الدرس الثامن عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2014 22
الدرس الثامن عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والطلاب الأبناء والبنات من طلاب البناء العلمي، وفي الدرس الثامن عشر من دروس العقيدة التدمرية، في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع، أسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
{اللهم أمين.
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ: (أَنْ يُقَالَ: إنَّ كَثِيرًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ " السَّمْعُ " يُعْلَمُ " بِالْعَقْلِ " أَيْضًا وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَقْلُ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ؛ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم.
هذه القاعدة السابعة من القواعد الجامعة النافعة في الرسالة التدمرية، وهذه القاعدة يختم بها المصنف -رحمه الله- هذا الأصل، وقد اختلفت النسخ في وجودها، فالنسخ القديمة لم تكن موجودة فيها، النسخة التي حققها الشيخ الدكتور محمد بن عودة السعوي أضافها في النسخة المحققة، ونص على أنها في بعض المخطوطات دون بعض وأنها جاءت زيادات من المؤلف -رحمه الله- على هذه الرسالة، ولهذا كثير من الشراح لم يتعرض لشرحها على اعتبار أنها جاءت ببعض النسخ دون بعض.
هذه القاعدة أيضًا هي تأكيد لما ذكر سابقًا من القواعد، وهي دلالة العقل على كثيرٍ مما دلَّ عليه السمع، بأن الصفات التي جاء بها السمع كثير منها مما يدل عليه العقل، ولاحظ قول المصنف: (إنَّ كَثِيرً) معناه: أن الصفات منها ما يدل عليه العقل مع دلالة السمع، ومنها صفات خبرية دل عليها السمع المحض، إذ العقل لا يدرك كل شيء، العقل محدود لا يدرك كل شيء، فمن الصفات ما دليلها سمعي محض، ومن الصفات ما دليلها سمعيًّا وعقلي؛ لأن أدلة الشرع جاءت بأدلة عقلية، ولهذا يقال: إنها سمعية من جهة أن الشرع جاء بها، وعقلية لأنها اشتملت على دليل عقلي، وهذا كثير في القرآن، لاحظ في قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35]، هو دليل سمعي وفي نفس الوقت دليل عقلي، أدلة عظمة الرب -تبارك وتعالى-، كلها أدلة سمعية وفي نفس الوقت أدلة شرعية.
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن: 7]، دليل سمعي وهو دليل عقلي، في آخر سورة "يس" ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: 77- 79]، إلى آخر السورة هي أدلة شرعية وفي نفس الوقت هي أدلة عقلية، وهذا كثير في سورة "الحج" ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ.. ﴾ [الحج: 5] إلى آخر الآيات، وهكذا في سورة "ق" وفي سورة "القيامة" وفي كثير من السور، هي أدلة شرعية وفي نفس الوقت هي أدلة عقلية.
(يُقَالَ: إنَّ كَثِيرًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ، يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا، وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَقْلُ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ)، ولهذا ﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء: 28]، ﴿لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]، يأمر بالتفكر في مخلوقات الله وآيات الله في الآفاق وفي الأنفس ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17]، (كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ) آيات كثيرة وسور كثيرة، (فإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَيَّنَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ) على وجوده وربوبيته (وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَا أَرْشَدَ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ؛ كَمَا بَيَّنَ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ)، فأدلة دلائل الأنبياء أيضًا كثيرة، منها ما يتعلق بالآيات التي يسميها المتكلمون المعجزات، ومنها ما يتعلق بالدلائل الأخرى، (وَمَا دَلَّ عَلَى الْمُعَادِ) أيضًا أدلة شرعية وعقلية.
{قال -رحمه الله-: (فإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَيَّنَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ: مَا أَرْشَدَ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ؛ كَمَا بَيَّنَ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَمَا دَلَّ عَلَى الْمُعَادِ وَإِمْكَانِهِ فَهَذِهِ الْمَطَالِبُ هِيَ شَرْعِيَّةٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: - مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّارِعَ أَخْبَرَ بِهَا. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ " أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ " وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
الأمثلة التي ضربها الله هي أيضًا أقيسة عقلية، فهي وإن كانت سمعية؛ لأن الدليل الشرعي جاء بها، فهي عقلية من وجه آخر، إذن هي خبرية سمعية وكذلك بنفس الوقت هي عقلية.
{قال: (وَهِيَ أَيْضًا عَقْلِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُسَمِّي هَذِهِ "الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ " لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَقَطْ)}.
كما يقولون في إثبات الصفات المعنوية، إذا سألتهم عن الدليل على إثبات الصفات المعنوية السبع، قالوا: الدليل عقلي وغفلوا أن هناك دليل شرعي، ولولا الدليل الشرعي لم يعتمد على العقل لوحده.
{(لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَقَطْ فَإِنَّ السَّمْعَ هُوَ مُجَرَّدُ إخْبَارِ الصَّادِقِ وَخَبَرُ الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ بِالْعَقْلِ)}.
هذا عند المتكلمين، زعموا أن (السَّمْعَ هُوَ مُجَرَّدُ إخْبَارِ الصَّادِقِ وَخَبَرُ الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ بِالْعَقْلِ)، يعني: أنه مجرد إخبار فقط، فيجعلون السمع هو مجرد خبر مبني على صدق المخبر أو عدم ذلك، بغض النظر عن الدليل العقلي، ولهذا تجد أنهم يحصرون دلائل النبوة في المعجزات فقط، وينفون بقية الدلائل، ينفون الحكم والعلل في أوامر الرب -تبارك وتعالى- وفي خلقه وفي قَدَرِهِ، يعتبرونه مجرد أوامر محضة وأقدار محضة، وهذا من ضلال وفساد دلائل المتكلمين.
{قال: (ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأُصُولِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهَ)}.
يعني بمعنى الأصول التي يتوقف هل هي منحصرة في المعجزة أو هي أوسع من ذلك.
{(فَطَائِفَةٌ تَزْعُمُ: أَنَّ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِدُونِ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ مِمَّا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ)}.
وهؤلاء من يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين وأنه موجب للثواب والعقاب والتحليل والتحريم، ممن غلا في ذلك المعتزلة، وعكسهم ممن قال: إن الأشياء التي لا يُدرك العقل حسنها وقبحها إلا بالشرع، أهل السنة يقولون العقول تدرك حسن الأشياء وقبحها ولكن لا يترتب على هذا الإدراك ثواب ولا عقاب إلا بالشرع، وهي مسألة كبيرة ما تسمى بالتحسين والتقبيح العقليين قبل ورود الشرع، هل العقول تدرك حسن الأشياء وقبحها، هل العقول تعرف أن هذا نبي أو ليس بنبي، ولذلك لاحظ هرقل لَمَّا سأل أبو سفيان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسأله عن معجزة، بل سأله عن صفات ودلائل، ولذلك سأله الأسئلة العشرة، ولم يسأله هل معه معجزة أو لا؟ فعرف أنه نبي بهذه الدلائل.
{(وطَائِفَةٌ تَزْعُمُ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالصَّانِعِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ، وَحُدُوثُهَا يُعْلَمُ إمَّا بِحُدُوثِ الصِّفَاتِ، وَإِمَّا بِحُدُوثِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهَا فَيَجْعَلُونَ نَفْيَ أَفْعَالِ الرَّبِّ وَنَفْيَ صِفَاتِهِ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ إلَّا بِهَا ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعَقْلَ عَارِضُ السَّمْعِ - وَهُوَ أَصْلُهُ - فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَالسَّمْعُ: إمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ وَإِمَّا أَنْ يُفَوَّضَ)}.
وهذه دعوى المتكلمين في وجود تعارض بين الأدلة العقلية وبين الأدلة السمعية، وهو ما يسمونه عندهم بالقانون الكلي، يقولون: إذا جاء السمع بدليلٍ يناقض الدليل العقلي، فإما أن يقبل الدليل السمعي والعقلي، قالوا: وهذا جمع بين النقيضين، وإما أن يرد الدليل السمعي والعقلي، قالوا: وهذا ارتفاع للنقيضين وهذا محال وذلك محال، بقي إما أن يقبل الدليل السمعي ويرد الدليل العقلي، أو يقبل الدليل العقلي ويرد الدليل السمعي، ما الذي قدموه؟
قدموا الدليل العقلي وردوا الدليل السمعي، إما أن يرد إذا كان أخبار أحاد وإما أن يؤول وإما أن يفوض، هذه دعوى ادعاها المتكلمون فيما يسمى بالقانون الكلي، شيخ الإسلام ردَّ عليهم بإبطال هذا القانون من أصله، وقال: دعوى التعارض بين الدليل العقلي والدليل النقلي غير صحيح، إما أن يكون النقل غير صحيح، وإما أن يكون العقل غير صحيح وغير صريح، وبالتالي ألف الكتاب النفيس "درء تعارض العقل والنقل"، لكن لو وجد ما يوهم التعارض، أين الإشكال؟
هل الإشكال في النقل الصحيح الصريح أو الإشكال في العقل؟
الإجابة: في العقل لأنه قاصر لا يدرك كل شيء، وهذا مما يعترف به العقلاء، فهم افترضوا هذه الفرضية التي ردَّ عليها شيخ الإسلام.
ولهذا يقول: (وَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ)، بل حتى أقوال سلف الأمة ما قبلوها، فلم يقبلوا لا كتاب ولا سنة ولم يقبلوا قول سلف الأمة، هذا عند المتكلمين.
ثم يقول: إن هؤلاء الذين يقدمون العقول على أدلة الوحي يتناقضون ويضلون من وجوه، ما هي؟
{(وَهَؤُلَاءِ يَضِلُّونَ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّمْعَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ تَارَةً وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ)}، لاحظ هنا تارة جاء في بعض النسخ، المحقق قال: كذا في الأصل والصواب المجرد وهذا هو الصحيح، فيكون الصواب ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد، هذا هو الصواب، يعني مجرد أنه خبر، مجرد العقول، بمعنى أن أخبار السمع لا تدركها العقول، إنما هو مجرد خبر، ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد وليس الأمر كذلك.
{قال: (مِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّمْعَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ المجرد وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ الْقُرْآنُ بَيَّنَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ - الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا الْمَطَالِبُ الدِّينِيَّةُ - مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّظَرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَطَالِبُ: شَرْعِيَّةً وعَقْلِيَّةً)}.
ولذلك دعواهم أنهم أهل عقل وأهل أدلة عقلية وقواطع عقلية، لما تنظر إليها وإذا هي سفسطة العقلاء لا يقرون بها، بل أدلة الشرع هي أدلة عقلية، انظر في أدلة البعث في عظمة الخالق -تبارك وتعالى-، في دلائل النبوة، ولهذا إذا وُصِفَ هؤلاء حتى المتأخرين إذا وصفوا بالعقلانيين لا يفهم منه المدح، بل لديهم اضطراب وتناقض، بدليل أنه يرد بعضهم على بعض، بل أدلة الشرع هي الأدلة العقلية، وتأملوا في بيان عظمة الخالق وإثبات البعث، كلها أدلة عقلية وإن كانت هي أدلة سمعية، فهذا هو الجواب الأول، ظنهم أن أدلة السمع أو الأدلة الخبرية هي مجرد أخبار وليس فيها دلائل عقلية، بل فيها من الدلائل العقلية ما يُقر بها العقلاء، ولهذا الشريعة تأتي بما تحارُ فيه العقول لا بما تحيله العقول، ولهذا العقلاء قاطبة يقرون بدلائل الشرع.
ثانيًا:
{(ومِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي سَلَكُوهَ)}، وما الطرق المعينة التي سلكوها؟ وهي المعجزة عندهم فقط، لا يوجد دليل على صدق النبي عند المتكلمين إلا المعجزات، ولهذا اختلط عندهم النبي مع الساحر والكاهن مع كرامة الولي، لأنه ليس عندهم طريق يدل على صدق النبوة إلا المعجزات، بينما عند أهل السنة دلائل النبوة كثيرة كما ذكرنا عن أسئلة هرقل لأبي سفيان، فعرف أنه نبي بدلائل غير دليل المعجزة.
{(وَهُمْ مُخْطِئُونَ قَطْعًا فِي انْحِصَارِ طَرِيقِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- كَثِيرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
أين بسط؟ في كتب دلائل النبوة وهي كثيرة.
{(ومِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكُوهَا صَحِيحَةٌ وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً)}، يزعمون أن هذه الطريقة التي سلكوها طريقة صحيحة والواقع أنها ليست صحيحة، فمنهج المتكلمين منهج فاسد، يدل على فساده الشرع والعقل والفطرة.
{(وَمِنْهَا: ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا عَارَضُوا بِهِ السَّمْعَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَيَكُونُونَ غَالِطِينِ فِي ذَلِكَ)}، يزعمون أن هذه المعارضات أنها عقلية، فلما تنظر إليها وإذا هي سفسطة، هذه المعارضات التي يعارضون بها الشرع وأدلة الشرع وتتأملها تجد أن العقل لا يقر بها، ولهذا يقعون في التناقض بل يرد بعضهم على بعض.
{(فَإِنَّهُ إذَا وُزِنَ بِالْمِيزَانِ الصَّحِيحِ وُجِدَ مَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ الْمَجْهُولَاتِ؛ لَا مِنْ الْمَعْقُولَاتِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}، ومن الكتاب درء تعارض العقل والنقل، الدعاوي التي يدعيها المتكلمون في معارضة الشرع يسمونها قواطع عقلية لما تنظر إليها وإذا هي مجهولات، سفسطات، تمويه على الجهال.
{(وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِنْ "صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى" مَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ؛ كَمَا أَرْشَدَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ )}.
لاحظ المصنف هنا: (وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِنْ "صِفَاتِ)، (مِنْ) هنا تبعيضية، بمعنى أن هناك صفات لا يحيط بها العقل، لماذا؟ لأن العقل لا يعرف كل شيء وانظر في عقول الناس اليوم، هل عقول البشر اليوم يعرفون كل شيء؟ حتى لو كان عبقريًا في مجاله، هو عبقري في مجاله لكن ما يجهله أكثر بكثير مما يعلمه، فإذا هو لا يحيط بكل شيء، فكيف بِعَالَمِ الغيب، عالم الملائكة وعالم الآخرة وما يتعلق بصفات الرَّبِّ، ما يخفى على العقل أكثر بكثير مما يدركه العقل.
{(وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ: عَلَى أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ حَيٌّ؛ عَلِيمٌ؛ قَدِيرٌ؛ مُرِيدٌ؛ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ؛ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ. يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ منهم، بَلْ وَكَذَلِكَ الْحُبُّ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ. يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ)}.
(وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ) وهم المتكلمون من علماء الأشاعرة والماتريدية أن من الصفات ما يعلم بالعقل وهي الصفات المعنوية، ولذلك يقولون: دليل هذه الصفات السبع هو دليل عقلي، ونقول: هو دليل عقلي ودليل شرعي، يقال لهم: كذلك بقية الصفات وهذا مر معنا في أي قاعدة، القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
{(بَلْ وَكَذَلِكَ الْحُبُّ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ. يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَكَذَلِكَ عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَمُبَايَنَتُهُ لَهَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا أَثْبَتَتْهُ بِذَلِكَ الْأَئِمَّةُ: مِثْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ. وَمِثْلُ: عَبْدِ الْعَالِي الْمَكِّيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إمْكَانُ الرُّؤْيَةِ)}.
يعني أن هذه الصفات الأخرى وهي الحب والرضا والغضب والعلو يمكن أن تثبت بالعقل كما أثبتت الصفات المعنوية.
{أحسن الله إليكم، من عبد الله بن سعيد بن كلاب؟}
هو مؤسس مذهب الكلابية، والمذهب الأشعري امتداد إلى طريقة ابن كلاب.
{كيف استدل به هنا؟}
يقول: إنه يمكن ولذلك مر معنا في القاعدة، أن العقل يدل على مباينة الخالق وعظمة الخالق -تبارك وتعالى-، الوقوف هنا ليس عند كل صفة بدلالة العقل، ولذلك مرت معنا في القاعدة في الأصل الأول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض، وأشار إليه، يقول: كما أنكم تثبتون هذه الصفات المعنوية بالعقل كذلك يمكن أن تثبت بقية الصفات بالعقل، بل يقول لك حتى الرؤية، ولهذا إثبات الرؤية بالعقل له طرائق، ذكر هنا طريقين، أنه يمكن إثبات الرؤية وأشار لها أيضًا سابقًا، هل يمكن أن تثبت الرؤية بالعقل؟ طبعًا نحن لسنا بحاجة إلى الدليل العقلي ما دام الدليل النقلي موجود، لكن يقول من باب التأكيد أنه يمكن أن تثبت بالعقل وبالدليل.
{(بَلْ وَكَذَلِكَ إمْكَانُ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ)}.
هذا الدليل دليل عقلي ولا لا، ما دام أنه موجود، هل موجود لا يُرى؟ لا، إذا هو دليل عقلي، والخالق ما دام أنكم تقرون بأن الخالق موجود، فكل موجود يُرى.
{(وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ)}.
يعني: كأنه يقول: الأولى صحيحة ولكن الثانية أصح، فهما طريقان عقليان.
{(وَقَدْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ بِتَقْسِيمِ دَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُقَالُ: إنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ فَإِنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ يَكُونُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ: أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
وعموما المسلم لا يحتاج إلى هذه الأدلة العقلية، إنما يحتاج إليها في باب النقاش والمناظرة والرد على المخالفين، وإلا هو يسلم بأدلة الشرع ويعرف أنها حق وصدق.
{(وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْأَئِمَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ نُظَّارِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن: لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالْأُخْرَى؛ فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لَوُصِفَ بِالْمَوْتِ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْقُدْرَةِ لَوُصِفَ بِالْعَجْزِ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَوُصِفَ بِالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَالْبُكْمِ)}.
وهذا دليل عقلي على إثبات الصفات إضافة للدليل السمعي.
{(وَطَرْدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ. فَسَلْبُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُخْرَى وَتِلْكَ صِفَةُ نَقْصٍ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْكَامِلُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَنْزِيهُ الْخَالِقِ عَنْهَا أَوْلَى)}.
فهذا كما تقدم تأكيد لما سبق لأدلة العقل على صفات الرب -تبارك وتعالى- إجمالاً.
{(وَهَذِهِ الطَّرِيقُ غَيْرُ قَوْلِنَا إنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ يَتَّصِفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ؛ فَالْخَالِقُ أَوْلَى فَإِنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِأَنْفُسِهَا مُغَايِرٌ لِطَرِيقِ إثْبَاتِهَا بِنَفْيِ مَا يُنَاقِضُهَ)}، يقول وهذا دليل عقلي آخر، هو مر معنا في القاعدة السابقة أيضًا، وهي في الاستدلال بقياس الأولى والأحرى.
{قال: (وَقَدْ اعْتَرَضَ طَائِفَةٌ مِنْ النفاة عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِاعْتِرَاضِ مَشْهُورٍ لَبَّسُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ؛ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَظُنُّ صِحَّتَهُ وَيُضَعِّفُ الْإِثْبَاتَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ حَتَّى الأمادي أَمْسَى مَعَ أَنَّهُ أَصْلُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الجهمية)}.
ولعل الإخوة والأخوات يذكرون مر معنا هذا الاعتراض صفحة 37 إذا عدتم إلى ما ذكرناه سابقًا، صفحة 37 في الأصل الأول: (فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَا وَهَذَانِ يَتَقَابَلَانِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ؛ لَا تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ) إلى غير ذلك، هناك في الموضع 37 أجاب جواباً مجملاً، هنا فصل في الجواب، فإذاً ما يذكر هنا هو تأكيد لما سبق، هو لما ذكر أدلة العقل على إثبات الصفات وأن من الصفات ما يدل عليها العقل مع أدلة السمع ونوع الأدلة ذكر اعتراض المتكلمين، وقالوا: إن هذه الأدلة العقلية التي تقولونها عليها اعتراض، ما الاعتراض؟ قالوا: إنما هذه الصفات فيمن يقبل السلب والإيجاب، أمَّا الخالق -تبارك وتعالى- فإنه لا يصح فيه السلب والإيجاب وإنما يصح فيه العدم والملكة، طبعًا هذا لا يقال في الوجود ولا يقال في الحياة ولا يقال في العلم، فهناك 37 كان جواب مجمل، هنا قصر في الجواب ولذلك من هذا الموضع إلى نهاية القاعدة هو جواب عن هذا الاعتراض والذي سبق التأكيد عليه.
اعتراضهم قالوا: نعترض في أنه إذا لم يوصف بأنه داخل العالم سيكون خارج العالم، قالوا: لا، هو لا داخل العالم ولا خارج العالم، نقول هذا لا يكون في الموجود، هذا يكون في المعدوم.
قال: (وَقَدْ اعْتَرَضَ طَائِفَةٌ مِنْ النفاة) وهم الباطنية، (عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ) وهو إذا لم يكن خارج العالم فهو داخل العالم، الذي نقول لا داخل العالم ولا خارجه، يقول: (بِاعْتِرَاضِ مَشْهُورٍ لَبَّسُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ) وهي قضية تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب، (حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَظُنُّ صِحَّتَهُ) يعني: يظن أنه ممكن أن يقال: الخالق لا يوصف بالسلب والإيجاب والوجود والعدم والحياة والموت، (وَيُضَعِّفُ الْإِثْبَاتَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ حَتَّى الأمادي) أغتر به (مَعَ أَنَّهُ أَصْلُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الجهمية).
ماذا قالوا؟ هذا الاعتراض الذي سبق ماذا قالوا؟
{(فَقَالُوا: الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؛ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا: لَكَانَ مُتَّصِفًا بِمَا يُقَابِلُهَا فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى بَيَانِ حَقِيقَةِ الْمُتَقَابِلَيْنِ. وَبَيَانُ أَقْسَامِهِمَ)}.
يعني: هذا هو الدليل العقلي، كيف اعترضوا على هذا الدليل؟ وهل هذا الاعتراض صحيح ويقبله العقلاء؟ ماذا قالوا؟
{(فَنَقُولُ: وأَمَّا الْمُتَقَابِلَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ إمَّا أَلَّا يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ: أَوْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهُوَ تَقَابُلُ التَّنَاقُضِ؛ وَالتَّنَاقُضُ هُوَ اخْتِلَافُ النَّقِيضَيْنِ)}.
مثل الحياة والموت، والعلم والجهل، والحركة والسكون، لا يرتفعان ولا يجتمعان.
{(وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ لِذَاتَيْهِمَا؛ كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ حَيَوَانٌ زَيْدٌ لَيْسَ بِحَيَوَانِ. وَمِنْ خَاصَّةِ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ طَرَفَيْهِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ: أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَلَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ)}.
هنا فيه سقط في المخطوط، المحقق نبه إليه في الرد على هذا الاعتراض.
قال: (والرد عليه من وجوه) على هذا الاعتراض، ماذا قال؟ الوجه الأول:
{(الوجه الأول: أن هذا التقسيم غير حاصل، فإنه يقال بالموجود إما أن يكون واجباً بنفسه وإما أن يكون ممكنًا بنفسه وهذان الوجود والإمكان لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ؛ إذْ كَوْنُ الْمَوْجُودِ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَمُمْكِنًا بِنَفْسِهِ. لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ)}.
يعني: أن هذا لا يصح في الوجود والعدم والحياة والموت أنها يتقابلان تقابل ملكة وعدم، بل يتقابلان تقابل سلب وإيجاب.
{(فَإِذَا جَعَلْتُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ: وَهُمَا " النَّقِيضَانِ مَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ " فَهَذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَلَيْسَ هُمَا السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ فَلَا يَصِحُّ حَصْرُ النَّقِيضَيْنِ - اللَّذَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ - فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ ثَبَتَ وَصْفَانِ - شَيْئَانِ - لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ؛ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذَا فَمَنْ جَعَلَ الْمَوْتَ مَعْنًى وُجُودِيًّا: فَقَدْ يَقُولُ إنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ وَالصَّمَمُ وَالْبُكْمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ)}.
يعني أن هذه الصفات لا ينطبق عليها هذا الوصف.
{(الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَسِيمُ يَتَدَاخَلُ؛ فَإِنَّ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ: يَدْخُلُ فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ والمتضايفان يَدْخُلَانِ فِي الْمُتَضَادَّيْنِ إنَّمَا هُمَا نَوْعٌ مِنْهُ فَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ: فَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ -وَهُوَ أَنْ يُسْلَبَ عَنْ الشَّيْءِ مَا لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُ- وَلِهَذَا جُعِلَ مِنْ خَوَاصِّهِ أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ. إلَى الآخر)}.
وهذا تقدم سابقًا.
{(قِيلَ لَهُ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ: -أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَايَةَ هَذَا أَنَّ السَّلْبَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَلْبُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِهِ وَالثَّانِي: سَلْبُ مَا لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهِ. فَيُقَالُ: الْأَوَّلُ إثْبَاتُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ وَلَا يَجِبُ وَالثَّانِي: إثْبَاتُ مَا يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ. وَإِثْبَاتُ الْوَاجِبِ. كَقَوْلِنَا زَيْدٌ حَيَوَانٌ فَإِنَّ هَذَا إثْبَاتٌ وَاجِبٌ، وَزَيْدٌ لَيْسَ بِحَجَرِ فَإِنَّ هَذَا سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ - كَقَوْلِنَا الْمُثَلَّثُ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ - يَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْقِسْمَ يَخْلُو فِيهِ الْمَوْصُوفُ الْوَاحِدُ عَلَى الْمُتَقَابِلَيْنِ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ عَنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - فَصِفَاتُ الرَّبِّ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ - فَإِذَا قِيلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا أَوْ عَلِيمًا أَوْ سَمِيعًا أَوْ بَصِيرًا أَوْ مُتَكَلِّمًا؛ أَوْ لَا يَكُونُ: كَانَ مِثْلُ قَوْلِنَا: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ. وَهَذَا مُتَقَابِلٌ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَيَكُونُ الْآخَرُ مِثْلُهُ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ)}.
بمعنى أن صفات الرب مثل الوجود والعدم، هي تتقابل سلب وإيجاب لا تقابل عدم وملكة.
{(فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْلَمَ إمْكَانُ قَبُولِهِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ: قِيلَ لَهُ هَذَا إنَّمَا اشْتَرَطَاَ فِيمَا أَمْكَنَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ وَيَزُولَ كَالْحَيَوَانِ؛ فَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى: فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَهُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ ضَرُورَةً؛ فإنه لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهَا وَبِعَدَمِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً حَيًّا وَتَارَةً مَيِّتًا وَتَارَةً أَصَمَّ وَتَارَةً سَمِيعًا وَهَذَا يُوجِبُ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ؛ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ قَطْعًا؛ بِخِلَافِ مَنْ نَفَاهَا وَقَالَ: إنَّ نَفْيَهَا لَيْسَ بِنَقْصِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مَعَ إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِهَا لَا يَكُونُ نَفْيُهَا نَقْصًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: أَنْتَ فِي تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ إنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ الطَّرَفَيْنِ: لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَقُولَ وَاجِبُ الْوُجُودِ؛ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ؛ وَالْمُمْتَنِعُ الْوُجُودِ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ هُنَا مَعْلُومُ الْوُجُودِ. وَالْآخَرَ مَعْلُومُ الِامْتِنَاعِ)}.
بمعنى أن هذه القاعدة لا تنطبق على الوجود والعدم.
{(وَإِنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ أَحَدِهِمَا صَحَّ أَنْ تَقُولَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إنْ كَانَ مُمْكِنًا صَحَّ التَّقْسِيمُ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا: كَانَ الْإِثْبَاتُ وَاجِبًا وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُقَابِلُ السَّلْبَ وَالْإِيجَابَ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الِاعْتِرَاضِ؛ لَكِنَّ غَايَتَهُ: أَنَّهُ إمَّا سَمِيعٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِسَمِيعِ وَإِمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ؛ وَالْمُنَازِعُ يَخْتَارُ النَّفْيَ فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْمُثْبَتُ وَاجِبٌ؛ وَالْمَسْلُوبُ مُمْتَنِعٌ. فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَاجِبَةً لَهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِالِامْتِنَاعِ لَا وَجْهَ لَهُ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ. بَلْ قَدْ يُقَالُ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ بُطْلَانَ الِامْتِنَاعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ أَصْلِ الصِّفَاتِ؛ وَقَدْ عُلِمَ فَسَادُ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فِي إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ فَإِنَّهَا إمَّا وَاجِبَةٌ لَهُ وَإِمَّا مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَابِلًا لَهَا خَالِيًا عَنْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِمَنْ سَلَكَهَا مِنْ النُّظَّارِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: فَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا زَيْدٌ إمَّا عَاقِلٌ وَإِمَّا غَيْرُ عَاقِلٍ؛ وَإِمَّا عَالِمٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِعَالِمِ وَإِمَّا حَيٌّ وَإِمَّا غَيْرُ حَيٍّ وَإِمَّا نَاطِقٌ وَإِمَّا غَيْرُ نَاطِقٍ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ سَلْبُ الصِّفَةِ عَنْ مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا دَاخِلًا فِي قِسْمِ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وَخِلَافُ اتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَخِلَافُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ وَغَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضَايَا تَتَنَاقَضُ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ صِدْقُ إحْدَاهُمَا كَذِبُ الْأُخْرَى فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ التَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهَا. وَغَايَةُ فِرَقِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إذَا قُلْنَا: هُوَ إمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ: كَانَ إيجَابًا وَسَلْبًا وَإِذَا قُلْنَا: إمَّا بَصِيرٌ؛ وَإِمَّا أَعْمَى: كَانَ مَلَكَةً وَعَدَمً)
}.
يعني هو مجرد تغير في الألفاظ والمصطلحات والنتيجة واحدة مما يدل على تناقض هذا الاعتراض عندهم.
{(وَهَذِهِ مُنَازَعَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ. فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ التَّقَابُلِ: أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَإِنَّ الِاسْتِحَالَةَ هُنَا مُمْكِنَةٌ كَإِمْكَانِهَا إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْعَمَى)}.
وبهذا يتبين أن الاعتراضات التي يعترضون بها على أدلة الشرع ليست طلاقة عقلية، بل هي سفسطة، هذه كلها أوجه على الاعتراض السابق.
{(الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْسِيمُ الْحَاصِرُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَقَابِلَانِ إمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَخْتَلِفَا بِذَلِكَ بَلْ يَكُونَانِ إيجَابِيَّيْنِ أَوْ سَلْبِيَّيْنِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ النَّقِيضَانِ. وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُمْكِنَ خُلُوُّ الْمَحَلِّ عَنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَالْأَوَّلُ: هُمَا الضِّدَّانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَالثَّانِي: هُمَا فِي مَعْنَى النَّقِيضَيْنِ وَإِنْ كَانَا ثُبُوتِيَّيْنِ كَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالْغَيْرِ وَالْمُبَايَنَةِ وَالْمُجَانَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ وَالصَّمَمَ وَالْبُكْمَ وَالسَّمْعَ: لَيْسَ مِمَّا إذَا خَلَا الْمَوْصُوفُ عَنْهُمَا وُصِفَ بِوَصْفِ ثَالِثٍ بَيْنِهِمَا كَالْحُمْرَةِ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِذَا انْتَفَى تَعَيَّنَ الْآخَرُ)}.
وهما تقابل السلب والإيجاب، الذي لا يرتفعان ولا يجتمعان.
{(الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْمَحَلُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا: أَنْقَصُ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْبَلُ ذَلِكَ وَيَخْلُو عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَ الْحَجَرُ وَنَحْوُهُ أَنْقَصَ مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى)}.
وهذا سبق في الأجوبة المجملة، لأن اتصاف الشيء بهذه الصفات أكمل من الذي لا يتصف بها.
{(وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْبَارِئُ مُنَزَّهًا عَنْ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا فَتَنْزِيهُهُ عَنْ امْتِنَاعِ قَبُولِهِ لَهَا أَوْلَى وَأَحْرَى إذْ بِتَقْدِيرِ قَبُولِهِ لَهَا يَمْتَنِعُ مَنْعُ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَاتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ مُمْتَنِعٌ فَيَجِبُ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ قَبُولِهِ لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ لَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا بِصِفَاتِ النَّقْصِ وَهَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَثَبَتَ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِذَلِكَ مُمْكِنٌ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ الْوَجْهُ)}.
بمعنى أنه قد يعكس الدليل فيقال بل العقل يدل على اتصاف الرب بهذه الصفات.
الوجه الخامس:
{(الْخَامِسُ. أَنْ يُقَالَ: أَنْتُمْ جَعَلْتُمْ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِثُبُوتِ فَإِذَا عَنَيْتُمْ بِالْإِمْكَانِ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ - هُوَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ - كَانَ هَذَا بَاطِلًا لِوَجْهَيْنِ: - أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُلْزِمُكُمْ أَنْ تَكُونَ الْجَامِدَاتُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا لَا حَيَّةٌ وَلَا مَيِّتَةٌ وَلَا نَاطِقَةٌ وَلَا صَامِتَةٌ وَهُوَ قَوْلُكُمْ - لَكِنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ - وَأَلَّا فالعرب يَصِفُوا هَذِهِ الْجَمَادَاتِ بِالْمَوْتِ وَالصَّمْتِ)}.
وهذا تقدم أيضًا، هم يدعون أنه من المخلوقات ما لا يوصف بذلك، فيقال: بل هذا اصطلاح اصطلحتموه وإلا العرب قد تصف الجمادات بهذه الصفات.
{(وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ فَهَذَا فِي " الْأَصْنَامِ " وَهِيَ مِنْ الْجَمَادَاتِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِالْمَوْتِ وَالْعَرَبُ تُقَسِّمُ الْأَرْضَ إلَى الْحَيَوَانِ وَالْمَوَتَانِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَوَتَانُ بِالتَّحْرِيكِ خِلَافُ الْحَيَوَانِ يُقَالُ: اشْتَرِ الْمَوَتَانِ وَلَا تَشْتَرِ الْحَيَوَانَ)} يعني: اشتري الجمادات لأنها لا تموت، اشتري العقار هذه لا تموت، بينما الحيوان يموت، فهذه من حنكتهم في التجارة، اشتر الموتان يعني: الأشياء الجامدة التي ليس لها صلاحية فيها ولا تموت، بخلاف الحيوان أو بالأشياء التي تنتهي وتموت.
{(اشْتَرِ الْمَوَتَانِ وَلَا تَشْتَرِ الْحَيَوَانَ أَيْ اشْتَرِ الأرضين وَالدَّوْرَ؛ وَلَا تَشْتَرِ الرَّقِيقَ وَالدَّوَابَّ؛ وَقَالُوا أَيْضًا: الْمَوَاتُ مَا لَا رُوحَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا إنَّمَا يُسَمَّى مَوَاتًا بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ: " لِلْحَيَاةِ" الَّتِي هِيَ إحْيَاءُ الْأَرْضِ: قِيلَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَيَاةَ أَعَمُّ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَأَنَّ الْجَمَادَ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلزَّرْعِ وَالْعِمَارَةِ؛ وَالْخَرَسُ ضِدُّ النُّطْقِ)}.
هل هذه الجمادات تخشع من ذكر الله؟ لا، وهل سمع لجذع النخلة حنين، يعني معروف، لذلك دعوى أن هؤلاء لا تتصف بهذه الصفات دعوى باطلة.
{(وَالْعَرَبُ تَقُولُ "لَبَنٌ أَخْرَسُ" أَيْ خَاثِرٌ لَا صَوْتَ لَهُ فِي الْإِنَاءِ "وَسَحَابَةٌ خَرْسَاءُ" لَيْسَ فِيهَا رَعْدٌ وَلَا بَرْقٌ "وَعَلَمٌ أَخْرَسُ" إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِي الْجَبَلِ صَوْتُ صَدًى" وَيُقَالُ: "كَتِيبَةٌ خَرْسَاءُ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الَّتِي صَمَتَتْ مِنْ كَثْرَةِ الدُّرُوعِ لَيْسَ لَهُ فقاقع)}، أو فقاقع، يسمونه القعقعة {(وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ الصَّمْتُ وَالسُّكُوتُ؛ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِهِ الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ إذَا تَرَكَهُ؛ بِخِلَافِ الْخَرَسِ فَإِنَّهُ عَجْزٌ عَنْ النُّطْقِ. وَمَعَ هَذَا فَالْعَرَبُ تَقُولُ: " مَا لَهُ صَامِتٌ وَلَا نَاطِقٌ " فَالصَّامِتُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنَّاطِقُ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ فَالصَّامِتُ مِنْ اللَّبَنِ: الْخَاثِرُ وَالصَّمُوتُ: الدِّرْعُ الَّتِي صُبت إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ. وَيَقُولُونَ: دَابَّةٌ عَجْمَاءُ وَخَرْسَاءُ لِمَا لَا تَنْطِقُ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا النُّطْقُ فِي الْعَادَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ»)}.
مع أنها في وجه آخر قد تنطق ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: 16].
{(وَكَذَلِكَ فِي "الْعَمْيَاءِ" تَقُولُ الْعَرَبُ: عَمَى الْمَوْجُ يَعْمِي عما إذَا رَمَى بِالْقَذَى وَالزَّبَدِ؛ و "الأعميان" السَّيْلُ وَالْجَمَلُ الْهَائِجُ. وَعَمَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ إذَا الْتَبَسَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ﴾ وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ قَدْ يُقَالُ فِي بَعْضِهَا إنَّهُ عَدَمٌ مَا يَقْبَلُ الْمَحَلَّ الِاتِّصَافَ بِهِ كَالصَّوْتِ؛ وَلَكِنْ فِيهَا مَا لَا يَقْبَلُ كَمَوْتِ الْأَصْنَامِ)}.
إذاً هذا الوجه رد عليهم في أن الجمادات لا توصف بهذه الصفات، بل توصف بها من باب التنزه.
{(الثَّانِي: أَنَّ الْجَامِدَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْجَمَادَاتِ حَيَاةً كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً تَبْتَلِعُ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ - وَإِذَا كَانَ فِي إمْكَانِ الْعَادَاتِ: كَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ - وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَائِلُونَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ الْجَمَادَاتُ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِالْحَيَاةِ وَتَوَابِعِ الْحَيَاةِ ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَيَكُونُ الْخَالِقُ أَوْلَى بِهَذَا الْإِمْكَانِ وَإِنْ عَنَيْتُمْ الْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ - وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ - فَهَذَا حَاصِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ اتِّصَافِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ)}.
فدلَّ على أن إثبات الصفات يمكن أن يدرك بدليل عقلي.
{(الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِالْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ فَإِمْكَانُ الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ يُعْلَمُ تَارَةً بِوُجُوهِ لَهُ أَوْ بِوُجُودِهِ لِنَظِيرِهِ أَوْ بِوُجُودِهِ لِمَا هُوَ الشَّيْءُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ: ثَابِتٌ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَمُمْكِنٌ لَهَا. فَإِمْكَانُهَا لِلْخَالِقِ تَعَالَى أَوْلَى وَأَحْرَى؛ فَإِنَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ. وَهُوَ قَابِلٌ لِلِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ؛ وَإِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً فِي حَقِّهِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا.
الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يُقَالَ: مُجَرَّدُ سَلْبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ لِذَاتِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ عَمًى وَصَمَمًا وَبُكْمًا أَوْ لَمْ تُسَمَّ. وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَتَكَلَّمُ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ: كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي)
}، ولذلك وصف الخالق بالصفات السلبية والنفي أسوء من إثبات بعض الصفات.
{(وَلِهَذَا عَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ عَبَدَ مَا تَنْتَفِي فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ؛ فَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ: ﴿لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئً﴾ وَقَالَ أَيْضًا فِي قِصَّتِهِ: ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ﴾ ﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ )}.
وصف هذه الأصنام بهذه الصفات يدل على صفات نقص وأن الخالق منزه عن صفات النقص.
{(وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي الْعِجْلِ: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فَقَابَلَ بَيْنَ الْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ وَبَيْنَ الْآمِرِ بِالْعَدْلِ: الَّذِي هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)}.
وبهذا تنتهي القاعدة السابعة والتي وضعها المصنف -رحمه الله- في بيان أدلة العقل على كثير مما دل عليه السمع من الأسماء والصفات، بهذا تكون قد انتهت هذه القواعد والتي استغرقت في بيانها مع المقدمة ومقدمات الأصل الأول أكثر من ثلثي الكتاب، أكثر من ثلثي الكتاب في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات.
خلاصة ما تقدم كما هو ظاهر في الشرائح أمام المشاهدين: أن المصنف -رحمه الله- بعد المقدمة التي بيَّن فيها سبب التأليف وأهمية هذين الأصلين والفرق بين هذين الأصلين انتقل إلى بيان الأصل الأول، ابتدئه بمقدمة في بيان هذا الأصل والواجب فيه ومعتقد السلف والأئمة وطريقة الرسل، ثم طريقة من حاد عن الرسل وأصناف هؤلاء الذين حادوا وزاغوا عن طريقة الرسل، وأجاب على شبهاتهم بإجابات مجملة، ثم أكد الجواب بأصلين ومثلين.
الأصل الأول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض، وهو الذي أكد عليه مرارًا وتكرارًا وجاء في كثير من القواعد.
أما الأصل الثاني: هو القول في الصفات كالقول في الذات، ثم أيضًا بمثلين عقلين، بمثال النعيم في الجنة وأنه معلوم لنا بالأسماء ولكن الحقائق مختلفة، كذلك صفات الرب معلومة لنا من جهة المعنى ولكن الحقائق لا نعلمها، أيضًا بالروح التي يؤمن الناس بالصفات التي جاءت في الكتاب والسنة، ومع ذلك لا يعرفون حقيقة هذه الروح، ثم بالقواعد النافعة التي في الشريحة أمامكم، التي سماها الخاتمة الجامعة وفيها قواعد نافعة.
الأولى: أن الله موصوف بالإثبات والنفي.
والثانية: ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه، فإنه يجب الإيمان به، سواءً عرفنا معناه أو قصر الفهم عن معرفة معناه، وكذلك ما جاء عن سلف الأمة وما لم يرد فيه نفي ولا إثبات، فإننا نتوقف في اللفظ ونستفصل في المعنى.
أيضًا القاعدة الثالثة: أن يقال ظاهر النصوص هل هو مراد أو ليس بمراد؟ والجواب فيه تفصيل.
والرابعة: المحاذير التي يقع فيها معطلة الصفات.
والخامسة: وفيها بسط المصنف -رحمه الله- القول، أن نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، وفصل في المحكم والمتشابه وفي أنواع التأويل.
والسادسة وأيضًا أطال فيها: الضوابط التي يعرف بها الطرق الصحيحة والطرق الباطلة في النفي والإثبات.
ثم القاعدة السابعة والأخيرة: وهي دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع.
أرفقنا نشاطًا تدريبيًا وهو عبارة عن أسئلة وضعها الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمة الله عليه- للطلاب عند تدريسه للعقيدة التدمرية في كلية الشريعة، فهي أسئلة متروكة للمشاهدين لأجل تدريب الفهم.
ميزة هذه الأسئلة أنها من صياغة الشيخ محمد بن عثيمين ومن خط يده وفيها دقة، فهو نشاط تدريبي وإثرائي لفهم هذه القواعد.
بقي لنا -إن شاء الله- الفصل الأخير المتعلق ببيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين، وإياكم والإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات، وأن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا من المحققين للإيمان في أسمائه وصفاته على الوجه الذي يرضيه -سبحانه وتعالى.
{اللهم أمين.
وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك