الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2014 22
الدرس التاسع

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات والأبناء والبنات طلاب البناء العلمي في الدرس التاسع من دروس العقيدة التدمرية.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ فَيَقُولُونَ: لَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَةٌ وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةٌ لَهُ وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا سَاكِنَةٌ وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلى كل من صلى وسلم عليه، اللَّهمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، اللَّهمَّ اجعل وسيلتنا إليك التوحيد والإخلاص برحمتك يا أرحم الراحمين، أما بعد.
فهذا الكلام هو متصلٌ بالحلقة السابقة التي انتهينا فيها إلى قول المصنف -رحمه الله-: (وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي. وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِينَا - فَإِنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِصِفَاتِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ وَقَدْ أَخْبَرَتْ النُّصُوصُ أَنَّهَا تَعْرُجُ وَتَصْعَدُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينَةِ)، هذا المثل الثاني الذي ذكره المصنف -رحمه الله- ناقش فيه مسألتين مهمتين:
المسألة الأولى: في بيان حقيقة هذه الروح.
والمسألة الثانية: في بيان وجه ضرب هذا المثل في هذا الكتاب.
هذه الروح التي وصفت في أدلة الكتاب والسنة بصفات ثبوتية وصفات سلبية، هذه الروح التي قال الله -تبارك وتعالى- فيها: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيل﴾ [الإسراء: 85]، هذه الروح التي قال الله -عز وجل- عن روح آدم: ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ [السجدة: 9]، وفي كل فرد من بني آدم إذا بلغ مائة وعشرين يوماً في رحم أمه يأتيه الملك فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد وينفخ فيه الروح، هذه الروح التي وصفت بصفات ثبوتية وصفات سلبية، اضطرب الناس في بيان حقيقتها وكيفيتها.
ذكر المصنف -رحمه الله- أن هذه الروح مع الاتفاق بأنها موجودة وأنها موصوفة بصفات ثبوتية وصفات سلبية باتفاق جميع الطوائف إلا أنهم مضطربون في بيان الكُن والكيفية والحقيقة، وهنا إشارة إلى وجه ضرب المثل، ثم ذكر اضطراب الناس، فذكر طوائف من أهل الكلام، أن منهم من يجعل الروح جزءاً من البدن أو هي صفة من صفات البدن، فأهل الكلام يتفقون على أن الروح جسم، ثم يختلفون بعد ذلك هل هي نفس البدن أو هي صفةً من صفات البدن؟ وسيأتي الجواب عن حكم إطلاق الجسد على الروح بعد أن ينتهي من ذكر أقوال الناس واضطراب الناس.
لَمَّا قالوا: إنها جسم، هذا يلزم منه أن الروح تموت بعد الموت، وهذا قول باطل، وكذلك يلزم منه مخالفة النصوص التي تدل على بقاء الروح بعد موت الجسد، فالمتكلمون، أي: أهل الكلام مضطربون في بيان كنه الروح بعد اتفاقهم على أنها جسد، ثم اختلفوا بعد ذلك هل هي جزء من البدن؟ هل هي صفة من صفاته؟ كقول بعضهم: إنها النَّفَس، أو الرِّيحُ التي تتردد في البدن، وبعضهم: إنها الحياة، وبعضهم يقول: المزاج ونحو ذلك.
ليس المقصود هنا هو ترجيح هذه الأقوال أو مناقشة هذه الأقوال، وإنما بيان اضطراب المتكلمين في حقيقة هذه الروح مع اتفاقهم على أنها جسم ومع اتفاقهم على أنها موصوفة بصفات سلبية وبصفات ثبوتية.
ثم انتقل إلى الفريق الثاني، قال: هؤلاء هم أهل الكلام، وهم طوائف فمنهم، أي: من أهل الكلام من يجعل الروح جزءاً من البدن أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النَّفَس أو الريح التي تتردد في البدن، وكقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن، هذا اضطراب المتكلمين مع اتفاقهم على أنها جسم، ومع اتفاقهم على أنها موصوفة بصفات ثبوتية وصفات سلبية، هذا الفريق الأول.
ثم قال في الفريق الثاني، وطبعًا هؤلاء الذين خالفوا في الصفات ونفوا صفات الخالق، منهم من نفى بعض الصفات دون بعض، ومنهم من نفى الصفات عموماً، ومنهم من نفى الأسماء والصفات، ومنهم من وصف الخالق بالسلب، ومنهم من وصف الخالق بنفي النقيضين.
الطائفة الثانية أيضًا ممن خالف في باب الأسماء والصفات، اضطربوا كذلك في حقيقة هذه الروح وهم الفلاسفة، لكن هؤلاء الفلاسفة خالفوا المتكلمين بأن الروح ليست بجسم.
المتكلمون قالوا: إنها جسم ولكنهم مختلفون في بيان حقيقتها.
الفلاسفة عموماً قالوا: ليست بجسم، ثم اضطربوا بعد ذلك، قال: (وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ).
{قال -رحمه الله-: (وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ فَيَقُولُونَ: لَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَةٌ وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةٌ لَهُ وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا سَاكِنَةٌ وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ)}.
هؤلاء هم أهل الفلسفة، شيخ الإسلام يقول: يصفون الروح بعد نفيهم أنها ليست بجسم بما يصفون به واجب الوجود، وواجب الوجود عندهم الخالق، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، ولذلك هم لِمَّا وصفوا الخالق بصفات السلب، هذه معدوم، أو بنفي النقيضين، أيضًا هذا ممتنع، فيصفون الروح بنفس ما يصفون به واجب الوجود الذي هو الخالق، فقال: (وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ)، على فهم، وواجب الوجود هو الخالق، فقال: (وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ) وهي الصفات السلبية أو نفي النقيضين مع اتفاقهم على أنها ليست بجسم، بل هي عندهم بزعمهم أنها جوهر مجرد، فيقولون مثلاً هذا القول الأول: لا هي داخل البدن ولا خارج البدن، ماذا تقول؟ هذا مما لا تقبله العقول.
قد يقول قائل: هذا الكلام الذي يقوله هؤلاء في الروح ويقولونه في صفات الخالق، هل يقولونه عن قناعات عقلية أو يقولونه عن جهل أو يقولونه مكابرة؟
الواقع أنها مكابرة؛ لأن العقول السليمة لا تقبل هذا، فماذا يقولون؟ إن هذه الروح ليست داخل البدن ولا هي خارج البدن، إذاً ماذا تكون؟ هذا عدم.
(وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا هي مُدَاخِلَةٌ لَهُ)، إذاً هي ليست بجسم وهي أشبه ما تكون بالعدم، (وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا هي سَاكِنَةٌ وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ)، إذاً يتفق الفلاسفة على أن الروح ليست بجسم ولا عرض، أي: ليست بصفة، فهم خالفوا المتكلمين، ثم ماذا قالوا؟ وهذه طوائف منهم.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَالْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّهَا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةً وَرُبَّمَا قَالُوا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهَا مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ فَيَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تُلْحِقُهَا بِالْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ)}.
إذاً لهم أقوال عديدة، القول الأول: لا هي داخل البدن ولا هي خارجه، ولا هي مُباينة ولا مداخلة له ولا متحركة ولا ساكنة ولا تصعد ولا تهبط، فهذا لا يكون إلا للعدم، ولا هي جسم ولا عرض.
طائفة أخرى من هؤلاء الفلاسفة وهم طوائف كُثر، ماذا يقولون؟ إنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج -أي: خارج الذهن- إنما تدرك الأمور الكلية المطلقة مثل وصفهم للخالق، فيزعمون كذبًا وبهتاناً أن الخالق يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، فهم يصفونها بما يصفون به الخالق، وهذه الصفات أشبه ما تكون بالعدم.
وقد يقولون وهم طائفة ثالثة منهم: (وَقَدْ يَقُولُونَ: أَنَّهَا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةً لَهُ)، كما يصفون الخالق، هذا لا يكون إلا للعدم، (وَرُبَّمَا قَالُو) وهم طائفة رابعة منهم: (لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهَا مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ) هم ينفون أن تكون الروح جسم، (مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ) فيصفون الروح (بِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَ) إذاً عندهم ليست بجسم بخلاف المتكلمين، ثم اضطربوا (وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ)، وهي النفي المحض (الَّتِي تُلْحِقُهَا بِالْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ)، يعني هذا النفي إما السلب عدم أو نفي النفي فهو الممتنع، كما يصفون الخالق تمامًا، فيصفون الروح بصفات كما يصفون بها الخالق، إما السلب الذي لا يكون إلا لمعدوم أو نفي النقيضين الذي لا يكون إلا للممتنع.
الجواب عن هذا الاضطراب عند الفلاسفة في حقيقة الروح وهي معلومة لدى الناس وهي موصوفة بصفات سلبية أو ثبوتية، أجاب على هذه الأقوال بجواب عقلي، بأن هذا ممتنع بضرورة العقول؛ لأن الجمع بين النقيضين كرفع النقيضين، كالجواب على شبهتهم في الصفات.
ولاحظ هذا الاضطراب عندهم في الروح مثل الاضطراب في صفات الخالق -عز وجل-، قال في الجواب عن شبهة الفلاسفة.
{قال -رحمه الله-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ قَالُوا: بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْعِيَانِ؛ فَيَعْتَمِدُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ)}.
هذا هو الجواب العقلي، إذا قيل لهم: إنَّ هذه الأقوال المضطربة التي يصفون بها الروح كما يصفون بها الخالق، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ)، أن تجمع بين النقيضين كرفع النقيضين، تقول: لا داخل العالم ولا خارج العالم، لا داخل الجسم ولا خارج الجسم، هذا لا يكون إلا للمعدوم أو للممتنع، أجابوا مكابرة، (قَالُوا: بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَ) وهذا اضطراب ذهني، الكليات التي تكون بالذهن.
قال في الجواب أيضًا عن هذا الإيراد: (وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ) تخيلات لكن لا وجود لها في خارج الذهن، لا وجود لها في الواقع، (لَا فِي الْعِيَانِ؛ فَيَعْتَمِدُونَ) هذا فيما يقررونه في وصف الخالق أو في وصف الروح، (فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ) أي في بداية الخلق وكذلك البعث وهي إشكالية عند الفلاسفة، (عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ).
إذا كان لا يخفى فساده على غالب الجهال، دل على أن هذا التقرير عندهم مكابرة لبدائه العقول، هذا في الجواب والموضع هنا ليس مناقشة الروح والخلاف في الروح، لكن المناقشة في الصفات لكن هو سيستفيد من هذا الاضطراب عندهم في الروح فيوظفه في الجواب عليهم في اضطرابهم في صفات الخالق.
ثم لماذا هذا الاضطراب عند المتكلمين؟ لَمَّا وصفوها بأنها جسم ثم اضطربوا، ولماذا هذا الاضطراب عند الفلاسفة؟ لَمَّا قالوا: إنها غير جسم ثم اضطربوا، وصفها بما لا تقبله العقول، بيَّن سبب هذا الاضطراب عند هؤلاء في حقيقة الروح وماهية الروح.
{قال -رحمه الله-: (وَاضْطِرَابُ النفاة وَالْمُثْبِتَةِ فِي الرُّوحِ كَثِيرٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ - الَّتِي تُسَمَّى بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ - لَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبَدَنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنْهَا؛ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَهَا إلَّا بِالسُّلُوبِ الَّتِي تُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا لِلْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهَا مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَ)}.
وهذا أيضًا تكملة للجواب، بيان سبب الاضطراب وأيضاً هو جواب عقلي لَمَّا استدلوا على الباطل بباطل، استدلوا على باطلهم بباطل، فرد عليهم مبيناً سبب هذا الاضطراب، (وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْعِيَانِ؛ فَيَعْتَمِدُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ).
ثم قال: (وَاضْطِرَابُ النفاة وَالْمُثْبِتَةِ) من يقصد بالنُّفاة؟
الكلام الآن في الروح، من الذين قالوا إن الروح جسم؟ المتكلمون، والذين قالوا: ليست بجسم؟ الفلاسفة.
قال: وسبب اضطرابهم في الروح، المتكلمون قالوا: إنها جسم ثم اختلفوا في حقيقتها، والفلاسفة قالوا ليست بجسم، ما سبب هذا الاضطراب بين المتكلمين؟
قال: (وَاضْطِرَابُ النفاة وَالْمُثْبِتَةِ) أي للروح على أنها جسم أو ليست بجسم (فِي الرُّوحِ كَثِيرٌ) ولذلك لاحظ نفاة ومثبتة في الروح هل هي جسم أو ليست بجسم؟ هل هي موجودة أو ليست بموجودة؟ قال: (كَثِيرٌ)، ولذلك هو أشار إلى جملة أقوال عند المتكلمين وجملة أقوال عند الفلاسفة.
(وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ - الَّتِي تُسَمَّى بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ) في مصطلحاتهم يسمونها النفس الناطقة أو النفس الفلكية وهي عندهم الجوهر المجرد عن المادة، في مصطلحاتهم الفلسفية التي تسمى بالنفس الناطقة عندهم (لَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبَدَنِ) هذا عند النفاة الفلاسفة، (لَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبَدَنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنْهَا؛ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَهَا إلَّا بِالسُّلُوبِ الَّتِي تُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا لِلْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ)، بمعنى أنه ليست كذا وليست كذا ليست كذا، أصبحت عدم، (وَأُولَئِكَ) وهم المتكلمون الذي أثبتوا أنها جسم، (يَجْعَلُونَهَا مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ)، ولهذا إذا قالوا جسم معناه أنها تفنى كما تفنى الأجسام، ويلحقها الموت كما يلحق البدن، ولذلك شيخ الإسلام سيجيب بعد ذلك هل يطلق على الروح جسم أو ليست بجسم؟ لكن يُبَيِّنُ اضطراب المتكلمين واضطراب الفلاسفة، اضطراب النفاة واضطراب المثبتة.
قال: (وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَ)، قول المتكلمين: إنها جسم خطأ، وقول الفلاسفة: إنها ليست بجسم خطأ، والحق وسط، حسنة بين سيئتين، سيئة الإفراط وسيئة التفريط.
ثم انتقل إلى حكم إطلاق الجسم على الروح أو تسمية الروح بأنها جسم.
{قال -رحمه الله-: (وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا جِسْمٌ أَوْ لَيْسَتْ بِجِسْمِ يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ، فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ غَيْرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ)}.
وهذا جواب سديد وسيستفيد منه في قواعد أخرى في وصف الخالق بصفات ومصطلحات لم ترد في الكتاب والسنة وأنها تحتاج إلى التفصيل، وهكذا الذين أطلقوا على الروح بأنها جسم، قال: (وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا جِسْمٌ)، لماذا؟ لأنك إذا قلت جسم أو ليست بجسم يترتب عليها أحكام ونفي وإثبات، فيحتاج إلى تحرير مصطلح الجسم.
قال: (وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا جِسْمٌ أَوْ لَيْسَتْ بِجِسْمِ)، من الذين قالوا جسم؟ المتكلمون، ومن الذين قالوا ليست بجسم؟ الفلاسفة، قال: (يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ)، لماذا؟ قال: (فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ غَيْرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ) وهذا أمر مهم لطالب العلم، كثير من الإشكالات وكثير من الخلاف وكثير من الاضطراب يأتي بسبب عدم تحرير المصطلح، فيقع الخلاف والنزاع بسبب عدم تحرير المصطلحات، فذكر مصطلح الجسم عند أهل اللغة وكذلك عند المتكلمين.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالرُّوحُ لَيْسَتْ جِسْمًا؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الرُّوحُ وَالْجِسْمُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ )}.
هذا قول أهل اللغة، إذاً أهل اللغة يطلقون الجسم على ماذا؟ على الجسد والبدن، هذا الذي يحتاج إلى غذاء ويجري فيه الدم، أهل اللغة إذاً يطلقون الجسم على الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار هل تكون الروح بهذا المعنى؟ قال: (وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الرُّوحُ وَالْجِسْمُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ )، قال فالروح بناءً على هذا المعنى المعروف في اللغة ليست جسماً، بناءً على هذا المعنى أن الجسم هو الجسد وهو البدن.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْجِسْمُ هُوَ الْمَوْجُودُ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا بَلْ هُوَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُقَالُ: إنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ)}.
هذا في مصطلح المتكلمين، طبعًا ما ذكر مصطلح الفلاسفة، لأن الفلاسفة أيضًا ينفون أن تكون الروح جسمًا، ولهذا لا يحتاج أن يدخل معهم في مصطلح الجسم، إنما هو عند أهل الكلام، قال:( فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْجِسْمُ هُوَ الْمَوْجُودُ) وبالتالي الروح موجودة أو ليست موجودة؟ موجودة، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ) يعني: الجزء الذي لا يتجزأ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْجِسْمُ هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ) التي هم يسمونها الهيولة والصورة، قال: (وَكُلُّ هَؤُلَاءِ) يعني هذه الأقوال عند المتكلمين،  (وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَمِنْهُمْ) وهو القول الرابع عند المتكلمين (مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا بَلْ هُوَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُقَالُ: إنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ)، لاحظ إذاً تنوع مصطلح المتكلمين في معنى الجسم.
ثم رجح هل الروح بناءً على هذه الاصطلاحات اللغوية واصطلاحات المتكلمين يقال: إنها جسم أو ليست بجسم؟ ماذا قال في الترجيح؟
{قال -رحمه الله-: (فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَتْ الرُّوحُ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهَا وَيَتْبَعُهَا بَصَرُ الْمَيِّتِ - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الرُّوحَ إذَا خَرَجَتْ تَبِعَهَا الْبَصَرُ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ وَيُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ» - كَانَتْ الرُّوحُ جِسْمًا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ)}.
إذا كان المقصود بالروح إنها مما يشار إليه وأنها موجودة وأنها عين قائمة بنفسها وأنها موصوفة بصفات، فالروح جسم بهذا المعنى، أمَّا إن كان المقصود بالروح الجسد، المقصود بالروح البدن فليست هي البدن، ولذلك ماذا قال؟ فالروح ليست جسما باعتبار المعنى اللغوي، أما إن كان المقصود بالروح مما يشار إليه نعم، فجاءت الأحاديث بأن يتبعها البصر ويتبعها بصر الميت كما جاء في الحديث: «أَنَّ الرُّوحَ إذَا خَرَجَتْ تَبِعَهَا الْبَصَرُ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ» ولهذا روح المؤمن تسل كما تسل الشعرة من العجينة، كقطرة الماء من فيه الثقاء، وروح الكافر تنزع كما ينزع الشوك من السفود المبلول، فنعم إذا هي موصوفة بهذه الصفات بمعنى أنها مما يشار إليها، يتبعها البصر وأنها تقبض وأنها تعرج كما جاءت في الأحاديث.
فعلى هذا تكون الروح جسماً بهذا الاعتبار، بهذا الاصطلاح، فلاحظ الجواب يحتاج إلى هذا التفصيل، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، هذا الخلاف في الروح -خلاف المتكلمين وخلاف الفلاسفة- والجواب عن حكم إطلاق الجسم على الروح وهو التفصيل، قد يقول قائل: ما فائدة ضرب هذا المثل في هذا الكتاب؟
الجواب الذي هو المقصود من هذا النقاش، قال: {قال -رحمه الله-: (وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الرُّوحَ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً: تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ تَكْيِيفِهَا وَتَحْدِيدِهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا. وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ. فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ عَدَمِ مُمَاثَلَتِهَا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ مَعَ اتِّصَافِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ وَأَهْلُ الْعُقُولِ هُمْ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَحُدُّوهُ أَوْ يُكَيِّفُوهُ مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَحُدُّوا الرُّوحَ أَوْ يُكَيِّفُوهَ)}.
نعم هذا هو المقصود بضرب هذا المثل، أن الروح إذا كانت موجودة والخالق موجود، والروح موصوفة بصفات، مثل: موصوفة بصفات الحياة وعالمة وقادرة وسميعة وبصيرة وتصعد وتنزل وتذهب وتجيء بمعنى أنها تنفصل عن البدن، ويشار إليها، فهي عين قائمة بذاتها، ومع ذلك هناك اضطراب بين المتكلمين وبين الفلاسفة في بيان كُنه الروح وحقيقة الروح، حتى عند أهل السنة والجماعة كيفية الروح وكنه الروح غير معروفة، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ ، فإذا كانت الروح موجودة باتفاق العقلاء وموصوفة بهذه الصفات التي جاءت في النصوص، ومع ذلك العقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها وكنها وبيان ماهيتها، لماذا؟
قال: (لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرً) فهي من أمر الله، (وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ)، ولهذا الخَالِقُ لا تكيف صفاته لأنه لم يشاهده أحد في الدنيا ولم يُشَاهد له نظير؛ لأنه لا كفء له ولا ند له ولا مِثل له، وبالتالي فالكيف مجهول.
قال: (وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ. فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ) موجودة متصفة بهذه الصفات الثبوتية والصفات السلبية (مَعَ عَدَمِ مُمَاثَلَتِهَا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ) ومن الأجسام المخلوقة (فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ مَعَ اتِّصَافِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ) الثبوتية والسلبية، وهذا من باب ضرب المثل ولله المثل الأعلى، ومن باب قياس الأولى.
قال: (وَأَهْلُ الْعُقُولِ هُمْ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَحُدُّوهُ أَوْ يُكَيِّفُوهُ) يعني: في تمثيل الصفات وهذا ممتنع سواءً مَثَّلُوهَا بالمخلوقات الحية أو بالجمادات أو بالممتنعات أو بالمستحيلات، (أَوْ يُكَيِّفُوهُ مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَحُدُّوا الرُّوحَ أَوْ يُكَيِّفُوهَ)، إذا كانوا قد عجزوا عن بيان كنه الروح، واختلف المتكلمون والفلاسفة فما ظنك بصفات الخالق؟
هم أعجز عن أن يكيفوا الخالق أو يمثلوه أو يصفوه بمثل هذه الصفات التي تلحق ذلك بالعدم أو المستحيل الممتنع.
هذا هو وجه ضرب المثل، وهذا المثل مما يؤكد صحة مذهب السلف في إثباتهم لصفات الخالق -عز وجل- على الوجه الذي يليق به مع نفي الكيفيات، وفيه كذلك إبطال مذهب الممثلة وإبطال لمذهب المكيفة، بدليل أن هذه الروح الموصوفة بهذه الصفات الثبوتية والسلبية ومع ذلك لا أحد يعرف كنهها ولا حقيقتها، بل اضطرب المتكلمون والفلاسفة فيها، فاضطرابهم في تكييف صفات الخالق هو أولى.
ثم أيضًا استفاد من هذا المثل كما ذكر الشيخ في آخر الكلام. قال:
{قال -رحمه الله-: (فَإِذَا كَانَ مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا لَهَا وَمَنْ مَثَّلَهَا بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ جَاهِلًا مُمَثِّلًا لَهَا بِغَيْرِ شَكْلِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا لَهَا مِنْ الصِّفَاتِ: فالْخَالِقُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ نَفَى صِفَاتِهِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا وَمَنْ قَاسَهُ بِخَلْقِهِ جَاهِلًا بِهِ مُمَثِّلًا " وَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ثَابِتٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقٌّ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ)}.
وهذه فائدة ثالثة: المثل دل على إبطال التمثيل ودل على إبطال التكييف ودل على صحة مذهب السلف، كذلك دل هذا المثل على إبطال التعطيل لصفة الخالق، ما وجه ذلك؟
قال: (فَإِذَا كَانَ مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ) ماذا يكون عندهم؟ (جَاحِدًا مُعَطِّلً) باتفاق العقلاء، حتى عند المتكلمين قاطبة أو لا، ولهذا المتكلمون يردون على الفلاسفة.
(فَإِذَا كَانَ مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا لَهَا، وَمَنْ مَثَّلَهَا بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ) العكس ما هو؟ (جَاهِلًا مُمَثِّلًا لَهَا بِغَيْرِ شَكْلِهَ) كيف تمثل شيء لم تشاهده ولم تشاهد نظيره، فمن نفى وجود الروح هذا معطل، ومن شبهها بالمخلوقات والموجودات ممثل، (وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ) بالصفات الثبوتية، (مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا لَهَا مِنْ الصِّفَاتِ)، فإذا كان من نفى وجود الروح معطل ومن شبهها بالموجودات ممثل، فما ظنك بما نفى صفات الخالق؟ معطل، ومن شبه الخالق بالمخلوقات ممثل مشبه، فهذه الفائدة فائدة ثالثة.
قال: (فالْخَالِقُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ نَفَى صِفَاتِهِ جَاحِدًا مُعَطِّلً) على درجات الثاني، (وَمَنْ قَاسَهُ بِخَلْقِهِ) يعني مثله (جَاهِلًا بِهِ مُمَثِّلً)، وذكرنا أن التمثيل إمَّا تمثيل بالمخلوقات الحية أو تمثيل بالجمادات أو تمثيل بالمعدومات أو تمثيل بالممتنعات، كل هؤلاء ممثلة، وكل هؤلاء فروا من شيء ووقعوا فيما هو أسوء منه، أصلاً هو ما ممثله بالجمادات إلا لما توهم أن إثبات الصفات تمثيل، فهو مثل، ثم عطل، ثم مثل.
يقول: (وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثَابِتٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقٌّ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ)، كما أن الروح موجودة متصفة بالصفات ومع ذلك لا أحد يعرف كنه هذه الروح، وهذا هو وجه ضرب هذا المثل.
فيه فائدة أخرى ذكرها ابن تيمية في شرح حديث النزول، وهي تجيب عن استشكال يستشكله بعض الناس في صفة النزول، هل إذا نزل الرب -تبارك وتعالى- يخلو منه العرش أو لا يخلو؟
ذكر في شرح حديث النزول فيما يتعلق بالروح، أن هذه الروح في المنام تخرج وتصعد وتلتقي بأرواح النائمين وأرواح الأموات وتحصل منها الرؤى ومع ذلك هي متصلة بالجسم، هذا مما يفهم منه حتى ولو نزل فلا يخلو منه العرش بدليل أن هذه الروح التي تصعد والنائم ماذا يقول؟ بسمك اللهم أضع جنبي وبك أرفعه، وإذا استيقظ يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، فالله ردَّ له الروح ومع ذلك هذا النائم يتنفس ولو أوقظته في لحظة يستيقظ أو لا، ومع ذلك هذه الروح تذهب وتسرح في ملكوت الله، فأخذ من هذا أن هذه الروح التي لا أحد يعرف كنهها، أن في النوم تخرج وتصعد وتلتقي بأرواح النائمين وأرواح الموتى ويحصل منها الرؤيا الصالحة والمنامات ومع ذلك هي لم تفارق هذا الجسد، فاستفاد فائدة أخرى في ضرب المثل بالروح في نزول الرب -تبارك وتعالى- لا يلزم منه خلو العرش كما يقول هل إذا نزل خلى العرش؟ نقول: لا يلزم بهذا لازم.
هذا هو وجه ضرب المثل وهو دليل حسي عقلي عند أهل السنة والجماعة على إثبات صفات الخالق -عز وجل- على الوجه الذي يليق به، ومع ذلك لا أحد يعرف كيفية هذه الصفات، فمن نفى الصفات فهو معطل، كمن نفى صفات الروح، ومن شبه صفات الخالق بصفات المخلوقين فهو ممثل مشبه، كما يقال في الروح فهو من باب المثل الذي يجيب به على شبهة المعطلة، وكذلك يبين صحة مذهب السلف.
ثم بعد هذين الأصلين وهذين المثلين، انتقل بعد ذلك إلى القواعد النافعة.
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ:
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، فَالْإِثْبَاتُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)
}.
قال: (فَصْلٌ) في هذا الباب، وهو باب الأصل في الصفات الذي هو تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، قال: (فَصْلٌ وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ) فالحمد لله نحن الآن شرفنا على النهاية فنحن في خاتمة هذا الأصل، (وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ) وهي قواعد عظيمة ومهمة لطالب العلم، وهذه القواعد هي تأكيد وتلخيص لِمَا ذكره في مقدمة هذا الأصل، ولِمَا ذكره في الأصلين الشريفين، ولِمَا ذكره في المثلين المضروبين، ولهذا سيجد الإخوة المتابعون أن هذه القواعد سبق ذكرها وسبق مناقشة الشبهات التي وردت في هذا الباب، فلخصها في هذه الخاتمة، فالخاتمة هي تلخيص لِمَا سبق، ولهذا سيكون الحديث عندها إجمالاً؛ لأن كثيرًا من المسائل تقدمت في مقدمة الأصل وفي الأصلين الشريفين وفي المثلين المضروبين كذلك.
قال: (وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ)، وهي سبع قواعد في بعض النسخ ست لكن النسخة المحققة هي سبع قواعد، ذكر القاعدة الأولى من القواعد النافعة وهي مهمة لطالب العلم جدًّا في باب الأسماء والصفات، (أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ)، وتلاحظون أن هذه القاعدة مرت معنا في مواضع، الذين معهم الكتاب ممكن يفتحوا صفحة سبعة، قال: (فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ: نَفْيًا وَإِثْبَاتًا؛ فَيُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ)، فهذه القاعدة هي تأكيد لِمَا ذكره.
أيضًا تلاحظون في صفحة ثمانية قد بَيَّنَ طريقة السلف وطريقة الرسل، وهو أن الإثبات مُفصل والنَّفي مجملٌ.
وتقدم أن ذكرنا ضوابط وشروط الإثبات وضوابط وشروط النفي، وأن السلف يثبتون من غير تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل، والإثبات يلزم منه نفي التمثيل والنفي يلزم منه إثبات الكمال.
أن الله موصوف بالنفي والإثبات، الإثبات لا بدَّ أن يتضمن نفياً والنفي لا بدَّ أن يتضمن إثباتاً، وهذا التقسيم يتعلق باعتبار تقسيم الصفات إلى صفات ثبوتية وصفات منفية يتعلق بهذا الاعتبار، بمعنى أن الصفات باعتبار النفي والإثبات تقسم إلى صفات ثبوتية وصفات منفية، وقد يسميها بعضهم صفات سلبية.
أن الله موصوف بالإثبات والنفي، وهذه القاعدة هي قاعدة شرعية دلت عليها الأدلة الكثيرة وسبقت الأدلة في الإثبات والأدلة في النفي، وكذلك هي قاعدة عقلية، ما وجه كونها قاعدة عقلية، لأن الكمال لا يتم إلا بذلك، الكمال والمدح لا يتم إلا بالإثبات والنفي؛ لأن الإثبات وحده لا ينفي الشريك ولا ينفي التمثيل، فلا بدَّ من إثبات بلا تمثيل، والنفي وحده قد يُفهم منه النفي المحض والتعطيل المحض، فلا بدَّ أن يقابله إثبات، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
فالأدلة الشرعية والأدلة العقلية تدل على هذه القاعدة، بل هذه القاعدة هي حقيقة التوحيد، فإن التوحيد مكون من نفي وإثبات كما في كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فلو قال قائل: لا إله، هذا نفي محض، لو قال: الله موجود أو الله معبود، هذا لا ينفي الشريك، فلا يتحقق التوحيد إلا بالنفي والإثبات، وهكذا في باب الصفات الله موصوف بالنفي والإثبات.
ثم ذكر أمثلة: (كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ).
وهذه مرت معنا، هذا هو الأصل في هذا الباب، ثم فرع على هذا الباب تفريعات، ذكر الفرع الأول.
{قال -رحمه الله-: (وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ؛ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ: لَيْسَ بِشَيْءِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا أَوْ كَمَالً)}.
هذا فرعًا عن هذه القاعدة، بعد أن وضع القاعدة وهي أن الله موصوف بالإثبات والنفي، فرع عليها مسألة لم يذكرها سابقًا، نعم ذكر سابقًا الإثبات المفصل والنفي المجمل، وذكر أيضًا أن الصفات الثبوتية تدل على الكمال المطلق.
قال هنا فرع عنها:(وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ) وهذا الفرع ما ذكره سابقًا (أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ) كما هو عند المعطلة، ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا، أو نفي النقيضين، لماذا النفي المجرد والسلب المجرد كما هو موجود عند المعطلة، (لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ)، أجاب على ذلك بجوابين عقلين وبجواب شرعي.
أمَّا الجواب العقلي قال: (لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ) أي المجرد (عَدَمٌ مَحْضٌ) كما هو عند الفلاسفة ليس بكذا، سلب (وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ: لَيْسَ بِشَيْءِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا أَوْ كَمَالً) هذا هو الجواب الأول، أن المدح أو النفي السلب المحض كما هو مذهب المعطلة ومذهب الفلاسفة هذا ليس بمدح.
ثانيًا: قال في الجواب العقلي الثاني.
{قال -رحمه الله-: (وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِمَدْحِ وَلَا كَمَالٍ. فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ)}.
هذا هو الجواب العقلي الثاني، أن يقال لمن يصفون الخالق بالنفي المحض فقط دون أن يتضمن ضده من صفات الكمال، قال: (وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ) وتقدم المعدوم، المعدوم الذي لا وجود له ويمكن أن يوجد، والممتنع الذي لا وجود له ويستحيل وجوده، وتقدم تعريف ذلك.
قال: (وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِمَدْحِ وَلَا كَمَالٍ) فالكمال إنما يتعلق بالأمور الوجودية؛ لأن الكمال صفة ثبوتية، فالنفي الذي جاء في النصوص ليس نفياً محضًا على طريقة السلب الموجودة عند المتكلمين والفلاسفة، بل يتضمن ضده من صفات الكمال، هذان دليلان عقليان، ثم ذكر دليل شرعي؛ لأن النفي الذي جاء في النصوص ليس نفياً محضاً بل يتضمن إثبات الكمال، وهذا الدليل هو دليل استقرائي، ثم ذكر شواهد وأمثلة على هذا الدليل الشرعي؛ لأن النفي المحض لم يرد في النصوص وإنما نفي يتضمن إثبات الكمال.
(فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ)، هذا الجواب الشرعي، طبعًا عامة هنا ليس المقصود أغلب وإنما جميع، وليس المقصود أغلب وإنما عامة الجميع ما وصف الله به نفسه؛ لأن الذي يستقرأ الصفات المنفية سواءً النفي المنفصل المجمل أو النفي المتصل يجد أنه يتضمن صفات الكمال، ولهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي وهي الصفات المنفية متضمناً لإثبات المدح، ثم ضرب الأمثلة.
{(كَقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَ﴾ فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ؛ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَ﴾ أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِهَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الْقَادِرِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ بِنَوْعِ كُلْفَةٍ. وَمَشَقَّةٍ فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي قُدْرَتِهِ وَعَيْبٌ فِي قُوَّتِهِ)}.
هذان مثلان، الأول: آية الكرسي، أول آية الكرسي ﴿اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ لاحظ الحي القيوم إثبات، ثم جاء بعده بنفي السِّنة والنَّوم، قال: (فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ) وكمال القيومية (فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) جاء بعده النفي المتصل الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، فدل على هذه الصفة المنفية تدل على كمال الحياة وكمال القيومية.
كذلك المثال الثاني في آخر آية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله، (﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَ﴾ أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ) لاحظ دلالة الصفات، إن التضمن أو دلالة تلازم أو دلالة تطابق، فقد تدل على الصفة بالتطابق أو بالتضمن أو بالتلازم، قال: (وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِهَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الْقَادِرِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ بِنَوْعِ كُلْفَةٍ. وَمَشَقَّةٍ فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي قُدْرَتِهِ وَعَيْبٌ فِي قُوَّتِهِ).
إذاً هذا النفي يتضمن كمال القيومية وكمال القدرة، المثال الثالث، قال.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ فَإِنَّ نَفْيَ الْعُزُوبِ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ فَإِنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغُوبِ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ التَّعَبِ والكلال مَا يَلْحَقُهُ)}.
هذا هو المثال الثالث والرابع في الأدلة الشرعية التي تدل على أن النفي الذي جاء في النصوص ليس نفياً محضاً بل يتضمن الكمال من وجه، قال في المثال الثالث: (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا يَعْزُبُ﴾ ) هذا نفي، هذه صفة منفية، هل النفي فيها محض؟ ليس محض بل يتضمن كمال صفات الخالق -عز وجل- (﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ ) وجه ذلك قال: (فَإِنَّ نَفْيَ الْعُزُوبِ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) إذاً ليس نفياً محضاً مجرداً بل يتضمن إثبات الكمال، وهذا الذي ينبغي أن يخطر ببال المسلم وهو يقرأ هذه الآيات ويصف الخالق -عز وجل- بأنه لا يؤده ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا يعزب عنه أن يفهم هذا يدل على كمال الخالق -عز وجل-.
كذلك المثال الرابع: (﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ ) لاحظ كل هذا يسمونه النفي المتصل، يأتي بالكمال ثم يأتي تأكيد بالنفي، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]، كلمة لا يموت تدل على كمال الحياة، هذا هو المقصود.
قال في وجه دلالة الآية الرابعة: (فَإِنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغُوبِ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ) بالتلازم، (وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ التَّعَبِ والكلال مَا يَلْحَقُهُ).
إذاً هذه الأدلة العقلية والأدلة الشرعية تدل على أن النفي الذي جاء في النصوص ليس نفياً محضًا، وهذا الذي قصده المصنف -رحمه الله- مما يؤكد صحة مذهب السلف وطريقة الرسل وبطلان مذهب المتكلمين الذين يعطلون الخالق ويصفونه بصفات السلب المجرد التي ليس فيها مدح، بخلاف النفي أو الصفات السلبية التي جاءت في الكتاب والسنة، فليس النفي فيها نفياً محضًا بل هو يتضمن إثبات الكمال.
إذاً الصفات الثبوتية تتضمن نفياً ولا مماثلة الخالق للمخلوقين وتنزه عن مشابهة المخلوقين، والصفات المنفية تتضمن كمال الخالق.
لعلنا -إن شاء الله- في الدرس القادم نكمل بقية الشواهد، وأيضًا الفروع التي فرعها على هذه القاعدة، أسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم آمين وإياكم والإخوة والأخوات والمسلمين والمسلمات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى ذلكم الحين نلتقي في الحلقة القادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك