: (وَكَانَ جَهْمٌ يَنْفِي الصِّفَاتِ) فهو معطل، (وَيَقُولُ بِالْجَبْرِ فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ جَهْمٍ) أي: عند هؤلاء الصوفية، (لَكِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ: فَارَقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) فقط، لكنه يعتبر هذه الأوامر ما لها اعتبار، (لَكِنَّ جَهْمًا وَمَنْ اتَّبَعَهُ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ)، وبالتالي فالأوامر والنواهي هل لها قيمة؟ لا قيمة لها.
{(فَيَضْعُفُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عِنْدَهُ)}، تصبح الشريعة والأوامر والنواهي ما لها قيمة، فما الفرق بين قوله وقول المشركين؟
{قال -رحمه الله-: (والنجارية والضرارية وَغَيْرُهُمْ: يَقْرَبُونَ مِنْ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ مَعَ مُقَارَبَتِهِمْ لَهُ أَيْضًا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ)}، النجارية أتباع الحسين بن محمد النجار وهم من طوائف من المعتزلة، والضرارية أتباع ضرار بن عمرو أيضًا يقربون منهم، (يَقْرَبُونَ مِنْ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ) جبرية، وفي مسائل الإيمان مرجئة، (مَعَ مُقَارَبَتِهِمْ لَهُ أَيْضًا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ)، فأصبحوا جبرية مرجئة معطلة جهمية.
{(والكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةُ: خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ، وَأَئِمَّتُهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فُصِّلَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا فِي بَابِ الْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَأَقْوَالُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ)}.
لاحظ شيخ الإسلام يوازن بين الكلام، وهذا من عدله وإنصافه، طبعًا إذا قال: خير منهم في الجملة ولا يعني: المدح المطلق، (والكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةُ: خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ)، لماذا؟ لأنهم يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها، خيرٌ من ينفي جميع الصفات، (فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ) التي يسمونها الصفات المعنوية السبع، (وَأَئِمَّتُهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ) التي يسمونها الصفات السمعية.
يقول: (كَمَا فُصِّلَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا فِي بَابِ الْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَأَقْوَالُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ).
{قال: (والكلابية هُمْ أَتْبَاعُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي سَلَكَ الْأَشْعَرِيُّ خَلفَهُ وَأَصْحَابُ ابْنُ كِلَابٍ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَنَحْوِهِمَا. خَيْرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي هَذَا وَهَذَا فَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَقْرَبَ كَانَ قَوْلُهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ)}.
وهذه قاعدة مهمة: (فَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَقْرَبَ) أي في الجملة (كَانَ قَوْلُهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ)، هذه قاعدة مهمة في الموازنة والحكم على الفرق، ولهذا لا يستوون في درجات الانحراف، (فَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَقْرَبَ كَانَ قَوْلُهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ) لكن في الجملة وليس على الإطلاق.
{(والكرامية قَوْلُهُمْ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ حَيْثُ جَعَلُوا الْإِيمَانَ قَوْلَ اللِّسَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فَيَجْعَلُونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا؛ لَكِنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ فَخَالَفُوا الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ فَهُمْ أَشْبَهُ مِنْ أَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الَّتِي فِي أَقْوَالِهَا مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيُقَارِبُونَ قَوْلَ جَهْمٍ لَكِنَّهُمْ يَنْفُونَ الْقَدَرَ؛ فَهُمْ وَإِنْ عَظَّمُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ؛ وَغَلَوْا فِيهِ؛ فَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ فَفِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ مِنْ هَذَا الْبَابِ)}.
لاحظ الاضطراب عند هذا المتكلمين، يعني: المعتزلة تبعوا الجهمية في التعطيل، لكن لَمَّا جاء في باب القدر، الجهمية جبرية والمعتزلة قدرية، فلاحظ الاضطراب مما يدل لك على اختلال المنهج عند هؤلاء، فهم وافقوهم في نفي الصفات ولكن خالفوهم في القدر، فالجهمية جبرية خالصة والمعتزلة قدرية.
{(وَالْإِقْرَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ إنْكَارِ الْقَدَرِ خَيْرٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ مَعَ إنْكَارِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ)}.
إذاً الآن من جهة الشرع أيهما أفضل، قول الجبرية ولا تعظيم الشرع؟ من الذين عظموا الشرع الجبرية أم المعتزلة؟ المعتزلة، يقول: (وَالْإِقْرَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ إنْكَارِ الْقَدَرِ خَيْرٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ مَعَ إنْكَارِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ)، يعني كأنه يقول في باب القدر المعتزلة مذهبهم خيرٌ من مذهب الجبرية، لأن الجبرية ألغوا الشريعة تمامًا، فلاحظ الموازنة بينهما.
{(وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ يَنْفِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ)}، يعني: لم يكن في زمنهم جبرية، لكن كان في زمنهم قدرية، {(وَكَانَ قَدْ نَبَغَ فِيهِمْ الْقَدَرِيَّةُ كَمَا نَبَغَ فِيهِمْ الْخَوَارِجُ: الحرورية وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبِدَعِ أَوَّلًا مَا كَانَ أَخْفَى وَكُلَّمَا ضَعُفَ مَنْ يَقُومُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ قَوِيَتْ الْبِدْعَةُ)}.
وهذه قاعدتان مهمتان، وهو يتكلم عن أطوار ونشأة الفرق، وأن الجبرية لم يكونوا في زمن الصحابة، كان الذين في زمن الصحابة القدرية، نفاة القدر وهم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي، الذين يسمون بالمعبدية والغيلانية وكفرهم السلف، أيضًا خرج الحرورية الخوارج، أما الجبرية فجاءوا بعد ذلك، ولذلك يقول: (وَكَانَ قَدْ نَبَغَ فِيهِمْ الْقَدَرِيَّةُ كَمَا نَبَغَ فِيهِمْ الْخَوَارِجُ: الحرورية وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبِدَعِ أَوَّلًا مَا كَانَ أَخْفَى) يبين لك أطوار الفرق ولهذا يسمونها مقالات؛ لأن الفرقة تبدأ بمقالات، ثم عبر القرون تتطور فتصبح أصولا وتصبح فرقًا، ثم يحصل التفرق ويحصل الانشقاق والاقتتال بينها، كما حصل في الخوارج، الخوارج الذين خرجوا على الصحابة لم يكونوا فصيلاً واحدًا، بل كانوا فصائل يقتل بعضها بعض، وهكذا الفرق بعد ذلك.
ثم ذكر القاعدة الثانية، طبعًا القاعدة الأولى: (وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبِدَعِ أَوَّلًا مَا كَانَ أَخْفَى)، القاعدة الثانية: يقول: (وَكُلَّمَا ضَعُفَ مَنْ يَقُومُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ قَوِيَتْ الْبِدْعَةُ)، ولهذا مما يرد على البدع إحياء السنن، يقول ابن عقيل الحنبلي -رحمة الله عليه-: "إذا سكت المحقون ونطق المبطلون، تعود النشء على المنكرات، فإذا رام المتدين سنة ظنها الناس بدعة فأنكروها"، فبإحياء السنن ونشر السنن تضعف البدع وتموت، كلام نفيس، كلما ضعف من يقوم بنور النبوة، (وَكُلَّمَا ضَعُفَ مَنْ يَقُومُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ قَوِيَتْ الْبِدْعَةُ)، إلى أن قال.
{(فَهَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ: أُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ وَالْمُشْرِكُونَ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ)}.
أيضًا هذه مقارنة مهمة: (فَهَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ) يعني جبرية خالصة، (فَهَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ) جبرية خالصة يلغون الشريعة، الشريعة لا قيمة لها، بل يقولون بسقوط التكاليف، (مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ)، لأن القدرية المعتزلة يعظمون الشريعة وينفون القدر، (فَهَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ: أُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ) المعتزلة، لأنهم جعلوا العبد يخلق أفعال، والصوفية يشبهون بالمشركين الذين رفضوا الانقياد للشريعة، الذين قالوا:(﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ ).
إذاً هؤلاء المشركون يحتجون بالقدر أو لا؟ يحتجون على شركهم بالقدر، وما قبل الله حجتهم، (وَالْمُشْرِكُونَ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ) وبالتالي فأيهما شر الصوفية أو المعتزلة؟ الصوفية.
أيهما شر الجبرية أم القدرية؟ الجبرية لأنهم يبطلون الشريعة.
{(فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)}.
(فَهَذَ) اسم الإشارة يعود إلى أي شيء؟ إلى حقيقة الإسلام وحقيقة الدين الذي دعا إليه الأنبياء، فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه، أن يحققه، هذا هو التحقيق، تحقيق القدر وتحقيق الشرع اعتقاداً وأنه لا تعارض ولا تناقض بينهما، وهذا الذي قصده من تأليف هذا الكتاب، بيان تحقيق الجمع بين الشرع والقدر، (فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ) وهو التوحيد، إفراد الله بالعبادة، الانقياد له، وليس كما قرره هؤلاء المتكلمون وهؤلاء الصوفية، (وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ)، الإيمان بالوحدانية هو إيمان بالقدر، إيمان بالربوبية، والإيمان بالرسالة هو إيمان بالألوهية بالشرع، (شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) وهذا تحقيق الوحدانية، (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هو تحقيق الرسالة.
فلذلك هذا الأصل العظيم على المسلم أن يعرفه وأن يحققه اعتقاداً وعملاً، فهو (أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ) الذي هو الشرع والقدر، تحقيق شهادة أن (لا إله إلا الله) وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، وذكرنا التلازم بينهما، ولهذا جعلت الركن الأول من أركان الإسلام.
ثم ذكر الضلال والانحراف الذي وقع في هذين الأصلين، قال.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.
فَإِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ: لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ)
}.
قال: (وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ) الذي هما الوحدانية والرسالة، وهما مقتضى تحقيق الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، وهو مُقتضى تحقيق شهادة أن (لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله)، وقع الضلال والانحراف والغلط واللغط والزيغ والضلال في هذا الأصل العظيم لدى بعض المنتسبين للإسلام من متكلمين وفلاسفة وصوفية.
قال: (وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ) كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، (فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ)، فالمعطلة الآن يظنون أنهم نزهوا الرب، والصوفية يظنون أنهم حققوا الإيمان وهم يقرون بالربوبية فقط.
(مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ: لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ) يعني: إقراره بالربوبية وحده لا يكفيه، (إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ)، يعني: الإقرار بالربوبية وحده لا يكفي، بل لا بدَّ من الإقرار بالألوهية، (فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ) أي توحيد الألوهية وتوحيد الرسالة.
لعلنا نكمل هذا -إن شاء الله- في الحلقتين القادمتين، وبهما نختم هذا الكتاب، نسأل الله حسن الختام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين، وإياكم والإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك