الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2014 22
الدرس الثامن

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، والأبناء الطلاب والطالبات في برنامج "البناء العلمي" وأسأل الله لنا ولهم العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لما يحب ويرضى.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وَهَذَا الْكَلَامُ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ: فَإِنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَنَفَى شَيْئًا بِالْعَقْلِ -إذَا- أُلْزِمَ فِيمَا نَفَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ وَلَوْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحْذُورِ فِي هَذَا وَهَذَا: لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقً)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدون إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من صلى وسلم عليه، أما بعد.
فأرحب بالإخوة والأخوات والأبناء الطلاب والطالبات في برنامج البناء العلمي وفي مقرر العقيدة في دراسة كتاب العقيدة التدمرية أو الرسالة التدمرية المسماة بتحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر، لا يزال الحديث موصولا في الأصل الثاني والذي عنون له شيخ الإسلام بقوله: (الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الذَّاتِ)، وبيَّن أن هذا الأصل هو تبيين وإيضاح للأصل الذي قبله، وقلنا أيضًا ولعل الإخوة يذكرون ذلك: إنَّ هذا الأصل قاله جمع من العلماء قبل ابن تيمية، منهم: أبو سليمان الخطابي وكذلك الخطيب البغدادي، ونقل هذا جمعٌ من أهل العلم كالذهبي وغيره من العلماء، فلم يأت ابن تيمية بهذه القواعد من قِبل نفسه، بل هي قواعد يذكرها السلف قَبلَ ابن تيمية، القول في الصفات فرع عن الكلام في الذات.
بعد أن بيَّن معنى القاعدة طَبَّقَ عليها تطبيقات، وهذا مُهم للطلاب وهو التدريب على التطبيق، تطبيق لأن هذه قواعد تحتاج إلى تطبيقات، فالتطبيق الأول على القاعدة قال: إذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ وهذا هو السؤال سأله رجل للإمام مالك، فطبق عليه هذه القاعدة، وأجاب عن هذا السؤال فيمن يسأل عن الكيفية بجواب النقل وهو الأثر عن الإمام مالك، "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
والجواب العقلي، أنه يقال لهذا السائل عن الكيفية: كيف هو في ذاته؟ سيقول جزماً بأنه لا يعلم؛ لأنه لا يعلم الكيفية، يقال: وكذلك كيفية الصفات لا تُعلم، هذا هو الجواب فيمن يسأل عن الكيفيات، وهكذا يقال في كل من يسأل عن النزول وعن المجيء، فيقول: كيف؟ يقال له: الكيف مجهول، ومعاني هذه الصفات معلوم والإيمان بها واجب والسؤال عن الكيفيات بدعة؛ لأننا لا نحيط بذلك، والشيء لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته أو مشاهدة نظيره.
التطبيق الثاني في نفي التمثيل، وهو أن يقال لمن يقر بوجود الذات الإلهية ويؤمن بأن الذات الإلهية تليق به ولا تماثل ذوات المخلوقين، فيقال له: وكذلك الصفات، فما الذي يجعلك تفرق بين الذات وبين الصفات؟ وهذا يقال لكل مُعطلٍ للصفات تعطيلاً كلياً أو جزئياً، فيقال: لا فرق بين الصفات وبين الذات.
ثم انتقل وقال: (وَهَذَا الْكَلَامُ) أي: الإلزام، الإلزام للمعطلة بأن القول في الصفات كالقول في الذات طبق عليها التطبيق الثاني، بمعنى قد يقول قائل: هل هذه الإلزامات خاصة بالمكيفة وخاصة بالممثلة وخاصة بالمعطلة أو تشمل أيضًا من أثبت بعض الصفات دون بعض؟ وهم الأشاعرة والماتريدية.
يقول: (وَهَذَا الْكَلَامُ) أي: القول في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات (لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ) لازم لهم في الصفات العقلية التي يسمونها الصفات السبع -صفات المعاني هي صفات عقلية-، فيقال: لا فرق بين هذه الصفات والصفات التي نفيتموها، وكذلك في تأويل السمعيات، الصفات التي هي غير الصفات السبع، قالوا بتأويل النصوص التي وردت فيها، فيقال: ما قلتموه في تأويل السمعيات يلزمكم في العقليات، وما قلتموه في العقليات يلزمكم في السمعيات، لا فرق. لماذا هذا التناقض؟ ولماذا هذا الاضطراب؟ أين العقول؟ أين عقول العقلاء؟ وأنتم تزعمون أنكم أصحاب عقل وتزعمون أن العقل يُقَدَّمُ، وأن النصوص تخضع للعقل والعقل لا يقبل هذه الفوضى وهذه السفسطة وهذه القرمطة.
قال: (وَهَذَا الْكَلَامُ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ) تأويل النصوص التي جاءت في بقية الصفات، ثم قال في باب الإلزام والتطبيق، وهذا هو التطبيق الثالث: (فَإِنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَنَفَى شَيْئً) وهم المعطلة تعطيل جزئي، فإن من أثبت شيئًا من الصفات كالصفات السبع مثلاً، ونفى شيئًا بزعم أنَّ العقل دلَّ على هذا والعقل لم يدل على الأخرى، العقل دل على العلم والحياة والسمع والبصر ولم يدل على المحبة والرضا والغضب والسخط، هكذا يدعي، بزعمه أن العقل دل، فإن من أثبت شيئًا من الصفات ونفى شيئًا، لماذا فرق بين الأدلة؟
قال: (الْعَقْلِ إذَا أُلْزِمَ فِيمَا نَفَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ) من الصفات الأخرى (وَلَوْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحْذُورِ فِي هَذَا وَهَذَ)، هل عنده جواب؟ لا جواب مُستقيم، نعم قد يدَّعي الجواب لكن جوابه ما يقبله العقلاء، فنقول له: خاطب العاقل بما يعقل، ليس عنده جواب إلا التمويه والسفسطة والقرمطة، (لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقً) تدل عليه أدلة السمع وأدلة العقل كذلك.
فهو طبق أيضًا هذا التطبيق الثالث على من يثبت بعض الصفات وينفي البعض الآخر، فيقال له: القول في الصفات كالقول في الذات كما تقدم سابقًا، القول في بعض الصفات كالقول في البعض، لكن هو استخدم هذين الأصلين في التطبيق على هذه الفرقة مرتين.
ثم قال في مناقشة المعطلة تعطيلاً جزئياً، الذين هم الأشاعرة والماتريدية ومن قال بقولهم في إثبات بعض الصفات ونفي بقية الصفات، قال:
{قال -رحمه الله-: (وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لنفاة بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ - الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ: إمَّا التَّفْوِيضَ؛ وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ - قَانُونٌ مُسْتَقِيمٌ. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي النَّفْيِ)}.
لاحظ أن الشيخ هنا لم يصرح باسم الأشاعرة ولا الماتريدية؛ لأن هذا ليس بمهم، المهم أنك تناقش الفكرة، فلهذا لم يذكر في هذه الرسالة أسماء هؤلاء وإنما هو ناقش أصل الفكرة.
قال: (وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لنفاة بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ -الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ: إمَّا التَّفْوِيضَ؛ وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ - قَانُونٌ مُسْتَقِيمٌ)، الصفات السبع ادعوا أنَّ العقل دلَّ عليها، وبقية الصفات ادعوا أنَّ العقل لم يدل عليها، النصوص التي جاءت في الصفات السبع التي أثبتوها بالعقل ليس عندهم فيها إشكالية، أين الإشكالية؟ الإشكالية في النصوص التي جاءت في إثبات بقية الصفات الأخرى، إذا كانت أخبار آحاد ردوها وقالوا: لا يُحتج بها، وكذبوا الرواة ودعاوى أخرى، وإن كان لا يمكن أن تُرد مثل أحاديث مُتواترة أو آيات فلهم فيها طرائق، إمَّا التأويل، والتأويل لهم فيه مسلكان: إمَّا أن تُأوَّلَ الصفة بصفة أخرى أو تُأوَّلَ الصفة بمفعولات الرب بنعمه وثوابه وعقابه، أو أحيانًا تُأوَّلَ بمخلوق مثل: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾ ، إما أن يقولوا: المجيء مجيء مَلَك، كيف هذا؟ هذا لا يقبله السياق ولا تقبله اللغة، فتُأوَّلَ الصفة بصفة، النزول يقولون نزول ملك أو نزول الرحمة، وهكذا بقية الصفات، فما موقفهم من النصوص؟ طبعًا هذا ليس مذهب السلف، وهم كذلك يقرون أن هذا ليس مذهب السلف، بل هذا مذهب الخلف، عندهم ما مذهب السلف؟ قالوا: السلف مساكين ما فهموا، لاحظ الكذب والجرأة على أئمة الدين، واتهامهم بأنهم ما فهموا، من الذي فهم أن المجيء مجيء ملك؟ بل هُم الحيارى التائهين.
فما موقفهم من النصوص التي أثبتت الصفات التي نفوها؟
قال: (إمَّا التَّفْوِيضَ) الذي هو التعطيل، بمعنى أنه لا معنى لها، كيف إذاً يفهم الناس؟ كيف يفهمون ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾ ؟ كيف يفهمون النزول؟ كيف يفهمون بقية الصفات؟ ولهذا بعضهم يحذر من قراءة آيات الصفات على عموم الناس أو أحاديث الصفات بدعوى أنها تُشَوّه عقائدهم، هذا من الكذب، (وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ) لا تجد لهم قانونًا مستقيمًا، بل تجد الاضطراب، والاضطراب أيضًا بين منهج المتأخرين ومنهج السلف والجرأة على منهج السلف، فيلزمهم بهذا اللازم.
 (وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لنفاة بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ -الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ) يقولون: النصوص التي جاءت في النزول وفي المجيء وفي المحبة وفي الرضا، إمَّا التفويض بأنها نصوص لا معنى لها، وإمَّا التأويل المتكلف الذي هو التحريف المخالف لمقتضى اللفظ، طبعًا هم يُسمونه تفويضًا وحقيقته التعطيل، ويسمونه تأويلاً وحقيقته التحريف، وهذا كما تقدم من باب تسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية، فالتعطيل يسمونه تفويضًا والتحريف يسمون تأويلا، فيسمون الأسماء بغير أسمائها لأجل خداع البسطاء والجهال.
(فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) في الجواب والمناقشة بناءً على هذه القواعد: (لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَ)، لِمَ تأولتم صفة المحبة وصفة المجيء وصفة النزول وأقررتم بصفة العلم والسمع والبصر؟ هل عندهم جواب؟ قال: (وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ) والمصدر واحد في أدلة الشرع والعقل يدل على الجميع، لم يكن لهم جواب صحيح، لماذا؟ هل عندهم جواب غير الصحيح؟ عندهم لكن جواب لا يقبله العقلاء، نقول: احترم عقول الناس، حتى أصحاب الفطرة السليمة لا يقبلون هذه الدعاوى، (لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ) إدعاء لكن الجواب هذا ليس بصحيح، لا يدل عليه أدلة العقل ولا أدلة الشرع، (فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ) فيما نفوه، النصوص التي نفوها وعطلوها وتسلطوا على أدلتها بالتفويض أو بالتحريف.
التناقض فيما أثبتوه، قال: {قال -رحمه الله-: (وَكَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَا فَإِنَّهُمْ إذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ إلَى مَعْنًى آخَرَ: لَزِمَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ)}.
الأول تناقضهم في النفي والثاني تناقضهم في الإثبات، يقول اللقاني في منظومة جوهرة التوحيد في بيان مسلك هؤلاء في نصوص الصفات، يقول: "وكُلُّ نَصٍ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَـا" ما فيه نصوص تُوهم التشبيه أصلاً، لكن هو هكذا يَدَّعي، بسبب سوء الفهم- " وكُلُّ نَصٍ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَـا ... أَوِّلْـهُ أَوْ فَـوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَـا"، يَدَّعي هذا الإدعاء أنَّ النَّص الذي يُوهم التشبيه مثل: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ﴾ ، أو «ينزل ربن»، الموقف منه أَوِّلْـهُ يعني: غيّر المعنى، حَرِّف المعنى أو فَـوِّضْه، غير مفهوم المعنى، وَرُمْ تَنْزِيهَـا، سمى التفويض والتأويل تنزيهاً، تسمية الأشياء بغير أسمائها، هذا مسلكهم في النصوص.
هل في النصوص ما يوهم التشبيه؟ هل مثلاً العلم نَصٌّ يُوهم التشبيه؟ يقول لك: لا، السمع؟ لا، البصر؟ لا، الحياة؟ لا. إذاً ما هي النصوص التي توهم التشبيه؟
قال: المحبة والإرادة، ما الذي جعل نص العلم والبصر لا يُوهم التشبيه والنصوص الأخرى توهم التشبيه؟
الجواب: المتناقض غير الصحيح.
يقول: (وَكَذَلك تَنَاقُضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَ) فيفسر المحبة بالإرادة، (فَإِنَّهُمْ إذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ) الذي هو محبة تليق بالخالق، رضا يليق بالخالق، وَحَرَّفَ المحبة والرضا إلى أحد الصفات السبع، (لَزِمَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ)، فيقال له: يقال لك في العلم والسمع والبصر ما يقال لك في المحبة والرضا، فما يلزمك في المعنى الذي صرفت الدليل عليه نفس ما يلزمك في المعنى الذي صرفت الدليل عنه، فإن قال يدعي وعنده جواب: لماذا صرفت نصوص المحبة والرضا إلى معاني أخرى؟ فماذا يقول؟
عنده جواب، انظروا الجواب، هل هو جواب يقبله العقلاء؟
{قال -رحمه الله-: (فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: تَأْوِيلُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ: هُوَ إرَادَتُهُ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرِّضَا وَالسَّخَطِ وَلَوْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِمَفْعُولَاتِهِ وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ)}.
نعم وهذا تقدم، هذا تقدم في الأصل الأول في أنه يلزمه فيما نفاه نظير ما أثبته، ويلزمه فيما أثبته نظير ما نفاه، وتلاحظ هنا أن الشيخ ذكر لهم مسلكين في التعامل مع أدلة الصفات المنفية، وهي أن تُفسر بصفة من الصفات المثبتة، فهو يفسر مثلاً المحبة والرضا والغضب والسخط بإرادة الثواب والعقاب، فإذاً هو فسر الصفة بصفة أخرى، أنت فررت من وصف الخالق بمحبة تليق به ورضا يليق به وغضب وسخط يليق به وفسرته بالإرادة، ما الذي يجعلك تفسره بالإرادة؟ سيقول: لأن المحبة والرضا يلزم منها التشبيه، نقول: والإرادة، فإذا قال: لا إرادة تليق بالخالق، نقول: أيضًا المحبة تليق بالخالق.
(كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرِّضَ) أحيانًا لا يفسرها بصفات أثبتها هو، بل يفسرها بمفعولاته، فيقول في المحبة مثلاً: هو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فيقال: يلزمك في ذلك نظير ما فررت منه، فإن الفعل المعقول لا بدَّ أن يقوم أولاً بالفاعل.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَوَّلًا بِالْفَاعِلِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الْمَفْعُولُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَسْخَطُهُ وَيُبْغِضُهُ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ فَهُمْ إنْ أَثْبَتُوا الْفِعْلَ عَلَى مِثْلِ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ فِي الشَّاهِدِ لِلْعَبْدِ مَثَّلُوا وَإِنْ أَثْبَتُوهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ سائر الصِّفَاتُ)}.
هذه هي نتيجة الأصل الثاني، وهو القول في الصفات كالقول في الذات بعد التطبيقات، تطبيق على من سأل عن الكيفية، تطبيق على من أثبت الذات ونفى الصفات، ثم التطبيق الثالث على مذهب الأشاعرة في إثبات بعض الصفات ونفي البعض الآخر، وتلاحظ أنه كرر هذا من باب التنويع والتأكيد.
النتيجة التي انتهى إليها من خلال هذا الأصل الذي قرره علماء السلف، قال: (فَهُمْ إنْ أَثْبَتُوا الْفِعْلَ عَلَى مِثْلِ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ فِي الشَّاهِدِ) وقعوا في التشبيه، وإن قالوا لا، بل فعل يليق بالخالق، يقال لهم: وكذلك في بقية الصفات، فأنت إذا فسرت صفة المحبة والرضا بفعل فنقول: هذا الفعل قد يقال لك: إنه يشبه فعل المخلوق، فيقال: لا هو فعل يليق بالخالق، نقول: وكذلك بقية الصفات، فألزمهم بهذا اللازم، فالقول في الصفات كالقول في الذات.
قال: (وَإِنْ أَثْبَتُوهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ) بمعنى أنهم قالوا: لا، فعل يليق بالخالق، يقال لهم: وكذلك بقية الصفات التي نفيتموها وتسلطتم على نصوصها الصريحة الصحيحة بالتعطيل والتحريف، طبعًا هو يستنكر هؤلاء أو لا، لأنها تكون قوية لما تقول بالتعطيل والتحريف يقول لا، إنما تفويض وتأويل، هو هو فقط غيرت الاسم، تضحك على البسطاء، هذا هو عين التعطيل وعين التحريف الذي حرمه الله، تسميتك له تفويضًا هو من باب الخداع، تسميتك له تأويلا، تخادع من؟ فحقيقة ما فعله هو تعطيل وتحريف، فالقول في الصفات كالقول في الذات، وبهذا ينتهي هذا الأصل.
ثم انتقل إلى ضرب الأمثلة، وقلنا: إن الأصول هي أدلة عقلية كلية قطعية والأمثلة هي أدلة حسية، وهي أيضًا في باب التأكيد على صحة مذهب السلف، وبطلان مذهب المعطلة.
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمَثَلَانِ الْمَضْرُوبَانِ: فَإِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَخْبَرَنَا عَمَّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: مِنْ أَصْنَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح وَالْمَسَاكِنِ؛ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ فِيهَا لَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَمَاءً وَلَحْمًا وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَفَاكِهَةً وَحُورًا وَقُصُورًا وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءَ)}.
قال: (وَأَمَّا الْمَثَلَانِ) لأنه وعد في نهاية مقدمة الأصل الأول بأنه يتبين بأصلين شريفين ومثلين مضروبين، فلما انتهى من بيان الأصلين الشريفين في بيان بُطلان مذهب المعطلة وصحة مذهب السلف، ذكر أيضًا المثلين المضروبين في بيان صحة السلف الذي هو مذهب الرسل والذي دلَّ عليه الكتاب والسنة في إثبات الأسماء والصفات على الوجه الذي يليق به دون تمثيل أو تحريف أو تعطيل أو تكييف، وأيضًا هذه الأمثلة تدل على بطلان شبهة الزائغين والحائدين الذين عطلوا الصفات تعطيلاً كلياً أو جزئياً بزعمهم أن إثبات الصفات يلزم منه التمثيل، وأن الاشتراك في الاسم الكلي يلزم منه التمثيل، فجاء بهذه الأمثلة الحسية، وهذا من باب التنويع في الأدلة، ولهذا ذكرنا سابقًا أن هذا الكتاب مُفيد لكل مسلم ولكل طالب علم في إبطال شبه الزائغين والحائدين عن منهج الرسل، والذين يلبسون على الناس دينهم.
قال: (وَأَمَّا الْمَثَلَانِ الْمَضْرُوبَانِ)، المثل الأول في صفة الجنة، ولاحظ أن هذا المثل يشترك فيه أهل السنة والمتكلمون أيضًا في إثبات النعيم الأخروي، فهو انطلق معهم مع هذا القدر المشترك، وهو إثبات النعيم في الآخرة على وجه لا يماثل نعيم الدنيا، فينطلق من هذا القدر المشترك، وهو أنكم إذا كنتم تثبتون نعيم الجنة على وجه لا يماثل نعيم الدنيا، فكذلك يلزمكم في الصفات، أن تثبوا للخالق صفات تليق به لا تُشبه صفات المخلوقين.
قال: (فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنَا عَمَّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ) بأدلة الكتاب والسنة، فتجرى مجرى آيات الصفات وآحاد الصفات، (مِنْ أَصْنَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح وَالْمَسَاكِنِ) أي النعيم في الآخرة حق، نعم على حقيقته، هل يماثل نعيم الدنيا؟ لا، وهذا بالاتفاق، (فَأَخْبَرَنَا أَنَّ فِيهَا لَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَمَاءً وَلَحْمًا وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَفَاكِهَةً وَحُورًا وَقُصُورً) كما دلت على ذلك أدلة الكتاب والسنة، ثم استدل بقول ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، في تشابه هذه الأسماء بالأسماء الموجودة في الدنيا، فالناس إذا قرءوا يعرفون معنى العسل ومعنى اللبن ومعنى الماء وماء الخمر ومعنى الفاكهة ومعنى الحرير ومعنى الذهب ومعنى الحور ومعنى القصور، هل تشكل على عموم الناس؟ لا تشكل.
يقول ابن عباس في بيان الحقائق: (لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ) أي: من هذا النعيم (إلَّا الْأَسْمَاءَ) وهو القدر المشترك، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها من النعيم في الجنة هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين في حال التخصيص والتقييد والإضافة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه.
{قال -رحمه الله-: (وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هِيَ مُوَافِقَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهَا؛ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى: فَالْخَالِقُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنْهُ مُبَايَنَةَ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ)}.
وهذا هو المقصود بضرب هذا المثل، وهي قاعدة حيث انطلق من الأمر المتفق عليه إلى الأمر المختلف فيه، فإذا كنتم تقرون بنعيم الآخرة وأنه حق على الحقيقة ولا يماثل النعيم في الدنيا، فالنتيجة هي من باب الأولى وهو قياس الأولى ولله المثل الأعلى، فيقول: إذا كانت هذه أسماء مشتركة ولكن الحقائق مختلفة، (فَالْخَالِقُ أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنْهُ مُبَايَنَةَ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ) من مباينة مخلوق الدنيا لمخلوق الآخرة، بل تذكرون فيما سبق في صفحة عشرين لما ذكر بأن العرش موجود وأن البعوض موجود، وأن وجود هذا يختلف عن وجود هذا، بل أحيانًا المخلوقات في الدنيا وإن اشتركت في الأسماء تتباين، فيقال: الفيل له يد، والبعوض له يد، والنملة لها يد، هل من أثبت يداً للنمل والبعوض شبهه بالفيل؟ لا أبدًا، فإذا كان هذا التباين بين مخلوق ومخلوق تشترك في الأسماء وتختلف الحقائق، فالتباين كذلك بين مخلوق الدنيا ومخلوق الآخرة متباين، فإذا كان هذا تباين بين مخلوق ومخلوق في الدنيا وتباين بين مخلوق الدنيا ومخلوق الآخرة متباين، فكيف بالتباين بين الخالق والمخلوق من باب أولى؟
(إذْ الْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى الْمَخْلُوقِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الِاسْمِ مِنْ الْخَالِقِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ)، طبعًا هذا الجواب يصلح لمن؟ يصلح هذا المثل لمن يقر بنعيم الآخرة، ومن الذين يقرون بنعيم الآخرة؟ عموم المتكلمين في الجملة، وأنا أقول في الجملة لأنه قد يوجد عند بعضهم تأويل في الذات المعتزلة لبعضهم الآخر، لكن من حيث الجملة هم يقرون بنعيم الآخرة ويتفقون مع أهل السنة في الجملة لا بالجملة، قد توجد لهم بعض التأويلات خاصة فيما جاء عن طريق خبر الآحاد.
بعد هذا التقرير لهذا المثل والغرض من هذا المثل، انتقل إلى مسألة أخرى فيمن يقر بهذا المثل ومن لا يقر به، فينتقل إلى جواب آخر.
{قال -رحمه الله-: (وَلِهَذَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَتْبَاعُهُمْ: آمَنُوا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْمُبَايَنَةِ الَّتِي بَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ أَعْظَمُ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَفَوْا كَثِيرًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ؛ مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: نَفَوْا هَذَا وَهَذَا كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَتْبَاعِ الْمَشَّائِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ)}.
إذاً هنا انتقل إلى مسألة أخرى: وهي افتراق الناس فيما يتعلق بأمور الآخرة من النعيم والعذاب، فذكر ثلاثة فرق: (السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَتْبَاعُهُمْ) من أهل السنة والجماعة (آمَنُوا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ) أي من الأسماء والصفات، وكذلك عما أخبر الله به عن اليوم الآخر لم يفرقوا، لماذا؟ لأنهم على قانون مستقيم لا يضربون أدلة الشرع بعضه البعض، ولهذا مذهبهم يمتاز بالوضوح وعدم التناقض بخلاف من خالف، فتجد التناقض والاضطراب.
فأثبتوا الصفات على الوجه الذي يليق به، وأثبتوا كذلك أمور المعاد مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وما في الآخرة، وكذلك المباينة بين الخالق والمخلوق، فلم يفرقوا بين آيات الصفات وآيات المعاد ولا بين أحاديث الصفات وأحاديث المعاد، فأثبتوا الجميع على الوجه الذي يليق بالرب -تبارك وتعالى-، وكذلك النعيم في الآخرة.
الفريق الثاني وهم المتكلمون، ماذا أثبتوا؟ أثبتوا ما يتعلق بأمور الآخرة، الذي هو المراد بهذا المثل، أيضًا قلنا إنهم أثبتوه بالجملة في العموم، فأثبتوا ما يتعلق بهذا النعيم ولكنهم (نَفَوْا كَثِيرًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ) لماذا عبر بقوله: (كثيرً)؟ للاختلاف فيما بينهم، فمنهم من يثبت بعض الصفات وينفي البعض، منهم من يثبت الصفات وينفي الأسماء، منهم من ينفي الأسماء والصفات، لكنهم اتفقوا مع أهل السنة في إثبات أمور الآخرة من حيث العموم، وهؤلاء هم الذين يُلزمون بهذا المذهب، فيقال لهؤلاء: هل تثبتون النعيم في الآخرة في الجنة؟ يقولون: نعم، نقول: هل هو يشبه نعيم الدنيا ويماثله؟ يقولون لك: لا، هو مختلف، ونقول: كذلك القول في الصفات.
الفريق الثالث هذا مختلف يحتاج إلى جواب آخر: وهم طائفة نفوا هذا وهذا، يعني نفوا الصفات ونفوا أمور الآخرة، وهؤلاء طوائف، هم القرامطة الباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، فهؤلاء الباطنية الذين أضافوا إلى نفي الصفات نفي المعاد وكذلك الشرائع، وكذلك الفلاسفة نفوا أمور المعاد، قال: (وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ) الصفات وكذلك أمور الآخرة، بل أضافوا إلى هذا السوء سواءً آخر في طوائف منهم، فأضافوا إلى إنكار الصفات وإنكار المعاد، كذلك إنكار الشرائع.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَيَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَالْمَحْظُورَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا: لَهَا تَأْوِيلَاتٌ بَاطِنَةٌ تُخَالِفُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا كَمَا يَتَأَوَّلُونَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ فَيَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ، وَإِنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ كِتْمَانُ أَسْرَارِهِمْ، وَإِنَّ حَجَّ الْبَيْتِ السَّفَرُ إلَى شُيُوخِهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَتَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِلْحَادٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ)}.
يقول: إن هذا الفريق طوائف، اتفقوا على إنكار الصفات عموماً -كما تقدم في موضعين- وكذلك ما يتعلق بأمور الآخرة، قال: (ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) نفهم من كلمة (كَثِيرً) الغالب وليس الكل، (يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ) يعني أيضًا يجعل الشرائع من هذا الباب وأنها تحتاج إلى تأويل، من الذي فتح الباب؟ الأوائل، فيقال للذين عطلوا بعض الصفات دون بعض وعطلوا الصفات دون الأسماء: أنتم فتحتم الباب لكلِّ مُلحدٍ، ولهذا لما أرد هؤلاء مناقشتهم ما استطاعوا، تسلط عليهم هؤلاء، لما أراد هؤلاء أن يناقشونهم ما استطاعوا، لماذا؟ لأنهم سيطلبون عليهم نفس الدليل.
(ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ) أي من هؤلاء الباطنية والقرامطة والفلاسفة (يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ) أي أنه يحتاج إلى تأويل، (فَيَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَالْمَحْظُورَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا: لَهَا تَأْوِيلَاتٌ بَاطِنَةٌ تُخَالِفُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَ) ثم مثل: (كَمَا يَتَأَوَّلُونَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ فَيَقُولُونَ: إنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ، وَإِنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ كِتْمَانُ أَسْرَارِهِمْ، وَإِنَّ حَجَّ الْبَيْتِ السَّفَرُ إلَى شُيُوخِهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ)، فلم يقف شرهم على تعطيل الصفات ولم يقف أيضًا على تعطيل أمور المعاد، بل تجرءوا على الشرائع بالتعطيل.
قال: (وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا كَذِبٌ) هذا هو الجواب عن شبهة هؤلاء الباطنية: أن يعلم بالاضطرار العقلي والفطري (أَنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) ثم أيضًا (وَتَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ)، نقول: إنكم حرفتم الشرائع وهؤلاء حرفوا أمور المعاد، وهؤلاء حرفوا نصوص الصفات، ثم هو (إِلْحَادٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ) بأنواعه المختلفة، وهذا الذي فعله الباطنية، هو الذي فعله الفلاسفة مع نصوص المعاد، وهو الذي فعله المتكلمون مع نصوص الصفات، وهو الإلحاد في آيات الله وأسمائه.
ثم ذكر أيضًا من أصنافهم أسوء.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ يَقُولُونَ الشَّرَائِعُ تَلْزَمُ الْعَامَّةَ دُونَ الْخَاصَّةِ فَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ مِنْ عَارِفِيهِمْ وَمُحَقِّقِيهِمْ وَمُوَحِّدِيهِمْ: رَفَعُوا عَنْهُ الْوَاجِبَاتِ وَأَبَاحُوا لَهُ الْمَحْظُورَاتِ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ مَنْ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ: هُمْ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)}.
لاحظ عبارة (وَقَدْ يَقُولُونَ) ليس الكل منهم طوائف من هؤلاء الباطنية وهؤلاء الفلاسفة، قال: الكثير منهم يجعلون الأوامر والنواهي تحتاج إلى تأويلات وأنها رموز وإشارات، فتحتاج إلى تأويل، هؤلاء قالوا: لا ما تحتاج إلى تأويل ولكنها خاصة بالعامة دون الخاصة، فالخاصة لا تشملهم الشرائع وأيضًا تسقط عنه التكاليف، قال: (وَقَدْ يَقُولُونَ) طوائف منهم -ولاحظ شيخ الإسلام دقيق في عباراته (الشَّرَائِعُ تَلْزَمُ الْعَامَّةَ دُونَ الْخَاصَّةِ) بمعنى هنا لا تحتاج إلى تأويل، لكن هذه الأوامر النواهي إنما هي للخاصة، للمريدين، للعامة، (فَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ مِنْ عَارِفِيهِمْ) وصل بزعمهم إلى درجة اليقين ودرجة الحقيقة تسقط عنه التكاليف، (مِنْ عَارِفِيهِمْ وَمُحَقِّقِيهِمْ وَمُوَحِّدِيهِمْ) لاحظ مصطلحات الصوفية والباطنية، يسمونه: العارف، يسمونه: (محقق بلغ إلى درجة الحقيقة)، ويسمونه موحدًا -وعياذًا بالله- وهو إسقاط التكاليف بزعمهم، فلاحظ يسمون الباطل بأسماء تخدع البسطاء، (رَفَعُوا عَنْهُ الْوَاجِبَاتِ) هل هذا حصل للرسل؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، (وَأَبَاحُوا لَهُ الْمَحْظُورَاتِ)، قال: (وَقَدْ) يُوجَدُ لاحظ كلمة (وَقَدْ يُوجَدُ) عبارات دقيقة ليس كل من انتسب إلى هذه الطوائف يقع بهذا القول، قد يقول بعضهم به دون بعض، (وَقَدْ يُوجَدُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ: هُمْ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)، كلمة (أَكْفَرُ) يدل على أن الكفر دركات، وهم أكفر لماذا؟ لأنهم عطلوا أمور الآخرة وعطلوا الشرائع.
{قال -رحمه الله-: (وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ: يَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَنْ يُشْرِكُ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ إلْحَادِهِمْ فَإِذَا أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى الصِّفَاتِ وَنَفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ - كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ وَيَهْدِمُ أَسَاسَ الْإِلْحَادِ وَالضَّلَالَاتِ)}.
هذا هو الجواب الثاني، لاحظ الجواب الأول، قال: (يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَتَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِلْحَادٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ).
الجواب الثاني أنه يقلب الدليل على هؤلاء، قال: (وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ)، الإثبات لأي شيء؟ للمعاد والشرائع، ما يحتج به أهل الإيمان والإثبات للشرائع والمعاد على هؤلاء الملاحدة الباطنية الذين تأولوا الشرائع، هو نفس (وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ) للصفات (عَلَى مَنْ يُشْرِكُ هَؤُلَاءِ فِي إلْحَادِهِمْ) الإلحاد إما يكون للأسماء والصفات، وإما يكون لنصوص المعاد وإما يكون للشرائع، فهنا هو الآن يستخدم هذا الدليل الاحترافي، يقول: الذي يحتج به هؤلاء، طبعًا الآن من الذي سيرد على الباطنية؟ أهل السنة والمتكلمون كذلك، المتكلمون ردوا على الفلاسفة وردوا على الباطنية، لكن حجة المتكلمين في الرد على الفلاسفة منكري المعاد وفي الرد على الباطنية منكري الشرائع حجة ضعيفة، لماذا؟ لأن هؤلاء قلبوا عليهم الدليل، ولهذا يقول شيخ الإسلام في تقييم جهود المتكلمين في الرد على الفلاسفة منكري المعاد والرد على الباطنية منكري الشرائع: "لا للإسلام نصروا ولا للفلسفة كسروا"، لماذا؟
لأن هؤلاء الفلاسفة منكري المعاد والباطنية منكري الشرائع تسلطوا عليهم بنفس الحجج، قالوا: ما الذي يُبيح لكم تأويل نصوص الصفات ويحرم تأويل نصوص المعاد؟
أو قال الباطنية: ما الذي يبيح لكم تحريف نصوص الصفات والفلاسفة يحرفون نصوص المعاد وتحرمون على غيركم تأويل نصوص الشرائع؟
ثم أيضًا احتجوا عليهم، قالوا: أنتم تقدمون العقل وتجعلونه حاكماً على النقل، كذلك استفدنا هذا منكم وطبقناه على المعاد والشرائع.
ولهذا قال: (وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ) على هؤلاء الملاحدة الذين هم منكرو الشرائع (يَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ) أي  للصفات (عَلَى مَنْ يُشْرِكُ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ إلْحَادِهِمْ) وهو إنكار الصفات عموماً أو بعض الصفات أو إنكار أمور المعاد، (فَإِذَ)، القاعدة الآن (فَإِذَا أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى الصِّفَاتِ) عموماً (وَنَفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ - كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ) وهذا هو مذهب السلف وهو الحق والقانون المستقيم الذي لا تناقض فيه ولا يمكن أن يتسلط عليك فليسوف ولا باطني، ولهذا لاحظ مذهب السلف مذهب محكم متماسك، قانون مستقيم لا يتسلط عليه معطل ولا فيلسوف ولا باطني، لكن مذهب المتكلمين مذهبهم متناقض، سيتسلط عليه فيلسوف منكر المعاد وسيتسلط عليه الباطني منكري الشرائع، لماذا؟ لأنه تجرأ عليه بسبب هذا التناقض.
أما مذهب السلف فهو الحق المبين الذي يوافق المنقول والمعقول، قال: (وَيَهْدِمُ أَسَاسَ الْإِلْحَادِ وَالضَّلَالَاتِ) والسبب أنه غير متناقض، فلا يفرق بين الصفات ولا يفرق بين الصفات والمعاد ولا بين الشرائع.
أما موقف المتكلمين فهو موقف ضعيف منهزم يتسلط عليه الفيلسوف الذي ينكر المعاد والباطني الذي ينكر الشرائع بسبب التناقض في مذهبهم.
{قال -رحمه الله-: (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ الَّتِي فِيهَا مُمَاثَلَةٌ لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مَثِيلَ لَهُ؛ بَلْ لَهُ "الْمَثَلُ الْأَعْلَى" فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ هُوَ وَالْمَخْلُوقَاتُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ كَمَالٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ، وَكُلَّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنْزِيهِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُنَزَّهًا عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ حَصَلَتْ مُوَافَقَةٌ فِي الِاسْمِ)}.
يعني هذه هي المسألة الأخيرة، ذكر المثال والغرض من ضرب هذا المثال، ثم ذكر طوائف الناس في مذاهب الناس في نصوص المعاد، ثم رد عليهم باختلاف فرقهم، ثم ختم هذا المثل المضروب بهذه الخاتمة، وهو قد يقول قائل: هل يجوز ضرب الأمثلة في حق الخالق؟ قد يرد هذا السؤال، فيقال: إن الخالق قد ضرب الأمثلة في كتابه وهي كثيرة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا قد ضرب الأمثلة التي تقرب المفهوم، كما أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الصحيحين "نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا الْقَمَر لَا تضَامون فِي رُؤْيَته»، وفي رواية «لاَ تُضَامُّونَ فيِ رُؤْيَته»، قال أهل العلم: وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، فضرب الأمثلة ورد في الكتاب، ورد في السنة لأجل تقريب الفهم.
قال في بيان الأمثلة والأقيسة في حق الله بأنها على نوعين: هناك أمثلة وأقيسة لا تجوز في حق الخالق، وهو قياس التمثيل وقياس الشمول، ويجوز في حق الخالق بما يسمى بالمثل الأعلى، وهو قياس الأعلى.
قال: (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ الَّتِي فِيهَا مُمَاثَلَةٌ لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مَثِيلَ لَهُ؛ بَلْ لَهُ "الْمَثَلُ الْأَعْلَى" فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ هُوَ وَالْمَخْلُوقَاتُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ) وقياس التمثيل هو المشهور في كتب الأصول، والذي هو إلحاق فرع في الأصل في الحكم للعلة الجمع بينهما، هذا يسمى قياس التمثيل وهو المشهور.
القياس الشمولي وهو مصطلح فلسفي عرفه، قال: (وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ) وهذا القياس الشمولي الذي يسمونه بالقياس الكلي، وهو مصطلح في علم المنطق وعند الفلاسفة حقيقته يرجع إلى قياس التمثيل، فقياس التمثيل والقياس الشمولي الذي هو مشتهر في كتب المنطق والفلسفة لا يصح في حق الخالق -تبارك وتعالى-، قال: (وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) الذي يسميه بعضهم بقياس الأولى، وهو المثل الأعلى أو قياس الأولى، (وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ كَمَالٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ) يعني كل صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالخالق أولى بها، لماذا؟ لأنه -سبحانه وتعالى- هو الذي خلق هذا المخلوق وخلق الصفات الكمال فيه، فكل صفة كمال في المخلوق لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالخالق أولى بها، هذا من حيث الدلالة العقلية، لكن نقيد ذلك بأنه لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فيستعمل في حقه المثل الأعلى.
قال: (وَكُلَّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنْزِيهِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُنَزَّهًا عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ) وإن تشابهت الأسماء، يعني مثل ما ذكرنا، نعيم الجنة ونعيم الدنيا إن كان هناك قدر مشترك فالمماثلة ممتنعة، المخلوقات في الدنيا تشترك في الأسماء ولكن الحقائق تختلف، فإذا كان هذا التباين بين مخلوق ومخلوق، فالتباين بين مخلوق والخالق أولى، فهذا هو قياس الأولى، فإذا كان المخلوق منزه عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم وهو المثال الذي ذكره، نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، (فَالْخَالِقُ أَوْلَى أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ حَصَلَتْ مُوَافَقَةٌ فِي الِاسْمِ) وهو القدر المشترك، وبالتالي هذا هو الغرض من ضرب هذا المثل.
المثل الثاني هو قريب منه لكل لعلنا نأخذ مقدمته ثم نرجئه -إن شاء الله- في الحلقة القادمة، لكن هذا هو الغرض من ضرب المثل الأول.
{قال -رحمه الله-: (وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي. وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِينَا - فَإِنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِصِفَاتِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ وَقَدْ أَخْبَرَتْ النُّصُوصُ أَنَّهَا تَعْرُجُ وَتَصْعَدُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينَةِ وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِيهَ)}.
المثل الثاني أيضًا وهو عقلي حسي في بيان أن الروح موصوفة بصفات ثبوتية وصفات سلبية، جاءت في الكتاب والسنة، وهذه الصفات حق ويقر بها أيضًا المتكلمون، بما جاء في وصف الروح من صفات ثبوتية وصفات سلبية، لاحظ كما أن الخالق موصوف بالصفات الثبوتية وصفات سلبية، من الصفات التي جاءت في النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء وأنها تقبض من البدن كما جاء في أحاديث الاحتضار وأحوال القبور، وأنها تسل كما جاء في حديث البراء بن عازب كما تسل الشعرة من العجينة، إلى غير ذلك من الصفات، فهم يقرون بهذا، فإذا كانت الروح موصوفة بهذه الصفات، منها ما هي صفات ثبوتية ومنها ما هي صفات منفية، ومع ذلك فهؤلاء المتكلمون مضطربون في كنيها وحقيقتها مع اعترافهم بالصفات التي جاءت، فيقال لهم: وكذلك ما يتعلق بالخالق، فنحن نعرف الصفات الثبوتية ونعرف الصفات المنفية ولكن ما يتعلق بالكنه والحقيقة هذا مجهول، واستفاد من هذا المثل لأجل الرد على المعطلة في أنكم تقرون بصفات الروح والصفات السلبية والصفات المنفية التي جاءت في النصوص، ومع ذلك لا تعرفون عن كيفية هذه الروح، فكذلك يقال في صفات الخالق -عز وجل- من باب أولى.
طبعًا هنا انطلق هو من هذا الأمر المتفق عليه، فهذا الأمر هو متفق عليه في أنهم يقرون بوجود الروح ويقرون بأن هذه الروح موصوفة بصفات ثبوتية وصفات سلبية، لا أحد يأتي وينكر وجود الروح ولا أحد يقول: إن هذه الروح هي كالجسد سواءً بسواء بل لها حقيقة وكنه تختلف عن البدن.
{قال -رحمه الله-: (فَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّهَا النَّفْسُ أَوْ الرِّيحُ)}.
طبعًا الكلام في هذا سيطول في بيان اضطراب الناس في حقيقة الروح، ثم استفاد من هذا الاضطراب في الرد عليهم في باب الصفات.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله للجميع التوفيق والعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعلك ذلك في موازين حسناتكم}.
آمين وإياكم والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك