الدرس السادس عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس السادس عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والأبناء الطلاب والطالبات في هذا المجلس العلمي السادس عشر في شرح كتاب الرسالة التدمرية، في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر، أسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحب ويرضى ويجعلنا جميعًا هداة مهتدين، وأن يرزقنا الفقه في الدين، نحن ومن نحب من أبنائنا وجميع المسلمين.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّ الشَّيْئَيْنِ لَا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا فِيهِ حُجَجَ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَحُجَجَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِهَ)}.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، ما ترك خيرًا إلا دل أمته عليه، ولا شرًّا إلا حذرها منه -فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أما بعد.
فالحديث لا يزال متصلًا بالقاعدة السادسة والتي ذكر فيها شيخ الإسلام: (أَنَّهُ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ ضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ)، ثم ذكر الضوابط الفاسدة عند المتكلمين وهو أنهم اعتمدوا في نفي الصفات على نفي التشبيه وعلى نفي التجسيم.
انتهى من مناقشتهم في فساد الضابط الأول: وهو الاعتماد في النفي على نفي التشبيه وبيَّن التناقض الذي وقعوا فيه والاضطراب الذي وقعوا فيه وأن هذا الضابط غير سديد وغير منضبط.
ثم انتقل أيضًا إلى الضابط الثاني: وهو دعوى التجسيم، فنفوا الصفات نفياً كلياً أو جزئيًا بدعوة أن من أثبت صفة للخالق فهو مجسم، وهذا يكثر للأسف في كتب هؤلاء، فيلمزون من أثبت صفة للخالق بأنه مجسم، فتبحث عن السبب فتجد الغلط واللغط والبهتان والافتراء الذي يدعيه بأن من أثبت المجيء أو أثبت النزول أو أثبت الصفات التي أثبتها الرب لنفسه وأثبتها أعلم الخلق بربه، يزعمون أن من أثبتها فهو مشبه، أين الإشكال يا عباد الله؟ هل الإشكال في كلام الرب وكلام الرسول وفهمه من الصحابة؟ أو الإشكال في هؤلاء الحيارى التائهين؟ الثاني لا شك.
هل الصحابة أشكلت عليهم آيات الصفات؟ أبدًا.
هل أشكلت عليهم أحاديث الصفات لما أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
هل وجد أحد من سلف الأمة اعترض على صفة من صفات الخالق؟ أبدًا.
فهم ماذا يزعمون انظر، (وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ) أي: المعطلة، الحيارى، التائهين، المتناقضين، المضطربين في مذاهبهم، يقولون: (إنَّ الشَّيْئَيْنِ لَا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ)، هل هذا مسلم؟ الإشكال أنهم يدعون أنَّ هذا علم، ويدعون قواعد مسلمة، ولهذا إذا اعترض عليهم الصغير والعامي، وقعوا في حيرة ولا لا؟ من قال هذا؟
(إنَّ الشَّيْئَيْنِ لَا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ) يعني: لا يشتبهان في مسمى الوجود ويختلفان في حقيقة الوجود، لا يشتبهان في مسمى العلم ويختلفان في حقيقة العلم، فإمَّا أن يكون هذا الوجود وهذا العلم وهذه الحياة وهذا السمع وهذا البصر شيء ما يفهمه أحد، أو يلزم قدر مشترك تفهم به المعاني، هذه الدعوة التي يدعيها هؤلاء المعطلة، الإشكال يزعمون أنهم أصحاب عقول، أن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه، يشتبهان من القدر المشترك ويختلفان في الحقائق، (وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ)، بل قل: كل العقلاء على خلاف هذا الضابط الفاسد.
قال: (وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ) فساد هذه الدعوى من أصلها، (وَبَيَّنَّا فِيهِ حُجَجَ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ) أن الأجسام متماثلة بدعوى هذا، (وَحُجَجَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِهَ)، هذا وجه في الرد عليهم في بيان أن دعوى نفي الصفات بنفي التشبيه ونفي التجسيم طريق فاسد.
{قال -رحمه الله-: (وَأَيْضًا فَالِاعْتِمَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ اعْتِمَادٌ بَاطِلٌ)}، لماذا؟ قد يقول قائل: لماذا الاعتماد على هذا الضابط؟ عاد مرة أخرى ليبين فساد هذا الضابط الأول، ضابط التشبيه الذي زعموه وضابط التجسيم.
(فَالِاعْتِمَادُ) مطلق، لماذا؟ لأنه لفظ محدث، لفظ يحتاج إلى التفصيل، ماذا تقصد بالتشبيه؟ هل تقصد تشبيه القدر المشترك الذي يفهم بالمعنى؟ أو تقصد تشبيه القدر المميز؟ (فَالِاعْتِمَادُ) فقط لوحده (بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ اعْتِمَادٌ بَاطِلٌ) لماذا؟
{قال -رحمه الله-: (وَأَيْضًا فَالِاعْتِمَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ اعْتِمَادٌ بَاطِلٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ تَمَاثُلَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ لَا يَنْفُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْحُجَّةِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْجِسْمَ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمَ وَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْجِسْمِ: كَانَ هَذَا وَحْدَهُ كَافِيًا فِي نَفْيِ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ نَفْيُ ذَلِكَ إلَى نَفْيِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ لَكِنَّ نَفْيَ التَّجْسِيمِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى نَفْيِ هَذَا التَّشْبِيهِ بِأَنْ يُقَالَ: لَوْ ثَبَتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا لَكَانَ جِسْمًا؛ ثُمَّ يُقَالُ: وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهَا فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ. لَكِنْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مُعْتَمِدًا فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ؛ فَيَكُونُ أَصْلُ نَفْيِهِ نَفْيُ الْجِسْمِ وَهَذَا مَسْلَكٌ آخَرُ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ)}.
يُبَيِّنُ فساد هذا الضابط من وجهين، يقول: (فَالِاعْتِمَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ) يعني هذا الضابط على نفي الصفات بنفي التشبيه أنها اعتماد باطل، لماذا؟ يقول: (أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ تَمَاثُلَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ لَا يَنْفُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْحُجَّةِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْجِسْمَ) فيعود بهم إلى مصطلح الجسم، ماذا تقصدون بالجسم؟ وهل تصفون الخالق بالجسم -تعالى الله عن ذلك-، (وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمَ) يعني: هو الآن يعود معهم في أصل الجسم أصلاً، في مصطلح الجسم، (وَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْجِسْمِ: كَانَ هَذَا وَحْدَهُ كَافِيًا فِي نَفْيِ ذَلِكَ)، فإذا نفيتم وصف الخالق بالجسم ما احتجتم إلى هذا الضابط أصلاً؛ لأنه أصلاً منتفعًا من صفة الجسم، فما احتجتم إلى هذا الضابط، فدل على أن هذا الضابط ضعيف وفاسد وغير مفيد، ما احتجتم إليه أصلاً، (لَا يَحْتَاجُ نَفْيُ ذَلِكَ إلَى نَفْيِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ) لأنه أصبح لا حاجة إليه، ما دام أنكم نفيتم مسمى الجسم عن الخالق، وقولتم ليس بجسم، فبالتالي دعوة أن إثبات التشبيه يلزم التجسيم، يقول هذا مسلك غير سديد، ثَمَّ أيضًا (لَكِنَّ نَفْيَ التَّجْسِيمِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى نَفْيِ هَذَا التَّشْبِيهِ) لاحظ يلزم الدور، (بِأَنْ يُقَالَ: لَوْ ثَبَتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا لَكَانَ جِسْمًا؛ ثُمَّ يُقَالُ: وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ) وهذا دعوى أخرى (فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهَ) إذا كانت الأجسام متماثلة، (فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهَا فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ. لَكِنْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مُعْتَمِدًا فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ؛ فَيَكُونُ أَصْلُ نَفْيِهِ نَفْيُ الْجِسْمِ) وبالتالي ولا حاجة إليه أن ينفي التشبيه.
لاحظ المخالف يلزمك بإلزامات غير صحيحة، وهذا للأسف موجود عند كل المخالفين، لما يلزم المخالف له بإلزامات غير صحيحة الإشكال وهو يعتقدها بنفسه مسلمات، يعني: مثل المثال الذي ذكره سابقًا في الحلقة الماضية، لما يلزمك الرافضي أنك إذا أحببت الشيخين فقد عاديت عليًّا، هو عنده أن حب الشيخين يلزم منه النصب لعلي، وهذا ليس بصحيح، فهو يلزمك بإلزامات فاسدة وعنده أن هذه الإلزامات كأنها مسلمات، وهكذا أصحاب الباطل بل جميع الخرافيين، أصحاب الخرافات والبدع تجده ينطلق من منطلقات خرافية بزعمه أنها مسلمات، ولهذا مجرد ما تناقشه في أصل البدعة يتناقض ولا جواب عندهم، بل أنه أحيانًا يمتعض من الذي يورد عليه إيرادات في أصل المذهب، ولا تجد عند الخرافيين لو اعترض طالب عليهم في هذا الكلام الذي تقوله، هذه الحكاية، هذه الأقوال ما دليلها؟ ما مصدرها؟ يقع في إشكالات واضطرابات، فهو يلزم المخالفين له بإلزامات غير صحيحة وهذا موجود عند كل أهل الباطل، لم يلزم مخالف له بإلزامات على أنها مسلمات غير قابلة للنقاش، فإذا نوقش فيها اضطرب وتناقص تمامًا.
يقول هنا: (وَهَذَا مَسْلَكٌ آخَرُ) أنك تناقشهم في أصل قضية الجسم أصلاً، ثم قال.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ فِي نَفْيِ مَا يُنْفَى عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَا يُفِيدُ إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفَى مُمَاثَلَةَ غَيْرِهِ لَهُ فِيهَا فَإِنَّ هَذَا نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ: وَهُوَ أَنْ لَا يَشْرَكُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَكُلُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ)}.
إذًا هنا ختم في بيان فساد هذا الضابط، قال: (الْمَقْصُودُ هُنَ) من هذه القاعدة (أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ) لاحظ كلمة مجرد، عبارة مهمة، بمعنى أن أهل السنة والجماعة هم لا يعارضون في تنزيه الرب -تبارك وتعالى-، تنزيه الرب أمر مسلم، إذاً المناقشة في أي شيء؟ قد يقول قائل: هل أنتم بهذا الكلام تعارضون تنزيه الرب عن صفات النقص والعيب؟ نقول: ليس هذا، الاعتماد في التنزيه على نفي التشبيه، ثم تطبيق هذا تطبيقًا خاطئاً على نفي صفات الكمال، فينبغي من الإخوة التنبيه إلى هذا، فأحياناً يأتي من يفهم كلام ابن تيمية فهمًا خاطئاً، هو لا يناقش في قضية تنزيه الرب، فتنزيه الرب أمر مطلوب ومسلم، لا أحد يعارض في تنزيه الرب -تبارك وتعالى-، الكلام هو في دعوى التنزيه بنفي الصفات الثابتة له.
ولهذا يقول: (وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ فِي نَفْيِ مَا يُنْفَى عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَا يُفِيدُ)، سابقًا في أول القاعدة قال: غير سديد، وهنا غير مفيد، لماذا؟ للتناقض والاضطراب الذي وقعوا فيه، لماذا هو غير سديد وغير مفيد؟ (إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ).
ثم ذكر الضوابط الصحيحة التي ذكرها في أول الكتاب وفي مواضع، إذاً سيقال لك: ما الضابط الصحيح فيما ينفى ويثبت؟ ولهذا عنوان الكتاب "تحقيق الإثبات للأسماء والصفات"، ما الضوابط الصحيحة للنفي وما الضوابط الصحيحة للإثبات؟ وهذه سبقت وأكدنا عليها فيما سبق ومنها الحلقة السابقة.
قال هنا في الضوابط الصحيحة: (بِخِلَافِ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ) فالله -تبارك وتعالى- مُنزه عن كل صفةِ نقصٍ وعيبٍ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ونفى الندِّ ونفى المثل، هذه هي الطريقة الصحيحة، طريقة الكتاب وطريقة السنة، (وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ) فإن هذه هي الطريقة الصحيحة التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وعليها سلف الأمة وهي طريقة الرسل.
كذلك في باب الإثبات: (إذَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفَى مُمَاثَلَةَ غَيْرِهِ لَهُ فِيهَا فَإِنَّ هَذَا نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ)، ولهذا حقيقة التوحيد جمع بين النفي والإثبات، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، أيضًا حقيقة كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ليس نفياً مجرداً ولا إثباتًا بغير قيد، بل لا بدَّ من النفي والإثبات، فهذا هو التوحيد وطريقة الرسل، وذكرنا ضوابط الإثبات وضوابط النفي وكلاهما مأخوذ من الوحي، فالإثبات على التفصيل، والنفي على الإجمال.
الإثبات لا يلزم منه التمثيل والنفي لا يلزم منه التعطيل، النفي ليس نفيًا مجرداً بل يتضمن ضده من صفات الكمال، والإثبات لا يلزم منه التمثيل، فهذه الضوابط الصحيحة في النفي والإثبات خلافًا لضوابط المتكلمين التي هي ضوابط فاسدة، فيعتمدون في النفي على نفي التشبيه ونفي التجسيم وهي ضوابط غير سديدة وغير مفيدة، بل متناقضة، بل فاسدة، ولهذا تسلطوا بها على إبطال صفات الخالق -تبارك وتعالى-.
ثم ذكر اعتراضًا لهم، وبمعنى آخر قد يقول قائل: قد يوجد ثغرة في الجواب، إذا كان شيخ الإسلام يسد عليهم الثغرات، قد يقول قائل: قد يوجد ثغرة، هل أنتم إذا أثبتم قدراً مشتركًا يلزم التشابه في هذا القدر المشترك؟
سلمنا بأن القدر المميز صفة الخالق تليق به وصفة المخلوق تليق به، الخالق سمى نفسه بأسماء وسمى بعض خلقه بأسماء، سمى نفسه بصفات وسمى بعض خلقه بصفات، هل هذا القدر المشترك يلزم منه التماثل؟ سيجيب عن هذه الثغرة التي ربما يتسلل منها المتكلمون لكن ابن تيمية لهم بالمرصاد.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ قِيلَ إنَّ الشَّيْءَ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ جَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَوَجَبَ لَهُ مَا وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ)}.
بمعنى أنه لما أفحمهم في فساد المذهب واهتزت القاعدة عندهم وبدأ البنيان يتساقط ويتهاوى، بدءوا يتمسكون بالقش، فقالوا: (فَإِنْ قِيلَ) لاحظ هنا كأنه يستحضر ربما أنهم يتمسكون، ولهذا أحيانًا لما تحدى المتكلمين: ائتوني بقول قال به أحد من السلف في التأويل، قالوا: وجدنا ذلك، قبل أن يجيبوا، قال: لعلكم تقصدون آيات كذا وكذا، وهي ليست من آيات الصفات.
فهو يقول: (فَإِنْ قِيلَ) اعترض عليه وقال: (إنَّ الشَّيْءَ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ) وهو القدر المشترك، (جَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَوَجَبَ لَهُ مَا وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ) هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح وليس بمسلم، قال في الجواب على هذا الاعتراض.
{(قِيلَ هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَلَا نَفْيُ مَا يَسْتَحِقُّهُ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا كَمَا إذَا قِيلَ: إنَّهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَقَدْ سُمِّيَ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ حَيًّا سَمْعِيًّا عَلِيمًا بَصِيرًا فَإِذَا قِيلَ: يَلْزَمُ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا قِيلَ: لَازِمُ هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي حُدُوثًا وَلَا إمْكَانًا وَلَا نَقْصًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُنَافِي صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ مُسَمَّى الْوُجُودِ أَوْ الْمَوْجُودُ أَوْ الْحَيَاةُ أَوْ الْحَيُّ أَوْ الْعِلْمُ أَوْ الْعَلِيمُ أَوْ السَّمْعُ أَوْ الْبَصَرُ أَوْ السَّمِيعُ أَوْ الْبَصِيرُ أَوْ الْقُدْرَةُ أَوْ الْقَدِيرُ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؛ فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ لَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ وَلَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ فَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ صِفَةَ كَمَالٍ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْخَالِقِ لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ هَذَا مَحْذُورٌ أَصْلًا؛ بَلْ إثْبَاتُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ، فَكُلُّ مَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مَنْ مِثْلِ هَذَا وَمَنْ نَفْيِ هَذَا لَزِمَهُ تَعْطِيلُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ)}.
هذا هو الجواب عن هذا الاعتراض، قالوا: (إنَّ الشَّيْءَ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ) كما تقولون في الجواب السابق: (جَازَ عَلَيْهِ) في ذلك الوجه وهو القدر المشترك (مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَوَجَبَ لَهُ مَا وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ)، قال: (هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ) في القدر المشترك عند الإطلاق، يشترك من حيث فهم المعنى، وإلا كيف نفهم معنى الوجود ومعنى الحياة.
فيقال: (هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ) سلمنا لك بهذا الجزء، (وَلَكِنْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَلَا نَفْيُ مَا يَسْتَحِقُّهُ) هذا التقييد (لَمْ يَكُنْ) ذلك القدر المشترك (مُمْتَنِعًا كَمَا إذَا قِيلَ) ضرب مثالًا تطبيقيًا عمليًا حتى يوضح ذلك، ضرب مثالًا تطبيقيًا بمسمى الوجود، (كَمَا إذَا قِيلَ: إنَّهُ مَوْجُودٌ)، هذا يقول به من؟ الجميع، لا أحد ينكر أن الرب موجود، ولكن عندهم أن وجود الرب واجب الوجود يختلف عن الوجود المحدث الممكن، فيتفق الجميع على الوجود، فيناقشهم بهذا القدر المشترك، طبعًا هذا عند الجهمية والمعتزلة، ومسمى الوجود ما يُنْكَر، أو قيل: (حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) هذا عند الأشاعرة، سيقال لهم: هل هذا الحي تعرفون معناه؟ ما معنى حي سميع بصير؟ بمعنى هل فيه قدر مشترك؟ سيقولون: نعم.
(وَقَدْ سُمِّيَ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ) بهذه الصفات، فالمخلوقات موجودة ولا لا؟ حية سمعية عليمة بصيرة؟ فإذا قيل: (فَإِذَا قِيلَ: يَلْزَمُ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرً) هل سيقولون بهذا؟ يقولون: لا، له وجود مختلف، سمع مختلف، بصر مختلف، حياة مختلفة.
(قِيلَ: لَازِمُ هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ مُمْتَنِعً) في حق الرب، كما أنكم أقررتم بهذا في الوجود والسمع والبصر، (فَإِنَّ ذَلِكَ) القدر المشترك (لَا يَقْتَضِي حُدُوثًا وَلَا إمْكَانًا وَلَا نَقْصًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُنَافِي صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ) التي تخص الرب -تبارك وتعالى-، ثم أيضًا إن هذا القدر المشترك في مسمى الوجود الذي تقرون به جميعًا أو (الموجود أو الحياة أو الحي أو العليم أو العلم)، يعني: أسماء ولا صفات يقر بها هؤلاء، سواءً جهمية أو معتزلة أو أشاعرة أو السمع أو البصر أو السميع، جميع الصفات، (وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ) في الذهن، (لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ) يعني: إذا قلت العلم هذا قدر مشترك لكن خارج الذهن سيختلف بحسب التعلق، (فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ لَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ) من هو؟ المخلوق (وَلَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ) الذي هو الخالق، طبعًا يستخدم مصطلحاتهم، (فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ) وهذا عندكم جميعًا.
في مسمى الوجود وفي الصفات السبع وفي الأسماء التي يثبتها هؤلاء، ثم ناقشهم، (فَإِذَا كَانَ) هنا الآن (فَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ صِفَةَ كَمَالٍ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ) هذا التطبيق، (وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ) يعني هو تشابه لكن لا يلزم منه التماثل، (كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْخَالِقِ لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ هَذَا مَحْذُورٌ).
يعني يقال للجهمية: هل إثبات صفة الوجود فيه محذور؟ يقولون: لا.
يقال للمعتزلة: هل إثبات صفة الوجود فيه محذور؟ يقولون: لا.
يقال للأشاعرة: هل إثبات صفة الوجود فيه محذور؟ أبدًا.
نقول للأشاعرة: هل إثبات صفة العلم والحياة والسمع والبصر فيه محذور؟ يقولون: ليس فيه محذور.
نقول: كذلك يقال في بقية الصفات (بَلْ إثْبَاتُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ، فَكُلُّ مَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مَنْ مِثْلِ هَذَ) القدر المشترك، وبالتالي هذا القدر المشترك لا يلزم منه التماثل، فأغلق هذا الباب عليهم.
(وَمَنْ نَفْيِ هَذَ) يعني من قال: لا، القدر المشترك يلزم منه التماثل، سيقال: يلزمك في أن تنفي الوجود وهذا غاية التعطيل، وتنفي الأسماء وتنفي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر، ولهذا ذكر تشنيع هؤلاء على الجهمية.
{قال -رحمه الله-: (وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الجهمية)}، من يقصد بالأئمة؟ علماء السنة، حتى علماء الكلام أيضًا، الأئمة وكذلك علماء المتكلمون، كبار النظار.
{(سَمُّوهُمْ مُعَطِّلَةً وَكَانَ جَهْمٌ يُنْكِرُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَرُبَّمَا قَالَتْ الجهمية هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ فَإِذَا نَفَى الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مُطْلَقًا لَزِمَ التَّعْطِيلُ الْتامُّ)}.
وهذا ظاهر؛ لأنه إذا قيل ليس بين وجود الخالق وبين وجود المخلوق قدر مشترك، فيصبح هذا الوجود لا معنى له، فغايته التعطيل. إذا قيل: إن وجود الخالق ليس بينه وبين وجود المخلوق قدر مشترك يفهم به معنى الوجود، فيكون هذا غاية التعطيل، معناه أن هذا الوجود الذي وصف به الخالق ليس له معنى، الحياة ليس لها معنى، العلم ليس له معنى، والسمع ليس له معنى، والسمع ليس له معنى، والبصر وباقي الصفات الأخرى أيضًا، الوجود والنزول والعلو ليس له معنى، يقال إذا قالوا: لا، بل له معنى يفهم به معنى الوجود، وله معنى يفهم به معنى العلم والحياة والسمع والبصري، يقال كذلك في جميع الصفات، طبعًا ينكرون أن الله يسمى شيئًا وقد جاءت بالأدلة بالإخبار عن الله -عز وجل- في قوله -عز وجل-: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 19]، وربما قال فالجميع هو شيء لا كل الأشياء، فإذا نفي القدر المشترك مطلقًا لزم منه غاية التعطيل، إذا نفي القدر المشترك نفي منه غاية التعطيل، فدل على أن وجود القدر المشترك لا يلزم منه التماثل.
{قال -رحمه الله-: (وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ وَالْحَقِيقَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: تَجِبُ لَوَازِمُهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ تِلْكَ مِنْ لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وُجُودٍ وَحَيَاةٍ وَعِلْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ وَمَلْزُومَاتِ خَصَائِصِهِمْ)}.
بمعنى أنه حال التقييد وحال التخصيص صفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به، (وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَ) يسمونها صفات المعاني، وهي الصفات السبع: (كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ الْوُجُودُ) أيضًا (وَالثُّبُوتُ وَالْحَقِيقَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ: تَجِبُ لَوَازِمُهَ) حقائقها التي تليق بالرب، (فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلً) لأن هذه تليق به وصفات الخالق تليق به، (بَلْ تِلْكَ مِنْ لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وُجُودٍ وَحَيَاةٍ) في حال التخصيص، بل تلك من لوازم الخالق فلا يلزم من هذا القدر المشترك التماثل.
{قال -رحمه الله-: (وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ: زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَبُيِّنَ فِيهَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَأَنَّ مَعْنَى اشْتِرَاكِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ تَشَابُهُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْخَارِجِ لَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهِ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ)}.
لاحظ شيخ الإسلام يضع هذا الضابط وهو مهم جدًّا لطالب العلم، قال: (وَهَذَا الْمَوْضِعُ)، وما الموضع؟ يعني: أن الاشتراك في القدر المشترك في الاسم عند الإطلاق لا يلزم منه التماثل في الحقيقة عند التقييد والتخصيص والإضافة، وهذه إشكالية المعطلة عموماً، فيقول: هذا الموضوع وهو إثبات قدر مشترك به يفهم المعنى، وبه يفهم معنى الوجود ومعنى العلم ومعنى الحياة ومعنى السمع ومعنى البصر، هذا القدر المشترك لا يلزم منه التماثل حال التقييد والتخصيص والإضافة، وهذا مما يقره به جميع العقلاء، هذا الموضع من فهمه فهماً جيداً وتدبره جيداً زالت عنه عامة الشبهات في هذا الباب، فعامة الشبهات التي وقعت للمعطلة سواءً كانوا جهمية أو معتزلة أو أشاعرة أو ماتريدية أو كلابية كان بسبب عدم فهم هذا الضابط المهم، ولهذا وقعوا في التناقض والاضطراب ووضعوا ضوابط غير منضبطة، كالذي يفر من شيء فيقع فيما هو أسوء منه.
فهذا الموضع وهذا هو الضابط، ولهذا لاحظ السلف قاعدة محكمة طريقتها منضبطة، (وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ: زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ) في هذا الباب، (وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ) هم يرون أنفسهم أذكياءً ونظارًا وأفنوا أعمارهم في الكتب، لكن وقعوا -سبحان الله- في الزلل والخطأ في هذا المقام، وهو تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، (وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ) يعني: هذا الضابط، (وَبُيِّنَ فِيهَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ) عند الإطلاق، مثل: الوجود والاسم، (لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدً) يعني: أن تتخيل في ذهنك مسمى العلم، لكن خارج الذهن كل يعني موجود له صفة تليق به خارج الذهن، (وَأَنَّ مَعْنَى اشْتِرَاكِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ تَشَابُهُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ) الذي تفهم به المعنى، (وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ) الموجود في الذهن (يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَهَذَ) الوجود والعلم وهكذا، (لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْخَارِجِ) خارج الذهن (لَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهِ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ)، وبالتالي فإثبات صفات الخالق على الوجه الذي يليق به، لا يعني أن ذلك تماثل صفات المخلوقين، كون المخلوق وصف بشيء من هذه الصفات فهو فقط في القدر المشترك ولا يلزم منه التماثل، وبالتالي إذا أثبت مجيء الرب لا إشكال، فإذا أثبت نزول الرب لا إشكال، لماذا؟ لأن هذه الصفات هي تليق بالرب ولا تماثل صفات المخلوقين.
{قال -رحمه الله-: (وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مُتَنَاقِضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ فَتَارَةً يَظُنُّ أَنَّ إثْبَاتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ حُجَّةً فِيمَا يَظُنُّ نَفْيَهُ مِنْ الصِّفَاتِ حَذَرًا مِنْ مَلْزُومَاتِ التَّشْبِيهِ وَتَارَةً يَتَفَطَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذَا عَلَى تَقْدِيرٍ فَيُجِيبُ بِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ النفاة وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟ وَهَلْ لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ التَّوَاطُؤِ أَوْ التَّشْكِيكِ؟ كَمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْوَالِ وَنَفْيِهَا وَفِي أَنَّ الْمَعْدُومَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ وَفِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ هَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا أَمْ لَا؟)}.
قبل أن ننتقل هنا، يقول في خاتمة بيان فساد هذا الضابط وأنه غير سديد وغير مفيد، أخذ يطبق عليه، في أن عدم فهم هذا المعنى المشترك الذي قال فيما تقدم: (وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ: زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامَ)، قال: (وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ) أي وقوع الغلط واللبس (وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ) أي: في هذا الباب، يتناقضون في هذا المقام، وهذا ظاهر أو لا؟
يقول في الذات ما لا يقوله في الصفات، ويقول في بعض الصفات ما لا يقول في البعض الآخر، يتناقض، (فَتَارَةً يَظُنُّ أَنَّ إثْبَاتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ) يظن أنَّ وجود القدر المشترك الذي يُفهم به المعنى وهو الضابط الذي وضعوه، (يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ حُجَّةً فِيمَا يَظُنُّ نَفْيَهُ مِنْ الصِّفَاتِ) ولهذا جعلوا هذا هو الضابط فيما يُنفى، أي: نفي التشبيه، (حَذَرًا مِنْ مَلْزُومَاتِ التَّشْبِيهِ) يعني يقول لك: إذا أثبت أنت مجيئًا، أو أثبت نزولا، أو أثبت استواءً، يلزم منه التشبيه، وهذا ليس بصحيح.
(وَتَارَةً يَتَفَطَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذَا عَلَى كل تَقْدِيرٍ فَيُجِيبُ بِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ النفاة)، يعني إذا قيل له: لا يلزم، يقول: أنت كما أثبت وجوداً، قال: لا، يتفطن ولا لا؟ يتفطن القدر المشترك.
إذا قيل للأشعري: أنت أثبت الصفات المعنوية وتسميها صفات عقلية، هل يلزم من هذا القدر المشترك تماثل؟ يقول: لا، يتفطن أو لا؟ يمتنع.
وإذا ذهب إلى الصفات الفعلية يبدأ يتناقض، فهو يقول: إنه يُلزمُ من خالفه بهذا اللازم وهو في الصفات التي يثبتها لا يلتزم بهذا اللازم، فيقع في التناقض.
قال: (وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ) في قضية القدر المشترك وإثبات بعض الصفات، (وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ) أخذ الآن مثالًا تطبيقيًا، في مُسمى الوجود، وقعت الشبهة عند هؤلاء (فِي أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟) هذا السؤال الأول، وأرى من الأبناء الطلاب أن يركزوا جيداً على هذا الموضع.
هل وجود الرب هو عين ماهيته أو زائد على الماهية؟ هذا السؤال الأول.
السؤال الثاني: هل لفظ الوجود مَقُولٌ بالاشتراك اللفظي أو بالتواطؤ أو بالتشكيك؟ الاشتراك اللفظي: الذي هو قدر مشترك في اللفظ دون المعنى، بمعنى أنه معنى الوجود ومعنى العلم ومعنى الحياة مختلف، مثل ما تقول العين، مَقُولٌ بالاشتراك اللفظي، لكن العين الجارية غير عين الإنسان غير الجاسوس.
فهل يقال: لفظ الوجود والعلم والحياة عندكم مَقُولٌ بالاشتراك اللفظي فقط، بمعنى أن الوجود ليس هو المعنى الذي يفهمونه الناس، بمعنى أن هذا القرآن ليس بلسان عربي مبين، هذا الوجود لغة أخرى ما نفهمها، هل يقول هذا عاقل؟ أبدًا.
أو بالتواطؤ الذي هو قدر مشترك، أو بالتشكيك الذي يشكك السامع فيه بنسبة معينة، كما وقع الاشتباه في الأحوال ونفيها، أيضًا هل الأحوال موجودة أو لا؟ الأحوال هي النسبة بين الصفة والموصوف، مثل: القيام والقائم في النسبة بينهما، هل هي ثابتة أو غير ثابتة؟ هذا السؤال الثالث.
السؤال الرابع في المعدوم: هل المعدوم شيء أو ليس بشيء؟ العدم هل هو شيء أو ليس بشيء؟
والسؤال الخامس في وجود الموجودات: هل وجود الموجودات هو زائد على ماهيتها أم لا؟ كم الأسئلة؟ خمسة أسئلة.
يقول: إن النُّظَّارِ اضطربوا وتناقضوا في الجواب عن هذه الأسئلة، كيف أتى الشبهة من أصلها بحيث يُلزمهم بإثبات القدر المشترك الذي لا يلزم منه التماثل، وبالتالي فدعوى نفي التشبيه عندكم دعوى فاسدة وغير سديدة وباطلة.
يقول: (وَقَدْ كَثُرَ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ؛ فَتَارَةً يَقُولُ أَحَدُهُمْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ) مثل من يثبت سبع صفات وينفي البقية، ويقع في التناقض في الاستدلال والرد على غيره وهو يقع في هذا التناقض، (وَيَحْكِي عَنْ النَّاسِ مَقَالَاتٍ مَا قَالُوهَ) إجماع ودعاوى، مثل ما يتهم السلف بأنهم مفوضة، هل قالوا بهذا؟ هو يخرج من هذا المأزق، ولهذا يدعي ادعاءات ما قال بها أحد.
(وَتَارَةً يَبْقَى فِي الشَّكِّ وَالتَّحَيُّرِ) مضطرب ولا لا؟ ويتوقف لا يثبت ولا ينفي، حيارى واضطراب وهذا اعترف به المتأخرون، (وَقَدْ بَسَطْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ) يعني: هذه الشبه، (وَمَا وَقَعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ وَالْحَيْرَةِ فِيهَا لِأَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ) يعني: كل الكلام الذي نقوله هو مختصر، وقد بسطه بدرء التعارض في نقض تأسيس الجهمية وفي غيره من الكتب.
ثم أجاب عن هذه الأسئلة: (وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ) في السؤال الأول، السؤال الأول ما هو؟ هل وجود الرب هو عين ماهيته أو وجوده زائد عن الماهية؟
قال: (وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ مَاهِيَّتُه الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ) أي في الواقع عند التقييد والاختصار (بِخِلَافِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي فِي الذِّهْنِ) وهي القدر المشترك، فهي مُغايرة للموجود في الخارج حال الحقيقة، لكن نحن نقول: الاستواء معلوم والكيف مجهول، النزول معلوم والكيف مجهول، المجيء معلوم والكيف مجهول، طبعًا ما هو موجود في الحقيقة يختلف حقيقته.
قال، هذا هو الجواب الأول، لما يقول هل عين ماهيته هو عين الماهية أو زائدة، فيقول: أنه في الخارج نعم هو عين الماهية، في الذهن هو قدر مشترك يفهم به المعنى.
الجواب على السؤال الثاني: هل لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟ لأنهم يقولون بالوجود، فيناقشهم، ماذا تقصدون بالوجود؟ هل تثبتون وجودًا حقيقيًا يليق بالرب أو عندكم وجود لا معنى له أو وجود لا يفهم؟
فيقول في الجواب عن السؤال الثاني: وأما لفظ الوجود كلفظ الذات والشيء والماهية والحقيقة، هل هي عندكم مفهومة أو عندكم هي مقولة بالاشتراك اللفظي فقط ألفاظ لا تفهم معانيها، أو مقولة بالاشتراك بالتواطؤ في قدر من المعنى يفهم؟
قال: (فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُتَوَاطِئَةٌ) يعني: فيه قدر مشترك، (فَإِذَا قِيلَ: إنَّهَا مُشَكِّكَةٌ لِتَفَاضُلِ مَعَانِيهَا فَالْمُشَكِّكُ نَوْعٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى مُتَفَاضِلًا فِي مَوَارِدِهِ أَوْ مُتَمَاثِلً) في هذا القدر المشترك.
ثم قال في الجواب عن السؤال الرابع، يعني أجاب عن الرابع قبل الثالث، الجواب عن السؤال الرابع.
{قال -رحمه الله-: (وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ وَلَكِنْ هُوَ الْعِلْمُ التَّابِعُ لِلْعَالِمِ الْقَائِمِ بِهِ)}.
السؤال الرابع طبعًا قدمه على الثالث، السؤال الرابع وهو: هل المعدوم شيء أم ليس بشيء؟ الشيء العدم هل هو شيء؟ المعدوم هل هو شيء أو لا؟ قال: (وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ) لأنه في خارج الذهن معدوم، لكن بداخل الذهن شيء، أي: متصور في الذهن، لكن في خارج الذهن معدوم، (فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ) خارج الذهن، (وَلَكِنْ هُوَ الْعِلْمُ التَّابِعُ لِلْعَالِمِ الْقَائِمِ بِهِ)، ولهذا الله -عز وجل- وصف المعدوم بأنه شيء مثل: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُور﴾ [ الإِنسان: 1]، وأيضًا قوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئ﴾ [مريم: 9]، ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40]، نقول أن المعدوم يوصف شيء وإن كان لا وجود له في الخارج.
وهذا سؤالهم: هل المعدوم شيء أو ليس بشيء؟ الجواب عن السؤال الثالث نعم قال:
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِيهَا الْمَوْجُودَاتُ وَتَخْتَلِفُ: لَهَا وُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَلَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَشَابَهُ بِذَلِكَ وَتَخْتَلِفُ بِهِ)}.
والأحوال تقدم، قلنا: إن هي النسبة بين الصفة والموصوف، كذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات، النسبة بين الصفة والموصوف بين القيام والقائم، (وَتَخْتَلِفُ: لَهَا وُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَلَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ) هو بيَّن لك أن هو القدر المشترك مختلف عن الحقيقة خارج الذهن، (وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَشَابَهُ بِذَلِكَ) في القدر المشترك (وَتَخْتَلِفُ بِهِ) في الحقائق، فتتشابه من حيث القدر المشترك وتختلف في الحقائق، فهو يهدم القاعدة من أصلها، ثم اعتذر أنه لم يريد التفصيل في هذه المصطلحات، قال.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ مَنْ فَهِمَهَا عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِهَا وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى وَإِمْكَانُ إغْلَاقِ بَابِ الضَّلَالِ؛ ثُمَّ بَسْطُهَا وَشَرْحُهَا لَهُ مَقَامٌ آخَرُ؛ إذْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ)}.
(وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ) الأجوبة وسماها أجوبة مختصرة ليبين فساد طريقة المتكلمين في إبطال الصفات، وأنهم اعتمدوا في نفي الصفات على نفي التشبيه ونفي الجسم، فبين أن هذه الضوابط وهذه الطرائق غير سديدة وغير مفيدة ومتناقضة وغير صحيحة.
(وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ) في الجواب على نقض الشبهة من أساسها وأيضًا أنبه الأبناء الطلاب والطالبات: أن هذه القواعد وهذه الطرائق مُهمة جدًّا لطالب العلم في نقض كل الشبهات، وهو نوع من أنواع الدفاع عن الدين، ونوع من أنواع الجهاد باللسان في الدفاع عن الدين، لأن للأسف هذه الكتب، أي: كتب هؤلاء الضلال كثيرة وربما تنتشر ويغتر بها من يغتر، فمعرفة كيف الرد على هؤلاء هو نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله باللسان؛ للدفاع عن أعظم موضوع في العقيدة وهو موضوع التوحيد، وأعظم حق يتعلق بالخالق -عز وجل- وهو ما يتعلق بصفاته -سبحانه وتعالى- على الوجه الذي يليق به.
(وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ) قواعد، كيف تتبين فساد هذه الطرائق؟ وأيضًا حماية للمسلم من الشبهات التي يريدها هؤلاء، وما أكثر ما يستمع الشباب ويستمع في مقاطع التي تنتشر في زعم هؤلاء المعطلة أن مثبتة الصفات مجسمة مشبهة، يقولها ولا يبالي، ولذلك إذا كشف العوار وكشف الباطل اتضحت سوءته وعورته، لأنه سلك مسلكًا غير سديد وغير سليم.
قال: (وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ مَنْ فَهِمَهَا عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِهَ) في هذا الباب وفي غيره، (وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى) في هذا الباب وفي غيره، (وَإِمْكَانُ إغْلَاقِ بَابِ الضَّلَالِ) والغواية الذي يسلكه هؤلاء في تعطيل الصفات أو تعطيل المعاد أو تعطيل الشرائع، لأن هذه المسالك سلكها هؤلاء سواءً في تأويل آيات الصفات أو تأويل آيات المعاد، أو تأويل آيات الأحكام، (ثُمَّ بَسْطُهَا وَشَرْحُهَا لَهُ مَقَامٌ آخَرُ) يعني كل هذا الذي قيل إنما هو مختصر وكلام مجمل، أما البسط فله مقام آخر، (إذْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ)، فهو يعتذر أنه هنا اختصر فقط، أما البسط فله مقام آخر وذكره ذلك في كتب مطولات، ولهذا الكتب المطولات مثل "درء التعارض" و "نقض تأسيس الجهمية" لا يمكن أن يفهم إلا بفهم هذه القواعد.
ثم ختم هذا الجواب بقوله.
{قال -رحمه الله-: (وَالْمَقْصُودُ ": هُنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِيمَا يُنْفَى عَنْ الرَّبِّ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ - كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ - خَطَأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ طُرُقِ النَّفْيِ الْبَاطِلَةِ)}.
إذاً المقصود بهذه الأجوبة: أن الاعتماد على مثل هذه الحجة، وهي حجة تنزيه الرب بنفي التشبيه والتجسيم ليست بسديدة وليست بمفيدة، بل إن هذه الحجج يلزم منها وصف الرب بنقائص أشد فساداً مما فروا منه، فهم لما نفوا صفاته بزعم أن إثبات الصفات يلزم منه تشبيهه بالمخلوقات، منهم من شبهه بالجمادات وهذا أكثر فساداً، ومنهم من شبهه بالمعدومات وهذا أكثر فساداً، ومنهم من شبهه بالمعدومات وهذا أكثر فساداً، فهو غير سديد وغير مفيد بوجود التناقض فيه، ثم أيضًا أنهم ينفون عن الرب -تبارك وتعالى- صفات الكمال التي أثبتها لنفسه وهو أعلم بنفسه وأصدق قيل وأحسن حديث، وينفون عنه ما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أعلم بربه -تبارك وتعالى-.
ثم أيضًا هي خلاف طريقة السلف، لماذا؟ لأنها طريقة شائكة، طريقة وعرة، سفسطات ومصطلحات موهمة بها يلبسون على عموم المسلمين، أما طريقة السلف فهي طريقة واضحة وأكدها في إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفاه الله عن نفسه، على جهة التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي، الإثبات لا يلزم منه التمثيل، والنفي لا يلزم منه التعطيل على الوجه الذي جاء في الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة.
إذاً هذه القاعدة هي في فساد طرائق المتكلمين في الاعتماد في التنزيه على نفي التشبيه والتجسيم وبيان صحة طرائق السلف المعتمدة على الكتاب والسنة.
-إن شاء الله- في درس قادم نكمل ما تبقى من هذه القاعدة، وأسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
{اللهم أمين، شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين، وإياكم والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ذلك في ميزان الحسنات ومما يقربنا إلى ربنا -تبارك وتعالى-، ويزيد في إيمانك وتوحيدنا ويقيننا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك