الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2011 22
الدرس الأول

العقيدة التدمرية

{بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفَّاع العتيبي. فأهلا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وبارك الله فيكم وفي الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات والمشاهدين والمشاهدات.
{نشرع في هذا الفصل -بإذن الله- من كتاب "متن العقيدة التَّدمريَّة" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مفتي الأنام، أوحدُ عصره، وفري دهره، ناصرُ السُّنَّة، وقامع البدعة: تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عَبْدِ الْحَلِيمِ ابْنِ الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تيمية الحراني -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وجعل الجنة منقلبه ومثواه)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأُصلِّي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل مَن صلَّى وسلَّم عليه.
أما بعدُ؛ فأرحب بالأبناء والطلاب والطالبات في هذا البرنامج العلمي "البناء العلمي"، وفي هذا المقرر الموسوم بـ "التَّدمريَّة" والتي سمَّاها شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- "تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشَّرع".
وهذا الكتاب من الكتب المهمَّة التي ألفها ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وتعتبر مدخلًا لمعرفة كتب ابن تيمية المطوَّلة كـ "درء تعارض العقل والنقل، ونقض تأسيس الجهميَّة"، فالذي يُريد فهم الكتب المطوَّلة لشيخ الإسلام لابدَّ أن يقرأ هذه الرسالة الموسومة بــ "الرسالة التَّدمريَّة".
هذه الرسالة في نُسَخها وفي مخطوطاتها وردَ لها العديد من الأسماء، وربما هذا الاسم الموجود على النُّسخة المحَقَّقة التي حققها شيخنا الدكتور محمد بن عودة السعوي في رسالته للماجستير هو الأقرب إلى مسمى هذه الرسالة، فمن المسميات: العقيدة التدمرية، أو الرسالة التدمرية، لكن الذي جاء عن ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كما في بعض كتبه أنه سماها بـ "المسائل التدمرية"، قال: "وقد ذكرنا في جواب المسائل التَّدمرية الملقَّب بتحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر".
وكما تلاحظون أنَّ هذا العنوان يُبيِّن مضمون هذا الكتاب "تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر".
وقال: "لا يجوز الاكتفاء فيما يُنزَّه الرَّب عنه على ما ورد السَّمع والخبر به، فيُقال: كل ما ورد به الخبر أثبتناه، وما لم يرد به لم نثبته؛ بل ننفيه، وتكون عمدتنا في النفي على عدم الخبر، بل هذا غلطٌ لوجهين".
إذًا؛ هذه الرسالة تُعالج إشكاليَّة الجمع بين النفي والإثبات في باب الأسماء والصفات، وإشكالية الجمع بين الشرع والقدر لوجود الغلطِ واللغطِ في هاتين المسألتين المهمَّتين.
هذه الرسالة من الكتب المهمَّة لطالب العلم، لِمَا تحتويه من قواعد وأصول في تقرير مذهب السلف، خاصَّة في هذين البابين المهمَّين، ولِمَا تحتويه من قواعد وأصول في الرَّدِّ على المخالفين.
ومناهج الرَّد على المخالفين وطرائق الرَّد على المخالفين بالدَّليل الشَّرعي والدليل العقلي والدليل الفطري من الأمور المهمًَّة، خاصَّة في هذا الزَّمن الذي كثُرَت فيه الشُّبهات حول العقيدة الإسلامية، وحول العقيدة السَّلفيَّة -على وجه الخصوص.
فهذه الرسالة مهمة لطالب العلم في معرفة القواعد والأصول التي يستطيع من خلالها تفكيك الشُّبه التي ترد على العقيدة الإسلامية وترد على العقيدة السلفية -على وجه الخصوص- لما فيها من الحُجج العقليَّة والفطريَّة، إضافة للحجج الشرعيَّة في الدفاع عن العقيدة السلفية، والدفاع عن العقيدة باللسان والحُجج هو نوعٌ من أنواع الجهاد في سبيل الله، وخاصة في هذا العصر الذي كثُرَت فيه الشبهات الفكرية، من شبهات الملاحدة والطاعنين في مذهب السلف على وجه الخصوص، فهي من الرسائل المهمَّة والكتب المهمة لطالب العلم الذي يُريد التأصيل والتقعيد في هذا الباب، وخاصة في باب النقاش ونقض الشبهات التي ترد على مذهب السلف.
سبب التأليف سيذكره المصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في المقدِّمة.
وسبب التسمية بالتَّدمريَّة أيضًا أشار إليه، وهو سؤال وردَ إلى شيخ الإسلام من طلابٍ له من مدينة تدمر -وهي المدينة المشهورة في شمال سوريا- فنُسبَت إليها، كما نُسِبَت العقيدة الواسطيَّة والحمويَّة إلى الأسئلة التي وردت من تلك البلاد.
المنهج الذي اتبعه ابن تيمية هو: منهج الرد على المخالفين بالدليل العقلي المتضمِّن للدليل الشرعي، والدليل الفطري، وقد عُنيَ العلماء بهذه الرسالة، فكثُرَت الشُّروح، خاصَّة الشروح المعاصرة، وهناك مَن اختصرها، مثلما فعل الشيخ محمد بن عثيمين في "تقريب التدمرية"، وهناك مَن عُني بالتعريف بالمصطلحات التي وردت في هذه الرسالة، فالشروح عليها كثيرة، والمختصرات عليها كثيرة.
ومن الأمور المهمَّة: أنَّ فهم هذه الرسالة يعتمد على فهم المصطلحات، ولهذا قد يجد بعض طلاب العلم صعوبة في فهمها نتيجة لعد فهم المصطلحات، مثل: مصطلح "الوجود، والعدم، والممتنع، والضد، والنقيض"، ونحوها، ففهم هذه المصطلحات مهم لفهم هذه العقيدة.
أيضًا تعتمد على الحجج العقليَّة التي تُبنَى على المقدِّمات، المقدمة الأولى، المقدمة الثانية، ثم النَّتيجة، ولهذا فهي شبيهة بالعلوم التي تعتمد على مقدِّمات، مثل علوم الرياضيَّات والقواعد الفيزيائيَّة والكيميائيَّة، لذلك تجد بعض الطلاب أحيانًا قد يقول: إنَّ هذه العلوم فيها صعوبة، والسبب أنه لا يفهم هذه المقدمات والنَّتائج.
وهنا في باب الجدل والنقاش للمخالفين يعتمد على المقدِّمات، ويعتمد أحيانًا على أسلوب النقاش على فرض التَّسليم، ثم النقض، ولهذا هو يبدأ أحيانًا بفرض التَّسليم للمخالف، ثم يبدأ بنقض حجَّة المخالف، فينطلق في الرد على المخالفين من الأمور المشتركة -كما سيأتي في مسمى الوجود- ثم يُرجع المختَلف فيه إلى المؤتلف عليه، فهي رسالة مهمة في باب الجدل.
موضوع الرسالة: كما بينه الشيخ في المقدمة التي سيأتي ذكرها -إن شاء الله- والمسائل التي تضمنها هذا الكتاب.
وابتدأ شيخ الإسلام الكتاب بالبسملة، ثم قال: (وبِهِ نَسْتَعين)، وفي بعض النُّسَخ: (ربِّ يَسِّرْ وأَعِنْ)، ثم أضاف النُّسَاخ -أو الطُّلَّاب- المقدمة (قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مفتي الأنام، أوحدُ عصره، وفريد دهره، ناصرُ السُّنَّة، وقامع البدعة)، وهذا -جزمًا- ليس من ابن تيمية؛ لأنَّه لا يُمكن أن يمدح نفسه، وإنَّما هذا من التَّلاميذ أو النُّسَّاخ.
وابتدأ المصنف كتابه بالبسملة، ثم أعقبَ ذك بخطبة الحاجة، وهذه عادة أهل العلم في كتبهم، وهي أنهم يجمعون في الكتب بين البسملة والحمدلة، والرسائل يبدؤونها بالبسملة، والخُطَب يبدؤونها بالحمدلة، فهيه ثلاثة أنواع في البدء بالكتب والرسائل والخُطب:
- فالرسائل: يُكتفى فيها بالبسملة.
- والخطب: يُكتفى فيها بالحمدلة.
- والكتب: يُجمَعُ فيها بين البسملة والحمدلة.
ولهم في الحمدلة طريقتان:
* إما خطبة الحاجة: كما فعل شيخ الإسلام هنا، وفي كثيرٍ من كتبه.
* أو يبدؤون بما يُسمَّى ببراعةِ الاستهلال.
والغالب على شيخ الإسلام في كتبه -كما في التَّدمريَّة والواسطيَّة والحموية وغيرها- أنه يبدأ بخطبة الحاجة، ولها ألفاظ عديدة، ومنها اللفظ الذي ذكره الشيخ هنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرً)}.
هذه خطبة الحاجة اختصرها هنا، ولا حاجة لأن نقف عند شرحها؛ لأنها تُشرَح في كثيرٍ من الكتب، وما تتضمَّنه من الحمد والثَّناء على الرَّبِّ تبارك وتعالى، والصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهكذا الكتب تُبدأ بالبسملة والحمدلة والثناء على الله، والصلاة على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وتُختَم كذلك، وهذا هو الذي فعله شيخ الإسلام في هذا الكتاب وفي كثيرٍ من كتبه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ؛ مِنْ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَفِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ)}.
قوله: (أَمَّا بَعْدُ)، أي: مهما يكن من شيءٍ بعد.
قوله: (فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ)، هذا هو السبب الأول الداعي إلى تأليف هذا الكتاب، وهو يعود إلى مكانة السائل، وأهل العلم لا يؤلِّفون لا لأجل كثرة المؤلَّفات، وإنما يؤلفون لحاجة الأمَّة، ولهذا تجد كثيرًا من هذه الكتب كانت بإلحاح وسؤال من طلاب العلم ومن المسلمين، فالحموية كانت إجابة لسؤال، والواسطية كانت إجابة لسؤال، والتَّدمريَّة كانت إجابة لسؤال؛ ولهذا نفع الله بهذه الكتب، فلا يؤلفون لأجل كثرة المؤلَّفات، وإنَّما ألَّفوا لحاجة المسلمين وطلاب العلم إلى مثل هذه المؤلَّفات، فجزى الله هؤلاء الطلاب عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء وأوفاه، حيثُ أفادوا طلاب العلم وأفادوا المسلمين بهذا السؤال، والإنسان إذا سألَ فهو المعلِّم، كما في حديث جبريل لَما سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ»[1]، مع أنه كان يسأل، فهؤلاء سألوا الشيخ أن يكتب لهم مضمون ما سمعوه منه في بعض المجالس.
وهنا وقفة! قد يقول القائل: ما معنى (تَعيَّنَت)؟
نقول: (تعيَّنَت)، يعني: وجبت، وإجابة السائل واجب عيني لمن توجَّه إليه السؤال.
قد يقول قائل: من المعلوم أن الوجوب إذا كان الأمر من أعلى إلى أسفل، وهنا من الطلاب إلى الشيخ!
فيُقال: لمكانة هؤلاء الطلاب عند الشيخ، وأيضًا لأنَّ السؤال وُجِّه إليه، فوجبَ عليه وجوبًا عينيًّا أن يُجيبهم، ولذلك قال: (تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ)، وبذل العلم واجب، إمَّا وجوب كفائي أو وجوب عيني، فالوجوب العيني: إذا وُجِّه السؤال وكان المسؤول لديه القدرة على الإجابة.
قال: (فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ)، فهذا هو السبب الأول.
قوله: (أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ)، هذا يُبيِّن لك أنَّ هذه الرسالة هي مضمون لدروس ومجالس.
وهنا تأتي الصعوبة في فهم هذا الكتاب؛ لأنَّ هذا الكتاب مختصر لدروس ومجالس، فلمَّا سمعوا منه دروسًا كثيرة في مجالس؛ طلبوا منه أن يختصر هذه المجالس في هذه الرسالة.
قوله: (مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ)، معناه أن هؤلاء تلقوا من الشيخ، فهم طلابه، إما أنهم حضروا إليه وسمعوا منه -وهذا هو الظاهر- فطلبوا منه بعد هذا الحضور، وهو أشبه ما يكون في عصرنا هذا بالدورات العلمية المكثَّفة، فسمعوا منه في بعض المجالس كثيرة، وطلبوا منه أن يكتب لهم مضمونَ ما سمعوا منه في هذه المجالس العلميَّة، لكن حدَّدوا شيئين يكثر فيهما الإشكال:
- الكلام في التوحيد والصفات.
- والكلام في الشرع والقدر.
وهذا لكثرة من ضل في هاتين المسألتين.
قوله: (مِنْ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ)، عطف "الصفات" هنا على "التوحيد" من باب عطف الخاص على العام؛ لأنَّ الصفات نوع من أنواع التوحيد، وسيرد بعد ذلك أنه قال في الفصل الأول: (وَأَمَّا الأَوَّل: وَهُوَ التَّوحيد فِي الصِّفَات)، فتبيَّنَ أنَّ عطف الصفات على التوحيد هو من باب عطف الخاص على العام لكثرة الخلل الذي وقع في بعض الصفات.
قوله: (وَفِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ)، أي: في الجمع بينهما، ولَمَّا تُقارن بينَ ما ذكر هنا وبين العنوان الذي هو "تحقيقُ الإثباتِ للأسماء والصفات" تجد أن هذا هو الباب الأول، وقوله: "وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر" هذا هو الباب الثاني.
فهذا هو موضوع الرسالة كما نصَّ عليه الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذه المقدِّمة، وفي بيان السبب الأول للتأليف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ؛ مِنْ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَفِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَكَثْرَةِ الِاضْطِرَابِ فِيهِمَا. فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إلَيْهِمَا وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاطِرِ وَالْأَقْوَالِ مَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى بَيَانِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ تَارَةً وَبِالْبَاطِلِ تَارَاتٍ، وَمَا يَعْتَرِي الْقُلُوبَ فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي تُوقِعُهَا فِي أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ)
}.
هذا هو السبب الثاني، وهو يتعلق بأهميَّة الموضوع المسؤول عنه، لارتباطه بمسائل كثيرة.
وقسَّم السبب الثاني إلى قسمين:
الأول: سبب عام لعموم المسلمين.
الثاني: سبب خاص لطلاب العلم والعلماء.
أمَّا السبب العام ففي قوله: (لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ)، فحاجة كل مسلم إلى تحقيق هذين الأصلين.
قد يقول قائل: بِمَ يحقق المسلم هذين الأصلين؟
فيُقال: التَّحقيق أنواع، منه أن يعرف الحق من الباطل في هذين الأصلين من خلال أدلَّة الكتاب والسُّنَّة، ثم يعرف الأدلة على هذين الأصلين، ثم يدفع الشُّبَه التي ترِد في هذين الأصلين.
ولهذا وردت شُبهٌ في باب الأسماء والصفات، وشُبهٌ في الجمع بين الشَّرعِ والقدر.
والتَّحقيق أنواع بحسب حاجة الإنسان، فعموم المسلمين يحتاج أن يحقق الأصل والكمال الواجب، والعلماء وطلاب العلم يحتاج أن يُحقِّق الكمال، ومنه الرَّد على المخالفين والمشكِّكين في هذين البابين، وكما يُقال في تحقيق الإيمان وتحقيق التَّوحيد، فهناك: أصلٌ، وكمال واجب، وكمال مستحب، فالإيمان فيه أصلٌ، وكمالٌ واجب، وكمالٌ مستحبٌّ.
التَّوحيد فيه:
- أصلُ التوحيد: الذي به يبقى في دائرة الإسلام، ويمنعه من عدم الخلود في النار.
- وتحقيقٌ واجب: وهو الذي يُحقق الواجبات، ويترك المحرَّمات.
- وكمال مستحب: وهي درجة أهل الإحسان.
وهكذا الدين: إسلام، وإيمان، وإحسان، وأهله: مسلمون، ومؤمنون، ومحسنون.
إذًا؛ التَّحقيق على مراتب ودرجات، فعامة المسلمين لهم درجة في تحقيق الحد الأدنى، والعلماء وطلاب العلم لهم درجة في الدفاع عن العقيدة.
ثم ذكر سببًا آخر يعترض طلاب العلم وبعض العلماء، فقال: (وَكَثْرَةِ الِاضْطِرَابِ فِيهِمَ)، فقد وُجد الخلاف والاضطراب في باب الأسماء والصفات، وفي باب الجمعِ بين الشَّرعِ والقدر.
ثم قال: (فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إلَيْهِمَ)، وهذا هو السبب العام.
قال: (وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادِ)، ذكر هنا أربعة أصناف من الناس:
- أهل النَّظر: في الغالب يُطلق على علماء الكلام.
- أهل العلم: أي الذي يُعنون بالعلم الشرعي من الكتاب والسنة.
- أهل الإرادة والعبادة: هم أهل الزَّهدِ والورع ومَن يُعنون بالعبادة.
وهذا التَّصنيف للناس هو تصنيف من جهة الأغلب، وإلَّا فكل واحدٍ من هؤلاء له عناية بالعلم، وله عناية بالعبادة، فإذا قيل: "أهل العلم" فلا يعني أنهم لا يعنون بالعبادات، وإذا قيل: "أهل العبادة" لا يعني أنهم لا يعنون بالعلم؛ لكن الشيخ صنَّف هذا التَّصنيف من جهة الأغلب، كما يُقال: أهل الصلاة، أهل الزَّكاة، أهل الصيام، أهل الصدقة؛ بمعنى أنَّه غلبَ عليهم العناية بهذا الباب أكثر، وإلَّا وإن كانوا من أهل الصلاة فإنَّك تجد لهم عناية ببقيَّة العبادات، لكنَّه عُنيَ بهذا الباب أكثر، أو عُنيَ بباب الصَّدقة أكثر، كما جاء في وصف أبواب الجنة: «فمَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّلاةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهادِ، دُعِيَ مِن بابِ الجِهادِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِن بابِ الصَّدَقَةِ، ومَن كانَ مِن أهْلِ الصِّيامِ، دُعِيَ مِن بابِ الرَّيّانِ»[2].
وهكذا التصنيف هنا، فهو من حيثُ الأغلب، فأهل النَّظر: هم من لهم عناية بالنَّظر العقلي، فغالبًا يُطلق على علماء الكلام، وهم قد خاضوا في هذا الباب.
وأهل العلم ممن لهم عناية بالعلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة.
وأهل الإرادة والعبادة: غالبًا يقصد بهؤلاء أهل الزَّهد والورع، وهم أصناف، فمنهم عُبَّاد الصُّوفيَّة، ومنهم أهل الزَّهد الورع، فقد يعترض هؤلاء نوعٌ من الشُّبه.
قال: (لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاطِرِ وَالْأَقْوَالِ). قد يقول قائل: ما الفرق بين الخواطر والأقوال؟
الخواطر: في وساوس في القلب ترد على هؤلاء.
الأقوال: تكون باللسان، فقد يقع هؤلاء في خطأ في جهة الأقوال، كما يقع الخطأ في الاعتقادات والخواطر والوساوس التي ترد عليهم في هذا الباب.
قال: (مَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى بَيَانِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ)، وهذا نوع من أنواع التَّحقيق، فتُميِّز الحق من الباطل.
قال: (لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ تَارَةً)، وهذا هو السبب الخامس، وعبَّر بقوله بِالْحَقِّ تَارَةً) لقلَّتهم.
قال: (وَبِالْبَاطِلِ تَارَاتٍ)، فخاضَ علماء الكلام في هذا الباب تارات، وهم أصناف -كما سيأتي بيانه- وذكر منهم الباطنية والفلاسفة وعلماء الكلام، وكذلك فيما يتعلق بأهل الورع والزُّهد والتَّصوُّف، فالذين خاضوا بالباطل أكثر وأغلب.
قال: (وَمَا يَعْتَرِي الْقُلُوبَ فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي تُوقِعُهَا فِي أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ).
إذًا؛ دفع هذه الشُّبه لا يكون إلَّا بتحقيق هذين الأصلين، وهذا ممَّا يُبيِّن أهمِّيتهما.
إذًا؛ هناك سببٌ يتعلَّق بالسائل، وهناك سبب يتعلق بهذين الموضوعين، منه سبب يتعلق بعموم المسلمين، ومنه سبب يتعلق بأهل العلم وطُلَّاب العلم؛ فمسيس الحاجة لهذين الأصلين وكثرة الاضطراب فيهما، وحاجة كل أحدٍ إليهما، ووجود مَن خاض في هذا بالحق تارة وبالباطل تارات، كذلك ما يرد على أهل العلم والنَّظرِ والإرادة والعبادة من أنواع الشبه، ثم ما يعتري القلوب في ذلك في هذا الباب من الشُّبه التي تُوقعها في أنواع الضَّلالات، ولا شكَّ أنَّ الشُّبه خطيرة، وأنها أنواع، وكشفها من العلاج لها، وذلك قبل الوقوع وبعد الوقوع، فالعلاج يكون بالدَّفع والرَّفع، أي: دفع الشبهة قبل وقوعها، ورفعها بعد وقوعها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَالْكَلَامُ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَالْكَلَامُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ: هُوَ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ نَفْيًا وَإِثْبَاتً)}.
هنا انتقل إلى موضوع آخر، وهو: الفرق بين هذين الأصلين.
قال: (فَالْكَلَامُ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ)، الذي هو الباب الأول.
قوله: (هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ)، أي: الخبر يدور بين النَّفي والإثبات بالنِّسبة للمُخبر، ويدور بالنسبة للمتلقِّي بين التَّصديق والتَّكذيب، فهو بابٌ خبري علمي.
والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة، وهذا بالنسبة للآمر.
قوله: (الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ نَفْيًا وَإِثْبَاتً)، أي: في النفي والأمر.
وهذا هو الفرق الأول بين هذين الأصلين من جهة متعلَّق كلِّ واحدٍ منهما.
وتُلاحظ أنَّ هذا التَّقسيم من حيثُ العموم، وإلَّا فإنَّ باب الشَّرع وباب القدر فيه شيء من الخبر، وباب الأمر والنهي فيه شيءٌ من الامتثال أو عدمه، ولكن هذا من حيث التقسيم العام، حتى باب القدر داخل في باب الصفات وباب الربوبيَّة.
إذًا؛ التقسيم هنا من حيث الأغلب في هذا الباب، والحاجة تدعو إلى مثل هذا التقسيم لفهم العلم.
وهذا هو الفرق الأول بين هذين الأصلين:
- الكلام في باب التوحيد من باب الخبر.
- والكلام في باب الشرع والقدر: من باب الطلب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَبَيْنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْحَضِّ وَالْمَنْعِ)}.
هذا هو الفرق الثاني بينهما من جهة نوع الكلام فيهما، قال: (وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْفَرْقَ)، يعني هذا أمرٌ جبليٌّ فطريٌّ.
ولو قال قائل: ما الفرق بينهما؟
نقول: هذا أمرٌ يعلمه الإنسان من نفسه اضطرارًا، فالإنسان بطبعه وجبلَّته يجدُ الفرق بين النفي والإثبات من جهة المخبر، والتَّصديق والتَّكذيب من جهة المُخبَر. قال: (وَبَيْنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْحَضِّ وَالْمَنْعِ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (حَتَّى إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ النَّوْعِ الْآخَرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ، وَكَمَا ذَكَرَهُ الْمُقَسِّمُونَ لِلْكَلَامِ؛ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالنَّحْوِ وَالْبَيَانِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ، وَالْخَبَرُ: دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْإِنْشَاءُ: أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ إبَاحَةٌ)}.
كما أنَّ الإنسان يجد الفرق بينهما؛ فكذلك أهل العلم في كتبهم قسَّموا العلوم إلى نوعين، قال الشيخ: (حَتَّى إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ النَّوْعِ الْآخَرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ)، فيقصد بالعامَّة: عموم المسلمين. والخاصَّة: أهل العلم وطلاب العلم.
قال: (وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ)، سواء كان من أهل النَّظر أو من أهل العلم الشرعي.
قال: (كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ)، فإنهم يفرقون بين اليمين على أمرٍ مضى واليمين على أمر مستقبل، فاليمين على أمر مضى إن كان صادقًا فيها فهي يمينُ حقٍّ، وإن كان كاذبًا فهي يمينٌ غموس، عليه التوبة والاستغفار، ولا كفارة عليها، أما إذا حنث في يمين على أمر مستقبل فعليه الكفارة؛ فيُفرِّقون بين الخبر وبين المستقبل.
قال: (وَكَمَا ذَكَرَهُ الْمُقَسِّمُونَ لِلْكَلَامِ) يعني أنَّ الذين يُعنون بعلم الكلام يُقسِّمون في أنواع الدلالات بين الخبر والأمر، وكذلك أهل النحو والبيان.
قال: (فَذَكَرُوا أَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ)، فالخبر: هو الماضي. والإنشاء: هو الأمر والمستقبل.
قال: (وَالْخَبَرُ: دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ)، والتصديق والتَّكذيب.
قال: (وَالْإِنْشَاءُ: أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ إبَاحَةٌ)، هنا أشار إلى أنواع التَّكليف الخمسة:
- فالأمر: يشمل أمر وجوب، أو أمر استحباب.
- والنهي: يشمل نهي التَّحريم والكراهة.
- ثم الإباحة.
وهذه أحكام التكليف الخمسة المتعلقة بالشَّرع، فالشرع أوامر ونواهي، ولا تخرج عن هذه الأنواع الخمسة التي أجملها هو في ثلاثة "الأمر والنهي والإباحة"؛ فهذا هو الفرق الأول من جهة نوع الكلام في كل منهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ، فَيُؤْمِنَ بِخَلْقِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ، وَيُثْبِتَ أَمْرَهُ الْمُتَضَمِّنَ بَيَانَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ)}.
هذا هو الفرق الثالث بينهما، قال: (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ)، أي: إذا كان الكلام في الصفات من باب الخبر، والكلام في الشرع من باب الطلب؛ فما الواجب في كلٍّ منهما؟
فذكر هنا مجمل الواجب في كل واحد منهما، فقال: (فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ)، هذا هو مجمل الواجب في التوحيد والصفات، وذكر هذا إجمالًا، وسيأتي التفصيل وسيعيد هذه القاعدة في الأصل الأول، فما ورد إثباته يجب إثباته، وما ورد نفيه يجب نفيه، وهناك شروط وضوابط سيأتي تفصيلها، وأما ما لم يرد فيه نفي أو إثبات سيذكر الموقف منه.
فهذا هو مجمل الواجب في الأصل الأول، وهو من تحقيق الإيمان بالأصل الأول.
أما الأصل الثاني فذكر أنه يجب فيه ثلاثة أمور، فقال: (وَلَا بُدَّ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ)، وأحكام الله نوعان:
- حكم قدري كوني.
- وحكم شرعي.
وهذا هو وجه الرَّبط بين الشرع والقدر، فكلاهما حكم، لكن القدر حكمٌ كوني، والشَّرع حكمٌ شرعي.
قال: (مِنْ أَنْ يُثْبِتَ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ)، فالخلق: يتعلق بالقدر. والأمر: يتعلق بالشرع.
قال: (فَيُؤْمِنَ بِخَلْقِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ)، وهذا متعلق بالقدر، وسيأتي تفصيله -إن شاء الله- في الأصل الأخير، في بيان أنَّ الإيمان بالقدر يتضمَّن أربعة أمور -وهي مراتب القدر.
قال: (وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ)، وهذا هو الواجب الأول في باب القدر، وهو أن يثبت خلقه وأمره، فيؤمن بخلقه المتضمِّن كمال قدرته وعموم مشيئته، وهي إشارة إلى مراتب القدر التي سيأتي تفصيلها في الأصل الثاني.
قال: (وَيُثْبِتَ أَمْرَهُ الْمُتَضَمِّنَ بَيَانَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ)، وهذا يتعلق بالشرع، وهذا الإثبات مبني على اعتقاد وعلى امتثال وعلى عمل ويقينٍ وعلى إخلاص.
قال: (وَيُؤْمِنَ)، والإيمان اعتقاد وقول وعمل، وليس مجرد تصديق.
قال: (وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ)، ذكر تحقيق القدر، وتحقيق الشرع، ثم الجمع بينهما، فيُثبت خلقه وأمره، ويُثبت أمره المتضمِّن بيان ما يُحبه ويرضاه، ثم قال (وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ)، لأن الإشكال بين الفِرَق جاء من توهُّم التَّعارض بين الشرع والقدر.
قال: (إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ)، أي خاليًا من الشبه التي وردت في هذا الباب على بعض العبَّاد وأهل النَّظر.
فهذا هو الواجب في كلِّ أصلٍ من هذين الأصلين بعدَ بيان الفرق بينهما من جهة نوع الكلام في كل واحدٍ منهما.
{أحسن الله إليكم شيخنا؛ فكأنَّ شيخ الإسلام أسَّس في هذا الفصل على ما تقدَّم، لما قال (الكَلَامُ نَوْعَانِ...)، ثم ذكرنا المقصود بالكلام في موضع الرسالة}.
هو ذكر الفرق بينهما من جهة اللغة، ثم ذكر الفرق بينهما من جهة الحكم والواجب في كل واحدٍ منهما، فهي طرق، فمن حيث نوع الكلام في كل واحدٍ منهما، ومن حيث الواجب في كل واحدٍ منهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وَدَلَّ عَلَى الْآخَرِ سُورَةُ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ، وَهُمَا سُورَتَا الْإِخْلَاصِ، وَبِهِمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)}.
هذا هو الفرق الرابع بين هذين الأصلين من حيث تضمُّنهما لأنواع التَّوحيد، فذكر الفرق بينهما عند أهل اللغة وعند المشتغلين بالعلم، وذكر الفرق بينهما من حيث الواجب في كل واحد منهما، وهي عبارات دقيقة ينبغي أن تُفهَم جيدًا، ولهذا عبَّر بـ "الحكم" ليشمل الحكم الشرعي والحكم القدري، وعبَّر بالأمر، وأهل العلم في تقسيمات هذين النوعين يُعبِّرون أحيانًا بالإرادة، والإرادة تشمل الإرادة الكونيَّة المرادفة للمشيئة، والإرادة الشرعيَّة يُعبِّرون عنها أحيانًا بالأمر، والأمر كوني أو قدري أو شرعي، ويُعبِّرون أحيانًا بالقضاء، ويُعبِّرون أحيانًا بالكتابة، ويعبِّرون أحيانًا بالإذن، ويُعبِّرون أحيانًا بما جاء في النُّصوص كـ "الجَعْل، والكلمات"؛ وكل هذه المصطلحات تنقسم إلى: قدري وإلى شرعي.
وكثير من الإشكالات التي وردت في هذا باب القدر والشرع هي نتيجة عدم التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعيَّة، والأمر الكوني والأمر الشرعي؛ ولهذا فإنَّ أهل السُّنَّة فرَّقوا بينهما:
فالأمر الكوني: لابدَّ فيه من الوقوع، ولا يلزم منه المحبَّة والرضا.
والأمر الشرعي: لا يلزم منه الوقوع، ويلزم منه المحبة والرضا.
وقد يجتمعان وقد يفترقان.
وأهل العلم يقولون في الإرادة والمشيئة:
- إمَّا أن تكون إرادة كونيَّة شرعيَّة.
- أو إرادة شرعيَّة لا كونيَّة.
- أو إرادة كونيَّة لا شرعيَّة.
- أو إرادة لا كونيَّة ولا شرعيَّة.
ولهم في هذا تفصيل، والتفريق بينهما هو الذي سيزيل الشُّبه والإشكالات التي ترد في هذين البابين.
قال: (وَهَذَ)، أي: الفرق الثالث بينهما وهو التوحيد في الشرع والقدر.
قال: (وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ)، الذي هو توحيد العبادة، وتوحيد الألوهيَّة، ويُسمَّى بالتَّوحيد العملي، والتوحيد الطَّلبي؛ فكلها أسماء لهذا النوع من أنواع التوحيد، ولهذا قال: (وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ).
ثم قال: (وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ)، الذي هو التوحيد الخبري العلمي.
وهذا التقسيم الذي سلكه شيخ الإسلام في تقسيم التوحيد إلى نوعين لا إشكالَ فيه، لأنَّه جعل توحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات نوعًا واحدًا، وجعل توحيد الألوهيَّة نوعًا ثانيًا، وأهل العلم في تقسيمات العلوم يُجملون أحيانًا ويفصِّلون أحيانًا، ولا إشكال في ذلك، والمشهور عند الناس أنَّ أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وشيخ الإسلام هنا جعل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات نوعًا واحدًا، وسمَّاه "التَّوحيد الخبري" أو "التوحيد العلمي"، وتوحيد الألوهيَّة -الذي هو توحيد العبادة- لأنَّ الألوهية هي العبادة؛ جعله شيخ الإسلام "التوحيد العملي الطلبي"، ولذا قال: (وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ)، يعني ليس عمليًّا.
قال: (كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ )، يعني: دلَّت على النوع الأوَّل.
قال: (وَدَلَّ عَلَى الْآخَرِ سُورَةُ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ ، وَهُمَا سُورَتَا الْإِخْلَاصِ)، لأنَّهما أُخلِصتا لله -تبارك وتعالى:
* فسُمِّيَت سورة الإخلاص بهذا الاسم لأنَّها خالصة في صفات الرَّب -تبارك وتعالى-، ودلَّت على توحيد الصِّفات والربوبيَّة.
* وكذلك سورة الكافرون أخلصت العبوديَّة لله -تبارك وتعالى-، ودلَّت على توحيد الألوهيَّة -الذي هو توحيد العبادة.
قال: (وَبِهِمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)، أي: سنَّة المغرب، وفي الشفع الوتر.
وذكر أهل العلم أنَّ من الحِكَم التي تُستنبَط من فعله -عليه الصلاة والسلام- في قراءة هاتين السورتين في سنة الفجر وسنة المغرب: لكي يستفتح المسلم يومه بالتَّوحيد في سنة الفجر، ويستفتح مساءه بالتَّوحيد في سنَّة المغرب.
هذه المقدِّمة تضمَّنت:
- البسملة.
- الحمدلة.
- ثمَّ بيَّن أسباب التأليف.
- ثم قسَّم أسباب التأليف إلى قسمين:
* قسمٌ يتعلق بمكانة السائل، وتعيُّن الإجابة له.
* وقسم يتعلق بالمسؤول عنه، وأيضًا قسَّمه إلى قسمين:
= حاجة عموم المسلمين لتحقيق هذين الأصلين.
= ما يرد على الخواص من أهل العلم والنَّظرِ والعبادة من الشُّبَه، وكثرة الاضطراب في هذين البابين.
- ثم ذكر الفرق بين هذين الأصلين من أوجه:
* الأصل الأول: يتعلَّق بالتوحيد في الصفات، وحقيقة الإثبات للأسماء والصفات.
* الأصل الثاني: يتعلق ببيان حقيقة الجمع بين الشَّرع والقدر.
قد يقول قائل: ذكر شيخ الإسلام الصفات ولم يذكر الأسماء؟
فيُقال أولًا: ما من اسمٍ إلَّا ويتضمَّن صفةً، فإذا حقَّقَ الباب في الصفات فقد حقَّق الباب في الأسماء.
ثانيًا: الخلاف في الصفات أكثر وأقوى من الخلاف في الأسماء.
فالأصل الأول موضوعه: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات.
والأصل الثاني موضوع: بيان حقيقة الجمع بين الشَّرع والقدر.
ونوع الكلام في الأصل الأول: خبري علمي، دائرٌ بينَ النَّفي واٌثبات، والتَّصديق والتَّكذيب.
ونوع الكلام في الأصل الثاني: عملي طلبي، دائرٌ بينَ الأمرِ والنَّهي، وبين المحبَّة والبغض -أو الكراهة.
الواجبُ في الأصل الأول إجمالًا: هو إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عنه نفسه من الأسماء والصفات، على القيود والشروط التي سيأتي تفصيلها.
أما الواجب في الأصل الثاني فهو ثلاثة أمور، وهي:
- إثبات خلقه -عَزَّ وَجَلَّ- وأمره.
- الإيمان بخلقه المتضمِّن كمال قدرته وعموم مشيئته.
- إثبات أمره المتضمِّن بيان ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال الظَّاهرة والباطنة.
ثم الجمع بين الشَّرع والقدر إيمانًا خاليًا من الزلل والشُّبه.
والفرق الرابع: تضمُّن التَّوحيد لكلٍ منهما:
فالأول: تضمَّن توحيد الأسماء والصفات، وهو توحيد المعرفة، أو التوحيد العلمي.
والثاني: تضمَّن توحيد الألوهيَّة، وهو توحيد العبادة، الذي هو توحيدٌ طلبيٌّ عملي.
ويكون بهذا قد انتهى من المقدِّمة، وبعدها يبدأ في الأصل الثاني، والذي استغرق ما يُقارب ثلثي الكتاب -كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى- في المجلس العلمي التالي.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم آمين وإيَّاكم، والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------
[1] رواه مسلم
[2] صحيح مسلم: 1027

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك