الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس الحادي عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات والطلاب والطالبات من طلاب البناء العلمي، أسأل الله لنا ولهم العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحب ويرضى.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية، قال: (الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ - سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ - لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وأعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أما بعد.
فأكرر وأعيد أهمية العناية بهذا الكتاب النفيس المهم لطالب العلم في منهجية فهم هذا الباب المهم من أبواب العقيدة، وهو باب الأسماء والصفات، وتحقيق الإثبات للأسماء والصفات والرد على المخالفين في هذا الباب، فهو من الكتب المهمة لطالب العلم على وجه الخصوص.
بعد أن انتهى المصنف -رحمه الله- من القاعدة الأولى التي مُقتضاها: أن الرب -تبارك وتعالى- موصوف في كتابه بصفات الإثبات وصفات النفي، وفرع على هذه القاعدة: أن النفي الذي جاء في القرآن ليس نفيًا  محضًا بل يتضمن ضده من صفات الكمال، ثم ذكر الشواهد على هذا الفرع، ثم انتقل إلى الرد على المخالفين في هذا الباب، وهم المعطلة الذين وصفوا الخالق -عز وجل- بصفات النفي المحض والسلب المحض وهم درجات، منهم من نفوا بعض الصفات، ومنهم من نفوا جميع الصفات، ومنهم من وصفوه بالسلب، ومنهم من وصفوه بنفي النقيضين، ثم رد على هؤلاء جميعًا، ثم انتقل إلى القاعدة الثانية من القواعد النافعة التي ذكر في أولها بأنها قواعد نافعة في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات.
هذه القاعدة في بيان حكم ما يضاف إلى الله -تبارك وتعالى- من الأسماء والصفات، وسبق لنا في المقدمة أن ذكرنا بأن الألفاظ التي يُخبر بها عن الرب -تبارك وتعالى- ثلاثة أصناف: منها ما جاء في الكتاب والسنة، فإن الله -تبارك وتعالى- يوصف به ويسمى به مما جاء في الكتاب والسنة.
ثانيًا: ما جاء عن السلف، فاستخدموه للحاجة وفي الرد على المخالفين أو في تفسير بعض المعاني، فهذا أيضًا جائز وسائغ استخدامه.
النوع الثالث: ما جاء في كتب المتكلمين وكتب الفلاسفة من المصطلحات الفلسفية والكلامية في وصف الخالق، فهذا الذي ينُهى عنه، فهذا المصنف -رحمه الله- يفصل في هذه القاعدة، قال: (أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَبِّهِ -عز وجل- فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ - سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ)، ثم علل لهذا النوع، فهذا هو النوع الثاني مما جاء في الكتاب والسنة من وصف الرب -تبارك وتعالى.
فما جاء في الكتاب والسنة من إخبار الله -عز وجل- عن نفسه ومن إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه فإنه يجب الإيمان به، لماذا يجب؟ لأنه جاء في الكتاب وجاء في السنة، وهذا من مقتضى الإيمان بالله، ومن مقتضى الإيمان بكتابه، ومن مقتضى الإيمان برسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا مرَّ معنا أثر الإمام مالك لَمَّا سُئل عن كيفية الاستواء؟ فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب، الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته فإنه واجب.
ثم ذكر قيدًا مهمًا: قال: (سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ) قد يشكل هذا على بعض القُراء لهذا الكتاب، هل يوجد في الكتاب والسنة ما لا يعرف المعنى؟ فالجواب: أنه لا يوجد؛ لأن الله -عز وجل- أمر بتدبر القرآن، والقرآن نزل بلسان عربي مبين فلا يوجد في القرآن ما لا يفهم معناه.
إذاً على ماذا يحمل قول المصنف -رحمه الله- (سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ)، يحمل على أنه قد تشكل بعض الألفاظ والمصطلحات على بعض الناس وهذا ظاهر وموجود، لقصور فهم أو قصور علم، فقد يشكل معنى من معاني الصفات على بعض المسلمين وهذا وارد، لو تسأل كثير من الناس اليوم عن معنى "الصمد" وهو يقرأ سورة "الإخلاص" ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإِخلاص: 1 - 3] لو تسأل عن معنى الصمد ربما لا يعرف لكنه هو يؤمن بالاسم ويؤمن بالصفة، هذا هو المراد، أنه ما أشكل على بعض المسلمين قصر فهمه عنه، فإنه يؤمن به من حيث أنه هذا الوصف جاء في القرآن وجاء في السنة، فواجب عليه أن يؤمن به سواءً عرف معنى الصمد أو لم يعرف المعنى، لكنه بعد الإيمان به بمقتضى ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة، عليه أن يبحث عن المعنى، فإذا عرف المعنى فلا شك أنه سيزداد إيمانًا، والإيمان بالأسماء والصفات درجات، ولهذا الله -تبارك وتعالى- يخاطب المؤمنين بقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: 136]، والمسلم كما أنه مهتد يسأل الله مزيد الهداية كما أنه مؤمن يسأل الله مزيد الإيمان، فهو إن آمن بهذه الأسماء والصفات وإن لم يدرك جميع المعاني فهو يؤمن بها إجمالاً، ثم يبحث بعد ذلك عن المعاني فيزداد بها إيماناً على جهة التفصيل، هو مقصوده (سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ) ولا يقال إن المصنف -رحمه الله- يدعو للتفويض -معاذ الله-، كلامه السابق وكلامه اللاحق وفي كتبه الأخرى يدل على أنه يثبت المعاني.
وهكذا ما يرد عن السلف مثل هذه العبارات، لا يفهم منها أن السلف يفوضون المعاني، إنما مرادهم أن ما أشكل على بعض الناس من المعاني، وهذا أمر يعني مشاهد وملاحظ في قصور فهم الناس عن بعض معاني الصفات.
ثم علل لماذا يجب الإيمان به سواءً عرفنا المعنى أو لم نعرف المعنى لقصور في الفهم أو قصور في العلم؟
قال: (لِأَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) وهذا هو الدليل، لأنه هو الصادق فيما يخبر به عن ربه -عز وجل-، وهو المصدوق المعصوم، ولهذا كان الصحابة كثيرًا ما يقولون: حدثنا الصادق المصدوق، فهو صادق فيما يخبر به، صادق فيما يقول، وهو المصدوق المؤيد وهو المعصوم -عليه الصلاة والسلام-، فهذا وجه الإيمان بما جاء به، والتصديق بكل ما جاء به سواءً عرفنا المعنى أو لم نعرف المعنى، ولذا تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخبر عن أمور الغيب يسأل الصحابي عن ذلك، فيقول: لا أدري، يعني مثل ما أخبر أنه بين النفختين أربعين، ومثل ما أخبر أن الشمس تدنو من الناس يوم القيامة قدر ميل، يسأل صحابي عن ذلك فيقول: لا أدري، هو آمن بما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يدرك المعاني على جهة التفصيل والحقائق.
قال مُبينًا هذه القاعدة وهذا النوع: (فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ) أي من نصوص الصفات (وَالسُّنَّةِ) وهذا أيضًا يدل على أن السنة حجة في هذا الباب، لكن السنة يشترط فيها أن تكون صحيحة، وأيضًا يلاحظ أن المصنف -رحمه الله- يرى حجية السنة في هذا الباب، وأيضًا لم يفرق في السنة بين متواتر وآحاد، فيقبلون السنة إذا كانت صحيحة لا يفرقون بين متواتر وآحاد (وَجَبَ) وأدلة حجية السنة أيضًا كثيرة، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ [الحشر: 7]، ومما أتانا به النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به عن ربه -تبارك وتعالى.
(وَجَبَ) وهذا من مقتضى الإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن مقتضى الإيمان بالسنة، ولهذا شهادة أن محمد رسول الله تقتضي تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عن وزجر، ولهذا الذي يقول لا أقبل هذه الأحاديث، هل هو حقق شهادة أن محمد رسول الله على وجه الكمال؟ لا، لماذا؟ لأنه أخذ يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ) كما سبق وإن لم يدرك معناه لقصور في علمه، وهذا كما يرد على كثير من المسلمين تشكل عليهم معاني الآيات، تشكل عليهم أحيانًا معاني الأحاديث فيبحث، ولهذا أهل العلم وضعوا فيما يتعلق بغريب القرآن وما يتعلق بغريب السنة ويشرحون الألفاظ التي تشكل على بعض الناس ولكنها لا تشكل على أهل العلم، هذا مقصوده أنه الأصل في المسلم أن يؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة وإن لم يدرك المعنى ولكن عليه أن يبحث عن المعنى.
فهذا هو النوع الأول مما وصف به الرب -تبارك وتعالى-، فما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ربه سواءً ما جاء في القرآن أو ما جاء في السنة، فإنه يجب على كل مؤمن أن يؤمن به على الوجه الذي يليق بالرب -تبارك وتعالى-، وإن لم يدرك المعنى على جهة التفصيل، فإنه يجب عليه أن يؤمن إيماناً مجملاً، ثم بعد ذلك يأتي الإيمان التفصيلي بمعرفة المعاني، القراءة في التفصيل والقراءة في شروح الأحاديث يتسع المعنى، فيزداد بذلك إيماناً هذا هو النوع الأول، طبعًا وتلاحظ أن فيه رد على المعطلة الذين يقولون بأن آيات الصفات وأحاديث الصفات غير مفهومة المعنى، إذا قيل غير مفهومة المعنى، معناها أننا خوطبنا بلغة لا نفهمها، ومعناه أن الصحابة وسلف الأمة وأئمة الدين لم يفهموا هذه المعاني، وهذا من لوازم قول هؤلاء المعطلة، حتى زعموا أن السلف يفوضون لا يفهمون المعاني، وزعموا أن المتأخرين الحيارى الذين جاءوا في القرن الثالث والرابع من أتباع الجهمية أن طريقتهم أعلم وأحكم، هذه جناية، جناية على القرآن وجناية على السنة وجناية على سلف الأمة بما فيهم الصحابة وأئمة الدين يتهمونهم بأنهم لا يفهمون وأن هؤلاء الحيارى التائهين فهموا ولذلك لجئوا إلى القول بالمجازات.
هذا هو النوع الأول، أما ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه فإنه يجب على كل مؤمن أن يؤمن به وإن لم يفهم معناه في الحال، وعليه أن يبحث في المعاني التي جاءت في التفاسير وجاءت في شروح الأحاديث.
ثم ذكر النوع الثاني مما جاء في وصف الرب -تبارك وتعالى- قال:
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُوجَدُ عَامَّتُهُ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ)}.
هذا هو النوع الثاني: ألفاظ ومصطلحات جاءت على لسان السلف وأئمة الدين، من أئمة الفقه وأئمة الحديث، كذلك يجب إثبات ما اتفق عليه سلف الأمة، ومعلوم أن الاتفاق اتفاق في فهم اللفظ، اتفاقهم على فهم معنى الاستواء وفهم معنى النزول وفهم معنى اليدين، واحتمال أيضًا أن يكون المقصود اتفاق ألفاظ استخدموها لأجل الحاجة والتعبير، مثل ما استخدموا بائن عن خلقه، فإن هذا أيضًا واجب أن نؤمن بما ثبت عن سلف الأمة.
ثم أشار إلى ملحظ مهم، قال: (مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ) أي: باب الأسماء والصفات، (يُوجَدُ عَامَّتُهُ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) إذاً الإجماع على فهم أدلة الكتاب وفهم أدلة السنة، وهذا هو الإجماع الذي ينضبط ما كان في الصدر الأول كما أشار إليه في العقيدة الوسطية؛ لأن بعد القرون الفاضلة تفرق العلماء وتفرقت الأمة، ولذلك الإجماع الذي ينضبط الذي هو مصدر من مصادر تلقي العقيدة هو ما كان في القرون الفاضلة.
قال: (مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ) أي: باب الأسماء والصفات (يُوجَدُ عَامَّتُهُ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ) بمعنى أنه لا يوجد في ذلك خلاف، ولهذا هل فهم سلف الأمة معتبر في هذا الباب أو غير معتبر؟ نعم معتبر خلافًا لمن يدعي من المتأخرين بأن سلف الأمة غير معتبر -يا سبحان الله- فهم الصحابة وأئمة الدين وأئمة الحديث وأئمة الفقه وحملة القرآن وحملة السنة وأهل اللغة الذين شاهدوا التنزيل يقال إنه فهم غير معتبر وأن ما جاء بعده من الحيارى والتائهين وأتباع الجهمية وأتباع القرامطة وأتباع الفلاسفة فهمهم هو الذي معتبر!؟ هذا من الجناية على الدين فيمن يقول إن فهم السلف غير معتبر أو ليس بحجة، إذًا فهو من الذي تعتبره حجة؟!
فلاحظ هنا يشير إلى فهم السلف في هذه المسائل، هذا هو الصنف الأول، لهذا يقول ابن تيمية -رحمة الله عليه- في كتابه "الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات" يقول كلاماً نفيسًا، يقول: "وأما الذي أقوله الآن وأكتبه: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويله" المقصود بالتأويل هنا التحريف الذي هو عند المتأخرين، "وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئًا من آيات الصفات وأحاديث الصفات" وهذا هو الإجماع، هذا هو فهم السلف.
يقول: "أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئًا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاه المفهوم المعروف" إلى أن قال: "المعروف عنهم من تقرير ذلك وتثبيت وبيان أن ذلك من صفات الله -عز وجل-، كذلك ما يذكرونه أثرين وكذلك وتثبيت وبيان أن ذلك من صفات الله -عز وجل- ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله -عز وجل-، كذلك ما يذكرون أثرين وذاكرين عنهم شيء كثير".
فهو يُبَيِّنُ أنه لم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه حرف آيات الصفات أو أحاديث الصفات كما زعم المتأخرون، فهذا يُبَيِّنُ لكم أن عامة ما جاء في النصوص والكتاب والسنة فهو أمر متفق عليه، هذا هو الصنف الثاني من المصطلحات التي جاءت في الصفات.
ثم انتقل إلى النوع الثالث الذي وقع فيه النزاع والخلاف عند المتأخرين، عند الخلف الحيارى التائهين من أتباع الجهمية والفلاسفة والقرامطة، قال:
{قال -رحمه الله-: (وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلَا لَهُ: أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إثْبَاتِ لَفْظِهِ أَوْ نَفْيِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَهُ فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ وَإِنْ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ مَعْنَاهُ بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى)}.
هنا ذكر الصنف الثالث من الألفاظ التي جاءت في وصف الخالق وهو ما يرد في كتب المتكلمين وكتب الفلاسفة، قال: (وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ) مثل ماذا؟ (نَفْيًا وَإِثْبَاتً) مثل: لفظ الجهة، لفظ: الحيز، لفظ: الجسم، الجوهر، الأبعاض، هذه مصطلحات غريبة، وهي تكثر في كتب المتكلمين، أي: علماء الكلام، وتكثر في كتب الفلاسفة، فيقول: هذه المصطلحات التي يتنازع فيها المتأخرون، وما تنازع فيه المتأخرون من هذه الألفاظ بحق الخالق نفيًا لها أو إثباتًا لها، نفي للجهة وإثبات للجهة، نفي للحيز أو إثبات للحيز، نفي للجسم أو إثبات للجسم، نفي للجوهر أو إثبات الجوهر، نفي الأبعاض والأعراض وغيرها.
(فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلَا لَهُ: أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إثْبَاتِ لَفْظِهِ أَوْ نَفْيِهِ) لأنها ألفاظ موهمة، كما ذكر أنهم يأتون بالألفاظ لإيهام الناس، (حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَهُ) من هذه الألفاظ، (فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ) يعني أنه يتوقف في هذه الألفاظ المحدثة، لكن من جهة المعنى يستفصل، فإذا كان أراد بها معنى حق يقال المعنى حق، ولكن اللفظ يتوقف فيه.
(فَإِنْ أَرَادَ حَقًّ) من جهة المعنى (قُبِلَ) مع التوقف في اللفظ، (وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ) المعنى واللفظ، (وَإِنْ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ مَعْنَاهُ)، لماذا؟ لأنه الآن يخلط مثل في عصرنا الآن لما يستخدم الإسلام دين مساواة، الإسلام دين حرية، قد يريد به حق وقد يريد به باطل، فلا يقبل مطلقًا ولا يرد مطلقًا، حتى يقال ما مرادك بهذا؟ (بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى).
ثم ذكر أمثلة لهذا النوع، الألفاظ الحادثة والمصطلحات الحادثة التي تكثر في كتب المتكلمين ويوصف الخالق بها، ذكر مثالين تطبيقين.
{قال -رحمه الله-: (كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَفْظُ الْجِهَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَوَاتِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إثْبَاتُ لَفْظِ الْجِهَةِ وَلَا نَفْيُهُ كَمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُرُوجِ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ)}.
هذا هو التطبيق الأول على المصطلحات التي ترد في كتب المتكلمين ويستخدمونها في حق الخالق، لما يقولون لفظ الجهة سواءً في إثباتها أو نفيها، يقال لهم، يقول: (كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ) يقصد بالناس أهل الكلام وأهل الفلسفة وما هو موجود في كتبهم، تنازعوا في وصف الخالق بالجهة أو التحيز ونحو ذلك، قال في الجواب: (فَلَفْظُ الْجِهَةِ) يقال: ماذا تريد بالجهة؟ (قَدْ يُرَادُ بِهِ) أي هذا اللفظ (شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَوَاتِ) هذا احتمال، واحتمال ثاني: (وَقَدْ يُرَادُ بِهِ) بهذا اللفظ (مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ).
ثم قال من جهة اللفظ: (وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ) ذات الآيات والأحاديث (وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ) ما الذي جاء في النصوص؟ إثبات العلو، إثبات الاستواء، إثبات الفوقية، إثبات صعود الأشياء إليه، إثبات نزول الأشياء، هذا الذي جاء في النصوص، أما لفظ الجهة لم يرد في النصوص لا نفياً ولا إثباتًا.
قال: (وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إثْبَاتُ لَفْظِ الْجِهَةِ وَلَا نَفْيُهُ كَمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُرُوجِ)، ولذلك المسلم إذا أراد أن يعبر وأن يصف الخالق، فليصف الخالق بما وصف به نفسه، وليعبر بما جاء في القرآن، وما جاء في السنة خاصة ما يتعلق بصفة الخالق -عز وجل-، وليبتعد عن الألفاظ المحدثة التي تحتمل حقًّا وباطلاً.
ثم قال معقبًا على هذا اللفظ المحدث: (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ) هنا ينظر للمعنى، (وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ) وهذه من الألفاظ التي استخدمها السلف للرد على هؤلاء (مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ؛ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ).
حينئذٍ هذا اللفظ يتوقف فيه لماذا؟ لأنه يحتمل حقًّا وباطلًا، فيقال هنا في المناقشة.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ؛ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ)}.
بناءً عليه فيستفصل من الذي يطلق الجهة نفياً أو إثباتاً، أو أولاً يقال لمن ينفي: أن الله ليس في جهة، وهذا موجود في كتب المتكلمين، يقول بأنه ينفي عنه الجهات، يقول ماذا تقصد؟ فيقال لمن نفى الجهة.
{قال -رحمه الله-: (فَيُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ: أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ؟ فَاَللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ)}.
إذا أراد بنفي الجهة، المعنى الأول، قال: (أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ؟) فيقال: نعم، الله ليس داخل المخلوقات، وإذا أراد الجهة جهة العلو وأراد بلفظ الجهة نفي العلو، ماذا يقال؟ إن الله فوق العالم بائن بالمخلوقات، ولهذا الذين ينفون الجهات هم حقيقة الأمر يريدون نفي العلو لكن ما يستطيع أن يصرح بنفي العلو أو نفي الاستواء، لأنه لو صرح بنفي العلو ونفي الاستواء لأنكر عليه حتى العامة، حتى العوام سيردون عليه، يقول أنت تعارض القرآن وتعارض السنة، فيوهم بتغير العبارة لأجل أن يلبس على الناس، فلهذا أنظر ماذا يقول الشيخ في آخر القاعدة السابقة: (فَهُمْ غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ لِيُوهِمُوا مَنْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا مَعْنًى آخَرَ)، وهذا إذا رأى شناعة نفي العلو وشناعة نفي الاستواء غير في العبارة فينفي الجهة ويقصد ذلك جهة العلو، هذا فيمن ينفي الجهة.
فيمن يثبتها، طبعًا هؤلاء المعطلة الذين ينفون العلو، ومن يثبتها قد يقال بهم أنهم أهل الحلول والاتحاد، ماذا يقول فيمن يثبتها هكذا هذا اللفظ المجمل الموهم.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ اللَّهُ فِي جِهَةٍ: أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ؟ أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ)}.
إذاً هذا هو الجواب في مثل هذه الألفاظ الحادثة والمصطلحات الحادثة التي تحتمل حقًّا وباطل، يتوقف في اللفظ ويستفصل من القائل في المعنى، فلا تقبل مطلقًا ولا تقبل ترد مطلقًا حتى يتبين المعنى، فإن كان حق قُبل وإن كان باطلاً يرد، وهكذا يقال فيمن يطلق الجسم، يقول: ماذا تقصد بالجسم؟ هل تقصد بالجسم أن عين قائمة بذاتها موجودة تصح الإشارة إليها؟ نعم ممكن لكن ينبغي أن لا تعبر بهذا اللفظ، أو يقصد بأن الجسم مثل أجسام المخلوقين فلا ريب أن الله -عز وجل- ليس كمثله شيء.
المثال الثاني المتحيز وأيضًا لفظ التحيز مر معنا في نهاية القاعدة السابقة، قال: (فَالْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَتَارَةً مَا هُوَ خَارِجُ الْعَالَمِ فَإِذَا قِيلَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ كَانَ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ)، هنا أعاد بالتفصيل أيضًا التطبيق قال هذا المثال وإن طبق عليه في نهاية القاعدة الأولى.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّحَيُّزِ: إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاَللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ؛ بَلْ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ)}، من الذي قال بهذا؟ أهل الحلول والاتحاد، وهو لازم لنفاة العلو وإن لم يصرح به، الذي يقول إن الله ليس في العلو بذاته وليس مستو على العرش ماذا يلزمه؟ يلزمه أن يقول: إنه في كل مكان، وإن قيل: يلزمك بهذا أن تقول بقول أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أراد الفرار فقال: لا أقول لا داخل العالم ولا خارج العالم، سيقول: سيلزمك عدم، سيقول: لا العدم فيمن يقبل ذلك وهو لا يقبل، نقول: أنت إذاً شبهته بالمستحيل، فيفر من شيء فيقع فيما هو أسوء منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهذا لازم القول لنفاة علو الذات، أن يقول بالحلول والاتحاد، فإذا أراد الفرار فيقول: لا خارج العالم ولا داخل العالم، سيقول: هذا معدوم، فيقال: لا المعدوم فيمن يقبل هذه الصفات وهو لا يقبل هذه الصفات، هذا يمكن أن يصح في بعضها، لكن لا يصح بالوجود والعدم، فيلزمه أن يقول بالمستحيل.
فماذا يلزمهم بهذا اللازم؟ يقول:
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَإِنَّهُ لَيَدْحُوهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانَ بِالْكُرَةِ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ»)}.
وهذا كله رد على أصحاب الحلول والاتحاد ومن يقول بقولهم باللازم من نفاة العلو ونفاة الاستواء يلزمهم أن يقولوا بهذا القول، فيرد عليهم ببيان عظمة الله -تبارك وتعالى.
 هذا ما يتعلق بهذه القاعدة، خلاصتها: أن ما أخبر الله به وأخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيجب إثباته، وما ورد عن السلف كذلك يثبت، بينما ما ورد في كتب المتكلمين من المصطلحات الحادثة فيتوقف في اللفظ ويستفصل في المعنى، ثم انتقل إلى القاعدة التي تليها وهي القاعدة الثالثة.
{قال -رحمه الله-: (الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ: ظَاهِرُ النُّصُوصِ مُرَادٌ أَوْ ظَاهِرُهَا لَيْسَ بِمُرَادِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَفْظُ الظَّاهِرِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ)}.
هذه القاعدة هي فرع أيضًا عن القاعدة السابقة، وخاصة في السورة الثالثة في الألفاظ الحادثة والمصطلحات الحادثة، ومنها ما يكثر في كتب المتكلمين من إيراد هذا السؤال، يقولون: هل ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟ فيقال: ماذا تقصد بمراد أو غير مراد؟ فهو مصطلح من المصطلحات الحادثة التي لم يكن السلف يستخدمونها، فهنا الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى التفصيل.
مثله بعض الأسئلة التي يوردها بعض الناس في أبواب العقيدة، مثلاً لما يقول لك: هل العبد مُسير أو مخير؟ يحتاج الجواب إلى التفصيل، وهكذا إذا قال هنا: هل ظاهر النص مراد أو غير مراد؟
أولاً: ظاهر النص هو الذي يتبادر إلى الذهن من جهة وضع اللغة أو السياق، مثال قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ما ظاهر النص؟ ما الذي يتبادر لذهن المسلم الذي يقرأ هذه الآية ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ؟ الذي يتبادر إلى ذهنه إثبات صفة المجيء للرب -تبارك وتعالى- على الوجه الذي يليق به.
لَمَّا يقرأ المسلم حديث «ينزل ربن» ما ظاهر النص؟ إثبات صفة النزول، لكن على الوجه الذي يليق بالرَّبِّ -تبارك وتعالى.
لاحظ أنَّ المتكلمين فهموا أنَّ ظاهر هذا النص يلزم منه التمثيل، فقال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ فهموا فهمًا خاطئاً يدل على إثبات مجيء كمجيء المخلوقين، فالممثلة قالوا: هذا ظاهر النص وهو مراد فجعلوا ظواهر النصوص يلزم منها التمثيل، المعطلة نفس الفهم، بأن ظواهر النصوص يلزم منها التمثيل، ولهذا قالوا: إنها بحاجة إلى التأويل، وأن في النص تقدير مضاف محذوف.
المصنف يجيب عن هذا السؤال الذي يرد في كتب المتكلمين، (إذَا قَالَ الْقَائِلُ: ظَاهِرُ النُّصُوصِ مُرَادٌ أَوْ ظَاهِرُهَا لَيْسَ بِمُرَادِ)، لاحظ هو يعالج هنا إشكالية كبيرة عندهم وهي الشبهة التي انطلقوا بها، والشبهة هي ظنوا أن إثبات الصفات للخالق يلزم منه مماثلة الخالق للمخلوق، فظنوا أنَّ القدر المشترك في الاسم يلزم منه المماثلة عند التخصيص والتقييد والإضافة، ولهذا لاحظ قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ هل المجيء هنا مطلق أو مقيد مخصص مضاف؟
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ هل هنا صفة مجيء مطلقة تصح في حق الرب وفي حق العبد أو مجيء مضاف للرب؟ مجيء مضاف إلى الرب، إذاً هو معنى خاص، "ينزل ربنا" النزول هنا نزول من؟ نزول الله -سبحانه وتعالى-، إذا هنا مخصص مُقيد مضاف، هم جعلوا الألفاظ التي جاءت في حالة التخصيص والإضافة والتقييد مثل: الألفاظ المطلقة، هنا وضعت الإشكالية، ولهذا زعموا أن النصوص التي جاءت في حال الإضافة والتخصيص والتقييد هي مثل: اللفظ المطلق، فزعموا أن ظاهرها يلزم منه التشبيه.
هنا المصنف ماذا يقول؟ وهذه الإشكالية التي يريد أن يعالجها، لذلك لاحظ هؤلاء المعطلة والمشبهة لما وضعوا النصوص في حال التقييد والإضافة والتخصيص يلزم من التمثيل انطلقوا من هذه القاعدة الخاطئة، أخذوا يحاكمون أقوال الناس إليها، فحاكموا أقوال السلف، فإذا وجدوا أن السلف أثبتوا صفة المجيء وأثبتوا صفة النزول وأثبتوا بقية الصفات، ماذا يقولون؟ إما أن السلف مشبهة مجسمة أو قالوا: السلف يثبتونه ولكن بغير معنى مفوض، ما يستطيعون أن يتهموا السلف بمجسمة مشبهة، لكن ماذا يقولون؟ مفوضة، ما فهموا المعاني، ما عرفوا الذي جاء من؟ ولا عرفوا الذي نزل من، نقول -سبحان الله- هؤلاء أهل اللغة، حملة الدين، حملة القرآن، حملة السنة، ما يعرفون من الذي جاء ومن الذي ينزل؟ وأنتم أيها الحيارى عرفتم أن الذي جاء ملك وأن الذي نزل ملك أو رحمن أو الذي جاء أمر، كيف هذا؟ هذا لا يقبله عاقل.
أما ما يتعلق بأهل في زمنهم، فيتجرءون بأنهم مشبهة مجسمة، ولهذا إذا جاء مسلم وقال: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ الذي جاء الرب، قال قالت المجسمة المشبهة الممثلة، سبحان الله، من الذي أثبت المجيء؟ الله -سبحانه وتعالى-، من الذي أثبت النزول؟ النبي -عليه الصلاة والسلام-، ما السبب الذي جعلهم يتهمون أهل السنة بأنهم مشبهة مجسمة؟ الفهم الخاطئ الذي فهموه، بناءً على هذا الفهم الخاطئ جعلوه كأنه قاعدة مسلمة وأخذوا يحاكمون الناس عليها وهم قد فهموا فهماً خاطئاً، وهذا هو الجهل المركب الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، إلا أن يكون صاحب هوى هذا أمر آخر.
فيحاكم الناس إلى فهم خاطئ، وهو أنَّ النصوص التي جاءت في حال التقييد والتخصيص والإضافة في وصف الخالق بصفة النزول وبصفة المجيء وصفة الاستواء وغيرها من الصفات، أنها تماثل صفة المخلوقين، ولهذا يقول لك هل ظاهر النص مراد أو غير مراد؟ إذا قلت مراد، قال: أنت مشبه مجسم، تقول لماذا؟ تقول: لأنك تثبت المجيء ولا نعرف مجيء إلا مجي المخلوق.
المصنف هنا يقول: (فَإِنَّهُ يُقَالُ) لمن يطلق هذا السؤال، (فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَفْظُ الظَّاهِرِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ) حسب الاصطلاح، (فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ) الذي يطلق مثل هذا السؤال، (يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ) يعتقد هذه معناها الشبهة عند المتكلمين عموماً سواءً كانوا ممثلة فمثلوا، أو كانوا معطلة فأرادوا الفرار من هذا الاعتقاد الفاسد، يعتقد بزعمه لقصور علمه (يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ) مثل المجيء والنزول واليد ونحو ذلك، (فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ) ولا يمكن، لماذا؟ لأن الله -عز وجل- حكيم يقول في كتابه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، هل يفهم مسلم من قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ أن سمعه كسمع المخلوق، معاذ الله؛ لأنه قال في شطرها الأول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ، وهكذا يقال في سائر النصوص التي جاءت في إثبات الصفات.
قال: (وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ هَذَا ظَاهِرَهَ) لا يمكن أن يجعلوا ظواهر النصوص يلزم منه التمثيل والتشبيه، لكن هم زعموا بل بعضهم صرح بأن القرآن كله متشابه، ونصوص الصفات كلها متشابهة، وبعضهم صرح أشنع من هذا وقالوا بأن ظواهر الأدلة يلزم منها الكفر -عياذاً بالله-، ولهذا ينهون أن تتلى آيات الصفات وأحاديث الصفات على العوام، لأنها بزعمهم تشوه عقائدهم، انظر هذا الكذب وهذا البهتان العظيم وهذا الافتراء على الدين، لكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهر، يعني هذا الفهم الباطل لم يكونوا يسمونه ظاهر، ليس هو ظاهر القرآن، ظاهر القرآن إثبات مجيء يليق بالرب ونزول يليق بالرب.
قال: (وَلَا يَرْتَضُونَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كُفْرًا وَبَاطِلً) كما زعم هؤلاء، تصريحًا ولا تلميحاً، (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ إلَّا مَا هُوَ كُفْرٌ أَوْ ضَلَالٌ) كما يدعي هؤلاء.
{قال -رحمه الله-: (وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ ظَاهِرَهَا ذَلِكَ يَغْلَطُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ: تَارَةً يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ حَتَّى يَجْعَلُوهُ مُحْتَاجًا إلَى تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَتَارَةً يَرُدُّونَ الْمَعْنَى الْحَقَّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَالْأَوَّلُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: «عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي» الْحَدِيثَ وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ أَوْ قَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ")}.
هنا المصنف -رحمه الله- يُبَيِّنُ الخلل الذي أوقعهم في هذا التحريف، والخلل إذا أوقعهم في هذا الفهم الخاطئ والزلل الفادح والتقعيد الخاطئ، حتى جعلوا هذا الفهم الخاطئ مسلماً يحاكمون النصوص إليها ويحاكمون أقوال السلف إليها ويحاكمون أقوال الناس إليها، من أين دخل عليهم هذا الخلل الكبير والتمثيل والتشبيه؟
قالوا: (وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ ظَاهِرَهَا ذَلِكَ) أي أن ظاهر النصوص يلزم منه التشبيه، ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ يلزم منه التشبيه، ينزل ربنا يلزم منه التشبيه، خلقت بيدي يلزم التشبيه، ما الذي جعلهم يفهمون هذا الفهم الخاطئ؟
يقول الذي أوقعهم في هذا الزلل هو خطأ منهجي فادح، أسباب، طبعًا هو ذكر سببين، ويمكن أن تضاف، يمكن أسباب أخرى أن تضاف، ومن رجع إلى الكتب المطولة سيجد أسباب الضلال، أسباب الانحراف، منشأ الخطأ عند هؤلاء يرجع إلى هذه الأسباب.
السبب الأول، يقول: (تَارَةً يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ) وهو ظاهر النص وهو التشبيه، فجعلوا المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ وليس كذلك، هذا يلزم منه التناقض في كتاب الله، يلزم منه أن القرآن لم ينزل بلسان عربي مبين، يلزم منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبلغ عن ربه، يلزم منه أن الصحابة لم يفهموا الدين.
قال: (تَارَةً يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ) الذي هو التشبيه (ظَاهِرَ اللَّفْظِ حَتَّى يَجْعَلُوهُ مُحْتَاجًا إلَى تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ)، ولهذا لما جاء المتكلمون لقوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ قالوا: لا نعرف المجيء إلا مجيء المخلوق والآية تثبت مجيء الرب، وعندهم أن إثبات المجيء يلزم منه التشبيه، أرادوا الفرار من هذا الفهم الخاطئ، فقالوا: النص محتاج إلى تأويل، فخالفوا اللغة وخالفوا ظاهر القرآن وخالفوا مذهب السلف، فجاءوا بمعنى لا يدل عليه السياق ولا تدل عليه اللغة، فهذا هو الخطأ الأول الذي وقعوا فيه: الفهم الخاطئ في آيات الصفات.
ثانيًا، قال: (وَتَارَةً) منشأ آخر لأسباب الضلال عندهم والغلط، (وَتَارَةً يَرُدُّونَ الْمَعْنَى الْحَقَّ) الذي هو مجيء يليق بالرب، نزول لم يكن للرب، يفهمه المسلم ويفهمه الصحابة ويفهمه عامة المسلمين، بالله عليكم لو تسألون أحد عوام المسلمين وهو يقرأ هذه الآيات، ما الذي يتبادر إلى ذهنه؟ ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ يقوم آخر الليل ويرفع يديه إلى السماء ويؤمن بأن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل، هل أشكلت هذه الآيات والأحاديث على هؤلاء العوام بفطرتهم؟ لم تشكل، فهموا هذا ولم يفهموا مجيئًا كمجيء المخلوق أو نزولا كنزول المخلوق.
قال: (وَتَارَةً يَرُدُّونَ الْمَعْنَى الْحَقَّ) الذي هو إثبات صفة تليق بالرب (لَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ) إذاً الظاهر هو على مراد الله وعلى مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، (لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ)، ثم مثل لتأويلاتهم، طبعًا التأويلات قد تأتي من جهة المعنى ذاته وقد تأتي من عدم مراعاة القرائن التي جاءت في الدليل.
إذاً؛ من قال إن ظاهر النصوص مراد أو غير مراد، يقال له: ماذا تقصد؟
إن قصدت أنها على مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهي مراده، وأن قصدت على الفهم الخاطئ فهذا غير مراد وليس هو ظاهر النصوص، ثم ذكر أمثلة في سبب الغلط واللغط عندهم، لاحظ أحيانًا المصنف أيضًا يشير إلى معنى ثالث وهو أنهم يأتون بنصوص مشكلة عندهم متشابهة فيجعلونها هي الأصل، ثم يرجعون على المحكم بالتأويل والإبطال كطريقة الزائغين، أما طريقة الراسخين في العلم فيجعلون المحكم هو الأصل، وما تشابه وما أشكل من النصوص فإنه ينظر فيه كيف يتفق مع المحكم.
ثم ذكر من الشواهد التي استدلوا بها (كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: «عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي») سيأتي الجواب عنه في المثال الثاني في حديث يقول الله -تبارك وتعالى-: «يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي»)، فالسياق من الذي جاء حقيقة؟ العبد وليس الرب، القرينة التي جاءت في السياق.
قال: (وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ أَوْ قَبَّلَهُ") فجعلوا هذا التشبيه يلزم منه مماثلة الخالق وهو تشبيه لإثبات الصفة وليس تشبيه للخالق بالمخلوق.
{(وَقَوْلِهِ: «قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» فَقَالُوا: قَدْ عُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا أَصَابِعُ الْحَقِّ فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ أَعْطَيْتُمْ النُّصُوصَ حَقَّهَ)}.
هذا هو الجواب عن النص الذي أشكل عليهم وفهموه فهمًا خاطئاً دون مراعاة سياق النص ودون مراعاة القرائن التي جاءت في النص والتي تبين المعنى الصحيح، فقال في الجواب:
{( فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ أَعْطَيْتُمْ النُّصُوصَ حَقَّهَا  مِنْ الدَّلَالَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى حَقٍّ أَمَّا الْحَدِيثَ الْوَاحِدُ)} الحديث الواحد يعني الأول، {(أَمَّا الْحَدِيثَ الْوَاحِدُ فَقَوْلُهُ: "الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ" صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ لَيْسَ هُوَ صِفَةً لِلَّهِ وَلَا هُوَ نَفْسُ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ})}، القيد أين؟ في الأرض، معناه هو توضيح لمعنى وليس هو وصف للخالق.
{(وَقَالَ: "فَمَنْ قَبَّلَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهَ بِهِ فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ مُسْتَلِمَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا لِلَّهِ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ يَمِينِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ظَاهِرُهُ كُفْرًا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ. مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؟)}.
هو أجاب من وجهين، أولاً: يقال له أن هذا الحديث أثر، وهو موقوف عن ابن عباس وليس مرفوعاً، وسمة خلاف في الآثار الموقوفة هل لها حكم الرفع أو لا؟
وثانيا: أنه ليس فيه ما فهمتهم من هذا المعنى وإنما هو من باب التقريب للمعنى، مثل يمكن يوضحه هذا الجواب: مِثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في إثبات صفة الرؤية لَمَّا نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر»، هل يفهم مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شبه الرب بالقمر؟ أبدًا، إذاً هو شبه الرؤية بالرؤية، وهكذا يقال في مثل هذا الحديث.
{قال -رحمه الله-: (المثال الثَّانِي: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ: فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مُفَسَّرًا: {«يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْرَضْ وَلَا يَجُعْ وَلَكِنْ مَرِضَ عَبْدُهُ وَجَاعَ عَبْدُهُ فَجَعَلَ جُوعَهُ جُوعَهُ وَمَرَضَهُ مَرَضَهُ مُفَسِّرًا ذَلِكَ بِأَنَّك لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي وَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ)}.
لماذا؟ لوجود القرينة التي بينت المعنى، فالقرينة موجودة في السياق، فاتضح أن المعنى في قوله: «عَبْدِي جُعْت، عَبْدِي مَرِضْت» أنه ليس الذي جاع هو الرب وليس الذي مرض هو الرب بدليل القرينة التي جاءت في السياق فبينت المعنى، فهم لم ينظروا لهذه القرينة وفسروه تفسيراً خاطئاً وأخذوا يجعلونه قاعدة يقيسون عليه جميع الصفات بسبب هذا الفهم الخاطئ، وهو عدم النظر إلى القرائن التي جاءت تبين المعنى الصحيح.
فهذا هو وجه الخطأ عندهم، أنهم جعلوا معنى الحديث معنى فاسد دون النظر إلى السياق والقرائن التي تبين المعنى الصحيح.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا قَوْلُهُ «قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّ الْقَلْبَ مُتَّصِلٌ بِالْأَصَابِعِ وَلَا مُمَاسٌّ لَهَا وَلَا أَنَّهَا فِي جَوْفِهِ وَلَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ لِيَدَيْهِ وَإِذَا قِيلَ: السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ)}.
إنما ذكر هذه الأمثلة الثلاثة لبيان الرد على هؤلاء الذين يتمسكون بمثل هذه النصوص التي قد تشكل على بعضهم وتشتبه على بعضهم، فيجعلونها أصلاً في نفي الصفات المحكمة الواضحة الصريحة التي ليس فيها إشكال، وهذه من طرائق الزائغين، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَ﴾ [آل عمران: 7] ، فهم يتمسكون بمثل هذه الألفاظ التي ربما فيها إشكال عند بعض الناس وليس عند الراسخين في العلم، فيبطلون بها النصوص المحكمة التي تدل على إثبات صفات الخالق -سبحانه وتعالى-، مع أنه من نظر في هذه النصوص التي يزعمون أنه مشكلة، يتبين أنه لا إشكال فيها أصلاً.
لعلنا نكتفي بهذا القدر -وإن شاء الله- في الدرس القادم نكمل منشأ الخطأ عند هؤلاء ومنشأ الضلال الذي أوقعهم في هذا التحريف والتعطيل.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
وإياكم والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك