الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس الثاني

العقيدة التدمرية

{بسم الله الرحمن الرحيم، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حالقت البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفَّاع العتيبي. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والمستمعين والمستمعات في هذا المجلس العلمي الثاني، أسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- لنا ولهم العلم النافع والعمل الصالح.
{توقفنا عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ فَيُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، وأُصلِّي وأُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا يا حي يا قيُّوم.
بعد أن ذكرَ شيخُ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المقدِّمةَ، وبدأها بالبسملةِ، ثم بخطبةِ الحاجةِ، ثم بيَّنَ سببَ التَّأليف العام، وسببَ التَّأليفِ الخاصِّ المتعلِّق بالسَّائل والمسؤول عنه، ثم بيَّن موضوعَ هذه الرسالةِ المتضمِّن لهذين الأصلين، وهو: بيان تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وبيان حقيقة الجمعِ بينَ القدر والشَّرع، ثم ذكر الفرق بين هذين الأصلين، ثم ذكر الواجب في كل واحدٍ من هذين الأصلين، ثم تضمُّنهما لأنواع التَّوحيد، وذكر الدَّليل على ذلك سورتا الإخلاص، ومواطن القراءة بهما، ولهذا حريٌّ بالمسلم إذا قرأ هاتين السورتين -سورة الإخلاص وسورة الكافرون- في سنة الفجر وسنة المغرب وركعتي الطواف وفي الوتر؛ أن يستحضر المعاني العظيمة في هاتين السورتين.
ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان الأصل الأول، فالرسالة مكوَّنة من مقدِّمة، ثم تحقيق الأسماء والصفات -وهو الأصل الأول-، وقد استغرق معه ثلثي الكتاب في النُّسخة التي بين أيدي الإخوة والأخوات من صفحة (6) وحتى صفحة (164)، وهذا الأصل الأول جعل له مقدِّمة تأصيلٍ وتقعيدٍ، ثم أشار إلى طرائق الزَّائغين، وردَّ عليهم بأدلة عقليَّة، ثم ردَّ عليهم بدليلين عقليين، ثم ردَّ عليهم بسبع قواعد، وهي تتضمَّن التَّأصيل والكشف للشُّبه التي أُثيرَت حول تحقيق الإثبات للأسماء والصِّفات.
قال: (فَأَمَّا الْأَوَّلُ)، أي: الأصل الأول.
قال: (وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ)، أي: ما ذكره في المقدمة من قوله: (الكَلامُ في التَّوحيد والصِّفات) قصد به عطفَ الخاص على العام؛ لأنَّه قال هنا: (وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ)، وقلنا: إنه لم يذكر الأسماء لأنَّه ما من اسمٍ إلا ويتضمَّن صفة، ولأنَّ الخلاف في الصفات أقوى من الخلاف في باب الأسماء.
قال: (فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ)، الأصل في كتب أهل العلم يُطلق ويُراد به أشياء كثيرة:
- فيُراد به الحكم.
- ويُراد به الدليل.
- ويُراد به القاعدة.
- ويُراد به الأصل الذي يُقاس عليه، كما في باب القياس، يُقال: هذا فرعٌ وهذا أصلٌ، فيُلحَق الفرعُ بالأصلِ في الحكم للعلَّة الجامعة بينهما.
فالسياق هو الذي يُحدِّد المراد إذا قيل "الأصل" في كتب أهل العلم.
أما هنا فقال: (فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ)، يعني: الحكم الواجب، أو القاعدة في تحقيق هذا الباب.
قال: (أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ فَيُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ)، لاحظ أنه أعاد ما ذكره في المقدمة من جهة الواجب لَمَّا قال: (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ)، فهذا هو الواجب، وهو الأصل في تحقيق هذا الباب.
قد يقول قائل: ذكر الصفات ولم يذكر الأسماء؟
ويُقال: إنَّه ذكر الصفات؛ لأنَّه ما من اسمٍ إلَّا ويتضمَّن صفةً، ولهذا ذكر الصفات.
قال: (أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتً)، فما وردَ إثباته نثبته، وما ورد نفيه ننفيه، وما لم يرد فيه نفي ولا إثبات سيُبيِّن الموقف منه في القاعدة الأولى.
إذًا؛ بالنسبة للمسلم وتحقيقه لهذا الأصل: فما وردَ الشَّرعُ بإثباته من الأسماء والصفات يُثبته، وما وردَ نفيه ينفيه، وما لم يرد فيه نفي ولا إثبات فله حكم التَّوقُّف في اللفظ، لا نفيًا ولا إثباتًا، والاستفصال في المعنى.
وهذا الأصل الذي ذكره في المقدمة سيأتي توضيحه في القواعد، وسيعيده من باب التأكيد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ إلْحَادٍ، لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي آيَاتِهِ)}.
لَمَّا ذكر الأصل في هذا الباب -الذي هو مُعتقد أهل السنة والجماعة- بيَّن الضَّوابط لهذا الإثبات، والضوابط لهذا النَّفي، فقال: (أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ)، يعني: ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة في النَّفي والإثبات.
قد يقو قائل: هل هذا النفي نفيًا مطلقًا؟ وهل هذا الإثبات إثباتًا مطلقًا؟ أو له ضوابط؟
نقول: هنا ذكر الضَّوابط التي عليها سلف الأمَّة وأئمَّتها، وذكره للسلف هو ذكر للمصدر الثالث من مصادر العقيدة، التي تعتمد على الكتاب والسنة والإجماع، فالإجماع مبني على فهم السلف، وفهم السلف هو التفسير والتَّطبيق العملي في فهم الآيات والأحاديث، وفي آخر هذه الرسالة ذكر الثَّناء على السابقين الأولين -الذين هم السلف.
ومصطلح "السَّلف" له إطلاقات:
- إطلاق وصفي: وهم كلُّ مَن كان على مثل ما كان عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابة في أبواب الاعتقاد وجميع أبواب الدين قولًا وعملًا واعتقادًا ومنهجًا، فيُقال: مذهب السلف؛ أي: على طريقتهم، وهذا الوصف يصدق على كل مَن سلك هذا المنهج في أي زمانٍ كان وأي مكانٍ كان.
- إطلاق زمني: ويُقصد به السابقين الأولين، فيدخل في ذلك الصحابة ومَن تبعهم من كبار التابعين وأئمَّة الدين، وهذا هو المقصود هنا.
وفهمهم هو التَّطبيق العملي والتفسير لأدلَّة الكتاب والسنَّة؛ لأنَّه قد يأتي من المتأخر مَن يحتج بأدلَّة الكتاب والسُّنة، ولكن قد يفسرها على غير طريقة السلف ومنهج السلف، وهؤلاء هم السابقون الأولون الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولهذا لما ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ هذه الأمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ قال الصحابة: صفهم لنا يا رسول الله، فقال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[3]، فميَّز صفة الفرقة الناجية بأنها مَن كان على مثل ما كان عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان عليه الصحابة، وهذه هي طريقة السلف..
قال: (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَ)، عطف "الأئمَّة" على السلف هو من باب عطف الخاص على العام؛ لأنَّ الصحابة وكبار التابعين وأئمَّة الدين من السلف، ولُقِّبوا بـ "الأئمَّة" لأنَّهم يُقتدى بهم في الدين، فهم الأئمَّة في الاقتداء وفي العلم، ويدخل في ذلك الصحابة عمومًا، ويدخل في ذلك أئمَّة الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ونحوهم، ويدخل في ذلك أئمَّة الفقه، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
ومن العجب أن تجد في العصور المتأخرة مَن ينتسب إلى هؤلاء الأئمَّة في الفقه ويُخالفهم في الاعتقاد، فتجده في الفقه ينتسب للشافعي، وفي العقيدة على غير طريقة الشافعي، وتجده في الفقه ينتسب لمالك، وفي العقيدة على غير طريقة مالك، وهذا من العجب، ومن الأمور التي يُرد بها على هؤلاء الأتباع الذين يقتدون بهؤلاء الأئمَّة في الفقه ويُقلِّدونهم، ثم يُخالفونهم في المعتقد!
قال: (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ)، فالإثبات له شروط والنفي له شروط، والشيخُ أجملَ في المقدِّمة، وأجملَ في هذا الأصل، ثم ذكر الضوابط والشروط لهذا الإثبات وهذا النفي، فهم يثبتون ولكن بضوابط، وينفون ولكن بضوابط، فيثبتون إثباتًا من غير تمثيل، ويُنزِّهون تنزيهًا من غير تعطيلٍ، فلا يغلون في الإثبات غلى حدِّ التَّمثيل، ولا يغلون في النفي إلى حدِّ التعطيل؛ بل هم وسطٌ، وهم حسنةٌ بين سيئتين.
وضوابط الإثبات: أن يكون من غير تكييف، والتكييف هو بيان كنه الشيء، وبيان كنه الشيء لا يكون إلا بمشاهدته ورؤيته، أو بمشاهدة المثيل والنَّظير، وهذا متعذر في حق الرب -تبارك وتعالى- فلا ندَّ له.
هل إذا قالوا: "من غير تكييف" ينفون الكيفيَّة؟ أو ينفون العلم بالكيفيَّة؟
الجواب: أنهم ينفون العلم بالكيفيَّة، أما الصفات فلها كيفيَّة لا يعلمها إلَّا الله، وكيفٌ يليق بالرَّب -تبارك وتعالى.
وأهل العلم يقولون: إنَّ التَّكييف محرمٌ، سواء كان بخيالات العقول، فيتخيَّل بعقله أو بقلبه، أو كان بتقريرات اللسان، أو كان بتحرير البيان؛ فكل هذا يدخل في التكييف والتَّمثيل والتشبيه المحرَّم، فسواء تخيَّل وتصوَّر في عقله، أو عبَّر عن ذلك بكلامٍ، أو حرَّرَ ذلك في كتاباته؛ فكل ذلك محرَّم، ونقول: الله ليس كمثله شيء، والعقول قاصرة، والتكييف لا يجوز لا في خيالات العقول واعتقادات القلوب، ولا في أقوال اللسان، ولا في تحرير البيان.
وقوله (وَلَا تَمْثِيلٍ)، التَّمثيل يُعبَّر عنه أحيانًا بالتَّشبيه، وقيل بينهما فرقٌ، فالذي نفاه الله في كتابه هو التَّمثيل، وهو: المساواة من كل وجه.
كذلك التشبيه، وهو مماثلة من وجه دون وجه، والذي جاء به التعبير في الكتاب هو نفي التمثيل، ومع ذلك فإن أهل العلم أيضًا ينفون التشبيه الذي يكون أحيانًا في بعض الصفات؛ لأنَّ الله قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ .
قال: (وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ)، التَّحريف يكون للأدلة:
- إمَّا تحريف لألفاظها: وهذا نادر وقليل.
- أو تحريف للمعاني.
ولا يُوجد في الأمَّة مَن يُصرِّح بالتَّحريف؛ لأنَّ هذا أمر شنيع، فالمعطِّلة يسمونه تأويلًا، من باب التَّلبيس على العامَّة، واستخدام الألفاظ التي تُستعمل استعمالات صحيحة واستعمالات خاطئة.
والغالب هو تحريف المعنى، مثل: تحريف مجيء الرب إلى مجيء مَلَك، وتحريف نزول الرَّب إلى نزول الرحمة.
قوله: (وَلَا تَعْطِيلٍ)، التعطيل أعم، فالتعطيل هو التَّجريد والتَّخلية، ولا يسمونه تعطيلًا، وإنما يسمونه تفويضًا، بمعنى أنَّ الأدلة -أو الصفات- لا معنى له.
والتعطيل إمَّا أن يكون:
- تعطيلًا كليًّا.
- أو تعطيلًا جزئيًّا.
ولازمٌ من التَّعطيل التَّحريف، والمحرِّفُ قد عطَّلَ، فالذي فسَّر المجيء -أي: مجيء الرب يوم القيامة- بمجيء مَلَك قد عطَّل الصِّفة ثم حرف المعنى، أمَّا المعطِّل فينفي المجيء تمامًا ولا يثبت شيئًا.
ولهذا يُقال: كلُّ محرِّفٍ معطِّل، وليس كلُّ معطِّلٍ محرِّفًا.
الشاهد من هذا: أنَّ السلف والأئمَّة بهذه الضَّوابط:
- من غير تكييف لها، كما ورد عن الإمام مالك أنه قال: "الكيفُ مجهولٌ".
- ومن غير تمثيل؛ لأنَّ الله ليس كمثله شيء.
- ومن غير تحريف لألفاظها ولا لمعانيها.
- ومن غير تعطيل، وهو ما يسميه المعطلة "التفويض"، يزعمون أنه طريقة السلف، وقد كذبوا على السلف؛ لأن السلف يفهمون المعاني، ولكنهم يفوِّضون الكيفيَّات، فيقولون: "الكيف مجهول، والاستواء معلوم".
فهذا في باب الإثبات، وكذلك في باب النفي، قال: (وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ)، وهل هذا النفي نفيٌ محض؟
الجواب: هذا النفي يتضمَّن إثبات ضده من صفات الكمال، ولهذا قال: (وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ)، أي: أنَّه نفيٌ يتضمَّن الكمال لله تبارك وتعالى.
قال: (مِنْ غَيْرِ إلْحَادٍ) والإلحاد هو: الميل. وإن كان في عصرنا يُطلق الإلحاد على الكفر والجحود، فيُقال لمَن يُنكرون وجود الخالق -عَزَّ وَجَلَّ-: "ملاحدة"، لكن في مصطلح السلف فإن "الإلحاد" أوسع، فيُطلق على مَن أنكر وجود الخالق، ويُطلق على الميل عن الحق إمَّا في الأسماء أو في الآيات، ولهذا قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مِنْ غَيْرِ إلْحَادٍ لَا فِي أَسْمَائِهِ)، والإلحاد في الأسماء أنواع كثيرة، ويدخل فيها الأصناف التي ذكرها -التكييف والتمثيل والتحريف والتعطيل- أو يسمي الرب -تبارك وتعالى- بما لم يُسمِّ به نفسه، فأنواعه كثيرة، وهو: الميل في باب الأسماء والصفات عن الحق الذي أراده الله -تبارك وتعالى.
قال: (وَلَا فِي آيَاتِهِ)، الآيات نوعان:
- آيات كونيَّة: والإلحاد فيها يكون بنسبتها إلى غير الله تعالى، أو زعم شريك مع الله -تبارك وتعالى- في خلقها، أو زعم أنَّها خُلِقَت من غير حكمة.
- آيات شرعيَّة: وهي آيات القرآن والأوامر والنَّواهي، والإلحاد فيها يكون بتكذيبها، أو بتبديلها، أو بالاستهزاء بها.
والمقصود: أنَّ الإلحاد في الأسماء له أنواع وصور كثيرة، والإلحاد في الآيات الكونيَّة له أنواع وصور كثيرة، والإلحاد في الآيات الشرعية له أنواع وصور كثيرة؛ ولكن يجمعها: الميلُ عن الحقِّ الذي أراده الله -تبارك وتعالى- في باب الأسماء والصفات، وفي آياته الكونيَّة وفي آياته الشرعية.
ثم ذكرَ الدَّليل على تحريم الإلحاد في الأسماء، وعلى تحريم الإلحاد في آياته -تبارك وتعالى- فيشمل الآيات الكونيَّة، والآيات الشَّرعيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ الْآيَةَ)}.
هاتان الآيتان فيهما دليل على تحريم الإلحاد في الأسماء والصفات، وعلى تحريم الإلحاد في آيات الله.
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ ، ودعاؤه بها نوعٌ من أنواع العبادة، إمَّا توسُّل بأسمائه وصفاته، أو تعبُّده بآثارها.
قال تعالى: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ ، ثمَّ توعَّدهم بقوله: ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
والآية الثانية في تحريم الإلحاد في الآيات، ويشمل الآيات الكونيَّة والشَّرعيَّة، قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بصِير﴾ ، وهذا فيه تهديدٌ ووعيدٌ لمَن يُلحِدُونَ في آيات الله الكونيَّة، وآيات الله الشَّرعيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ، وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ . فَفِي قَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ رَدٌّ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ . رَدٌّ لِلْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ)}.
 ذكر هنا ميزات طريقة السَّلف، فبعد أن ذكر الأصل في باب الأسماء والصفات؛ ذكر طريقة السلف في ضوابط الإثبات وضوابط النفي، ثم ميزات هذا الطريق وهذا المنهج، وهو الصراط المستقيم، وهو الحق الذي دلَّت عليه أدلة الكتاب والسُّنَّة؛ بل دلَّت عليه الفطرة السَّليمة والعقل السَّليم.
قال: (فَطَرِيقَتُهُمْ)، أي: منهجهم.
قال: (تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ)، ومن العجب أنَّك تجد من المتأخرين مَن يدَّعي كذبًا وزورًا أنَّ طريقة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السَّلف، فكيف يكون الحيارى التَّائهين الذين اعترفوا بالحيرة والشَّك والاضطراب وندموا في آخر حياتهم، فندم الجويني، وندم الأشعري، وندم الرازي، وندم الغزالي؛ فيجعلون طريقة هؤلاء الحيارى أعلم وأحكم من طريقة السلف؟! وهذا من الضَّلال ومن الشُّبَه التي أشار إليها الشيخ في المقدِّمة.
وطريقة السلف هي الأسلم والأعلم والأحكم، ولهذا امتازت طريقتهم بهذه الميزات، قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ)، ذكر هنا الأسماء، ومعنى ذلك أنَّه لم يهملها فيما سبقَ، وإنَّما هي تدخل مع الصفات، لأنَّه ما من اسمٍ إلَّا ويتضمَّنُ صفةً.
قال: (فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ)، معنى هذا أنَّه هذا الإثبات مشروطٌ بضوابط وقيود، وهذا النفي مشروط بضوابط وقيود، فهم وسطٌ بين الغُلاةِ والجفاة، وما من بابٍ من أبوابِ الدِّين إلَّا وتجد فيه الغالي والجافي.
قال: (مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ)، هنا استخدم "التشبيه" لأنَّ هذا هو المصطلح السائد والذي يُعبِّرون به في كتبهم، وإن كان في الواسطيَّة عبَّر بـ "التَّمثيل" وذكر أنَّ هذا هو الذي نفاه الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه، ولكن أحيانًا يُطلق "التَّشبيه" ويُراد به "التَّمثيل"، ولهذا عبَّرَ به هنا.
والتشبيه قد يكونُ تشبيه الخالق بالمخلوق، أو تشبيه المخلوق بالخالق.
قوله: (مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ)، يعني: لا يغلون في الإثبات إلى حدِّ التَّمثيل والتَّشبيه.
قال: (وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ)، ولا يغلون في التَّنزيه إلى حدِّ التَّعطيل والتَّحريف؛ بل هم وسط، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً﴾ [البقرة: 143]
قال: (كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ )، في هذه الآية جمع الله بين النفي والإثبات، وهذه هي حقيقة التوحيد، فلو تأمَّلتَ كلمة التوحيد تجدها تتكوَّن من ركنين، ولا يتحقق التوحيد إلَّا بهما، وهما: النفي والإثبات، نفي العبوديَّة عمَّا سوى الله، وإثبات العبوديَّة لله، لأنَّ النفي المحض ليس بتوحيد، والإثبات من غير نفي الشَّريك قد يكونُ فيه شرك.
فقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ النفي فيه مجمل، والإثبات مفصَّل، وجمع بينهما في الآية، فلا يُمكن أن يتحقق التوحيد في هذا الباب إلا بالنفي والإثبات، كما في كلمة التوحيد "لا إله إلا الله".
والنفي هنا نفيٌ للمثيل، ولكن لا يصل إلى حدِّ التَّعطيل، وإثبات الصفات ولكن لا يصل إلى حدِّ التَّمثيل.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ . فَفِي قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ رَدٌّ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ)، لاحظ هنا استعمل اللفظين "التمثيل والتشبيه" لأنَّه يُوجَد في كتبهم، يقولون: التَّمثيل في كل الصفات والتشبيه في بعضها، فهو ردٌّ للتَّشبيه والتَّمثيل والتَّكييف، لأنَّ الله ليس كمثله شيء، والذي يُكيِّف الصفات لا يُمكن أن يُكيِّفها إلَّا وقد شاهد الصفة أو المثيل، وهذا متعذِّر.
قال: (وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ . رَدٌّ لِلْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ)، ويشمل أيضًا التَّحريف، لأنَّ التعطيل أوسع من التَّحريف، والإلحاد يشمل الجميع، الذي هو الميل بها عما أراد الله -تبارك وتعالى.
إذًا؛ هذه هي طريقة السلف، وتمتاز باعتمادها على الكتاب والسنة، وتمتاز بأنَّ الإثبات من غير تمثيل، والتَّنزيه من غير تعطيل، والنفي مجمل، والإثبات مفصَّل، وجمع الله بينهما في آية واحدة، فلو كان الإثبات يلزم منه التَّمثيل لَمَا جمع الله بينهما في نفس الآية، ولو كان التَّنزيه يلزم منه التَّعطيل لَمَا ذكرَه الله في نفس الآية ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ؛ فدلَّ على أنَّه لا تعارض بين الإثبات والنفي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ: بَعَثَ رُسُلَهُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ، فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ)}.
لَمَّا ذكر الأصل في هذا الباب، وطريقة السلف، وميزات طريقة السلف؛ ذكرَ قاعدة تتعلق بطريقة الرسل في تحقيق الإثبات والنَّفي، فقال: (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ: بَعَثَ رُسُلَهُ)، فكلُّهم جاؤوا بدين واحدٍ وعقيدةٍ واحدة -كما سنبيِّنه إن شاء الله في الأصل الثاني.
ثم ذكر ضوابط للإثبات وضوابط للنفي الذي ذكرها في القاعدة الأولى، فقال: قال: (بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ، وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ)، وهذه حقيقة التوحيد، وهو أبلغ في الثناء على الربِّ تبرك وتعالى، إذا كان ذكر المحامد على جهة التفصيل فهو أبلغ في تعظيم الرَّب وتمجيده والثناء عليه، وهذا من حيث الأصل، وإلَّا فقد يأتي أحيانًا الإثبات مجملًا، كما في قوله تعالى: ﴿ولله المثل الأعلى﴾ [النحل/60]، لكن من حيث الغالب والقاعدة فالإثبات مفصَّل كما في آية الشورى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ .
وقد يأتي النفي مفصَّلًا عند الرَّد على شبهة، مثل نفي السِّنَة والنوم واللغوب ونفي الولد، وإلَّا فالأصل والقاعدة أنَّ النفي مجمَل، وأنَّ الإثبات مفصَّل، وهذه هي طريقة الرُّسل.
قال: (فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ)، كما هو ظاهر في الشواهد التي سيذكرها.
قال: (وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ).
ثم ذكر الشَّواهد على طريقة الرُّسل في اثبات المفصَّل والنَّفي المجمل، وابتدأها بالنفي المجمل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ أَيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ. وَيُقَالُ: مُسَامِيًا يُسَامِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ مَثِيلًا أَوْ شَبِيهًا؟)}.
هذا هو الشَّاهد الأوَّل في النَّفي المجمل، فقوله تعالى ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ ، والسَّمي: هو المثيل والمُسامي والنِّد والنَّظير، وهذا نفي مجمل.
قال: (قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ أَيْ: نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ. وَيُقَالُ: مُسَامِيًا يُسَامِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾ مَثِيلًا أَوْ شَبِيهًا؟)، نستفيد من كلام ابن عباس: إطلاق لفظ "التشبيه"، وهذا الذي ذكره الطبري في تفسيره عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَالَ تَعَالَى ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ )}.
الشاهد في سورة الإخلاص قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ فهذا نفي مفصَّل، وهذا في معرض الرَّد على مَن نسبَ لله الولد.
وقوله: ﴿كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ، فهذا نفي مجمل.
ويُلاحظ هنا: أنَّ الآيات التي فيها النَّفي لا تبدئ بالنفي مباشرة، وإنما تجد قبلها ثناءً على الله -تبارك وتعالى- على جهة التفصيل، ولهذا في أول سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص/1].
أما قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادً﴾ ، والنِّد هو: النَّظير والمثيل. وهذا كلُّه من باب النَّفي المجمل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ )}.
قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ الشاهد هنا قوله ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ ، ثم ذكر بعد ذلك حجج عقليَّة لإبطال شُبه هؤلاء المنحرفين، فقال: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ، يعني: ابتدعوا واخترعوا له -عَزَّ وَجَلَّ- واعتقدوا أنه له بنات.
ثم ذكر الحجَّة العقليَّة بأنَّه -عَزَّ وَجَلَّ- بديع السماوات والأرض، والقرآن يستخدم الحجج العقليَّة والحُجج الفطريَّة -كما سيذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ ، فالشاهد قوله ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ ، وهو نفي مجمل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ . فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ الْمُفْتَرُونَ الْمُشْرِكُونَ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ؛ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَدِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ)}.
لاحظ في الآية السابعة في أدلة الإثبات المجمل: قوله ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾ ، وهذا ممتنع عقلًا، فاستخدم الدليل العقلي، وهو الامتناع العقلي في حق الرَّب -تبارك وتعالى.
والمتأمِّل في الشُّبه التي أوردها المشركون على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجد أنَّهم اعترضوا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باعتراضات كثيرة، فاعترضوا عليه بأنه ساحر، وأنه كاهن، أمَّا ما يتعلق باعتراضهم على صفات الله تعالى فهذا لم يرد، مما يدل على أنَّ إثبات الصفات هو أمرٌ فطري وأمر عقلي، فهم مع جاهليَّتهم ومع اعتراضاتهم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يرد أنهم اعترضوا على الصفات؛ لأنَّ إثبات الصفات هو أمرٌ فطري وعقلي.
والشاهد من الآيات قوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ ، فهذا تنزيهٌ عام، ولهذا عقَّبَ على هذه الآية ببيان وجه الاستدلال منها، فقال: (فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ الْمُفْتَرُونَ الْمُشْرِكُونَ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)، وأشار إلى أن هذه هي طريقة الرسل، فقال: (لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ)، فالإفك: هو الكذب في الأخبار، والظَّن الذي هو تكذيبٌ للأوامر.
قال: (وَحَمِدَ نَفْسَهُ؛ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَدِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ).
ثم بعدَ أن انتهى من أدلة النفي المجمل؛ انتقل إلى أدلَّة الإثبات المفصَّل لهذه القاعدة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا الْإِثْبَاتُ الْمُفَصَّلُ: فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا أَنْزَلَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ الْآيَةَ بِكَمَالِهَا وَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ السُّورَةَ وَقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ ، ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ ، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ، ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ، ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ )}.
وهذه الآيات ظاهرة في إثبات الصفات للرب -تبارك وتعالى- والأسماء على جهة التفصيل، ولا نقف عندها لوضوح الدلالة فيها، والشيخ ذكرها كشواهد على الإثبات المفصَّل.
وتلاحظ أنَّ هؤلاء الأئمَّة إذا ذكروا أدلَّة الشَّرع يُطيلون في سردِ الأدلَّة، ولا يقصدون بذلك الحصر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقوله: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ )}.
تُلاحظ أنَّه يُنوِّع في الأدلَّة التي فيها الإثبات المفصَّل للربِّ -تبارك وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾ )}.
هذه الأدلَّة فيها إثبات مفصل، ولا نريد أن نقف هنا عند كل صفة ونُبيِّن معنى الصفة وما تتضمَّنه من معاني؛ لأنَّ هذا ليس هو المقصود، فأحيانًا بعض الشُّراح يتوسَّع في هذا فيخرج عن المقصود من الكتاب، وإنَّما المقصود هو ذكرُ القواعد والأصول في باب إثبات الأسماء والصفات، وليس المقصود هو التَّفصيل في كل صفةٍ من الصفات، فلو توسَّع الشُّراح في كل صفةٍ لتضخَّم الكتاب ولَخرجَ عن المقصود، فالمصنِّف هنا يذكر الشَّواهد على الإثبات المفصَّل، وكل صفة من هذه الصِّفات تحتاج إلى شرح، ولكن ليس هذا هو موطنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلِهِ: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ ، وَقَوْلِهِ ﴿إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ، وَقَوْلِهِ: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ . إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ إثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيِّتِهِ بِنَفْيِ التَّمْثِيلِ؛ مَا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ)}.
بعدَ أن ذكرَ الشَّواهد على هذه القاعدة في النَّفي المجمل والإثبات المفصَّل؛ قال: (إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ)، يعني: هو لم يقصد هنا الاستقصاء والحصر؛ لأنَّ هذا فيه صعوبة.
وقد يقول قائل: الشيخ ما ذكر الأحاديث؟
نقول: هو أشار إلى أنَّه ما ثبت في الآيات قد ثبت في الأحاديث، فإنَّ الأحاديث فيها إثبات مفصَّل ونفيٌ مجمَل.
قال: (وَالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ)، أي: يُشترَط في الحديث الصِّحَّة حتى يُستدل به في أبواب الاعتقاد وغيره أن يكون ثابتًا عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ)، هنا ذكر باب الأسماء والصفات.
قال: (فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ إثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ)، وهذه من الألفاظ التي يستخدمها أهل العلم، وورد:
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ **.............
ولكنها من العبارات التي تستخدم عند أهل العلم، وهي عبارة جائزة.
قال: (وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيِّتِهِ بِنَفْيِ التَّمْثِيلِ)، وسيأتي أن هذا النفي ليس نفيًا محضًا.
فلاحظ التَّسلسل: ذكر القاعدة، ينتقل إلى أن الإثبات مجمل والنفي مفصَّل، ثم سيأتي أن هذا النفي ليس نفيًا محضًا.
وأنا أطلبُ من الإخوة والأخوات -الطلاب والطالبات- في هذه الأكاديمية أن يضبطوا هذه القواعد، ويستخلصوا هذه القواعد التي يسردها شيخ الإسلام كالبحـر، فهذه القواعد التي يعيدها بين فينة وأخرى تحتاج إلى استخلاص.
قال: (مَا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ)، المهتدي مَن هداه الله ووفَّقه إلى طريقة الكتاب وطريقة السُّنَّة التي هي طريقة سلف الأمَّة، وهي طريقة الرُّسل.
 
 
قال: (فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ)، وبهذه الأصول توزَن أعمال الناس وأفعالهم ومناهجهم: الكتاب، والسُّنَّة، وما كان عليه سلف الأمَّة، وبهذه الأصول تُوزَن الأقوال والعقائد والمناهج والأعمال، نعم قد يتَّفق معك أحيانًا في الاحتجاج بالقرآن، وقد يتفق معك في الاحتجاج بالسنَّة، ولكن ليس على طريقةِ سلف الأمَّة، ولا على طريقة الرسل في الإثبات المفصَّل والنفي المجمل.
ونخلص من هذا: أنَّ هذه هي طريقة الرُّسل، وهي طريقة السلف، وهي: الإثبات المفصَّل، والنفي المجمَل.
وأصولهم في الإثبات:
أولًا: أنَّ هذا الإثبات معتمد على الوحي، فيُثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانيًا: أنَّ هذا الإثبات مفصَّل، وهو أبلغ في الثناء على الرَّب -تبارك وتعالى.
ثالثًا: أنَّ هذا الإثبات بلا تمثيل، ولهذا يقولون: له صفات تليق به، فله مجيء يليق به، ونزول يليق به، وهكذا يُقال في سائر الصفات.
رابعًا: أنَّ الإثبات يدلُّ على التَّنزيه، لأنَّ الله -تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء.
وأصولهم في النَّفي:
أولًا: أنَّ هذا النَّفي متلقَّى من الوحي، فلا ينفون عن الله إلَّا ما نفاه عن نفسه، ونفاه عنه رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وما لم يرد فيه نفيٌ ولا إثبات فإنَّهم يتوقَّفونَ فيه.
ثانيًا: أنَّ هذا النَّفي نفي مجمَل، كما هي طريقة القرآن وطريقة السُّنَّة، وطريقة سلف الأمَّة وطريقة الرُّسل.
ثالثًا: أنَّ هذا النَّفي يتضمَّن إثبات ضدِّه من صفات الكمال، وليس نفيًا محضًا.
فهذه أصولهم في الإثبات وأصولهم في النفي، وهذه طريقة سلف الأمَّة، وهي طريقة الرسل، وجعل هذه المقدِّمة تأصيل لتحقيق الإثبات في باب الأسماء والصفات، وهذا التَّأصيل سيستفيد منه في الرَّد على مَن خالف هذا الطريق، ولهذا قال بعد ذلك: (وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ...)، فبعدَ أن ذكر طريقة مَن هداهم -وهي طريقة الرسل وطريقة السلف في هذا الباب- وهو تأصيلٌ ومدخل؛ انتقل بعدَ ذلك إلى طرائق المخالفين. ومن هنا سيبدأ في نقاش مَن ضلَّ في هذا الباب، ومَن خاضَ فيه بالباطل تارات.
أسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
آمين وإيَّاكم، والمستمعين والمستمعات، وشكر الله لكم.
{إلى أن نلتقيكم في حلفةٍ قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
------------

[3] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/345).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك