الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2012 22
الدرس السادس

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
{نشرع في هذه الحلقة في موضوع الدليل العقلي على إثبات الصفات السبع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (فَإِنْ قَالَ: تِلْكَ الصِّفَاتُ أَثْبَتَهَا بِالْعَقْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَادِثَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِحْكَامَ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَيَاةِ وَالْحَيُّ لَا يَخْلُو عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ قَالَ لَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ: لَك جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْت مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِيهِ وَلَيْسَ لَك أَنْ تَنْفِيَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا عَلَى الْمُثْبِتِ وَالسَّمْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ فَيَجِبُ إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ السَّالِمُ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فلا يزال الحديث موصولاً في مناقشة الطائفة الأولى الذين يثبتون بعض الصفات ويحرفون بقية الصفات، ومن قال بهذا هم الأشاعرة والماتريدية ومن تبعهم في هذا المذهب، في إثبات بعض الصفات التي يسمونها صفات المعاني، ويقولون: بأن هذه الصفات قديمة وقائمة بالرب، وما عداها من الصفات فإنهم يتسلطون عليها بالتأويل أو التفويض.
المصنف ناقشهم من عدة أوجه عقلية، الوجه الأول طبق القاعدة عليهم التي هي الأصل الأول: القول في بعض الصفات كالقول في البعض، فقال: لا فرق بين ما نفيتموه وبين ما أثبتموه، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فما تقولونه في الصفات السبع يقال في بقية الصفات التي نفيتموها، وما تدعونه في الصفات المنفية هو موجود في الصفات المثبتة، فلا فرق، أخاطب العقلاء بما يعقلون، والعقلاء يخاطبونكم بما تعقلون إذا كنتم عقلاء، ولهذا هو يناقشهم بالدليل العقلي فضلاً عن الدليل الشرعي ويجري مناظرات، وقلنا: إنَّ المناظرات تكون بالمنع وتكون بقلب الدليل وتكون بالتسليم، ثم بالنقض والإلزام.
ولهذا يقال لمن يُثبت الصفات السبع وينفي بقية الصفات: يلزمك واحد من ثلاثة أمور لا مفر منها:
الأول: إمَّا أن تثبت جميع الصفات على وجه التمثيل كما يقوله الممثلة والمجسمة، وكما زعمت أن بقية الصفات يلزم منها التمثيل، إما أن تقول في جميع الصفات بالتمثيل، وهذا باطل وينكره الجميع، ولا يقولون به.
الثاني: إما أن تنفي جميع الصفات كما نفيت الصفات الأخرى، فتنفي السبع، فيلزمك أن تقول بقول المعتزلة والجهمية، وهذا أيضًا باطل ولا يقول به، ماذا يلزمه إذاً؟
الثالث: الإثبات لجميع الصفات على الوجه الذي يليق بالرب -تبارك وتعالى- كما يثبته أهل السنة وسلف الأمة الصالح، وهذا هو الحق المبين.
فيقال لمن يثبت بعض الصفات وينفي بعضهم وهم الأشاعرة والماتريدية: يلزمك واحد من هذه اللوازم، إما أن تثبت للجميع على وجه التمثيل والتشبيه وهذا باطل ولا تقول به، وإما أن تنفي الجميع وهذا باطل وهو قول المعتزلة والجهمية، وإما أن تثبت جميع الصفات على الوجه الذي يليق بالرب -تبارك وتعالى-، أما أن تأتي تثبت بعض وتنفي بعض، هذا لا يقول العاقل، هذا لا يقول به عاقل، لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
أجابهم في الجواب الثاني بإلزامهم بجوابهم للمعتزلة، فلما أورد عليهم المعتزلة إيرادات وقالوا: أنتم أثبتم الصفات السبع وهذه الصفات السبع يلزم من إثباتها تشبيه الخالق بالمخلوق، سيدافعون عن مذهبهم أو لا؟ وقالوا: نحن نثبتها على الوجه الذي يليق بالرب، أهل السنة قالوا: جوابكم للمعتزلة بهذا الجواب هو نفس الجواب الذي يقال لكم في نفيكم لبقية الصفات.
لما سُئل: لماذا أثبتم هذه الصفات السبع ونفيتم الباقي؟ عندهم جواب أو لا، قالوا: العقل دلَّ على هذه الصفات، سيقال: ما وجه دلالة العقل على هذه الصفات؟ هذا السؤال الأول.
السؤال الثاني: هل العقل لم يدل على بقية الصفات الأخرى؟ إن قالوا: لا، فنقول: وهل العقل نفاها؟ وهل كون العقل لم يثبتها دليل على نفيها؟ أيضًا مع قلب الدليل عليهم بأن العقل كما دل على الصفات السبع دل أيضًا على بقية الصفات، هذه المناظرة العقلية التي سيجريها الشيخ -رحمه الله تعالى-، ولهذا أنا قلت: إنَّ هذا الكتاب مُهم لطلاب العلم في مثل هذه المناظرات العقلية للدفاع عن العقيدة.
ولهذا قال: (فَإِنْ قَالَ) احتجوا بإثبات العقل لهذه الصفات، (فَإِنْ قَالَ) أي المثبت للصفات السبع: (تِلْكَ الصِّفَاتُ أَثْبَتُّهَا بِالْعَقْلِ)، لماذا؟ ما وجه دلالة العقل على هذه الصفات السبع؟ قال: (لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَادِثَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ) يعني أن هذه المخلوقات دلت أن ثَمَّة خالق، فهذه المحدثات دلت على المحدث، وهذه المخلوقات دلت على الخالق، والخالق عنده قدرة لأن الفعل الحادث -الذي هو المخلوق- دل على صفة القدرة، إذاً العقل دلَّ على أنَّ الخالق قدير، (وَالتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ) يعني كونه ميز المخلوقات -كل عالم من المخلوقات له خصائصه، فعالم الحيوان له خصائص، عالم النبات له خصائص، عالم الجمادات له خصائص بل في بينها، خصائص هذا طويل وهذا قصير وهذا أحمر وهذا أبيض- فكل مخلوق له خصائص، هذه الخصائص تدل على الإرادة، أنَّ الخالق لهذه المخلوقات لديه إرادة.
إذاً العقل دلَّ على أنَّ الخالق لديه قدرة بدليل المخلوقات، وكون المخلوقات لها خصائص متنوعة دل على الإرادة، والإحكام والإتقان في هذه المخلوقات دل على العلم، فقالوا: العقل إذاً دل على إثبات الصفات للخالق لهذه المخلوقات، القدرة دل عليها وجود الفعل الحادث، والتخصيص دل على صفة الإرادة، والإحكام والإتقان في هذه المخلوقات دل على صفة العلم.
قالوا: (وَهَذِهِ الصِّفَاتُ) التي هي القدرة والإرادة والعلم (مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَيَاةِ)، هذه الصفات الأربع، قالوا: (وَالْحَيُّ لَا يَخْلُو عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ)، فأصبحت الصفات سبع، قالوا: والعقل دلَّ على هذه الصفات السبع بهذه الطريقة، نقول: حسن وهذا الجواب صحيح، لا إشكال عندنا في الجواب، لكن أين الإشكال؟
الإشكال الأول: هل العقل لم يدل إلا على هذه الصفات السبع ولم يدل العقل على بقية الصفات؟
الإشكال الثاني: هل العقل لَمَّا دل على هذه الصفات السبع بهذه الطريقة نفى العقل بقية الصفات؟ هذا هو الإيراد العقلي الذي سيورده على هؤلاء المعطلة، الذين يثبتون بعض الصفات وعطلوا كثيرًا من الصفات، ثم تسلطوا على النصوص التي جاءت في بقية الصفات بالمجازات أو اتهام السلف بأنهم أناس بلهاء لم يفهموا معاني القرآن والسنة ولم يفهموا لغة العرب، هذا يلزمهم.
قال: (قَالَ لَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ) يعني: جميع الذين أثبتوا جميع الصفات دون تفريق، لكم على هذا الإيراد وعلى هذا الدليل جوابان:
الجواب الأول وهو من باب التسليم: سلمنا لكم أنَّ العقل دلَّ على هذه الصفات فقط، سلمنا لكم مع أننا لا نسلم، لكن إن سلمنا لكم أنَّ العقل لم يدل إلا على هذه الصفات السبع -كما زعمتم- فهل العقل نفى بقية الصفات؟ لاحظ الآن المحاجة الآن محاجة عقلية؛ لأنهم هم أصلاً يتسلطون على النصوص بالتأويل والتحريف والتفويض، فماذا قال؟
(لَكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ) وهذه قاعدة مُهمة ينبغي لطلاب العلم أن يُعنوا بها: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، (فَهَبْ) هذا هو التسليم، سلمنا لك، أي: تنازلنا بأن العقل دل على هذه الصفات فقط، (فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْت مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ) أي: لا يثبت بقية الصفات، (فَإِنَّهُ لَا يَنْفِيهِ) سيقال: أعطنا الدليل العقلي أن العقل نفاها، طبعًا سيعود مرة أخرى للشبهة القديمة، قال: أن هذه الصفات يلزم منها التمثيل، سيقال له: والصفات السبع، إن قال لا الصفات السبع أنا أثبتها على الوجه اللائق به، وكذلك الصفات التي نفيتها، فعاد مرة أخرى إلى الجواب الأول.
قال: (فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْت مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ) بقية الصفات، فإنه لا ينفيه (وَلَيْسَ لَك أَنْ تَنْفِيَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ) مع أنه وجود دليل سمعي، وماذا فعل بالدليل السمعي؟ إما رد ولا حرف ولا فوره جعله عديم المعنى.
القاعدة الثانية: (لِأَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا عَلَى الْمُثْبِتِ) الدليل، وهذه قاعدة أخرى يتنبه إليها الأبناء الطلاب والطالبات، (النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا أن عَلَى الْمُثْبِتِ الدَّلِيلُ)، قال: (وَالسَّمْعُ)، يعني: سلمنا لك أن العقل ما دل عليها، هل لا يوجد نص في إثبات الصفات إلا العقل؟ ثمة دليل أقوى وهو الوحي؛ لأن (وَالسَّمْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ) لا يوجد معارض يعارض هذا الدليل السمعي الذي أثبت هذه الصفات، صفة المحبة وصفة الرضا وسائر الصفات، لا يوجد معارض عقلي ولا سمعي، ولهذا الذين أنزل عليهم الوحي هل اعترضوا؟ ما اعترضوا، دل على أن العقول السليمة تقبل هذا.
النتيجة: (فَيَجِبُ إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ) السمعي (السَّالِمُ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ) بمعنى أنه قد يوجد معارض مثل هذه الشبهات، لكن هذه المعارضة ضعيفة باهتة لا يقبلها عقل ومعارضة للسمع، هذا هو الجواب الأول.
{قال -رحمه الله تعالى- (الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَظِيرِ مَا أَثْبَتَ بِهِ تِلْكَ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ فَيُقَالُ نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ دَلَّ عَلَى الرَّحْمَةِ كَدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَإِكْرَامُ الطَّائِعِينَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَعِقَابُ الْكَافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِهِمْ كَمَا قَدْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ وَالْخَبَرِ: مِنْ إكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ وَعِقَابِ أَعْدَائِهِ)}.
لاحظوا في الجواب الأول على فرض التسليم أن العقل لم يدل على هذه الصفات، لكن العقل لم ينفيها، ثم احتج عليهم بقواعد عقلية، وهو أنه كما أن على المثبت الدليل كذلك على النَّافي الدليل، فإذا قلت: إن العقل لم يثبته ستطالب بالدليل، ولا دليل، ثم انتقل للجواب الثاني: وهو إثبات أنَّ العقل قد دلَّ عليها، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- في الصواعق أن الصفات قد دلت عليها الأدلة العقلية، في كثير مما يدركه العقل، لاحظ مجمل الأجوبة التي ذكرها شيخ الإسلام في الرد على هؤلاء الصفاتية ممن يثبتون بعض الصفات ويعطلون الباقي، رد عليهم أولاً بأنه لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته.
والجواب الثاني: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول.
والجواب الثالث: أن العقل قد أثبت هذه الصفات، إذا كنت تحتج بالعقل، فأيضًا العقلاء سيحتجون عليك، فقال في الجواب الثاني في الرد على هؤلاء: (أَنْ يُقَالَ: يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَظِيرِ مَا أَثْبَتَ بِهِ تِلْكَ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ)، طبعًا هو أثبتها بالعقل، ولهذا هو لما استدل بالسمع اعتراضاً وليس اعتماداً، ولما نفى بقية الصفات تسلط على الدليل السمعي بالتحريف والتفويض والتأويل، (فَيُقَالُ) في وجه دلالة العقل على بقية الصفات، (نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ دَلَّ عَلَى الرَّحْمَةِ كَدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَشِيئَةِ) التي هي الإرادة، كون هذه المخلوقات لها خصائص تميزها مما يدل على المشيئة والإرادة، يقال: (نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ دَلَّ عَلَى الرَّحْمَةِ)، (وَإِكْرَامُ الطَّائِعِينَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَعِقَابُ الْكَافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِهِمْ كَمَا قَدْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ وَالْخَبَرِ)، بالدليل العقلي والسمعي (مِنْ إكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ وَعِقَابِ أَعْدَائِهِ)، فهذا الدليل العقلي يدل على بقية الصفات وليس كما زعمت؛ لأن العقل لا يدل على ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَالْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ - وَهِيَ مَا تَنْتَهِي إلَيْهِ مَفْعُولَاتُهُ وَمَأْمُورَاتُهُ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ - تَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ؛ كَمَا يَدُلُّ التَّخْصِيصُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَوْلَى لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ الغائية؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ: أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ)}.
وهذا أيضًا دليلٌ عقلي آخر، يقول: والغايات المحمودة في مفعولات الرب -تبارك وتعالى- ومأموراته (وَهِيَ مَا تَنْتَهِي إلَيْهِ مَفْعُولَاتُهُ وَمَأْمُورَاتُهُ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ)، وهي الحكم والعلل، العلة الغائية التي من أجلها خَلَقَ، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وكذلك العلة الفاعلة التي يكون بها الشيء، فهذه الغايات والعلل والحكم في مفعولاته ومخلوقاته وكذلك في مأموراته تدل على الحكمة البالغة، الأشاعرة طبعًا لا يقولون بالحكم والعلل، هم ينفون العلل والحكم وإنما يجعلونها محض المشيئة فقط.
قال: (كَمَا يَدُلُّ التَّخْصِيصُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَوْلَى لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ الغائية) التي من أجلها خلق وأمر ونهى، (وَلِهَذَا كَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ: أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ) التي يدعيها هؤلاء بأنها مجرد محض الأوامر فقط دون حكم وعلل، فيقول أن: (فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ -عز وجل- مِنْ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ)، فهذا الدليل العقلي يثبت هذه الصفات التي ينفيها أولئك بزعمهم أن العقل لم يدل عليها.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصِّفَاتِ وَيُقِرُّ بِالْأَسْمَاءِ كَالْمُعْتَزِلِيِّ الَّذِي يَقُولُ: إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَيُنْكِرُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَإِنَّك إنْ قُلْت: إثْبَاتُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا أَوْ تَجْسِيمًا لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ قِيلَ لَك: وَلَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ مُسَمًّى حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ فَإِنْ نَفَيْت مَا نَفَيْت لِكَوْنِك لَمْ تَجِدْهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ فَانْفِ الْأَسْمَاءَ بَلْ وَكُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّك لَا تَجِدُهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ)}.
هذه الطائفة الثانية الذين ناقشهم المصنف -رحمه الله- تحت هذه القاعدة، فهي القول في بعض الصفات كالقول في البعض، أدرج تحتها هذه القاعدة، وهو القول في الصفات كالقول في الأسماء، كما أنه يلزم الأشاعرة أحد اللوازم الثلاثة: إما إثبات الجميع على وجه التمثيل، وهذا ممتنع، أو نفي جميع الصفات وهذا عندهم أيضًا ممتنع لا يقولون به، أو القول بأهل السنة وهو إثباتها على الوجه اللائق بالرب -تبارك وتعالى-، كذلك المعتزلة يلزمون بنفس اللوازم، فيقال للمعتزلي: إما أن تنفي جميع الأسماء والصفات، فتقول بقول الجهمية، وهذا باطل ولا يقول به، لأنه يفرق بين الأسماء والصفات فلا يقول بهذا، يقول لا كيف والرب قد سمى نفسه بأسماء.
الإلزام الثاني: إما أن يقول له: أن تثبت جميع الأسماء والصفات على وجه التمثيل وتلحق بالمشبهة والمجسمة، ولا يقول بهذا بل ينكر هذا، بقي أن ينكر جميع الأسماء والصفات على الوجه الذي يليق بالرب، وهذا هو الحق المبين الذي عليه أهل السنة وسلف الأمة الصالح، فيلزم المعتزلي هذا اللازم.
قال: (وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصِّفَاتِ) جميعها بزعمه أنه لا يفرق بينها، (وَيُقِرُّ بِالْأَسْمَاءِ كَالْمُعْتَزِلِيِّ الَّذِي يَقُولُ: إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَيُنْكِرُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ)، مثل ما يقر به الصفاتية، الآن أصبح المعتزلي في جهة ومن يثبتون الصفات إثباتاً كلياً أو جزئيًا في جهة أخرى، فيدخل في الجهة الأخرى أهل السنة مما يثبتون جميع الأسماء والصفات، ويدخل فيهم الماتريدية الذين يثبتون بعض الصفات، ويدخل فيهم الأشاعرة، ولهذا الأشاعرة والماتريدية هم أقرب إلى السنة من المعتزلة، والمعتزلة أقرب من الجهمية، وهكذا درجات الانحراف بل هي دركات الضلال والانحراف.
فيقال لهذا الذي يثبت الأسماء ولكن يجعلها أسماء جامدة، لا فرق بينها من جهة المعاني، (قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ)، وهذا هو التطبيق للقاعدة، الآن بدأ في تطبيقات القاعدة، (فَإِنَّك إنْ قُلْت: إثْبَاتُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا أَوْ تَجْسِيمً)، وهذا بزعمهم الآن، الشبهة التي وقعت لهم قالوا: إن هذه الصفات أبعاض وأعراض وإذا وصف الخالق بها يلزم تشبيه الخالق بالمخلوق، فأرادوا الفرار من هذا الفهم الخاطئ، فشبهوه بالجمادات، فوقعوا في أسوء مما فروا منه، لماذا نفوا الصفات؟
 قالوا: (لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ) طبعًا الأشاعرة سيردون عليهم أو لا، سيقولون هذا الكلام باطل، لماذا؟ قال: لأن إثبات الصفات يلزم منه تشبيه الخالق، لا نعلم متصف بهذه الصفات إلا ما هو جسم، مما في ذلك الحياة والعلم والإرادة والقدرة والمشيئة والسمع والبصر، وهذه المناظرة التي أجراها بين الأشعري والمعتزلي.
قيل له في الجواب: (وَلَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ مُسَمًّى حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ)، لاحظ الإلزام، إذا قال: لا هذه أسماء تليق بالرب، سيقال: والصفات تليق بالرب، ويقال: ما تدعيه في الصفات المثبتة للرب هو موجود في الأسماء التي أنت تثبتها، (فَإِنْ نَفَيْت مَا نَفَيْت لِكَوْنِك لَمْ تَجِدْهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ فَانْفِ الْأَسْمَاءَ)، فيلزمك أن تلحق بالجهمية، ولنا أيضًا جواب مع الجهمية، (بَلْ وَكُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّك لَا تَجِدُهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ)، فهم إذاً فرقوا بين المتماثلين وسووا بين المختلفات، ولهذا أجابهم بهذا الجواب العقلي، فهم أرادوا الفرار بزعمهم من تشبيهه بالأجسام وشبهوه بالجمادات، وهذا أسوء.
{قال -رحمه الله-: (فَكُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ يَحْتَجُّ بِهِ في نفِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى؛ فَمَا كَانَ جَوَابًا لِذَلِكَ كَانَ جَوَابًا لِمُثْبِتِي الصِّفَاتِ)}.
(فَكُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ)، وهم المعتزلة (يَحْتَجُّ بِهِ في نَفِي الْأَسْمَاءِ) الذي هو الجهمي، فلاحظوا الآن كيف يستعمل هذه المهارة، فما كان جوابًا للجهمي فهو جوابٌ للمعتزلي، فجواب المعتزلي للجمهي في إثبات الصفات هو نفسه جواب مثبتة الصفات للمعتزلة، (فَمَا كَانَ جَوَابًا لِذَلِكَ كَانَ جَوَابًا لِمُثْبِتِي الصِّفَاتِ) عموماً، سواءً إثبات كلياً أو جزئيا.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْغُلَاةِ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَقَالَ لَا أَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا عَلِيمٌ وَلَا قَدِيرٌ؛ بَلْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِمَخْلُوقَاتِهِ إذْ هِيَ مَجَازٌ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ بِالْمَوْجُودِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ، قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ إذَا قُلْت: لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُومَاتِ وَذَلِكَ أَقْبَحُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمَوْجُودَاتِ)}.
هذه الطائفة الثالثة: وهم الجهمية الذين نفوا جميع الأسماء والصفات، ابتدأ بالأشاعرة الذين يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر، ثم المعتزلة الذين ينفون جميع الصفات ويثبتون الأسماء، ثم الطائفة الثالثة: الجهمية الذين ينفون جميع الأسماء والصفات، كيف يناقشهم مناقشة عقلية في هذه القاعدة؟
قال: (وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْغُلَاةِ)، وهذا يدل على أن الانحراف دركات، (وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْغُلَاةِ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ) عموماً، نفس الشبهة تتكرر(وَقَالَ) أي: هذا الجهمي: (وَقَالَ لَا أَقُولُ: هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا عَلِيمٌ وَلَا قَدِيرٌ؛ بَلْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِمَخْلُوقَاتِهِ إذْ هِيَ مَجَازٌ) يعني: جعل هذه الأسماء والصفات هي مجازات كما يقول الأشعري في بقية الصفات، وكما يقول المعتزلي في سائر الصفات، أيضًا يقوله الجهمي في جميع الصفات وجميع الأسماء، فقال: إنما هي مجازات، لماذا؟ ما الشبهة؟
زعم هذا الجهمي أن إثبات الأسماء والصفات (تشْبِيهَ بِالْمَوْجُودِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ القدير)، فجعل الاسم المطلق هو تشبيه، وزعم أن الذي نفته النصوص هو الاسم المطلق، هذا خلاف النصوص وخلاف أدلة العقل.
الجواب: قال وكذلك، لاحظ الآن سيقلب عليه الدليل بنفس الطريقة العقلية في المناظرة والجد، سيلزم أولاً باللازم الذي يبين بطلان هذا الدليل والتناقض، سيقال له: كذلك: (إذَا قُلْت: لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ) يعني لا اسم ولا صفة، هذا يكون لأي شيء؟ للمعدوم وربما يذكر الإخوة والأخوات أننا ذكرنا بأن المعدوم نوعان: هناك معدوم ممتنع، وهناك معدوم ممكن، المعدوم الممتنع هو المستحيل، والمعدوم الممكن الذي لم يوجد ولكنه جائز أن يوجد، فإذا أنه سلب الشيء عن جميع الأسماء والصفات، نقول هذا لا نعلم لماذا إلا ما هو معدوم، فهم فروا من تشبيهه بزعمهم من المخلوقات الموجودات سواءً كانت حيوانات أو جمادات، فشبهوه بالمعدومات، وأيهما أقبح؟ المعدومات.
فيقال: إذا أنتم جردتم الخالق -عز وجل- عن جميع الأسماء والصفات، هذا لا يعلم إلا للمعدوم، (قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ إذَا قُلْت: لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُومَاتِ وَذَلِكَ أَقْبَحُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمَوْجُودَاتِ)، وهذا يدل على أن الانحراف منه ما هو أقبح من بعض وأنه دركات، هذا هو الجواب الأول للجهمية نفاة الأسماء والصفات.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ قِيلَ لَهُ: فَيَلْزَمُك التَّشْبِيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا أَوْ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفُ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَوْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ أَوْ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ)}.
هذه الطائفة الرابعة: وهم غلاة الغلاة من الباطنية، الجهمية وصفوه بالسلب، ولهذا يقولون: لا حي، لا عليم، لا قدير، وقالوا: إن الأسماء التي جاءت مثل: الحي معناه أنه ليس بميت، والعليم معناه أنه ليس بجاهل، فيصفونه بالسلب، وهذا لا يكون إلا للمعدومات، جاء  غلاة الغلاة فقالوا: إننا ننفي النفي والإثبات، وهذه الطائفة ذكرناها في المقدمة، الباطنية، ننفي النفي والإثبات، ولذلك يقول: (فَإِنْ قَالَ) وهم صنف أيضًا من الغلاة، (فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ قِيلَ لَهُ)، الجواب: (فَيَلْزَمُك التَّشْبِيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ) يقول الشيء لا حي، لا ميت، لا موجود، لا معدوم، هذا يكون ماذا؟ الممتنع، ونحن قلنا بأن المعدوم إما ممكن وهو الصنف الأول أو غير ممكن مستحيل وهو الصنف الثاني، فهم أيضًا فروا من تشبيهه بالمخلوقات والحيوانات وفروا من تشبيهه بالجمادات وفروا من تشبيهه بالمعدومات ووقعوا في تشبيه بالممتنعات المستحيلات، وهذا أسوء وأقبح.
قيل له: إنك تقول أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ قِيلَ لَهُ فَيَلْزَمُك التَّشْبِيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ)، وهما اللذان لا يرتفعان، والقاعدة العقلية النقيضان لا يمكن أن يرتفعان ولا يمكن أن يجتمعان، هذا محال، هذا مستحيل، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدومًا أو لا موجوداً ولا معدوماً كما يقول هؤلاء الباطنية.
(وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفُ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَوْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ أَوْ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ)، هذا محال، هذا مستحيل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل، فأجاب هذه الطائفة بأن هذا وصف للمتنعات وهو أقبح.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَا وَهَذَانِ يَتَقَابَلَانِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ؛ لَا تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَإِنَّ الْجِدَارَ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إذْ لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُمَا قِيلَ لَك: أَوَّلًا هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فإنهما مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ)}.
هذا الباطني الذي ينفي النفي والإثبات اعترض على الجواب السابق، بقوله: أنه يلزمك من نفي النفي والإثبات أن تصف الخالق بالنقيضين، عنده جواب، ماذا يقول؟ يقول: (إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَ)، ويقول: إن الرب ما يقبل هذا الوصف، أنت تصفه بوصفين نقيضين هذا إنما يكون لمن يقبل، أما هو لا يقبل هذا، طبعًا ولا بدَّ أن ينتبه الإخوة بأن التقابل إما نقيضان وهو السلب والإيجاب مثل الوجود والعدم، أو ضدان مثل السواد والبياض، الضدان لا يجتمعان ولكن يمكن أن يرتفعان، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، لا بدَّ من وجود أحدهم، أو الملكة والعدم مثل البصر والعدم، هو ماذا يقول؟ عنده اعتراض، قال: (إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَا وَهَذَانِ يَتَقَابَلَانِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ)، يعني الصفات، يقول أن الصفات التي هي الوجود والعدم والحياة والموت والعلم والجهل يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب، ثم ضرب مثلاً سفسطة لا يقبل في العقل، لكن هكذا أصحاب الباطل يحتج بأي حجة.
(فَإِنَّ الْجِدَارَ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إذْ لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُمَ) وهذا كما ذكره شيخ الإسلام يسفسطون في العقليات، هذا اعتراضه.
الجواب: قال: (أَوَّلً) من وجوه، أولاً بالمنع، هذا لا يصح في الوجود والعدم، لا يمكن أن تقول في الوجود والعدم أنه ما يقبل، (هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) لا يمكن أن تقول في الوجود والعدم أنه ما يقبل، (هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فإنهما مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ) يعني: لو سلمنا لك في بقية الصفات تسليمًا عقليًّا لكن هذا لا يمكن أن يكون في الوجود والعدم أو الحياة والموت، أن تقول الشيء لا حي ولا ميت، أو تقول الشيء لا موجود ولا معدوم، لو سلمنا لك تسليمًا عقليًّا في بعض الصفات، لكن فيما يتعلق بالوجود والعدم والحياة والموت والعلم والجهل، هذا ما يقبل، (هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فإنهما مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ  بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ)، هذه القاعدة العقلية الأولى.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا مَا ذَكَرْته مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ: فَهَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ وَالِاصْطِلَاحَاتُ اللَّفْظِيَّةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النحل: 20- 21]، فَسَمَّى الْجَمَادَ مَيِّتًا وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ)}.
أيضًا هذا تابع للجواب الأول بالمنع بأن: (هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فإنهما مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ)، وهكذا يقال في العلم والجهل والحياة والموت (بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ)، فنفي أحد النقيضين يستلزم ثبوت الآخر، ثم قال: (وَأَمَّا مَا ذَكَرْته) من أن الحياة والموت والعلم والجهل والوجود والعدم لا يتقابلان تقابل سلب وإيجاب وإنما تقابل عدم وملكة، قال: (فَهَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ)، وهذا منشأ الضلال عند هؤلاء، هذه المصطلحات التي يتوارثونها، يتوارثها خلفهم عن سلفهم الباطل من فلاسفة اليونان، ثم الفلاسفة المنتسبين للإسلام.
 فيقول: هذه اصطلاحات اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون والاصطلاحات القاعدة، (وَالِاصْطِلَاحَاتُ اللَّفْظِيَّةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ)، فليتنبه أيضًا الإخوة لهذه القاعدة، هذه الرسالة مليئة بالقواعد: (وَالِاصْطِلَاحَاتُ اللَّفْظِيَّةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ)، لا يأتي من يصطلح لنا اصطلاحات، ثم ينقض بها الحقائق الشرعية والحقائق العقلية، (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) في وصف الأصنام التي يعبدها المشركون: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ ) قال: (فَسَمَّى الْجَمَادَ مَيِّتً) هذا الرب -تبارك وتعالى-، (وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ)، أنهم يصفون الجمادات بالموت.
{الآن يا شيخ ينقل موضوع الملكة والعدم}.
ينقل زعمهم أن الوجود والعدم والحياة والموت والعلم والجهل لا يتقابلان تقابل سلب وإيجاب، بل هما تقابل عدم وملكة، فيقول: إذا كان هذا الجماد لا يقبل هذه الصفات لا يمكن أن تصفه بهذه الصفات، وبالتالي يرى أن سلب النقيضين أو رفع النقيضين جائز بالنسبة لمن لا يقبل هذه الصفات، يرد عليه بأن الحياة والموت والوجود والعدم والعلم لا يقال ملكة أو عدم ملكة، لأنه في تقابلهم تقابل سلب أو إيجاب، إما حي أو ميت، ما ينطبق على هذه القاعدة التي تدعيها، فهو يريد أن يبطل هذه الدعوة، يقول: تقابل العدم والملكة لا يقال في الحياة والموت، ولا يقال في الوجود والعدم، ولا يقال في العلم والجهل، ثم يقول: هذه الجمادات توصف بأنها ميتة وهي جمادات.
{قال -رحمه الله-: (وَقِيلَ لَك ثَانِيًا: فَمَا لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْبَصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَابِلَاتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذَلِكَ - فَالْأَعْمَى الَّذِي يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْبَصَرِ أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَأَنْتَ فَرَرْت مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْقَابِلَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَوَصَفْته بِصِفَاتِ الْجَامِدَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ)}.
هذه أيضًا جواب آخر، يقال: إنك إذا أردت الفرار من هذه الصفات بزعمك أن لا يقبلها الخالق -تبارك وتعالى-، سيقال إن نفيها أسوء من إثباتها، ولهذا (فَمَا لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْبَصَرِ) الذي هي تقابل السلب والإيجاب والعدم والملكة، العمى والبصر عدم وملكة، (وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَابِلَاتِ) سواءً تقابل نقيض أو تقابل ملكة وعدم، (أَنْقَصُ) يعني الذي لا يقبلها أنقص مما يقبلها، فالأعمى الذي لا يقبل اتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدًا منهم، وعنده العمى والبصر ملكة وعدم، لكن هذا لا يقال في الحياة والموت ولا يقال في العلم والجهل، ولا يقال في الوجود والعدم، فأنت أيها المعطل الباطني فررت من تشبيهه بالحيوانات وأيضاً الجمادات القابلة لصفات الكمال ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل تلك الصفات.
{قال -رحمه الله-: (وَأَيْضًا فَمَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ: أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِنْ الْقَابِلِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ بَلْ وَمِنْ اجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَنَفْيِهِمَا جَمِيعًا فَمَا نَفَيْت عَنْهُ قَبُولَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. كَانَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا نَفَيْت عَنْهُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ فَذَاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا؛ فَجَعَلْت الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ هُوَ أَعْظَمُ الْمُمْتَنِعَاتِ وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ)}.
هذا الدليل العقلي دقيق جدًّا وينبغي حسن التصور والفهم له، هناك ما يقبل الوجود والعدم وهناك ما لا يقبل الوجود والعدم، لا شك أن ما يقبل الوجود والعدم أقبل بالعقل ممن لا يقبل، القسمة العقلية فيما يتعلق بالوجود والعدم، إما أن يكون الشيء قابلاً للوجود قابلاً لأحدهم وهما قسمان: لما يكون موجود أو غير موجود، أو يكون قابلاً لهما في نفس الوقت، اجتماع النقيضين وهذا ممتنع، أو يكون غير قابلاً لهم وهو ارتفاع النقيضين، بمعنى الوجود والعدم بالنسبة للقسمة العقلية على طريقة الصبر والتقسيم إما وجود أو عدم أو اجتماع الوجود والعدم أو ارتفاع الوجود والعدم، اجتماع النقيضين محال، وارتفاع النقيضين محال، فبقي إما موجود أو معدوم، هم ماذا قالوا؟ خرجوا عن هذه القسمة العقلية وقالوا أصلاً لا يتصف في الوجود ولا العدم، أيهما أسوء وأقبح؟
من اجتمع فيه النقيضين أو ارتفع فيه النقيضين أو أحدهما لا شك أن من لا يقبلهما أقبح، فماذا يقول: (فَمَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ)، هم يزعمون الآن إنما يقبل الوجود والعدم فيمن كان قابل، أما الخالق عندهم أنه لا يمكن أن يقبل هذه الصفات أصلاً، صفة العلم، وصفة الحياة، وصفة الوجود، (فَمَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ: أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِنْ الْقَابِلِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) سواءً قابل لهما في اجتماع النقيضين أو ارتفاع النقيضين أو أحدهما، (بَلْ وَمِنْ اجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) مع أن هذا محال عقلاً، (وَنَفْيِهِمَا جَمِيعً) ارتفاعهما (فَمَا نَفَيْت عَنْهُ قَبُولَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) بزعمك أيها الباطني (كَانَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا نَفَيْت عَنْهُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ)، هذه أشياء عقلية، تصورات والعقل يتصور مثل هذه التصورات الباطلة، (وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ فَذَاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعً) إذا كان اجتماع النقيضين أو ارتفاع النقيضين ممتنع في صرائح العقول فما لا يقبل أعظم امتناعا.
قال: (فَجَعَلْت الْوُجُودَ الْوَاجِبَ) الذي هو وجود الخالق، لأن الوجود عندهم نوعان: إما واجب الوجود أو جائز الوجود -كما تقدم- (فَجَعَلْت الْوُجُودَ الْوَاجِبَ) الذي وجود الخالق (الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ هُوَ أَعْظَمُ الْمُمْتَنِعَاتِ) والممتنعات دركات، (وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ).
{(وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ مِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِرَفْعِ النَّقِيضَيْنِ: الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ؛ وَرَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَا. وَمَنْ يَقُولُ لَا أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَامْتِنَاعُهُ عَنْ إثْبَاتِ أَحَدِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَجَهْلِ الْجَاهِلِ وَسُكُوتِ السَّاكِتِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ الْحَقَائِقِ)}.
هنا يُبَيِّنُ أن هؤلاء الباطنية طوائف، فمنهم من يصرح برفع النقيضين، هذا ممتنع عقلاً، هذا مستحيل، الوجود والعدم، فيقول لا موجود ولا معدوم، مثل الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارج العالم، هذا عدم ما تقبله العقول، (وَرَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَ) في بدائه العقول، (وَمَنْهم يَقُولُ لَا أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْهُمَ) وهذا أعظم امتناعاً، فبين أن هؤلاء طوائف (فَامْتِنَاعُهُ عَنْ إثْبَاتِ أَحَدِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَجَهْلِ الْجَاهِلِ وَسُكُوتِ السَّاكِتِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ الْحَقَائِقِ)، مما يدل على أن هذا أعظم فساداً.
ثم ذكر الجواب الرابع.
{قال -رحمه الله-: (وَإِذَا كَانَ مَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ - فَمَا يُقَدَّرُ لَا يَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَلَا الْمَوْتَ وَلَا الْعِلْمَ وَلَا الْجَهْلَ وَلَا الْقُدْرَةَ وَلَا الْعَجْزَ وَلَا الْكَلَامَ وَلَا الْخَرَسَ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْبَصَرَ وَلَا السَّمْعَ وَلَا الصَّمَمَ: أَقْرَبُ إلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قَابِلًا لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ - وَحِينَئِذٍ فَنَفْيُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ وَالْمُمْكِنِ وَمَا جَازَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ - قَابِلًا - وَجَبَ لَهُ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ وَجَبَ؛ وَإِذَا جَازَ وُجُودُ الْقَبُولِ وَجَبَ)}.
وهذا من باب المناظرة الإلزام لهؤلاء الذين اعترضوا على الجواب بأن ما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهم، وزعم أن الخالق أصلاً لا يقبل هذه الصفات ومنها صفة الحياة وصفة الوجود وصفة العلم -بزعمهم- أن هذه لا يوصف الخالق بها ولا يقبلها، فوقعوا فيما هو أسوء، فيقال لهم: إن نفي الصفات مع كونه قابلاً لها أكمل من نفيها مع عدم القبول.
يعني: الذين نفوا الصفات -وهم الذين شبهوه بالمعدومات- مع إمكان أنه قابل لهذه الصفات، هذا أفضل من الذي ينفي الصفات مع استحالة أن يكون متصف بهذا؛ لأن المعدوم نوعان: إما معدوم ممكن أو معدوم ممتنع، ولهذا أجاب بهذا الجواب العقلي (وَإِذَا كَانَ مَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ )، طوائف الباطنية منهم من يقول بأنها غير متصف بها مع إمكان في العقل، ومنهم من يقول أنه يستحيل عقلاً، (فَمَا يُقَدَّرُ لَا يَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَلَا الْمَوْتَ وَلَا الْعِلْمَ وَلَا الْجَهْلَ وَلَا الْقُدْرَةَ وَلَا الْعَجْزَ وَلَا الْكَلَامَ وَلَا الْخَرَسَ) إلى نحو هذه الصفات (أَقْرَبُ إلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قَابِلًا لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ) مما يقول به طائفة من هؤلاء المعطلة.
قال: (وَحِينَئِذٍ فَنَفْيُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ وَالْمُمْكِنِ) يعني من جهة المناظر والعقل أو لا، (وَمَا جَازَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ - قَابِلً) يعني جائز ببدائه العقول (وَجَبَ لَهُ) يعني ما كان جائزاً فهذا يجب للخالق -تبارك وتعالى-، لماذا؟ (لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ وَجَبَ) إذا قلت أنه جائز فإنه يجب، (وَإِذَا جَازَ وُجُودُ الْقَبُولِ وَجَبَ) هذا من باب الإلزام.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيْنَ وُجُوبِ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ)}.
وهذا سيبسطه -إن شاء الله- في القاعدة الأولى وفي القاعدة السابعة، وهو الجواب الخامس.
{(وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: لَيْسَ هُوَ التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ الَّذِي نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّاتُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَإِنَّمَا نَفَتْ مَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَالِقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ أَوْ امْتِنَاعِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْرَكَهُ مَخْلُوقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)}.
وهذه الشبهة التي نقضها في المقدمة، الشبهة التي زعموا أن الاشتراك في الاسم المطلق يلزم منه التشبيه، فقال: (اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ) مثل ما تقدم أن الله سمى نفسه بأسماء وسمى بعض خلقه بهذه الأسماء، ووصف نفسه بصفات ووصف بعض خلقه بصفات، يقول: (أن اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ فِي بَعْضِ) ليس في الكل، ثمة أسماء وصفات لا يسمى بها إلا الخالق، (لَيْسَ هُوَ التَّشْبِيهَ) الذي نفته النصوص، ما الذي نفته الأدلة السمعية والعقلية؟ هو التمثيل حال التقييد والإضافة والتخصيص، وهذا نقض للشبهة التي تمسك بها جميع هؤلاء المعطلة (وَإِنَّمَا نَفَتْ مَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَالِقُ) حال الإضافة والتقييد والتخصيص، أما حال الإطلاق فإن النصوص أثبتت للخالق أسماء وللمخلوق أسماء ولا يلزم من ذلك التمثيل.
إذاً ما المنفي؟ المنفي هو التماثل حال التقييد والتخصيص، قال: (مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ) كالحياة الأزلية والقدرة المطلقة والعلم المحيط بكل شيء (أَوْ جَوَازِهِ) كالنزول والمجيء والكلام (أَوْ امْتِنَاعِهِ) كصفات النقص، قال: (فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْرَكَهُ مَخْلُوقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ -عز وجل-).
ثم ختم الجواب بقوله: {(وَأَمَّا مَا نَفَيْته فَهُوَ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَتَسْمِيَتُك ذَلِكَ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا تَمْوِيهٌ عَلَى الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى سَمَّاهُ مُسَمٍّ بِهَذَا الِاسْمِ يَجِبُ نَفْيُهُ؛ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَكَانَ كُلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الْحَقَّ بِأَسْمَاءِ يَنْفِرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيُكَذِّبَ النَّاسُ بِالْحَقِّ الْمَعْلُومِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ: أَفْسَدَتْ الْمَلَاحِدَةُ عَلَى طَوَائِفِ النَّاسِ عَقْلَهُمْ وَدِينَهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ إلَى أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْجَهَالَةِ وَأَبْلَغِ الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ)}.
وهذه الحقيقة خاتمة مهمة ونفيسة جدًّا، وهي الحقيقة تحتاج إلى وقفة في كيف يشوه الحق وكيف يصف أهل الباطل بصفات تنفر الناس عنه، ويصفون باطلهم بأوصاف يموهون بها على الجهال -إن شاء الله- في الدرس القادم سنقف الحقيقة وقفة مهمة جدًّا مع هذه الخاتمة، والتي يحتاجها كل مسلم في كشف زيف هؤلاء المبطلين خاصة بالأسماء والمصطلحات، ولهذا تجد المعطلة للصفات يلمزون أهل السنة بالمجسمة والمشبهة، وهم أنفسهم هم المجسمة والمشبهة، لنا وقفة مهمة ومهمة ومهمة جدًّا مع هذه الخاتمة في الدرس القادم -إن شاء الله-، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم ممن يحققون التوحيد في هذا الباب وفي جميع أبواب الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم آمين وإياكم وجميع الإخوة والأخوات من المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة مني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك