الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس الثالث

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله وحيَّا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
{نستأنف في هذه الحلقة -بإذن الله- من حيث ما توقفنا فيه في الحلقة الماضية، حيث قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّابِئَةِ والمتفلسفة والجهمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ: فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، اللَّهمَّ علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين، اللَّهمَّ معلم إبراهيم علمنا، ومفهم سليمان فهمنا، اللَّهمَّ ارزقنا علمًا نافعًا وعملًا صالحًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد، فهذا هو المجلس العلمي الثالث في التعليق والشرح على هذا الكتاب النفيس الموسوم بالرسالة التدمرية التي هي في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشر، في المجلسين السابقين تحدثنا حول مضامين المقدمة، ثم مقدمة الأصل الأول الذي هو في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وبيَّن المؤلف -رحمة الله عليه- الأصل في هذا الباب، ثم طريقة السلف، ثم طريقة المرسلين، ثم ذكر الشواهد على طريقة المرسلين في هذا الباب، وأنهم يُثبتون لله -تبارك وتعالى- ما أثبته لنفسه على وجه التفصيل بالضوابط التي ذكرها، وينفون عن الله -عز وجل- ما نفاه عن نفسه على جهة الإجمال، فيثبتون إثباتًا مُفصلًا وينفون نفيًا مجملًا.
ثم بعد ذلك انتقل إلى طرائق الزائغين وهو المقصود من تأليف هذا الكتاب، الرد على من انحرف عن هذا الباب العظيم من أبواب الدين، ألا وهو تحقيق الإثبات في باب الأسماء والصفات.
قال: (وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ) والضمير هنا يعود إلى المرسلين، وسبيلهم كما تقدم بطريقتهم في هذا الباب، وهو الإثبات المفصل والنفي المجمل، وذكرنا أصول الإثبات عندهم، وذكرنا أصول النفي عندهم، أي: قواعد وضوابط الإثبات وقواعد وضوابط النفي.
(وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ) قد يلاحظ القارئ أنَّ المصنف عبَّر بهاتين العبارتين: الزيغ والحيد، الزيغ غالبًا يكون بالقلوب، زاغت قلوبهم، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، والحيد يكون بالقول ويكون بالفعل، فهؤلاء زاغوا وحادوا عن طريقة المرسلين، ثم ذكر صنفين من هؤلاء الزائغين والحائدين عن طرائق الرسل:
الصنف الأول: من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، أيضًا قد يقول قائل: ما الفرق بين الكفار والمشركين؟ وما الفرق بين الكفر والشرك؟
والجواب: بينهما عموم وخصوص، فالكفار هم الذين جحدوا عبادة الله، مثل المصطلحات في عصرنا الذين يطلقون على الملاحدة، فينكرون الخالق -عز وجل- وينكرون عبادة الخالق -عز وجل-، فهؤلاء يُطلق عليهم كفار، والمشركون يُقرون بوجود الخالق وقد يُقرون بشيء من الربوبية ولكن يجعلون مع الله شريك، إمَّا شريك في الربوبية وإمَّا شريك في الألوهية، فهم لا يُنكرون الخالق، إبليس مثلًا لا يُنكر وجود الخالق ولا يُنكر اليوم الآخر، ولكنه أبى واستكبر عن عبادة الله -تبارك وتعالى-، وهكذا المشركون ما أنكروا وجود الخالق، بل يُقرون بشيءٍ من الربوبية، هذا هو مقصوده من الكفار والمشركين، وكل منهم كافر ومشرك في نفس الوقت، لكن هذا من باب التصنيف العلمي في التفريق بين الكفار والمشركين.
(وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وهم اليهود والنصارى، فهذا صنف ممن زاغ وحاد عن طريقة الرسل من الكفار والمشركين ومن أهل الكتاب، قال: (وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ)، وهذا هو الصنف الثاني ممن تبعهم في مقالة التعطيل والإلحاد في الأسماء والصفات، ولاحظ بأن الطائفة الأولى لا تنتسب إلى الإسلام، وأمَّا الطائفة الثانية فهي تنتسب إلى الإسلام.
قال: (وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّابِئَةِ والمتفلسفة والجهمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ)، الطائفة الثانية تنتسب للإسلام وقد أخذت مقولة التعطيل من الأمم الأخرى من الكفار والمشركين ومن أهل الكتاب، والبدع التي حصلت في الإسلام، منها بدع جاءت من مورثات الأمم السابقة، إمَّا من الفرس والمجوس أو من مورثات بقية الأمم، أو هي بدعٌ أحدثت في الإسلام، كبدعة الخوارج مثلًا، بدعة الخوارج أحدثوها هم ولم تؤخذ من الأمم الأخرى، أمَّا بدعة التعطيل فهذه أخذت من الأمم الأخرى، فإذًا البدع التي حصلت في الإسلام منها ما هو مَوروث من مخلفات الأمم السابقة، ومنها بدع أحدثت من المنحرفين المنتسبين إلى الإسلام.
قال: (وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّابِئَةِ)، والصابئة هم أتباع الفلاسفة، والصابئة نوعان: هناك صابئة موحدون، وهم الذين أثنى الله -عز وجل- عليهم في القرآن في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]، هذا صنف.
هناك صابئة مشركون عبدة الكواكب، وابن تيمية -رحمة الله عليه- يستخدم الصابئة على كل من خرج عن الدين، ولهذا قال هنا: (والصَّابِئَةِ والمتفلسفة)، في بعض النسخ (الصَّابِئَةِ المتفلسفة) بدون الواو وهذا أدق؛ لأنه جعل هؤلاء صنف، فيطلق مصطلح الصابئة من حيث الإطلاق اللغوي، من حيث اللغة الذي هو كل من أبطل الصفات، ولهذا يستخدم هذا المصطلح في تسمية المعطلة بالصابئة من جهة المعنى في اللغة، ولهذا العبارة الدقيقة في النسخ أن يقال: (الصَّابِئَةِ المتفلسفة) أي: أتباع الفلاسفة.
(مِنْ الصَّابِئَةِ المتفلسفة والجهمية)، الجهمية أيضًا هم أتباع الجهم المعطل الذي ورث هذه المقولة عن الجعد بن درهم، والجعد ورثها عن الصابئة وعن المجوس وغيرهم، أيضًا ابن تيمية يطلق الجهمية إطلاق عام على كل مُعطل، يسمي جميع معطلة الصفات جهمية، سواءً تعطيلًا كليًا أو جزئيًا، أيضًا يسمي الجهمية كما نلاحظ أيضًا في الجواب عن هؤلاء.
الصنف الثالث، قال: (الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ)، القرامطة نسبة إلى حمدان بن قرمط وإليه ينتسب القرامطة والباطنية؛ لأنهم زعموا أن نصوص الشريعة لها باطن يخالف ظاهرها، فيسمون القرامطة نسبة للمؤسس، ويسمون باطنية لزعمهم أن النصوص لها باطن يخالف ظاهرها، وابن تيمية -رحمه الله- نلاحظ هنا أنه لم يسمِّ الفرق بأسمائها، وإلا هؤلاء القرامطة الباطنية هم غُلاة الصوفية وغُلاة الشيعة.
قد يقول قائل: إن هذا الصنف الثاني الذي وصفهم ابن تيمية بالصَّابِئَةِ المتفلسفة والجهمية والْقَرَامِطَةِ، ممكن أن نصنف هؤلاء المعطلة للصفات ثلاثة أصناف: الفلاسفة والمتكلمون والباطنية على جهة العموم.
قد يقول قائل: ما الفرق بين الفلاسفة وبين المتكلمين؟ وهذا سيتضح أيضًا من خلال الردود بأن الفلاسفة يزعمون أن القرآن إنما جاء لمخاطبة العامة والجمهور دون الخاصة، وهم كما يزعمون أنفسهم أنهم من الخاصة، أمَّا المتكلمون فإنهم يرون أن القرآن جاء للعامة والخاصة، ولكنه يحتاج إلى التأويل، فنصوص القرآن وبالذات نصوص الصفات، ومنهم أيضًا من يقول نصوص المعاد ليست على ظاهرها تحتاج إلى التأويل أو ...
 هذا هو الفرق بين منهج الفلاسفة في التعامل مع نصوص الوحي وبين منهج المتكلمين.
ما طريقة هؤلاء؟ قال: (فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ)، أي: إنهم على خلاف طريقة المرسلين، فإنهم في باب النفي يفصلون على خلاف طريقة الرسل، وفي باب الإثبات لا يثبتون شيئًا من الصفات للخالق، والنفي عندهم نفيًا محضًا، فطريقتهم على الضد من طريقة الأنبياء الذين يثبتون إثباتًا مفصلًا وينفون نفيًا مجملًا، والنفي ليس نفيًا محضًا بل يتضمن ضده من صفات الكمال، أما هم على العكس، النفي على جهة التفصيل وهو نفي محض ولا يثبتون الصفات على جهة التفصيل، بل لا يثبتون شيئًا من الصفات.
بعد ذلك انتقل إلى بيان مذهبهم، قال: {قال -رحمه الله-: (فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودًا مُطْلَقًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى وُجُودٍ فِي الْأَذْهَانِ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ فَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ غَايَةَ التَّعْطِيلِ وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ؛ فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ؛ وَيُعَطِّلُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَعْطِيلًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ)}.
إذًا هذا هو منهج هؤلاء الزائغين والحائدين عن طرائق الرسل بأصنافهم، فإنهم على الضد من طريقة الرسل، قال أولًا: إنهم يَصفون الخالق بالصفات السلبية على وجه التفصيل، مثل قولهم: ليس بكذا، وليس بكذا، وليس بكذا، ليس بجسم، ولا عرض، ولا داخل العالم، ولا خارج العالم، وهذا موجود بكثرة في كتبهم، فيصفونه بالسلب على وجه التفصيل، هذا واحد.
قال ثانيًا: (وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودًا مُطْلَقًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ)، يعني: يثبتون الذات الإلهية مجردة عن جميع الصفات، يثبتون ذات مجردة عن أي وصف زائدٍ على الوجود.
 قال: (وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودًا مُطْلَقً)، الوجود المطلق هو المجرد عن جميع الصفات الثبوتية، هذا هو الوجود المطلق، إثبات ذات مُجردة عن أي وصف ثبوتي، وهذا لا يكون إلا في الأذهان، ثم هُم -كما سيأتي- يختلفون في ذلك، فمنهم من يقول هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وهذا يقول به الفلاسفة، يعني أنه لا يقبل التعيين.
صنف ثاني: يقول هو الوجود المطلق ولكن لا بشرط الإطلاق، يعني لا يشترط الإطلاق وهذا وإن كان يعتبر هو أخف إلا أنه أيضًا نفي، نفي لجميع الصفات، فالوجود المطلق لا بشرط الإطلاق، يعني أنه لا يقبل التعيين، وهذا يقول به أصحاب وحدة الوجود.
طائفة ثالثة من هؤلاء: يُثبت الذات الإلهية إثباتًا مجردًا عن كل وصف ثبوتي وسلبي، وهذه هي طريقة القرامطة الباطنية، فكلهم يتفقون على نفي الصفات ولكنهم يختلفون فيما بينهم.
قال: (وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودًا مُطْلَقً)، هذا الوجود المطلق في الذهن، الوجود الكلي في الذهن (لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ)، يعني لا وجود له خارج الذهن.
قال: (وَإِنَّمَ) هذا الوجود المطلق الذهني المجرد عن جميع الصفات: قال: (وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى وُجُودٍ فِي الْأَذْهَانِ) أي في العقل، (يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ) أي خارج الذهن، فحقيقته إذًا ماذا؟ ممتنع، حقيقته الامتناع، ثم يلاحظ أن الشيخ رد على مقولة هؤلاء من وجوه:
ردَّ عليهم أولًا بالإلزامات، هذه من براعة ابن تيمية أنه يرد على المخالفين بالإلزام وبقلب الدليل عليهم، ثم بعد الرد عليهم بالإلزامات التي تُبين بطلان المذهب، رد عليهم بالأدلة الشرعية والأدلة العقلية، وأدلة الشرع هي أدلة عقلية، ولازم الباطل باطل وإن كان هو أقوى وأصعب إلا أنه ابتدئ به؛ لأنهم هم ينفونها بالشبه العقلية، فردَّ عليهم بالإلزامات التي تُبطل هذا المذهب، وهو نفي الصفات عن الخالق -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك رد عليهم بالأدلة العقلية والأدلة الشرعية.
فقال: (فَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ)، إذًا هنا الرد بماذا؟ بالإلزام (يَسْتَلْزِمُ غَايَةَ التَّعْطِيلِ) هذا هو الرد الأول أو الإلزام الأول، أن يقال: إنَّ وصفكم للخالق بالصفات السلب أو وجود مجرد عن أي صفة ثبوتية أو سلبية يلزم عليه غاية التعطيل، ولاحظ كلمة (غَايَةَ التَّعْطِيلِ) يعني: أنَّ التعطيل درجات، فهذا الوصف الذي وصفوا به الخالق هو غاية التعطيل، فالتعطيل إذًا درجات، وهكذا المعطلة درجات.
فمن المعطلة مَن ينفي بعض الصفات دون بعض، هذا نوع من أنواع التعطيل، يثبت بعض الصفات وينفي بقية الصفات، إذًا هو ماذا؟ تعطيل جزئي.
من المعطلة من ينفي جميع الصفات ويثبت الأسماء الجامدة، إذًا هذا تعطيل.
من المعطلة من يثبت ذاتًا مجردة عن جميع الصفات، وهذا نوع من أنواع التعطيل.
وقلنا أيضًا: هؤلاء الذين يثبتون ذاتًا مجردة عن جميع الصفات هم درجات، منهم من يصفها بالسلب ومنهم من يصفها بالسلب والنفي، أي: نفي النقيضين، وهذا أشد أنواع التعطيل، ولهذا قال: (غَايَةَ التَّعْطِيلِ)، فدل على أن التعطيل درجات، وأن أسوء التعطيل هو هذا النوع، الذي إثبات وجود ذات إلهية مجردة عن أي صفة، فيقال هذا إنما يكون في الأذهان لا خارج الأذهان، مثل الذين ينفون العلو ويقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ماذا يلزمهم؟ التعطيل، معناه أن هذا لا وجود له، إنما هو وجود في الذهن، وهذا الذي يلزم هؤلاء المعطلة.
وهذا هو الجواب الأول، أن يقال في الرد على هؤلاء: بأن هذه المقولة تلزمكم غاية التعطيل.
ثم قال أيضًا في الإلزام الثاني: (وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ) لأن كل ممثل مُعطل وكل مُعطل ممثل، كيف يكون غاية التمثيل؟ لأن التمثيل أيضًا درجات، بل نحن ممكن أن نقول هو دركات، والتعطيل هو دركات؛ لأنه انحراف.
هناك من يمثل الخالق بالمخلوقات الحية، بعضهم إذا قيل ممثلة، ممثلة مشبهة.
هناك من يمثل الخالق بالجمادات التي لا صفة لها، لا تسمع ولا تبصر، هناك من يمثل الخالق بالمعدومات الذي لا وجود لها، هناك من يمثل الخالق بالممتنعات المستحيلة، ولهذا لاحظ كل هؤلاء ممثلة، إما مثله بالموجودات المخلوقات أو مثله بالجمادات أو مثله بالمعدومات التي لا وجود لها لكنها جائزة الوجود، أو مثله بالممتنعات التي هي مستحيلة الوجود، وهنا لا بدَّ الحقيقة من توضيح هذه المصطلحات التي سترد كثيرًا في الرد على هؤلاء، وهي موجودة بكثرة في كتبهم.
فيقال: الوجود نوعان، وهذا مُهم بالنسبة للإخوة والأخوات الذين يتابعون معنا في هذا الكتاب وفي تفكيك المصطلحات، فيقال الوجود نوعان:
هناك وجود واجب الوجود، وهو ما لم يسبقه عدم ولا يلحقه زوال ولا يفتقر إلى غيره، وهذا وجود الخالق، ولهذا يقولون في وجود الخالق: إنه واجب الوجود لم يسبقه عدم ولا يلحقه زوال ولا يفتقر في وجوده إلى غيره، فهذا الوصف يكون للخالق أنه واجب الوجود.
هناك جائز الوجود أو ممكن الوجود، وهو ما جاز عليه العدم وافتقر إلى غيره في الوجود، وهو وجود المخلوقات، قالوا في وجود المخلوقات بأنها جائزة الوجود، لأنها لم توجد ثم وجدت، ولهذا لا يقال: إنها واجبة الوجود؛ لأنها لم تكن موجودة أصلًا، ثم وجدت، فهذا يقال له جائز الوجود أو يقال له ممكن الوجود.
العدم أيضًا نوعان: المعدوم، هناك المعدوم الممكن وجوده، وهو المعدوم الذي وجوده ممكن مثل كل المخلوقات قبل وجودها، فهي قبل وجودها كانت معدومة لكنها جائزة الوجود، مثلها افتراضًا: لو أنَّ الإنسان افترض وجود غراب أبيض، هذا لا وجود له، لكن هل هو مستحيل الوجود؟ ليس مستحيل، هذا يسمونه ممكن الوجود، جائز الوجود وإن كان لا وجود له ولكنه جائز، والعقل يمكن أن يتصور غرابًا أبيض أو غرابًا أحمر، فهذا يسمونه جائز الوجود؛ لأنه غير موجود ولكنه ممكن الوجود.
النوع الثاني: العدم الممتنع، وهو المعدوم الذي يستحيل وجوده عقلًا، مثل الجمع بين الضدين، بين الليل والنهار والحياة والموت، أو ارتفاع النقيضين كالحي والميت، فهذا يستحيل وجود النقيضين ويستحيل ارتفاع النقيضين، لا بدَّ من وجود أحدهم، فهذا يسمى ممتنع، أن تمنع بين الضدين أو تقول بوجود النقيضين أو ارتفاع النقيضين، طبعًا أيضًا التفريق بين الضدين وبين النقيضين مهم، الضدان لا يجتمعان ولكن يمكن أن يرتفعان، كالأسود والأبيض لا يجتمعان ولكن يمكن أن يرتفعان، النقيضان لا يجتمعان ولا يمكن أن يرتفعان مثل الليل والنهار أو الحياة والموت، فلا يرتفعان ولا يجتمعان، فالذي يقول بارتفاع النقيضين أو بوجود النقيضين، هذا مستحيل، هذا ممتنع ومستحيل.
هذا ماذا يقول هو: أنتم إذا سلبتم الصفات عن الخالق فإنكم شبهتموه أو مثلتموه، منهم من مثله بالمخلوقات، ومنهم من مثله بالجمادات، ومنهم من مثله بالمعدومات، ومنهم من مثله بالممتنعات، أيهما أسوء أو غاية التمثيل؟
الممتنعات، وهذا الذي قصده، قال: (وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ)، لأنهم فروا من تشبيهه بالمخلوقات والجمادات والمعدومات، فشبهوه بأسوأ من هذا كله بالممتنعات، المعدوم جائز الوجود، فتشبيهه بالممتنع أسوء من تشبيهه بالمعدوم، وإن كان الممتنع معدومًا، لأن المعدوم جائز الوجود ومستحيل الوجود.
ثم فصل، لماذا هو غاية التعطيل وغاية التمثيل؟ لماذا الذي وقعوا فيه غاية التعطيل وغاية التمثيل؟ قال: (فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ) كما سبق، مثلوه بالأمر الممتنع المستحيل، حيث يقولون بنفي النقيضين، هذا ممتنع، مثلوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، فهو يُبَيِّنُ درجات التمثيل.
قال: (وَيُعَطِّلُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَعْطِيلًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ) لاستحالة وجود ذات مجردة عن جميع الصفات، هذا ممتنع بضرورة العقل وأيضًا أدلة الشرع، أن تتصور ذات مجردة عن جميع الصفات، فيقال: تعطيل الصفات يستلزم منه نفي الذات -كما تقدم-، أن الذي ينفي علو الخالق -عز وجل- ويقول لا داخل العالم ولا خارجه، حقيقة هذا القول نفي الذات، ولهذا تلاحظ ابن تيمية -رحمه الله- انطلق من صفة الوجود ومن صفة إثبات الذات للرد عليهم، فهو يرد عليهم من الشيء المختلف فيه إلى الشيء المتفق عليه.
{قال -رحمه الله-: (فَغُلَاتُهُمْ يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ فَيَقُولُونَ: لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوهُ بِالْإِثْبَاتِ شَبَّهُوهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَإِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بِالْمَعْدُومَاتِ فَسُلِبُوا النَّقِيضَيْنِ)}.
بعد أن بيَّن هذه الطوائف التي ضلت في هذا الباب، ثم رد عليهم ردًا مجملًا بلازمين؛ لأن هذا القول يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل، انتقل للرد على طوائفهم، وذكر هنا ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: الباطنية القرامطة، وهم غُلاة الجهمية الذين يلزمهم التمثيل بالممتنعات والمستحيلات.
الطائفة الثانية: وهم الفلاسفة الصابئة المتفلسفة.
ثم الطائفة الثالثة: من أهل الكلام المعتزلة ومن قال بقولهم.
فمثل بهذه الطوائف الثلاثة، طريقة الفلاسفة، وطريقة المتكلمين، وطريقة الباطنية، وابتدأ بأشدهم غلوًا وانحرافًا، قال: فغاليتهم، فكلهم وقعوا في الغلو، ولكن الغلو دركات، (فَغُلَاتُهُمْ يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ) فماذا يقولون؟ (لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ) فحقيقة هذا القول ماذا؟
ممتنع، مستحيل، إذا سلبوا النقيضين والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، فيقال هذا الذي يوجد في كتب غلاة الجهمية ويوجد في كتب الباطنية والقرامطة، غايته أنه ممتنع، لما يصفون الخالق بالصفات السلبية، نفي الإثبات ونفي النفي، فنفي الصفات الثبوتية والصفات السلبية، (فَيَقُولُونَ: لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ)، شبهتهم الذي ألجأتهم لهذا القول قال: (لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوهُ بِالْإِثْبَاتِ) الصفات الثبوتية (شَبَّهُوهُ بِالْمَوْجُودَاتِ) الموجودات هنا المخلوقات، فهم أرادوا الفرار من التشبيه فوقعوا في تشبيه أسوء، فروا من تشبيهه بالموجودات والمخلوقات والممتنعات ووقعوا في تشبيهه بالممتنعات.
{كالمُستَجيرِ مِن الرَّمضاءِ بالنارِ}.
هذا بزعمهم، قالوا: إذا أثبت له الصفات الثبوتية شبه بالموجودات سواءً كانت المخلوقات أو جمادات، (وَإِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بِالْمَعْدُومَاتِ)، المعدوم الذي لا وجود له لكنه يمكن أن يوجد (فَسُلِبُوا النَّقِيضَيْنِ) فوقعوا في الممتنعات، فشبهوه بالممتنعات، كما مر معنا في مراتب التعطيل، ثم رد عليهم ردًا مجملًا، فقال:
{فقال -رحمه الله-: (وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ؛ وَحَرَّفُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَوَقَعُوا فِي شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ كِلَاهُمَا مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ)}.
رد على هذه الطائفة الباطنية الذين يسلبون النقيضين من خمسة وجوه، قال في الوجه الأول: (وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ) يعني العقلاء قاطبة، حتى عند جمهور الشيعة وعند جمهور الصوفية ينكرون هذا، بل هذا موجود فقط عند الغلاة، الغلاة من الشيعة والغلاة من الصوفية، فالجمهور ينكرون هذا، جميع العقلاء أنهم ينكرون هذا المذهب قال: (وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ).
وثانيا: أنهم (وَحَرَّفُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ) -صلى الله عليه وسلم-، فالكتاب جاء بإثبات الصفات للخالق، والرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء بإثبات الصفات بالخالق -عز وجل- على الوجه الذي يليق به، وهؤلاء حرفوا، ماذا فعلوا بالنصوص؟ قالوا: بأن هذه النصوص رموز وإشارات، والمتكلمون قالوا: إنها تحتاج إلى تأويل أو تفويض، أما هؤلاء الباطنية فقالوا: إن هذه النصوص هي رموز وإشارات، من الذي يفك هذه الرموز وهذه الإشارات؟ أئمتهم، وهذا من العبث في دين الله -تبارك وتعالى-.
ثم أيضًا يلزمهم بناءً على المذهب الذي يخالف بداهة العقول ويخالف الكتاب ويخالف السُّنَّة، أنهم وقعوا في شر مما فروا منه، فأرادوا الفرار من تشبيه بالموجودات، فوقعوا في تشبيه بالممتنعات، فإنهم شبهوه بالممتنعات، فروا من تشبيه بالموجودات والجمادات والمعدومات، فشبهوه بالممتنع المستحيل.
وجه ذلك، ما وجه أنهم وقعوا في التعطيل والتمثيل، قال: (إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ كِلَاهُمَا مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ)، أن تقول في الشيء لا حي ولا ميت، تنفي عنه صفة الحياة وتنفي عنه صفة الموت، هذا ممتنع في بدائه العقول، (إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ)، أن تقول لا حي ولا ميت أو تقول هو حي وميت في نفس الوقت، هي نفس النتيجة.
ويقول إن: (سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ)، فهو إذًا نفي الصفات عن الخالق -عز وجل- وصفه بالصفات السلبية هذا ممتنع في بداهة العقول، إذ جمع النقيضين كسلب النقيضين كلاهما ممتنع في بداهة العقول وفي فطر الناس فضلًا عن دلائل الشرع.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ. أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ وَاجِبٍ بِذَاتِهِ غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ؛ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ؛ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ وَلَا الْعَدَمُ فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْوُجُودِ أَوْ الْقِدَمِ)}.
هذان الجوابان هما الجواب الرابع والجواب الخامس، الجواب الرابع في الرد على مذهب الباطنية، قال: (وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ) أي: بالدليل العقلي والفطري، (أَنَّ الْوُجُودَ) الموجودات، (لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ) أن المخلوق لا بدَّ له من خالق، وهذا سيأتي أيضًا التأكيد عليه في آخر الجواب، أن هذه المخلوقات لا بدَّ لها من خالق، فهذا الوجود لا بدَّ له من موجد وهو الخالق (وَاجِبٍ بِذَاتِهِ) أي أن الوجود -كما قلنا- نوعان، وجود واجب ووجوب جائز، الوجود الواجب هو وجود الخالق، واجب الوجود هو الخالق، والوجود الجائز الممكن هو وجود المخلوق، فكل موجود لا بدَّ له من خالق.
(وَاجِبٍ بِذَاتِهِ) وهو الخالق، فلاحظ اشترك الخالق والمخلوق في مسمى الوجوب، لكن ما الفرق بين وجود الخالق ووجود المخلوق؟ الخالق واجب الوجود والمخلوق ممكن وجائز الوجود، واجب بذاته وهو وجود الخالق.
(غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ) وهذا واجب الوجود الذي هو الخالق، وهم يتفقون معه، (قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ) المصنف -رحمة الله عليه- هنا استخدم هذه المصطلحات في معرض الرد، وفي معرض الرد يمكن استخدام مثل هذه المصطلحات للرد على المخالفين، فاستخدم مصطلح القديم هم يعبرون به، ومصطلح الأزلي وهم يعبرون به، من باب الفائدة المصطلحات التي ترد في باب الأسماء والصفات أنواع، فهناك مصطلحات جاء الشرع بجوازها، فتستخدم وهي المصطلحات الشرعية في أسماء الرب وصفاته، هناك مصطلحات سائغة من باب الخبر، مثل التعبير بمصطلح التشبيه ونحوها، ولهذا يجوز في باب الخبر ما لا يجوز في باب الوصف والتسمية.
هناك مصطلحات ترخص في استعمالها للمصلحة في باب المناظرة والرد، مثل ما استخدم الشيخ هنا مصطلح القديم والأزلي في معرض المناظرة والرد، وهناك مصطلحات يمنع استعمالها، وهي ما تضمنت نقص في حق الخالق -تبارك وتعالى-.
قال في الجواب الخامس: (فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ) وهو المستحيل (فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْوُجُودِ أَوْ الْقِدَمِ)، أن تقول واجب الوجود أو جائز الوجود أو وصف الخالق -عز وجل- بصفة القدم الأول الذي ليس قبله شيء.
{قال -رحمه الله-: (وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعَهُمْ فَوَصَفُوهُ بِالسُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ دُونَ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ وَجَعَلُوهُ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ)}.
هذا هو الصنف الثاني والطائفة الثانية، قال: (وَقَارَبَهُمْ) يعني مذهب هؤلاء الفلاسفة وهو مذهب ابن سينا ومن تبعه الصابئة الفلاسفة هو قريب من مذهب الباطنية الذين يسلبون النقيضين، فشبهوا الخالق بالممتنعات، قال: (وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعَهُمْ) ولاحظ هنا لم يُعين أشخاصًا بأعيانهم، وقصد هنا الفلاسفة المنتسبين للإسلام ويسمون بالفلاسفة الإلهيين، يسمون بالفلاسفة المشائين، (فَوَصَفُوهُ بِالسُّلُوبِ) أي: النفي، فيقولون مثلًا: لا يجهل لا يموت وهكذا، النفي المجرد.
(وَالْإِضَافَاتِ) مثل قولهم: إنه مبدأ العالم وعلة العالم، (دُونَ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ) أيضًا شبهتهم كما سبق؛ لأنهم يزعمون أنهم لو وصفوه بالصفات الثبوتية شبهوه بالموجودات والمخلوقات، فأرادوا النفي، وصفوه بالسلب (فَوَصَفُوهُ بِالسُّلُوبِ) أو بإضافة مثل مبدأ العالم، علة العالم، أو أحيانًا مؤلف من السلب والإضافة مثل ما هو موجود في كتبهم عقل وعاقل ومعقول، وحقيقة هذه الأقوال جميعًا هي نفي الصفات.
قولهم هذا يؤول إلى أنهم جعلوه والوجود المطلق بشرط الإطلاق، أي لا يقبل التعيين، وتقدم هذا الصنف، فوصفوه أو جعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أي لا يقبل التعيين أبدًا.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ، فَجَعَلُوا الْعِلْمَ عَيْنَ الْعَالِمِ مُكَابَرَةً لِلْقَضَايَا الْبَدِيهَاتِ وَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى فَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ جَحْدًا لِلْعُلُومِ الضَّرُورِيَّاتِ)}.
يلاحظ هنا أن ابن تيمية رد عليهم من وجه ثلاث، هؤلاء الفلاسفة الذين قاربوا مذهب الباطنية، رد عليهم من وجه ثلاثة الذين يصفون الخالق بالصفات السلبية، النفي المجرد.
قال في الجواب الأول: (وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ) أي بضرورة العقول، (أَنَّ هَذَ) أي النفي المجرد (لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ) أما خارج الذهن فلا وجود لذلك، (لَا فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ).
الجواب الثاني: أنهم جعلوا الصفة هي الموصوف، فلم يفرقوا بين الخالق وبين صفاته، والجواب قال: (فَجَعَلُوا الْعِلْمَ عَيْنَ الْعَالِمِ) وذلك (مُكَابَرَةً لِلْقَضَايَا الْبَدِيهَاتِ)، هذه وهي مخالفة للعقل، أنك تجعل الصفة هي عين الموصوف، هذا لا يقبل عقل.
والجواب الثالث: قالوا أيضًا: (وَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى) فبدل الخالق موصوف بالعلم والقدرة والمشيئة والإرادة والحياة، جعلوا هذه الصفات كلها مترادفة المعنى، هل هذا يقبله عقل؟ ما يقبله العقلاء، فلاحظ الردود الثلاثة، أن (وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ).
ثانيًا: أنهم جعلوا الصفة هي عين الموصوف، فجعلوا العلم هي عين العالم.
ثالثًا: أنهم جعلوا الصفات مترادفة، وعند أهل السُّنَّة والجماعة أن الأسماء والصفات مترادفة من وجه ومتباينة من وجه، فالمعاني مختلفة عند جميع العقلاء، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدًا للعلوم الضروريات.
ابن تيمية في درء التعارض يقول عن مذهب هؤلاء: "وهم يقررون في منطقهم اليوناني أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الخارج، فهذا تناقض منهم في قواعدهم المنطقية"، وهذا المذهب والذي قبله ليس له مستند شرعي، بل هو يخالف ضرورات العقول، ولهذا رد عليهم بهذه الأدلة العقلية بنفس الطريقة التي يقررونها في كتبهم، وهذا من باب الإلزام وقلب الدليل على هؤلاء.
{قال: (وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ؛ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْأَسْمَاءَ دُونَ مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصِّفَاتِ - فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ؛ وَالسَّمِيعَ؛ وَالْبَصِيرَ؛ كَالْأَعْلَامِ الْمَحْضَةِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ قَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ دُونَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الصِّفَاتِ)}.
لاحظ (وَقَارَبَهُمْ) أي: قارب طريقة الفلاسفة، وطريقة الفلاسفة قاربت طريقة الباطنية.
قد يقول قائل: هل يلزم هؤلاء تشبيه الخالق بالموجودات والجمادات والمعدومات؟
يقال: أن من نفى الصفات والأسماء يلزمه أن يشبه الخالق بالمعدوم، وهذا هو مذهب المعتزلة ومن قال بقولهم، ومن نفى الصفات وأثبت الأسماء، فإنه يلزمه تشبيه الخالق بالجمادات.
هل يلزم هؤلاء تشبيه الخالق بالممتنعات؟
يقال: أن من نفى العلو، وقال لا داخل العالم سيلزمه القول بالممتنعات.
قال: (وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ) وعلم الكلام هو العلم الذي يقرر العقيدة على خلاف طريقة الرسل، وهذا العلم جمع بين طرائق فلسفية، وطرائق عقلانية، ومزجها بشيء من الأصول الشرعية.
قال: (وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ)، أي: من سلك طريقة المعتزلة، ممن جاء بعدهم، فعطل بعض الصفات، وعطل الأسماء، فأثبت له الأسماء دون ما تضمنه من الصفات، أثبت الأسماء، ولكن جعلها أسماء جامدة مترادفة، لا فرق بينها ولا تتضمن المعاني، هذا مذهب المعتزلة.
ثم ذكر طريقتين منهم، قال: (فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ؛ وَالسَّمِيعَ؛ وَالْبَصِيرَ؛ كَالْأَعْلَامِ الْمَحْضَةِ الْمُتَرَادِفَاتِ).
فالمعتزلة إذن الذين أثبتوا الأسماء ونفوا جميع الصفات، لهم في الإثبات طريقتان، وهي مذاهب عندهم: (فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ؛ وَالسَّمِيعَ؛ وَالْبَصِيرَ؛ كَالْأَعْلَامِ الْمَحْضَةِ الْمُتَرَادِفَاتِ).
هل هذا تقبله اللغة؟ لا تقبله، الإشكال أنهم يدعون أنفسهم أهل علم وأهل لغة، ويقرون أشياء لا تقبلها الفطر، ولا يقبلها العقل، ولا تقبلها اللغة، ولا تدل عليها النصوص الشرعية، بينما أهل السُّنَّة يقولون في الأسماء: إنها وإن كانت هي مترادفة تدل على عادات واحدة، إلا أنها متباينة في المعاني.
ومنهم، الصنف الآخر: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ قَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ).
تلاحظ النتيجة واحدة، لكن الطريقة الأولى نفت الصفات ضمنًا، والطريقة الثانية نفت الصفات صراحةً، قالوا: (عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ)، الأولى أسماء جامدة، فنفت الصفات ضمنًا، أمَّا الثانية فإنها صرَّحت بنفي الصفات، قال: (فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ دُونَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الصِّفَاتِ).
ثم قال: (وَالْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهَا بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الْمُطَابِقِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ).
يعني: الرد على شبه هؤلاء مبسوط في غير هذا الموضع.
نختم بفائدة: قد يقول قائل: هل ثمة فرق بين إثبات المعتزلة للأسماء وبين إثبات أهل السُّنَّة والجماعة للأسماء؟ لأنه هنا يقرر أن المعتزلة يثبتون الأسماء، وينفون الصفات، وأهل السُّنَّة يثبتون الأسماء، هل ثمة فرق بين إثبات المعتزلة للأسماء، وبين إثبات أهل السُّنَّة والجماعة للأسماء؟
فيقال: الفرق من وجهين:
الوجه الأول: أن أهل السُّنَّة يُثبتون كل ما ورد في الكتاب والسُّنَّة، من أسماء الله الحسنى، مما دل عليه الدليل في الكتاب، أو صحَّ في السُّنَّة.
أمَّا المعتزلة، فإنهم لا يستدلون بأخبار الآحاد، فلهذا الاسم إذا جاء عن طريق خبر الواحد، فإنهم لا يعتبرونه، هذا الفرق الأول.
الوجه الثاني: أن أهل السُّنَّة يُثبتون الأسماء، وما دلت عليه من المعاني، أما المعتزلة فإنهم يثبتون أسماءً مجردة، فهذا هو الفرق بين إثبات أهل السُّنَّة للأسماء، وبين إثبات المعتزلة للأسماء.
وهذا يُقال في القدر المشترك، مثلًا لما نقول بأن الأشاعرة يثبتون سبع صفات، لا يفهم القارئ بأنهم يثبتونها كما يثبتها أهل السُّنَّة، بل لهم طرائق في إثباتها، مثل صفة الكلام ونحو ذلك.
هذا ما يُقال في هذا المجلس العلمي، لعل -إن شاء الله- نستكمل في المجلس الآخر بقية الردود على هؤلاء.
{في الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم آمين، وإياكم وجميع الإخوة والأخوات والمستمعين والمستمعات.
{هذا أنا محدِّثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى أن نلتقيكم في الحلقة القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك