الدرس الثاني عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2007 22
الدرس الثاني عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والمستمعين والمستمعات والطلاب والطالبات في برنامج البناء العلمي، وفي هذا الدرس الثاني عشر في شرح الرسالة التدمرية، التي هي في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع، وهو من الكتب النفيسة المهمة لطالب العلم في تحقيق هاتين المسألتين العقديتين المهمتين.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ نَظِيرًا لِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ؟ فَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامً﴾ ؟ فَهَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي؛ فَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وَهُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَقَالَ: ﴿لِمَا خَلَقْتُ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿بِيَدَيَّ﴾ )}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من صلى وسلم عليه، اللَّهمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أما بعد.
فلا يزال الحديث موصولاً في بيان معنى القاعدة الثالثة: وهي قول المصنف -رحمه الله-: إذا قال قائل: هل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها غير مراد؟
فالجواب على التفصيل، يقال: ماذا تريد بالظاهر، إن أراد الظاهر الذي أراده الله وأراده رسوله -صلى الله عليه وسلم- فنقول نعم، هو مراده على مراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإن فهم من ظاهر النصوص التمثيل فنقول: لا، ليس هذا ظاهر النص وليس هذا هو المراد من النص، وإنما أنت تدعي بسبب سوء الفهم أن هذا ظاهر النص، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: من جعلوا هذا هو ظاهر النص، التشبيه والتمثيل فإنهم يغلطون من وجهين:
الوجه الأول الذي هو سبب الغلط عندهم ومنشأ الانحراف عندهم، يجعلون المعنى الفاسد الذي هو التشبيه هو ظاهر اللفظ حتى يضطرون إلى التأويل الذي هو التحريف.
ثانيًا: أن المعنى الحق الذي هو ظاهر النص ردوه، ردوا صفات الخالق -عز وجل- بزعمهم أن إثبات الصفات يلزم منه معاني باطلة لاعتقادهم أن إثبات الصفات يلزم منه مشابهة الخالق بالمخلوق، فوقعوا في هذين الخطأين المنهجين، وهذا هو سبب الضلال والانحراف عندهم.
ثم أضاف السبب الثالث هنا، ما سبب الضلال ومنشأ الضلال عند هؤلاء المعطلة سواءً كانوا مشبهة أو كانوا محرفة أو كانوا مفوضة بدرجاتهم المختلفة.
السبب الثالث: أنهم جعلوا بعض النصوص التي لا تدل على الصفات هي نظير النصوص التي تدل على الصفات، فجعلوا هذا نظير هذا مع أنه قياسهم مع الفارق، مثل ما وقعوا سابقًا، جعلوا الصفات في حال التقييد والإضافة والتخصيص مثل اللفظ المطلق، وهذا لا شك أنه غلط فادح.
أيضًا تلاحظ من أسباب الضلال عند هؤلاء والخلل المنهجي: الخلط، مثال: الله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات: 47]، يعني بقوةٍ، فجعلوا هذه الآية مثل: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ، فجعلوا الشيء الذي ليس من نظير الشيء جعلوه من نظيره، مثال مما يلبس به المعطلة على بعض المسلمين في رد أقوال السلف، يأتون إلى قوله -تبارك وتعالى-: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [القلم: 42]، هنا غير مُضافة للرب، فإذا فسرها من فسرها من السلف بأن المراد بالساق الشِّدَّة، قال: إذاً السلف يؤولون، السلف يفوضون، نقول: هذا ليس دلالة الآية؛ لأن الساق هنا لم تضف إلى الخالق، ثم يأتون إلى هذا الفهم الخاطئ ثم يجعلونه قاعدة في إثبات أن السلف يؤولون نصوص الصفات، وهكذا يقيسون الشيء على غير نظيره.
المصنف -رحمه الله- يُبَيِّنُ سبب الضلال، ولهذا لَمَّا تقرأ في كتب هؤلاء المعطلة في بيان الاستدلالات تجد أنها استدلالات غير صحيحة، يعني في معايير البحث العلمي اليوم والمنهجية العلمية يقال إن هذا خطأ علمي وخطأ منهجي لا يصح؛ لأنك تقيس الشيء على غير نظيره، ولهذا يقول: : (وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَ) هنا يقصد منشأ الضلال ومنشأ الغلط، أيضًا كأنه يشير إلى سبب ثالث: (وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ نَظِيرًا لِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ) فيبطل النصوص المحكمة بسبب لفظ متشابه عندهم، ولكنه عند الراسخين ليس بمتشابه، فمثلاً عند الراسخين الآيات التي فيها إثبات صفات ليست مضافة إلى الله، إنها ليست كالآيات التي فيها إثبات صفات مضاف إلى الله.
ثم مثل، كيف يجعلون الشيء نظيرا لما ليس مثله، قال: (كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ) هنا مضافة إلى الله، بمعنى أن الله -عز وجل- خص آدم بأنه خلق بيديه، ولهذا الناس في يوم القيامة في طلب الشفاعة يأتون فيطلبون الشفاعة من آدم، فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيه من روحه، فلو كانت اليد ليست هي صفة اليد المعروفة التي تليق بالرب -تبارك وتعالى- بل هي النعمة، فهل يكون لآدم خصوصية؟ أبدًا، لا خصوصية لآدم، سيقال: إذا فسرتم اليد بالقوة فما وجه الخصوصية لآدم؟ الله قد خلق كل المخلوقات بقدرته وقوته، ما وجه التخصيص لآدم؟ فدل على أن تخصيص آدم بالخلق بيديه خصوصية خاصة لآدم وإذا فسرت اليد بالقوة فلا خصوصية لآدم.
جعلوا هذه الآية التي فيها خصوصية لآدم أن الله خلقه بيديه مثل قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامً﴾ ، فجعلوا هذه نظير هذه وليس كذلك.
ثم أجاب، لماذا هذه الآية ليست نظير هذه الآية؟
قال: (فَهَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَ) من وجهين، الوجه الأول: لأنه أضاف الفعل إلى الأيدي، (فَصَارَ تشَبِيهًا بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وَهُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَقَالَ: ﴿لِمَا خَلَقْتُ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿بِيَدَيَّ﴾ ).
ثم الوجه الثاني قال: (وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ هُنَا ذَكَرَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَفِي الْيَدَيْنِ ذَكَرَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ ، وَهُنَا أَضَافَ الْأَيْدِيَ إلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَ﴾ . وَهَذَا فِي الْجَمْعِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ فِي الْمُفْرَدِ)، ثم قال:
{قال -رحمه الله-: (فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ نَفْسَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينً﴾ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَلَا يَذْكُرُ نَفْسَهُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ قَطُّ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ تَقْتَضِي التَّعْظِيمَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ؛ وَرُبَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَأَمَّا صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فَتَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ)}.
وهذا أيضًا مما يُبَيِّنُ هذه الآية ليست مثل هذه الآية، هذه الآية بل إن الله -تبارك وتعالى- إذا قال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ هل تثنى النعمة؟ لا يمكن أن تثنى، ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ لا يمكن أن تحمل على النعمة، فدل على أنه مثل هذه الآيات لا تحمل على الآية الأخرى لأنها ليست من نظيره.
{قال -رحمه الله-: (فَلَوْ قَالَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ لَمَا كَانَ كَقَوْلِهِ: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَ﴾ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ وَلَوْ قَالَ خَلَقْت بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لَكَانَ مُفَارِقًا لَهُ؛ فَكَيْفَ إذَا قَالَ خَلَقْت بِيَدَيَّ؟ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ هَذَا مَعَ دَلَالَاتِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ: «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ: الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّو» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ)}.
يعني هو يذكرك أن الأحاديث أيضًا تبين معنى هذه الصفة، وهي إثبات صفة اليدين لله -تبارك وتعالى-، وهذا من تفسير القرآن بالسنة، قال: (هَذَا مَعَ دَلَالَاتِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ) في إثبات صفة اليدين للرب -تبارك وتعالى-، فيدل على أنها ليس المراد بها النعمة، لأن النعمة لا تثنى.
قال وأيضًا دليل ثالث: (وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ) على إثبات صفة اليدين، قال: لدينا أدلة الكتاب على إثبات صفة اليدين وأدلة السنة على إثبات صفة اليدين وإجماع السلف على إثبات صفة اليدين، مما يدل على أنها ليست هي النعمة التي أدعها هؤلاء، (عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ) أي في كتب العقائد المسند والمطولة.
ثم ذكر من أمثلة ذلك حديث عبد الله بن عمرو «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» طبعًا السلف فسروا معنى كلتا يديه يمين إثبات صفة اليدين وأن اليد الأخرى هي في الفضل والكرم والعطاء كاليمين، بمعنى لو وصفت اليد الأخرى بالشمال أو بأي وصف آخر مما جاء في الأحاديث، فهي ليست ناقصة كحال المخلوق بل هي في الفضل والكرم والعطاء كاليمين، والمقصود هو إثبات صفة اليدين لله -تبارك وتعالى.
ثم عاد مرة أخرى للتفصيل الذي ذكره في أول القاعدة، لأنه ماذا قال في أول القاعدة؟ في أول القاعدة قال: (إذَا قَالَ الْقَائِلُ: ظَاهِرُ النُّصُوصِ مُرَادٌ أَوْ ظَاهِرُهَا لَيْسَ بِمُرَادِ) فيجاب بالتفصيل، (فيُقَالُ: لَفْظُ الظَّاهِرِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ) هذا هو الاحتمال الأول.
الاحتمال الثاني جاء هنا، قال:
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَ النُّصُوصِ الْمُتَنَازَعِ فِي مَعْنَاهَا مِنْ جِنْسِ ظَاهِرِ النُّصُوصِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهَا - وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْجَمِيعِ - فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُرَادٌ: كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ كَعِلْمِنَا وَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِنَ)}.
وهذا الحقيقة فيه نوع من الذكاء والدهاء عند ابن تيمية، فهو يلزم المخالفين بهذه الإلزامات، لاحظ الذين قالوا: إن ظواهر النصوص غير مراده، يعني على سبيل المثال: المعطلة التعطيل الجزئي والذين أثبتوا سبع صفات وتأولوا بقية الصفات،
مثال الأشاعرة والماتريدية، يقال لهم: أنتم أثبتم الصفات السبع التي تسمونها صفات معنوية، وتقولون: إن العقل دل عليها ولم يدل على غيرها، يقال لهم: في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، هل هو على ظاهره أو ليس على ظاهره؟ ماذا يقول الأشعري والماتريدي؟ ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ يقول: هذا على ظاهره، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ﴾ [الفرقان: 58]، يقول: على ظاهره، وهكذا فيما يتعلق ببقية الصفات سيكون على ظاهره، إذا جيء مثلاً لآيات المحبة وآيات الرضا وآيات المجيء الصفات الاختيارية ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ، "ينزل ربنا"، نقول للأشعري والماتريدي: هذه الآيات على ظاهرها أو ليست على ظاهرها؟ يقول: ليست على ظاهرها، نقول: سبحان الله، كيف آيات الصفات المعنوية على ظاهرها وآيات الصفات الاختيارية ليست على ظاهرها؟ تناقض أو ليس بتناقض؟ تناقض، فإن قال: لا هذه سيلزم منها التشبيه، سيقال لك: وكذلك في الصفات المعنوية، فإن قال: لا الصفات المعنوية نثبتها على الوجه الذي يليق بالرب، يقال: وكذلك الصفات الأخرى، فهو يستخدم مثل هذا الدليل الذي يدل على تناقض المعطلة، بل بقية هؤلاء الذين يثبتون الوجود ويثبتون الذات، سيقال لهم: هل وجوده كوجود المخلوق؟ لا، هل ذاته كذات المخلوق؟ يقول: لا، نقول: وهكذا بقية الصفات، فعدنا إلى القواعد والأصول السابقة، القول في الصفات كالقول في البعض، والقول في الصفات كالقول في الأسماء، مما يبين منشأ الضلال عند هؤلاء المعطلة.
وأن هؤلاء المعطلة إذا لمزوا أهل السنة بالمشبهة والمجسمة، يقول: أنتم كذلك، فيقال لهم: أنتم مشبهة ومجسمة، يقول: كيف؟ نقول: من الذي يثبت أن الله حي؟ ومن يثبت أن الله سميع بصير؟ ومن الذي يثبت أن الله موجود؟ أنتم تثبتونه، فيلزمكم أن تكونوا مشبهة مجسمة، يقولون: لا معاذ الله نحن نثبت ذلك على الوجه الذي يليق بالرب، نقول: وهذا هو مذهب أهل السنة في بقية الصفات، فلاحظ هذا الذكاء عند ابن تيمية، ولذلك أنا قلت: مثل هذا الكتاب مُهم لطلاب العلم خاصة بعد كثرة من يثير هذه الشبه للأسف في الكتب وفي مواقع الانترنت وغيرها وربما يلبس على بعض المسلمين ويوهم عليهم وهو نفسه يقع فيما فر منه.
يقول هنا: (وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَ النُّصُوصِ الْمُتَنَازَعِ فِي مَعْنَاهَ) وهي نصوص الصفات التي نفاها والصفات الاختيارية وصفات الأفعال، وابن تيمية يسميها الصفات السمعية، (مِنْ جِنْسِ ظَاهِرِ النُّصُوصِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهَ) وهي الصفات السبع (وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْجَمِيعِ) لا فرق، (فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) صفة العليم، (وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) صفة القدرة، (وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ) قاطبة (عَلَى أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ) الظاهر الذي يليق بالرب -تبارك وتعالى، ولهذا نقلب عليهم الدليل، نقول: هل ظاهر هذه النصوص والصفات السبع مراد أو غير مراد؟ فإذا قالوا: مراد سيقلب عليه الدليل، (وَأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُرَادٌ: كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ كَعِلْمِنَا وَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِنَ) بلا شك.
ثم قال: (وَكَذَلِكَ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ) صفة الحياة (عَالِمٌ حَقِيقَةً قَادِرٌ حَقِيقَةً) الصفات السبع المعنوية (لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) فيلزمهم في بقية الصفات، وأظن أن هذا ظاهر للعقلاء وظاهر لكل مسلم وظاهر لكل من يبحث عن الحق إلا المجادل والمكابر.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً عَالِمٌ حَقِيقَةً قَادِرٌ حَقِيقَةً؛ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) بالاتفاق، لعله ينطلق من القاعدة المتفق عليها، بالاتفاق عند جميع مثبتة الصفات السبع، (فَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ اسْتِوَاءً كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ وَلَا حُبًّا كَحُبِّهِ وَلَا رِضًا كَرِضَاهُ)}.
لو كابر وقال لا هذه المحبة والرضا والاستواء نقول: كذلك الصفات السبع، فهو يجيب بهذا الجواب العقلي الذي هو إلزام وقلب الدليل، ولاحظ مذهب السلف مذهب مستقيم، مذهب محكم، مذهب هؤلاء مذهب متناقض.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَظُنُّ أَنَّ ظَاهِرَ الصِّفَاتِ تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ مُرَادًا وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا مَا يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَيَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُ هَذَا الظَّاهِرِ وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ؛ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا السَّمْعِ مَا يَنْفِي هَذَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَنْفِي بِهِ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدً)}.
ولاحظ أن الجواب يرد به سواءً على المشبه أو يرد به على المعطل، وكذلك نفس الجواب لجميع معطلة الصفات تعطيلًا كلياً أو جزئيا، ولاحظ قوله: (وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا السَّمْعِ) فأهل السنة يستدلون بأدلة الشرع وأدلة العقل، لأنه لا تعارض بينها، ثم قال في تفصيل الجواب على المعطلة التعطيل جزئي الذين يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر، يقول: (وَبَيَانُ هَذَ) وبيان هذا أيضًا على جهة التفصيل.
{قال -رحمه الله-: (وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ صِفَاتِنَا مِنْهَا مَا هِيَ أَعْيَانٌ وَأَجْسَامٌ وَهِيَ أَبْعَاضٌ لَنَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ: وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعَانٍ وَأَعْرَاضٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِنَا: كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ)}.
أنواع الصفات منها ما هي أعيان، ومنها أجسام التي مثل: الوجه واليدين، ومنها أعيان لا تقوم بنفسها، قال: (وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعَانٍ وَأَعْرَاضٌ) التي هم يسمونها الصفات المعنوية، فهم يثبتون النوع الثاني (وَهِيَ قَائِمَةٌ بِنَ) لاحظ مثل الصفات السبع، (كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ)، هم أثبتوا هذه الصفات ولكن نفوا النوع الأول التي أعيان وأجسام، وهذه أنواع الصفات ولهذا الصفات تنقسم إلى صفات منفية، صفات ثبوتية، صفات فعلية، صفات ذاتية، وصفات يدل عليها السمع والعقل وصفات دليلها السمع.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ إنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبَّ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ: لَمْ يَقُلْ الْمُسْلِمُونَ إنَّ ظَاهِرَ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مِثْلُ مَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا؛ فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَمَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا بَلْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ تُنَاسِبُهُ)}.
لَمَّا وصف الرب نفسه في كتابه ووصفه رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كتابه جميع الصفات الفعلية والذاتية والمعنوية وغيرها لم يقل أحد من المسلمين إن ظاهر هذا غير مراد، لا يوجد، الصحابة والقرون الفاضلة هل وجد أحد منهم اعترض؟ لا يوجد، لماذا؟ لأن مفهوم ذلك في حقه مثل المفهوم في حقه، لم يقل أحد هذا، اعترضوا بمعنى أنهم قالوا: يلزم منه التشبيه، لم يعترض أحد لأنهم أهل لغة، ولم يقل أحد أن هذا من سلف الأمة، من أين إذاً جاء هذا الفهم الخاطئ؟ جاء هذا عند المتأخرين الحيارى التائهين.
قال: (فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ) كما يدعي هؤلاء، أنه يلزم منه التمثيل (لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَمَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَ) كما توهموا (بَلْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ تُنَاسِبُهُ) حال التقييد والتخصيص والإضافة، يبين أن هذا بإجماع المسلمين، لم يفهموا هذا الفهم الخاطئ الذي وقع لهؤلاء المتأخرين.
{قال -رحمه الله-: (فَإِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ)}، القول في الصفات كالقول في الذات، عاد إلى تأكيد الأصل الثاني، القول في الصفات كالقول في الذات.
{(وَنِسْبَةُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ الْخَالِقِ إلَيْهِ وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ وَلَا الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ كَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ)} في حال التخصيص والتقييد والإضافة مثل ما تقدم في الأمثلة، {(كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ)}.
وهنا شبه الرؤية بالرؤية بمعنى رؤية حقيقية ولكن المرئي الذي هو الرب ليس كالمرئي الذي هو القمر، هو تحقيق في إثبات الرؤية ولا يلزم منه التشبيه والتمثيل لأن الله ليس كمثله شيء، هذا ما يتعلق بالقاعدة الثالثة في الجواب عن السؤال: هل ظاهر النص مراد أو غير مراد؟ فبين فيه في الجواب أنه يحتاج إلى تفصيل، طبعًا المتكلمون لما يوردونه بهذا الإيراد لأجل الإيهام واللبس وإدخال المعاني الباطلة والمنهجيات الخاطئة التي يضلون بها من يضلون من المسلمين في هذا الباب العظيم من أبواب الدين المتعلق بالخالق -عز وجل.
ثم انتقل إلى القاعدة الرابعة، قال:
{قال -رحمه الله-: (وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا؛ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ كُلِّهَا أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ فَيَقَعُ فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَحَاذِيرِ)}.
وهذه القاعدة مرتبطة بالقاعدة السابقة، لماذا قال: (وَهَذَا يَتَبَيَّنُ) يعني هذا التفصيل في الجواب هل الظاهر النص مراد أو غير مراد، يتبين بالقاعدة التي تليها وهذا من حسن التصنيف، وهو أن يكون المفصل مرتبط بالذي قبله، الباب مرتبط بالذي قبله، ولذلك تجد أهل العلم إذا أرادوا شرح الكتب يبينون صلة هذا الباب بالباب الذي قبله، ولذلك المصنف -رحمه الله- لاحظ كيف سلسل هذه القواعد، فجعل هذه القاعدة مرتبطة بالتي قبلها، فمن فهم القاعدة التي قبلها فهم هذه القاعدة، وهذه القاعدة هي مزيد توضيح للقاعدة السابقة.
يقول: (وَهَذَ) ما سبق تقريره من بيان، هل ظاهر النص مراد أو غير مراد؟ ولوازم من يتوهم أن ظاهر النص يلزم منه التشبيه، يقول: (أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ) لاحظ كثير لكثرة من وقع في التعطيل، (يَتَوَهَّمُ) فهم خاطئ، اعتقاد خاطئ، (فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ) وهم الذين يسمون بالصفاتية، يثبتون سبع صفات أو ثمان وينفون الباقي، (أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَ) هذا صنف ثاني، (أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ كُلِّهَ) من الذين نفوا جميع الصفات؟
المعتزلة، والذين نفوا الأسماء والصفات الجهمية، ولما تنظر في شبهة هؤلاء جميعًا التعطيل الكلي والجزئي ستجد الشبهة واحدة والجواب عليهم واحد.
ما هي شبهتهم؟ (أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ) ولهذا قالوا: إنه مراد أو غير مراد، هذه الشبهة التي وقعت بين هؤلاء، ثم يريد الفرار من هذا الفهم الخاطئ، يريد الفرار الذي فهمه فيقع في محاذير، بل يقع فيما هو أسوء ممن فر منه، كالمستجير بالرمضاء من النار، فيقول هذا الذي فهم هذا الفهم في بعض الصفات أو في أكثرها أو في كثير منها أو في كلها يتوهم أن ظاهر الصفات يلزم منه التمثيل، فيريد الفرار من هذا الفهم الخاطئ، فيقع في محاذير، ما المحاذير؟ ذكر أربعة محاذير ويمكن أن تضاف محاذير أخرى ولوازم أخرى، قال بهذه المحاذير التي تلزم من يزعم أن ظاهر النصوص يلزم منه التمثيل فيريد الفرار من هذا الفهم، قال في المحذور الأول.
{قال -رحمه الله-: (أَحَدُهَا كَوْنُهُ مَثْلَ مَا فَهِمَهُ مِنْ النُّصُوصِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَظَنَّ أَنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هُوَ التَّمْثِيلُ)
هذا هو المنشأ الضلال الأول، أنه توهم واعتقد أن ظواهر النصوص يلزم منه التمثيل، فجاء إلى قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ما الفهم الخاطئ الذي فهمه؟ مجيء كمجيء المخلوق، فهو أولاً وقبل كل شيء منشأ الضلال والخطأ أنه فهم من ظواهر النصوص أنها تقتضي التمثيل، فمثل أولاً، هذا هو الفهم الخاطئ، ولم يفهم أنها صفات تليق بالرب، بل فهم من ظواهرها التمثيل فوقع في منشأ الضلال والغلط الأول فهم من ظواهر النصوص التمثيل.
ثانيًا: أراد الفرار، ولهذا هو يحاكم الناس إلى هذا الفهم الخاطئ، فأراد الفرار فماذا وقع؟ في مشكلة ثانية.
{قال -رحمه الله-: (الثَّانِي أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ بَقِيَتْ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ. فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ؛ وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ - حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمَا هُوَ التَّمْثِيلُ الْبَاطِلُ - قَدْ عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي كَلَامِهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى)}.
هذا هو المحذور الثاني، إذا قال بأن مثلاً ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ظاهر النص يلزم منه التمثيل، لأنه بزعمه لا يفهم مجيء إلا مجيء المخلوق، أراد الفرار فنفى صفة المجيء، هنا هل هذا النص بقي له دلالة أو لا دلالة له؟ لا دلالة له، "ينزل ربنا" فأراد أن ينفي صفة النزول فنفى النص عن معناه، فيكون مثل بفهمه ثم عطل النصوص عن دلالاتها ومدلولاتها.
قال: (أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ) أي: التمثيل (هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ) فوقع في التعطيل النصي (بَقِيَتْ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً) ولهذا هم يزعمون أن السلف فوضوها لا معنى لها، معطلة، كما عطل (عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ. فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ؛ وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاَللَّهِ) وهو فهم من التمثيل، (حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمَا هُوَ التَّمْثِيلُ الْبَاطِلُ - قَدْ عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي كَلَامِهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى)، فعطل النصوص عن معناها، ولهذا هو يقول: السلف مفوضة لا يفهمون المعاني، معناه لا تتدبر القرآن، معاني لا تفهم، فهذه الجناية الثانية: تعطيل النصوص عن دلالتها.
ثالثًا الكارثة الأخرى التي وقع فيها.
{قال -رحمه الله-: (الثَّالِثُ أَنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ)}.
هذه محذور ثالث، يقال له: هل الرب يجيء؟ هل الرب ينزل؟ هل الرب له يدان؟ هل الرب يحب؟ يقول: لا، فوقع في تعطيل الرب عن الصفات، طبعًا الأول تعطيل دلالات النص، والثاني تعطيل الرب عن صفات الكمال، هذا هو المحذور الثالث.
المحذور الرابع
{قال -رحمه الله-: (الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِ الْأَمْوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ أَوْ صِفَاتِ الْمَعْدُومَاتِ فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ بِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ. فَيُجْمَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ يَكُونُ مُلْحِدًا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ)}.
المحذور الرابع: أنه وقع في تمثيل أسوء، لاحظ هو فرَّ من تمثيله بالمخلوقات، فعطل النص عن مدلوله، ثم عطل صفة الرب، ثم مثله بجمادات أو معدومات أو مستحيلات، ولذلك كل ما ألزم بإلزام وقع فيما هو أسوء منه، فالذي قال بنفى جميع الصفات وأثبت الأسماء كالمعتزلة، فهو شبه الرب بالجمادات، والذي نفى الأسماء والصفات شبهه بالمعدومات، والذي نفى النفي والإثبات شبهه بالممتنعات، ولذلك يقال: كل ممثل معطل، وكل معطل ممثل، لماذا؟ لأن المعطل مثَّل أولاً بالفهم الخاطئ، ثم عطَّل النص، ثم عطَّل الصفة، ثم مثل الخالق بأسوء مما فر منه، فيقال: أنت فررت من تشبيهه بالمخلوقات الحية فشبهته بالجمادات أو شبهته بالممتنعات أو شبهته بالمستحيلات، فمثل أولاً، فعطل النص، ثم عطل الصفة، ثم مثل أيضًا الخالق بما هو أسوء مما فر منه.
(فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ) لاحظ يقول عبارة: (قَدْ عَطَّلَ بِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ) لأن الذي يقبل الصفات أسوء من الذي ما يقبلها أصلاً، (وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ) ولهذا قال في ظاهر النصوص غير المراد، (فَيُجْمَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ يَكُونُ مُلْحِدًا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ) لأن الإلحاد أنواع، ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180].
الإلحاد في الأسماء؛ لأنه مَثَّلَ وَعَطَّلَ، والإلحاد في الآيات تحريفٌ أو جعلها لا دلالة لها على المعاني، ثم ذكر مثال لهذا.
{قال -رحمه الله-: (مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا دَلَّتْ عَلَى وَصْفِ الْإِلَهِ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ - فَأَمَّا عُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلسَّمْعِ؛ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ السَّمْعُ. وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَهُ وَلَا مُدَاخِلَهُ)}.
35:27 الى 37:52
هنا لاحظوا المصنف -رحمه الله- ذكر مثالين مشهورين فيما يتعلق بتحريف صفة الاستواء وتحريف صفة العلو وهي مشتهرة عند المتكلمين، ما الذي يلزم من عطل صفة الاستواء التي أثبتها الله لنفسه في كتابه في سبعة مواضع؟ ما الذي يلزم من عطل صفة الاستواء؟ لاحظ الذين قالوا إن استوى على العرش بمعنى استولى عطلوا صفة الاستواء التي تليق بالرب والتي فسرها الرب بمعنى علا وارتفع وصعد واستقر، فحرفوها إلى معنى آخر، ما الذي يلزم عليهم اللوازم؟
أولاً نقول: أنتم فهمتم من ظواهر النصوص الاستواء أنها تلزم التشبيه، وهذا فهم خاطئ، فالكيف مجهول، فوقعتم في التالي:
أولا في التمثيل بالفهم الخاطئ.
ثانيًا: أنكم عطلتم النص عن ظاهره، فنفيتم صفة الاستواء التي تليق بالرب.
ثالثًا: أنكم عطلتم الصفة التي تليق بالرب، شبهوا فعطلوا النص عن مدلوله، ثم أنهم عطلوا صفة الاستواء التي تليق بالرب التي ينفونها، ثم أيضًا وقعوا فيما هو أسوء، ما الذي يلزم من يقول بأن الاستواء بمعنى الاستيلاء؟
نقول: يلزم على قولكم هذا إذا فسرتم آيات الاستواء بالاستيلاء الذي يعني له الغلبة والملك، يلزم منه أنه كان مغلوبًا فغلب، ولهذا يذكر من الطرائف أن أحد المتكلمين كان يفسر آيات الاستواء في المسجد وسمعه أحد الصبيان وهو يلعب في الشارع وهو يفسر استوى بمعنى استولى، فانتبه هذا الصبي لأنه كان ذكيًا، ففتح النافذة وقال: يا أستاذ عندي سؤال، أنت تقول: استوى بمعنى استولى، يعني كان مغلوبًا فغلب، من الذي كان مستولي على العرش قبل الله؟ فتنبهوا الطلاب وهم يستمعون، فقالوا: نعم إنه سؤال صحيح صريح مريح، هل عنده جواب؟ لا يتكلم.
فإذا قال استوى بمعنى استولى، يلزم منه أنه كان مغلوبًا فغلب، إذا قلنا إنه استوى بمعنى استولى هل للعرش خصوصية؟ لا خصوصية للعرش، ثم أيضًا هل يصح أن يقال: -عياذاً بالله- الرحمن على الأرض استوى، على معناهم إذا كان مستولي على العرش فهو مستولي على الأرض، وهذا لا يليق بالرب -تبارك وتعالى- أن تصفه بأنه استولى على الأرض، فهذا يدل على أن هذه اللوازم الباطلة تدل على هذا التفسير الباطل، وهكذا العلو إذا نفى العلو ما الذي يلزم عليه من لوازم؟ أولاً جميع الآيات التي تثبت العلو والفوقية وصعود الأشياء وإليه وعروجها ونزولها تصبح كلها لا دلالة لها أو تحتاج إلى تأويل.
ثانيًا: إذا نفى العلو، ماذا سيلزمه؟ سيقول: إنه داخل المخلوقات وهذا قول أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، سيقول: لا معاذ الله، سيفر من قول أهل وحدة الوجود فيقول: هو لا داخل العالم ولا خارجه، فنقول: هذا أسوء، الذي لا داخل العالم ولا خارجه، هذا معدوم، سيقول: الخالق ما يقبل هذه الصفات السلب والإيجاب، نقول: إذا لا يقبلها فالذي يقبلها أسوء من الذي لا يقبلها، يعني هذا مستحيل وخاصة ما يتعلق بالوجود، هل الخالق موجود أو ليس موجود؟ فلاحظ هو يفر من شيء فيقع فيما هو أسوء منه، فهذه هي المحاذير واللوازم الباطلة التي تلزم معطلة الصفات.
ثم ذكر مثالاً فيما يتعلق: ما الذي يلزم نفاة الاستواء ونفاة العلو من اللوازم، لعلنا نقرأها وهي ظاهرة وواضحة، من الذي يتوهم من ينفي الاستواء وينفي العلو، فيقول.
{قال -رحمه الله-: (فَيَظُنُّ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ إذَا وُصِفَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ: كَانَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ فَيَتَخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْمُسْتَوِي عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ فَلَوْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ لَسَقَطَ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا وَلَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ لَخَرَّ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا. فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْعَرْشُ لَسَقَطَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْفِيَ هَذَا فَيَقُولَ: لَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ بِقُعُودِ وَلَا اسْتِقْرَارٍ)}.
وهذا منشأ الضلال، لأنه فهم استواء كاستواء المخلوق، ولو أنه فهم استواء يليق بالرب لانتهى الإشكال، فهذا هو منشأ الضلال الأول، أنه مثل بالخالق فأراد أن يبني عليه قواعد ولوازم.
{قال -رحمه الله-: (وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ مُسَمَّى الْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ يُقَالُ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَلَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوِيًا وَلَا مُسْتَقِرًّا وَلَا قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ إلَّا مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا وَنَفْيُ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْقُعُودِ فُرُوقًا مَعْرُوفَةً. وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ خَطَأُ مَنْ يَنْفِي الشَّيْءَ مَعَ إثْبَاتِ نَظِيرِهِ)}.
يعني الخطأ المنهجي، إذا فسر الصفة بصفة أخرى، فيقال: ما تقوله في الصفة المنفية هو مثل ما تقوله في الصفة المثبتة، فهو يبين الخطأ المنهجي الذي يقع فيه هؤلاء، فيلزمهم هذه اللوازم، فيقول: ما أثبتوه يلزمك فيه لوازم ما نفيت.
{قال -رحمه الله-: (وَكَأَنَّ هَذَا الْخَطَأَ مِنْ خَطَئِهِ فِي مَفْهُومِ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَالْفُلْكِ)}، يعني نقض الخطأ المنهجي عند هؤلاء.
{قال -رحمه الله-: (وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاسْتِوَاءَ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ كَمَا أَضَافَ إلَيْهِ سَائِرَ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ. فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ فَهَدَى وَأَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ وَكَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ يَسْمَعُ وَيَرَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً مُطْلَقًا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَلَا عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْتِوَاءً أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ)}.
والصفة إذا أضيفت للرب أفادت التقييد والاختصاص والإضافة دلت على الاستواء بما يليق بالرب، أي: ليس كاستواء المخلوق، لكنهم جعلوا الصفة في حال التقييد والتخصيص والإضافة مثل الاسم المطلق وهذا منشأ الضلال عندهم.
{قال -رحمه الله-: (فَلَوْ قُدِّرَ - عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ الْمُمْتَنِعِ - أَنَّهُ هُوَ مِثْلُ خَلْقِهِ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - لَكَانَ اسْتِوَاؤُهُ مِثْلَ اسْتِوَاءِ خَلْقِهِ أَمَّا إذَا كَانَ هُوَ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ)}، فيقال مثل ما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
{(بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْعَرْشِ وَلِغَيْرِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ)} لاحظ هو الآن يجيب على شبهتهم من وجوه، وهو منشأ الضلال والخطأ عندهم لما ساووا استواء الخالق باستواء المخلوق، ثم قال: {(وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا اسْتِوَاءً يَخُصُّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ - كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ وَخَلْقِهِ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ - فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الْعَرْشُ لَخَرَّ مَنْ عَلَيْهِ؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرً)}.
ولهذا تجد المعطلة لهذه الصفة يلزمون المثبتون له بهذه اللوازم الباطلة، فيقول: لا تلزمهم أصلاً.
{قال -رحمه الله-: (هَلْ هَذَا إلَّا جَهْلٌ مَحْضٌ وَضَلَالٌ مِمَّنْ فَهِمَ ذَلِكَ وَتَوَهَّمَهُ أَوْ ظَنَّهُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولَهُ أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْغَنِيِّ عَنْ الْخَلْقِ ؟ بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ جَاهِلًا فَهِمَ مِثْلَ هَذَا وَتَوَهَّمَهُ لَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وَأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ أَصْلًا كَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ)}، وهذا ظاهر، تنقض الشبهة من أصلها، نقول: هذا الفهم الخاطئ ليس بصحيح وليس هو ظاهر القرآن ولم يقول به أحد من السلف بل هو ناتج عن قصور في الفهم وقصور في العلم.
قال في الوجه الرابع: {قال -رحمه الله-: (فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ فَهَلْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بِنَاءَهُ مِثْلُ بِنَاءِ الْآدَمِيِّ الْمُحْتَاجِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى زِنْبِيلٍ وَمَجَارِفَ وَضَرْبِ لَبِنٍ وَجَبَلِ طِينٍ وَأَعْوَانٍ؟ ثُمَّ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ عَالِيَهُ مُفْتَقِرًا إلَى سَافِلِهِ فَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ الْأَرْضُ وَالسَّحَابُ أَيْضًا فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ وَالسَّمَوَاتُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إلَى حَمْلِ الْأَرْضِ لَهَا؛ فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ إذَا كَانَ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ: كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى خَلْقِهِ أَوْ عَرْشِهِ؟)} سبحانه، وهذا يدل على المفارقة، {(أَوْ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ عُلُوُّهُ عَلَى خَلْقِهِ هَذَا الِافْتِقَارَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَلْزَمِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ مِنْ الْغِنَى عَنْ غَيْرِهِ فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى)}.
ثم ختم بالمثال الثاني أيضًا وهو قريب، فيه إثبات صفة العلو وأنها تليق بالرب -تبارك وتعالى-، فلا يمكن أن يقال إذا أثبتنا صفة العلو أن شبهناه بالمخلوقات.
{(وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي دَاخِلِ السَّمَوَاتِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كُنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ حَرْفَ فِي مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ - فَهُوَ بِحَسَبِ الْمُضَافِ إلَيْهِ)}، ولهذا يفهم المعنى من السياق، {(وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ وَكَوْنِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَكَوْنِ الْعَرَضِ فِي الْجِسْمِ وَكَوْنِ الْوَجْهِ فِي الْمِرْآةِ وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ خَاصَّةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَرْفُ فِي مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؟ لَقِيلَ فِي السَّمَاءِ وَلَوْ قِيلَ: الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ؟ لَقِيلَ الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ دَاخِلَ السَّمَوَاتِ بَلْ وَلَا الْجَنَّةُ)}، لأن السماء يقصد بها العلو.
{(فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ» فَهَذِهِ الْجَنَّةُ سَقْفُهَا الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ. مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، والسَّمَاءِ يُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ سَوَاءٌ كَانَتْ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ أَوْ تَحْتَهَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورً﴾ وَلَمَّا كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى؛ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ لَمَّا قَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ إنَّمَا أَرَادَتْ الْعُلُوَّ مَعَ عَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَحُلُولِهِ فِيهَا وَإِذَا قِيلَ: الْعُلُوُّ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَمَا فَوْقَهَا كُلَّهَا هُوَ فِي السَّمَاءِ وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَرْفٌ وُجُودِيٌّ يُحِيطُ بِهِ إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ كَمَا لَوْ قِيلَ: الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ)}.
وهذا -بحمد الله- الذي يتبادر إلى أذهان المسلمين أصحاب اللغة السليمة والفطرة السليمة لا يرد عليهم لا تشبيه ولا غير ذلك كما يحصل للمتكلمين لمن تأثروا بشبه المنطق وشبه الفلسفة، بل تلاحظ عموم المسلمين بفطرتهم وبلغتهم وإيمانهم لا ترد عليهم مثل هذه الإيرادات.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ السَّمَاءَ الْمُرَادُ بِهَا الْأَفْلَاكُ: كَانَ الْمُرَادُ إنَّهُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ وَكَمَا قَالَ: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وَكَمَا قَالَ: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي الْجَبَلِ وَفِي السَّطْحِ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْلَى شَيْءٍ فِيهِ)}.
إذاً هو أزال هذا الإشكال بضرب هذه الأمثلة التي تبين هذا المعنى الصحيح، وأن من عطل صفات الخالق -تبارك وتعالى-، فإنه يقع في هذه المحاذير الأربعة وفي غيرها.
نسأل الله -عز وجل- السلامة والعافية، وأن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا من المحققين للإيمان بأسمائه وصفاته على الوجه الذي أراده -عز وجل- في كتابه، وأراده -صلى الله عليه وسلم- في سنته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين وإياكم والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك