الدرس الحادي والعشرون

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس الحادي والعشرون

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والأبناء الطلاب والطالبات في برنامج البناء العلمي، وفي مقرر العقيدة، ونحن في الدرس الحادي والعشرين في شرح الرسالة التدمرية في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع، أسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحب ويرضى.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.
فَإِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ: لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه واتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلى كل من صلى وسلم عليه، أما بعد.
فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ) واسم الإشارة هنا يعود لما قرره سابقًا من بيان حقيقة الدين الذي بعث الله به جميع الرسل ومن أجله خلق الخلق ومن أجله أنزل الكتب وهو دين الإسلام الذي هو الاستسلام لله وحده لا شريك له وبيَّن أن هذا الدين يقوم على تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
قال: (فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ) هو مفهوم الدين الذي جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال: (عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ) وتقدم تحقيق هذا الباب اعتقاداً وعملاً، (فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ) والإيمان بالوحدانية تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والرسالة تحقيق أن محمدًا رسول الله، ولهذا جُعلت الشهادتان ركناً واحدًا وهو الركن الأول من أركان الإسلام للتلازم بينهما، ثم قال: (شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)، ثم ذكر الانحراف الذي حصل في هذا الباب، وهذا الأصل في باب الوحدانية والرسالة، كما أنه وجد انحراف وضلال وزيغ في باب الأسماء والصفات وهناك من غلا وهناك من جفا، كذلك في هذا الباب، باب الشرع والقدر وباب الوحدانية والرسالة وباب حقيقة العبودية وقع أيضًا فيه ضلال وانحراف، قال: (كَثِيرٌ) وقع كثير والانحراف في هذا كثير في المنتسبين إلى الإسلام، (فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ) يعني: حقيقة الوحدانية وحقيقة الرسالة، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمد رسول الله، في هذين الأصلين معاً (أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ ظَنِّهِ) كثير ممن ينتسب للعلم وينتسب للعبادة من أهل العلم والنظر وأهل الإرادة والقصد، (مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ) فيدعي علماء الكلام أنهم حققوا الغاية في التوحيد، وإذ هم يقررون الربوبية فقط، ويدعي أهل الإرادة والعمل من العُباد والزهاد والطرق الصوفية أنهم قد حققوا الغاية في العبادة، وإذا هم يحققون الربوبية فقط، (مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ) من أهل النظر والعلم ومن أهل الإرادة والعمل والقصد.
ثم بيَّن الضلال والانحراف الذي حصل عند هؤلاء، قال: (فَإِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ: لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ) يعني: إقراره بالربوبية وحده لا ينجيه، إبليس يقر بالربوبية، المشركون الذين يعبدون الأصنام يقرون بالربوبية، فإقرارك بالربوبية وحدها هذا لا ينجي وليس هذا هو حقيقة الدين الذي جاء به الأنبياء، وحقيقة التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب، قال: (إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) لا معبود بحق إلا الله، (فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) وهو تحقيق الرسالة، يعني تحقيق الوحدانية والعبودية وتحقيق الرسالة، قال: (فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ) ولهذا الذين يعترضون على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به، ومن ذلك ما أخبر به من أمور المعاد وأمور الصفات، ثم لم يحققوا شهادة أن محمد رسول الله، والذين يردون أخبار الآحاد ويعترضون عليها، هل حققوا شهادة أن محمدًا رسول الله، فيه خلل وقصور.
قال: (تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ) ومن أعظم ما أخبر به عن ربه -تبارك وتعالى-، (وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ) امتثاله الشرع، (فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ) ويقصد بهذين الأصلين الوحدانية والرسالة، تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، لماذا؟ لأنه قد وقع غلط وانحراف في تحقيق هذين الأصلين، كما وقع غلط وانحراف في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، فكما وجد انحراف في باب الأسماء والصفات وجد انحراف في هذين الأصلين.
{قال -رحمه الله-: (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ "تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ" فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ، فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ مُشْرِكُونَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ يس: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ .
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ شُفَعَائِهِمْ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فِيهِمْ شُرَكَاءُ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورً﴾ .
قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)
}.
قال: (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ) وهو تحقيق الوحدانية ويقصد بذلك تحقيق توحيد الإلهية الذي هو تحقيق الشرع، وبيَّن فيه معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي تعني لا معبود بحق إلا الله، قال: (الْأَصْلُ الْأَوَّلُ "تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ") تقدم، قلنا: إنه يقال الإلهية، ويقال: الألوهية من أله يأله ألوهة وإلهاً، ولهذا يقال: توحيد الإلهية ويقال توحيد الألوهية الذي هو توحيد العبادة، فهذا هو الأصل الأول تحقيق هذا التوحيد، ثم ذكر بأن الله سبحانه أخبر عن المشركين -كما تقدم- بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله، يدعونهم ويتخذونهم شفعاء من دون الله، المشركون كانوا يقرون بالربوبية وكانوا يعبدون الله ولكن كانوا يجعلون معه شركاء، وهكذا عُباد القبور اليوم، ولهذا رد عليهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب كشف الشبهات، وبيَّن الغلط الذي وقعوا فيه والشبهة التي وقعوا فيها هي نفس الشبهة التي وقع فيها عُباد الأصنام، والخلل الذي وقع عندهم في مفهوم لا إله إلا الله، فسروها بتوحيد الربوبية.
قال في الأصل الأول: ("تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ" فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ)، إذاً المشركون كانوا يقرون بالربوبية وكانوا يعبدون الله -عز وجل- ويحبونه ويخافونه ويعظمون البيت وكانوا يحجون، فلماذا لم تنفعهم جميع هذه الأعمال؟ لأنهم جعلوا مع الله شركاء، لماذا لم ينفعهم الإقرار بالربوبية؟ لأن هذا ليس هو الغاية من الخلق وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم ذكر الأدلة على هذا الأصل، كم دليل؟ تلاحظون أنه ذكر أحد عشر دليلاً يؤكد هذا الأصل، وجميع هذه الأدلة تُبين الضلال الذي وقع فيه المشركون وهم أنهم عبدوا الله وعبدوا غيره معه، وأيضًا تبين أن حقيقة هذا الشرك الذي وقع فيه المشركون ليس لاعتقادهم أن هؤلاء هم الله وأنهم أرباب، وإنما لأجل أنهم يقربونهم إلى الله، وبهذا يتبين حقيقة توحيد الألوهية التي هي توحيد العبادة.
ثم قال: (﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ )، إذاً هؤلاء المشركون يقرون بوجود الله، نعم، يقرون بربوبية الله، نعم، إذاً لماذا عبدتم هؤلاء الأصنام، قالوا: لتشفع لهم عند الله، فتبين أن حقيقة التوحيد هو عبادة الله وحده لا شريك له، وأن من عبد غير الله مع الله هذا مشرك حتى لو أقر بالربوبية، (﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ) هذه حقيقة الشرك، ثم أيضًا عقب على وجه الاستدلال، قال: (فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ مُشْرِكُونَ) مشركون بأي باب؟ في الإلهية، أي: العبودية، ولذلك لم يحققوا توحيد العبادة، لم يحققوا الشرع الذي أمر الله به، (وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ يس: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ )، إذاً هم يعترفون بأن الله هو الذي فطرهم، (﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾ ) إذاً لاحظ هم يعترفون بأن الله إله ولكن جعلوا معه شركاء.. إلى آخر الآيات.
وقال: (﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ﴾ ) إذاً هم اتخذوا الأصنام شفعاء، قال: (فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ شُفَعَائِهِمْ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فِيهِمْ شُرَكَاءُ)، إذاً ما أنكروا الربوبية ولا أنكروا عبادة الله وإنما جعلوا معه شركاء، أيضًا وكذلك بقية الآيات كلها تبين حقيقة الشرك الذي وقع فيه هؤلاء المشركون وعُباد الأصنام، وهذا هو الزيغ والضلال الذي وقع فيه الكثير من المنتسبين إلى الإسلام من أصحاب الفرق من علماء الكلام ومن الزهاد والعُباد وأهل الطرق، الخطأ الكبير الذي وقعوا فيه لم يحققوا توحيد العبودية لله -تبارك وتعالى-.
فجميع الأدلة كلها تدل على هذا، ثم لاحظ الآيات التي جاءت في الرد: (﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ) يعني: ليست هذه الأصنام التي تشفع لكم، هذه شفاعة باطلة، شفاعة منفية، لأنهم عبدوهم لأجل أن يشفعوا لهم عند الله، بقية الآيات كلها تدل على هذا.
ثم عقب على الآية الأخيرة: (قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ) هل كانوا يدعونهم ويدعون الله أو كانوا يعتقدون أن عزير والمسيح والملائكة هي الله؟ لا، لا أحد يعتقد هذا، هم يدعونهم مع الله، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)، إذا كان الله أنكر على هؤلاء الذين يدعون خيار الخلق، يدعون الملائكة ويدعون الأنبياء فكيف بمن يدعوا من دونهم؟ لا شك أن الإنكار عليه أشد، فهذه الآيات تبين حقيقة معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وتبين معنى حقيقة الإلهية.
{قال -رحمه الله-: (وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ؛ كَالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولً﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ، وَكُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي التَّوَكُّلِ: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وَقَالَ: ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ . فَقَالَ فِي الْإِتْيَانِ: ﴿مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ وَقَالَ فِي التَّوَكُّلِ: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ هُوَ الْإِعْطَاءُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِحْلَالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرَّسُولُ فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُو﴾ وَأَمَّا الحسب فَهُوَ الْكَافِي وَاَللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ كُلُّهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِيكُمْ كُلُّكُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين إذْ هُوَ وَحْدَهُ كَافٍ نَبِيَّهُ وَهُوَ حَسْبُهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَكُونُ هُوَ وَإِيَّاهُ حسبا لِلرَّسُولِ وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَحَسْبُك وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ وَتَقُولُ الْعَرَبُ: حَسْبُك وَزَيْدًا دِرْهَمٌ أَيْ يَكْفِيك وَزَيْدًا جَمِيعًا دِرْهَمٌ)
}.
قال المصنف -رحمه الله-: (وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ) أيضًا هو يؤكد على تحقيق العبودية وتحقيق التوحيد، أي: توحيد العبادة وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وتحقيق الشرع، قال: (وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ؛ كَالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى)، لاحظ هل هو يتحدث عن توحيد الربوبية أو توحيد الألوهية؟ توحيد الألوهية، الذي أغفله المتكلمون وأغفله الصوفية.
قال: (وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ) يعني: لا يتم التوحيد ولا يتم الإسلام ولا تتحقق شهادة أن لا إله إلا الله حتى يتحقق هذا التوحيد الذي هو توحيد الألوهية وتوحيد العبادة الذي أهمله المتكلمون -كما تقدم-، المتكلمون لما قسموا التوحيد حصروه في توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مع ضلالهم وانحرافهم وأهملوا توحيد الإلهية، قال: ومن تمام تحقيق التوحيد الذي من أجله خلق الله الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب وهو حقيقة دين الإسلام، (أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّ) ولذلك لاحظ في حديث معاذ لما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟»، ما حق الله على العباد ماذا؟ ما قال أن يعرفوه، أن يعبدوه وحده لا شريك له، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، ما قال لا تعرفوه، إلا إذا قال المتكلمون في معنى الربوبية هو معنى العبودية وهذا مغالطة ولا يقولون بهذا أصلاً، الآيات تدل على أن التوحيد هو العبادة، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ ، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21]، لاحظ التلازم أو لا؟ ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ .
قال: (وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ؛ كَالْعِبَادَةِ) المعنى العام، (وَالتَّوَكُّلِ) يعني الخاص بعد عموم، العبادة كما تقدم هي التذلل والخضوع لله محبة وتعظيماً، العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والتوكل والخشية والتقوى إلى غير ذلك من أنواع العبادات القلبية والقولية والعملية، ولكنه مثل بالعبادات القلبية لأنها هي الأصل، ثم ذكر الأدلة.
أيضًا يلاحظ الإخوة المشاهدون والمتابعون كم دليل ذكر في هذا النوع؟ أكثر من ثلاثة عشر دليل على تحقيق التوحيد، ثم ذكر من ذلك (﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ ) إلهاً يعني شريك معبوداً، إله معبوداً، (﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولً﴾ ) وهذه الآية جاءت ضمن الحقوق التي ذكرت في سورة "الإسراء" وابتداءها الله -عز وجل- بأعظم حق وهو حقه، ثم حق الوالدين، (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ) وهذا هو تحقيق التوحيد: ﴿مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ، ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ﴾ ، (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ ) لاحظ حقيقة التوحيد، عبادة الله وحده لا شريك له، (﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ ) الآيات كلها تؤكد على توحيد الإلهية، توحيد العبودية.
(وَكُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ) إذاً الرسل جاءوا بتوحيد العبودية، (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي التَّوَكُّلِ: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وَقَالَ: ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ )، وقف عند هذه الآية لوجود إشكال عند بعض المفسرين في معنى هذه الآية.
يقول: (فَقَالَ فِي الْإِتْيَانِ: ﴿مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ ) فالإتيان يكون من الله ويكون كذلك من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، (وَقَالَ فِي التَّوَكُّلِ: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ ) فقط لماذا لم يقولوا والرسول؟ لأن الحسب إنما يكون عبودية، إنما يكون لله -تبارك وتعالى- والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يُعبد، فهو عبد لا يُعبد، (وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولُهُ) ثم علل، قال: (لِأَنَّ الْإِتْيَانَ هُوَ الْإِعْطَاءُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِحْلَالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرَّسُولُ فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُو﴾ ).
قال: (وَأَمَّا الحسب فَهُوَ الْكَافِي وَاَللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ، الحسب لله وحده، ثم بيَّن ذلك قال) : (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ) ما المعنى؟ (حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)، فالله هو حسبك وحسب من اتبعك، هذا هو المعنى الصحيح، وليس المعنى الذي قد يقع فيه من يخطئ في فهم الآية (وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك) فجعل المؤمنون مساويين لله، ليس هذا معنى الآية، بل (كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين) يعني: سواءً من المفسرين أو ممن يغلط في فهم هذه الآية، بل المعنى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ وهو حسب من اتبعك من المؤمنين.
ثم ذكر وجه ذلك في اللغة، ثم أكمل أيضًا بقية الشواهد على تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى.
{قال -رحمه الله-: (وَقَالَ فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ فَأَثْبَتَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلرَّسُولِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)}.
وهذا هو الدليل العاشر، لتحقيق التوحيد والعبودية لله، قال: (فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ﴾ ) لاحظ الآية ورد فيها ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ﴾ والخشية هي درجة من درجات الخوف، وهي تكون مع العلم، قال: (فَأَثْبَتَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) وهذه قاعدة تقدمت، أن طاعة الرسول -عليه الصلاة والسلام- هي طاعة لله، ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ ، (وَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ).
{وقال -رحمه الله-: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ». وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ ، وَقَالَ: ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ )}.
ولذلك لا يتحقق التوحيد إلا بالبراءة من الشرك، والشرك نوعان: شرك أكبر وهذا يبطل أصل التوحيد، وشرك أصغر ينقص التوحيد، والذي خاف الصحابة منه هو عموم الشرك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نبههم أن الشرك الذي يذهب أصل التوحيد هو الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، أما الشرك الأعظم فإنه ينقص التوحيد ويعرض صاحبه للوعيد.
وهو لا يزال الآن يذكر الأدلة والشواهد في مفهوم العبادة ومفهوم تحقيق التوحيد وأنه لا يتحقق إلا بالبراءة من الشرك.
{قال -رحمه الله-: (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئً» وَقَالَ: «وَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ»، فَفِي الطَّاعَةِ: قَرَنَ اسْمَ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَفِي الْمَشِيئَةِ: أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِحَرْفِ "ثُمَّ" وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)}.
وهذه القاعدة أكد عليها كثيرًا وينبغي التنبه لها، قال: (فَفِي الطَّاعَةِ: قَرَنَ اسْمَ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- بِاسْمِهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ) لماذا؟ لأن طاعة الرسول هي طاعة لله، من يطع الرسول فقد أطاع الله، فطاعتنا للرسول -صلى الله عليه وسلم- هي طاعتنا لله، لماذا؟ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يأتي بالأوامر والنواهي من نفسه وإنما وحي يوحى إليه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3- 4]، فطاعتنا للرسول -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة لله -تبارك وتعالى-، فلهذا قرن اسم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند الطاعة باسم الرب -تبارك وتعالى- ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ .
قال: أمَّا المشيئة فهي لله، المشيئة فإنها تكون لله -تبارك وتعالى- ما شاء الله وحده، ولهذا الرجل الذي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت، غضب -عليه الصلاة والسلام- وقال: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ»، قال: (وَفِي الْمَشِيئَةِ: أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِحَرْفِ "ثُمَّ" وَذَلِكَ) التعليل (لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَطَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-).
{قال -رحمه الله-: (بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فَلَيْسَتْ مَشِيئَةُ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ مَشِيئَةً لِلَّهِ، وَلَا مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَلْزِمَةً لِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ، وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَمْ يَكُنْ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ)}.
انتهى تحقيق الأصل الأول، وتبين فيه معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وتبين فيه معنى العبادة وأنها تكون خالصة لله وحده لا شريك له، وتكون الطاعة لله -تبارك وتعالى- ومن ذلك طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة له، هذا هو توحيد الإلهية، توحيد العبادة، فلا يتحقق التوحيد إلا بهذا.
ثم انتقل للأصل الثاني المتعلق بالرسالة، والذي هو تحقيق شهادة أن محمد رسول الله.
{قال -رحمه الله-: (الْأَصْلُ الثَّانِي: حَقُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ وَنُطِيعَهُ وَنَتَّبِعَهُ وَنُرْضِيَهُ وَنُحِبَّهُ وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ)}.
انتهى من هنا.
الأصل الثاني وهو تحقيق الرسالة وتحقيق شهادة أن محمد رسول الله، قال: (حَقُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) علينا ما هو؟ (أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ) ومعلوم أن الإيمان بالرسل هو ركن من أركان الإيمان.
ما معنى الإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
تصديقه فيما أخبر واتباعه فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع، ليس الإيمان بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو قول يقال باللسان فقط، بل هو اعتقاد وقول وعمل، ولهذا بيَّن ما الذي يتضمنه شهادة أن محمدًا رسول الله، فلهذا الذين يقولون شهادة أن لا إله إلا الله، نقول لهم: ماذا تعني هذه الشهادة؟ وما لوازم هذه الشهادة؟ والذين يقولون: ونشهد أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويسمعونها في الأذان تردد في اليوم عشرات المرات في الأذان والإقامة وفي الصلاة، ما معنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله؟
قال: (حَقُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ) نصدق تصديقاً جازمًا لا ريب فيه أنه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (وَنُطِيعَهُ) فيما يأمر، ولهذا الذين يردون سنته لم يحققوا شهادة أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (وَنَتَّبِعَهُ) والأدلة على هذا كثيرة، ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ ، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُو﴾ ، وهذا يدل على وجوب حجية السنة، قال: (وَنُرْضِيَهُ) ومن ذلك تصديقه لما أخبر وامتثال ما نهى عنه وزجر وأداء الحقوق التي حث عليها، (وَنُحِبَّهُ) فمحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي من لوازم محبة الله، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يحب في الله ولله لا مع الله، يعني مع أنه لا يرفع عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الألوهية والربوبية، بل يحب في الله ولله لا مع الله.
قال: (وَنُسَلِّمَ) عليك؛ لأن الله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيم﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد.
قال: (وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ) أي: ننقاد لحكمه؛ لقوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ ، نحن ذكرنا (وَنُسَلِّمَ) وأيضًا هي من حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم-، الصلاة والسلام عليه، لكن المصنف هنا قال: (وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ)، قال: (وَأَمْثَالُ ذَلِكَ).
إذاً الحقوق التي أوجبها الله في كتابه وأوجبها النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته، كلها تدخل في تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ذكر الأدلة، تلاحظون كم دليل؟ واحد واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة أدلة.
ثم قال: (وَأَمْثَالُ ذَلِكَ) من الأدلة التي تبين حقوق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمته، ومن حقه على أمته أن لا يعبد الله إلا بما شرع، ولهذا الذين يحدثون البدع كاحتفال الموالد ونحو ذلك، نقول: مقتضى ذلك أنكم تستدركون على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ألم يشهد أمته في حجة الوداع أنه قد بلغ، فالذي يحدث في الدين شيئًا ما أقر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمقتضى ذلك أنه يستدرك على الرسول -صلى الله عليه وسلم- معاذ الله، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- في الآية التي ذكرها الأخيرة، (﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ )، دليل محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- اتباعه، ولهذا الذي يزعم أنه يحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم يحدث المبتدعات، نقول: هذه دعوة باطلة؛ لأن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- تقتضي اتباعه لا مخالفة هديه.
انتهى من تحقيق هذين الأصلين، ثم انتقل إلى فصل آخر قال فيه.
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ: بِقَضَائِهِ وَشَرْعِهِ. وَأَهْلُ الضَّلَالِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ انْقَسَمُوا إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: مَجُوسِيَّةٍ ومشركية وإبليسية)}.
قال: (وَإِذَا ثَبَتَ هَذَ)، اسم الإشارة يعود إلى ماذا؟ إلى ما تقدم تقريره من الأصول التي ذكرها: من الإيمان بالشرع والقدر اعتقاداً مع تحقيق الإيمان بالشرع وتحقيق الإيمان بالقدر، كذلك الإقرار بالوحدانية وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وكذلك الإقرار بالرسالة، وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، ومقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، ومقتضيات شهادة أن محمدًا رسول الله، إذا ثبت هذا عرف هذا المقام وحقق تحقيقًا صحيحاً، (فَمِنْ الْمَعْلُومِ) بنى عليه تحقيق الشرع والقدر وأنه لا تعارض بينهما.
قال: (فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ)، الخلق الذي هو القدر؛ لأنه إيمان بالربوبية وإيمان بمشيئته وعلمه وكتابته وخلقه وأمره الذي هو الشرع.
قال: (بِقَضَائِهِ وَشَرْعِهِ) يعني أنه يحقق الجمع بين الشرع والقدر ولا تعارض بينهما، ثم بيَّن الضلال والانحراف الذي حصل في هذين الأصلين، ما الذي حصل فيه من ضلال وانحراف؟
قال: (وَأَهْلُ الضَّلَالِ) أي في هذا الباب.
{قال -رحمه الله-: (وَأَهْلُ الضَّلَالِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ انْقَسَمُوا إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: مَجُوسِيَّةٍ ومشركية وإبليسية، فَالْمَجُوسِيَّةُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ آمَنُوا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ فَغُلَاتُهُمْ أَنْكَرُوا الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ وَمُقْتَصِدُوهُمْ أَنْكَرُوا عُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: المشركية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنْكَرُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ فَمَنْ احْتَجَّ عَلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَذَا قَدْ كَثُرَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْحَقِيقَةَ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُمْ الإبليسية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْأَمْرَيْنِ لَكِنْ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاقِضًا مِنْ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَطَعَنُوا فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ إبْلِيسَ مُقَدِّمِهِمْ؛ كَمَا نَقَلَهُ أَهْل الْمَقَالَاتِ وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَقَوَّلَهُ أَهْلُ الضَّلَالِ)}.
ذكر أقسام الزائغين في هذا الباب، قال: (وَأَهْلُ الضَّلَالِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ انْقَسَمُوا إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: مَجُوسِيَّةٍ ومشركية وإبليسية)، طبعًا هذه التسميات هي من جهة المشابهة لا من جهة المطابقة في الحكم من كل وجه، وإنما هي من جهة الشبه الذي وقع بينهم.
قال: (فَالْمَجُوسِيَّةُ) وهم القدرية النفاة، (فَالْمَجُوسِيَّةُ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ آمَنُوا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ) وهؤلاء القدرية نفاة القدر على درجتين: القدرية الأوائل ويسمون غلاة القدرية نفوا مراتب القدر الأربع، وهي علم الله بأفعال العباد، وكتابته لأفعال العباد، ومشيئته لأفعال العباد، وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي وقد حكم السلف بكفرهم وانقرضوا.
والطائفة الثانية من القدرية: وهم المعتزلة، ولهذا سماهم غلاتهم أو الأوائل، (فَغُلَاتُهُمْ أَنْكَرُوا الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ) أي: لأفعال العباد، (وَمُقْتَصِدُوهُمْ) يعني: نسبة لمن فوقهم الذين هم المعتزلة (أَنْكَرُوا عُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ) يعني: أثبتوا علم الله لأفعال العباد وكتابته ولكن أنكروا مشيئته لأفعال العباد وخلقه لأفعال العباد (وهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ).
(وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: المشركية) وهم الجبرية الخالصة، غلوا في مراتب القدر الأربعة ولكنهم أنكروا ما يقابلها من الشرع وإثبات مشيئة العباد، (الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ) لاحظ سماه القضاء والقدر، دليل على أن هذه التسمية سائغة خلافًا لمن ينكر الجمع بينهما، (وَأَنْكَرُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ) يعني: أبطلوا الشريعة ثم احتجوا بما احتج به المشركون الأوائل كما ذكر الله عنهم، (﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ )، إذاً المشركون الأوائل كانوا يقرون بالقدر ويحتجون به على شركهم، (فَمَنْ احْتَجَّ عَلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ) يعني شابه المشركين الأوائل وهم الجبرية الخالصة.
قال: (وَهَذَا قَدْ كَثُرَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْحَقِيقَةَ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ) فكثير من الصوفية هم في باب القدر جبرية، قال: (وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهُمْ الإبليسية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْأَمْرَيْنِ لَكِنْ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاقِضًا مِنْ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَطَعَنُوا فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ إبْلِيسَ مُقَدِّمِهِمْ؛ كَمَا نَقَلَهُ أَهْل الْمَقَالَاتِ وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، ثم قال: (وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَقَوَّلَهُ أَهْلُ الضَّلَالِ) أي: في هذا الباب.
أما أهل الهدى والإيمان والتقوى فإنهم حققوا الإيمان بالقدر وحققوا الإيمان بالشرع وجمعوا بينهما، فلم يغلوا في الشرع فيبطلوا القدر، بل جمعوا بينهم خلافًا لما غلا أو جفا، الذين غلو هم الجبرية والذين جفوا هم القدرية، أما أهل الإيمان فإنهم آمنوا بعموم مشيئة الله -تبارك وتعالى-، آمنوا بقدره وشرعه، فأمنوا بعموم العلم لكل شيء بما فيه أفعال العباد، وآمنوا بعموم الكتاب لكل شيء بما فيها أفعال العباد، وآمنوا بالمشيئة لكل شيء بما فيها أفعال العباد، وآمنوا بخلق الله -تبارك وتعالى- بما في ذلك أفعال العباد، كذلك آمنوا بشرعه -تبارك وتعالى- وأمره ونهيه وأنه لا يعارض قدره، كذلك آمنوا بما دلت عليه الشريعة من إثبات المشيئة للعباد، أيضًا آمنوا بوعد الله ووعيده، كل ذلك حققه أهل الإيمان.
قال: (وَأَمَّا أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ).
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ: فَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا وَهَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْأَصْلُ مِنْ إثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ: مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ)}.
لماذا لأنه من أصول الإيمان؟ لأن الإيمان بالقدر هو الركن الثالث من أركان الإيمان، فآمنوا بمراتب القدر الأربع وآمنوا كذلك بشرع الله -تبارك وتعالى-، فلا تعارض بينهما، هذا طريق أهل الهدى والإيمان والفلاح، فيؤمنون بهذا وهذا، أي بماذا؟ بالخلق والأمر والقدر والشرع، وهذا الذي قصده بعنوان الكتاب: بيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع، خلافًا لمن ضل في هذا الكتاب فغلا أو جفا، وهكذا هم وسط في كل باب، كما أنهم في باب الأسماء والصفات وسط بين المعطلة والمشبهة، هكذا هم في باب الشرع والقدر وسط بين القدرية والجبرية.
قال: (وَمَعَ هَذَ) مع إيمانهم بالشرع والقدر، انتقل إلى مسائل مهمة.
{قال -رحمه الله-: (وَمَعَ هَذَا فَلَا يُنْكِرُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرً﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِالْأَسْبَابِ)}.
يعني: مع إيمانهم بالشرع والقدر لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب، أيضًا وقع ضلال وانحراف في مسألة الأسباب، فهناك من جعل الأسباب مؤثرة بذاتها، وهناك من أنكر تأثير الأسباب، أما أهل الإيمان فإنهم لا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب سواءً كانت أسباب كونية مثل: تأثير الرياح في السحب وإنزال المطر بقدرة الله، أو أسباب شرعية مثل: العبادات والتي هي سبب لرضوان الله -تبارك وتعالى- وسبب لدخول الجنة ﴿أَن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 43]، والباء سببية، فأهل الإيمان لا ينكرون الأسباب الكونية ولا الأسباب الشرعية التي تكون بقدرة الله -عز وجل- ومؤثرة في المسببات.
ثم ذكر الأدلة على إثبات الأسباب، (﴿حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ﴾ ) الباء هنا ماذا؟ سببية، ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ سببية، ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ ، ﴿يُضِلُّ بِهِ ﴾ أي سببية (﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرً﴾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِالْأَسْبَابِ).
قال في يعني بعد تقليل هذا الأصل فيما ضل في هذا الباب.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَقَدْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَنْكَرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِنْكَارِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ الَّتِي يَفْعَلُ الْحَيَوَانُ بِهَا مِثْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ)}.
الذين ضلوا في هذا الباب، في باب تأثير الأسباب هم ثلاث فرق: فرقة زعمت أن الأسباب مؤثرة بذاتها وطبيعتها وهذا مذهب القدرية، وفرقة أخرى زعموا أن الأسباب لا تأثير لها، فمنهم من أنكر الأسباب تمامًا، ومنهم من جعل الأسباب موجودة ولكن غير مؤثرة، وهؤلاء الجبرية ومن شابههم.
قال: (وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَ)، مذهب الأشاعرة في قضية الكسب، أن الأسباب موجودة لكنها غير مؤثرة، ولهذا إذا أضيفت إلى الأشياء قالوا: هي إضافة مجازية وليست حقيقة.
قال: فهذا الذين قالوا أنها يفعل عندها لا بها، يعني قضية الكسب وأنها موجودة ولكن لا تأثير لها، قال فمن قال هذا: (فَقَدْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ) في إثبات الأسباب وتأثير الأسباب سواءً كانت كونية أو كانت شرعية، (وَأَنْكَرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِنْكَارِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ الَّتِي يَفْعَلُ الْحَيَوَانُ بِهَا مِثْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ)، فهم خالفوا الشرع وخالفوا أيضًا العقل، ولهذا يقال: إنكار الأسباب أن تكون أسباباً قدح في العقل والشرع.
هذه الفئة الأولى الذين أنكروا الأسباب أو شابههم من قال بالكسب، أن الأسباب موجودة ولكنها غير مؤثرة، قال فيمن خالفهم.
{قال -رحمه الله-: (كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمُبْدِعَةَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَأَضَافَ فِعْلَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ فِي حُصُولِ مُسَبِّبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ شَيْءٍ إذَا شَاءَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أَيْ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ وَلِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - كَانَ جَاهِلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدٌ صَدَرَ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ - لَا وَاحِدَ وَلَا اثْنَانِ - إلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ، فَالنَّارُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا حَرَارَةً لَا يَحْصُلُ الْإِحْرَاقُ إلَّا بِهَا وَبِمَحَلِّ يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ؛ فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى السمندل وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ تُحْرِقْهُمَا، وَقَدْ يُطْلَى الْجِسْمُ بِمَا يَمْنَعُ إحْرَاقَهُ وَالشَّمْسُ الَّتِي يَكُونُ عَنْهَا الشُّعَاعُ لَا بُدَّ مِنْ جِسْمٍ يَقْبَلُ انْعِكَاسَ الشُّعَاعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَصَلَ حَاجِزٌ مِنْ سَحَابٍ أَوْ سَقْفٍ: لَمْ يَحْصُلْ الشُّعَاعُ تَحْتَهُ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
لما رد على الذين ينكرون وجود الأسباب وتأثير الأسباب التي جعلها الله -عز وجل- أسباباً كونية أو شرعية، جاء إلى الصنف الآخر الذين جعلوا الأسباب مؤثرة بذاتها، جعلها هي المبدعة، قال: (كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمُبْدِعَةَ) أي مؤثرة بذاتها، (لِذَلِكَ فَقَدْ أَشْرَكَ) ولهذا الاعتماد على الأسباب هو شرك في التوحيد، مذهب أهل الحق أن الأسباب موجودة مؤثرة ولكن بقدرة الله، فيأخذون بها مع اعتقادهم بأن الله -تبارك وتعالى- إن شاء جعل فيها التأثير وإن لم يشأ لم يجعل فيها التأثير، ولهذا قد تتخلف الأسباب وقد تتخلف السنن يعني بقدرة الله -تبارك وتعالى-، فمذهب أهل الحق أن الأسباب مؤثرة ولكن بمشيئة الله، هؤلاء قالوا مؤثرة بذاتها، فنسبوا الأفعال إلى الأسباب، ثم رد عليهم، (وَأَضَافَ فِعْلَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ فِي حُصُولِ مُسَبِّبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ شَيْءٍ إذَا شَاءَ إلَّا اللَّهُ).
ثم رد على شبهة هؤلاء الذين قالوا: (إنَّ اللَّهَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ)، قال: من قال ذلك فهو جاهل، طبعًا هذه مقولة الفلاسفة المنتسبين للإسلام كابن سيناء، ثم رد عليهم بأن الأسباب أحيانًا تأثير الأسباب قد يتخلف بقدرة الله.
ذكر مثالا، يقول بالنار إذا وقعت على السمندل، السمندل هو نوع من أنواع الطيور لا تؤثر فيه النار، والياقوت وهو معروف لا تؤثر فيه النار بالإحراق.
فالشاهد هذا: أن الأسباب أحيانًا والسنن قد تتخلف بقدرة الله -تبارك وتعالى-، فالأسباب موجودة مؤثرة ولكن بقدرة الله -تبارك وتعالى-، قال: (وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ).
وسيكمل -إن شاء الله- الجواب عن الإشكالية التي حصلت فيمن ضل في هذا الباب وتأثير الأسباب في نتائجها.
أسأل الله للجميع التوفيق والعلم النافع والعمل الصالح.
{اللهم أمين، شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين، وإياكم والإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك