الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس الثالث عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المستمعين والمستمعات والأبناء والبنات من طلاب البناء العلمي، وفي هذا الدرس الثالث عشر من دروس العقيدة التدمرية، في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع، وأسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في القاعدة الخامسة، حيث قال شيخ ابن تيمية -رحمه الله-: (أَنَّا نَعْلَمُ لَمَّا أُخْبِرْنَا بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ وَقَالَ: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ وَقَالَ: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ وَقَالَ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ﴾ . فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْكِتَابِ كُلِّهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وعلى كل من صلى وسلم عليه، أما بعد.
فأسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يوفقنا جميعًا للعلم النافع والعمل الصالح.
هذه هي القاعدة الخامسة، وفي هذا الدرس الثالث عشر من دروس العقيدة التدمرية، وهذه القاعدة من القواعد الجامعة والنافعة التي تبين صحة معتقد السلف في الأسماء والصفات وتبين كذلك وجه الغلط والخطأ عند المعطلة بأنواعهم، سواءً كانوا مفوضة أو محرفة أو مشبهة.
قال في هذه القاعدة: (أَنَّا نَعْلَمُ لَمَّا أُخْبِرْنَا بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ) الوجه الذي نعلمه هو المعاني، فنعرف معاني ما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- به في كتابه، وما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه، والوجه الذي لا نعلمه هو الكيفيات.
قوله: (أَنَّا نَعْلَمُ لَمَّا أُخْبِرْنَا بِهِ) هذا يشمل ماذا؟ يشمل جميع الأمور الغيبية بما في ذلك الأسماء والصفات، وبما في ذلك أمور الآخرة من أحوال القبور وأحوال الآخرة والنعيم والعذاب، كل ما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- به، فإننا نعلمه من جهة المعنى ولا نعلم الكيفيات، أن نعلم ما أخبرنا الله به وهذا يشمل جميع الأخبار، (مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ)، ثم ذكر الدليل على الوجه المعلوم، ذكر الأدلة على الوجه المعلوم،
ومن الأدلة التي ذكرها قوله -تبارك وتعالى-: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرً﴾ .
وجه الاستدلال: أن الله -تبارك وتعالى- أنكر على هؤلاء الذين لا يتدبرون القرآن، وفيه أمر بالتدبر، فلو كان القرآن غير مفهوم المعنى كما يقول المفوضة وكما يقول المعطلة، لو كان القرآن غير مفهوم المعاني بما فيها آيات الصفات لَمَا أمرنا بالتدبر، كيف نتدبر شيئًا لا نفهم معناه؟ فدلَّ على أنه مفهوم المعنى بدليل أن الله أمر بتدبر القرآن، وأنكر على الذين لا يتدبرون القرآن، وَقَالَ: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ أيضًا فيه إنكار على هؤلاء الذين لا يتدبرون معاني القرآن بما فيها آيات الصفات، وَقَالَ: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ والآيات تشمل جميع آيات القرآن بما فيها آيات الصفات، وَقَالَ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ﴾ ، فدلت هذه الآيات وكذلك غيرها من الآيات على أن القرآن مفهوم المعنى بدليل أن الله -تبارك وتعالى- أمر بتدبره وأنكر على الذين لا يتدبرون معاني القرآن، وهذا التدبر شامل لجميع آيات القرآن بما فيها الآيات التي جاءت في صفات الباري -تبارك وتعالى-، فهذا هو الوجه المعلوم، المعاني، وهذه هي الأدلة على هذا الوجه المعلوم.
وفي هذا رد على المفوضة للمعاني الذين زعموا بأن هذه المعاني غير مفهومة المعنى، وهذا هو مسلك من مسالك المعطلة، إذا لم يستطيعوا تحريف معاني الآيات، فإنهم يفوضونها من جهة المعنى بمعنى يزعمون أنها غير مفهومة المعنى، وأيضًا دعوى هؤلاء أن مذهب السلف هو التفويض للمعاني، وهذا كذب على السلف، السلف يعرفون معاني القرآن، لأنه جاء بلسان عربي مبين.
ففي هذه الآيات رد على المفوضة للمعاني، وكذلك رد على مذهب المعطلة؛ لأنهم حرفوا معاني القرآن إلى معاني أخرى أو فوضوها، كذلك هو رد على المشبهة لأنهم لم يفرقوا بين المعنى المعلوم والكيف المجهول، فجعلوا الكيفيات المجهولة مثل المعاني المجهولة، جعلوها كلها من وجه واحد، والمصنف يقول: معلومة من وجه ومجهولة من وجه آخر، كما قال الإمام مالك في الاستواء وغيره: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فهذا هو الوجه المعلوم لنا الذي هو المعاني بدليل هذه الآيات.
ثم انتقل للوجه الثاني، طبعًا هنا لما ذكر الآيات بيَّن وجه الاستدلال قال: (فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْكِتَابِ كُلِّهِ) بما فيه من آيات الصفات وآيات الأحكام والآيات المتعلقة بأمور المعاد والمتعلقة بأمور القبر دون استثناء، فأمر الله -عز وجل- بتدبر القرآن كله، بل وصفه بأنه جاء بلسان عربي مبين، ثم ذكر أدلة الوجه الثاني.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ، وَجُمْهُورُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ)}.
هذا هو الوجه الذي لا نعلمه على قراءة في الآية، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ يعني: الكيفيات والحقائق المغيبة لا يعلمها إلا الله، هذا الوجه الذي لا نعلمه على وجه في قراءة الآية.
بعد أن قرر المصنف -رحمه الله- هذه القاعدة انتقل إلى موضوعين مهمين:
الموضوع الأول: ما يتعلق بالتأويل وأنواع التأويل، واختلاف الناس في التأويل، والغلط الذي وقع في التأويل، وكيف اشتبهت بعض الآيات على المتكلمين في هذا الباب.
ثم انتقل إلى موضوع آخر كبير وهو ما يتعلق بالمحكم والمتشابه، قال في بيان أدلة الوجه الذي لا نعلمه: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ )
والمحكم البين الواضح غير المنسوخ، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ والتشابه أيضًا له معاني، قد يدخل في التشابه الأمور الغيبية كالكيفيات وقد يدخل في التشابه ما اشتبه على بعض الناس دون بعض حسب معنى المتشابه ومعنى التأويل.
﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ ثم بيَّن مسلكين لمسالك الناس في التعامل مع المحكم والمتشابه، مسلك الزائغين ومسلك الراسخين، أمَّا مسلك الزائغين فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ ، فيأخذون بالمتشابه ويبطلون المحكم، ثم قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ هذا هو المسلك الثاني: طريقة الراسخين ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَ﴾ أي: أنهم يجمعون بين المحكم والمتشابه ويردون المتشابه إلى المحكم، فهما مسلكان مختلفان: مسلك الزائغين ومسلك الراسخين، ثم انظر ماذا قال الله بعد هذه الآية: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾ ، فيسألون الله -عز وجل- أن لا يزيغ قلوبهم، ولهذا حصل الزيغ عند هؤلاء الذين حرفوا آيات الصفات وآيات المعاد وآيات الأحكام، وهذه طريقة الزائغين الذين يقولون بالتأويل والتحريف والتفويض للمعاني، بينما طريقة الراسخين في العلم يردون المتشابه إلى المحكم ويعلمون أن كتاب الله تعالى ليس فيه تناقض.
ثم ذكر أوجه القراءة في هذه الآية في قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ ، قال: (وَجُمْهُورُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ ) والتأويل هنا بمعنى: الحقائق والكيفيات، هذا المعنى الذي لا نعلمه بدليل الوقف الذي عليه جمهور سلف الأمة وخلفها، أن المسلم إذا قرأ هذه الآية يقرأ هكذا ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ ثم يقف، ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ يعني: آمنا بالمحكم وآمنا بالمتشابه، آمنا بالمعاني وآمنا بالكيفيات التي لا يعلمها إلا الله، بخلاف الزائغين فإنهم لم يفرقوا بين المعاني وبين الكيفيات فجعلوها كلها من باب واحد، فمنهم من شبه، ومنهم من عطل، ومنهم من فوض، ومنهم من حَرَّفَ، بينما الراسخين فرقوا بين المعنى وبين الكيف، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، هذه طريقة الراسخين.
قال: (وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ) أي: الوقف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ (وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ) ومن أُبي؟ من كتبة الوحي، من حفظة القرآن الذي أثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، (وَابْنِ مَسْعُودٍ) ومن ابن مسعود؟ (وَابْنِ عَبَّاسٍ) حبر الأمة وترجمان القرآن، يعني أن الوقف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ﴾ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ هؤلاء الأئمة، أبي بْنِ كَعْبٍ، ومن أُبي؟ عبد الله بن مسعود؟ ومن ابن مسعود، وابن عباس، ومن ابن عباس؟ وغيرهم، وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
قال: (وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَ) بلغة العرب، مثل العرب تعرف معنى المجيء ومعنى النزول، جاء القرآن بلسان عربي مبين، (وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ) مثل ما يتعلق بالأحكام التي لا يعذر أحد بجهلها، (وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ) فبعض المعاني وبعض الأحكام يحتاج إلى العالم الذي يعرف العام والخاص والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه ويعرف أحكام العبادات، فمن التفسير ما يعلمه إلا العلماء، وأما من دونهم فهو يحتاج إلى أن يسأل أهل العلم في كثير من الأحكام.
ثم قال: (وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ) وهذا الذي قصده وهو الكيف، أي: الكيفيات والحقائق التي لا يعلمها إلا الله، (مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ) على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو ما يتعلق بالكيف، ولهذا أنكر الإمام مالك على الرجل الذي سأل عن كيفية الاستواء، فمن ادعى أنه يعلم الكيفيات والغيبيات فهو كاذب، لأن هذا لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، هذا هو الوجه الثاني الذي لا نعلمه.
ثم ذكر قراءة في الآية وكيف نجمع بين الآيتين، قال.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ: أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ قَدْ صَارَ بِتَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُسْتَعْمَلًا فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ)}.
هذا هو الوجه الثاني في الآية، وهو على قراءة الوصل ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ بمعنى أن الراسخين يعلمون تأويله، فهذا على قراءة الوصل ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَ﴾ .
يقول: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ) لماذا استشهد بقول مجاهد؟ مجاهد بن جبر من كبار التابعين وهو إمام المفسرين، ومجاهد الذي قال عنه سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ولهذا اعتمد على تفسيره كبار أئمة الإسلام من أهل الحديث وأهل الفقه كالإمام البخاري والشافعي والإمام أحمد، ولذلك استدل بقول مجاهد في تفسيره، ومجاهد ينقل هذا التفسير عن ابن عباس، قال: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ) ممن هم في طبقة مجاهد (أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِهَ) لاحظ نقل عن مجاهد قول وفعل، فثبت ذلك عن مجاهد من قوله وفعله، أنه قال: (عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِهَ) معنى ذلك: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، أي تفسيره.
قال ابن تيمية جامعاً بين القولين أو بين القراءتين، قراءة الوصل وقراءة الوقف، قراءة الوقف على أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وقراءة الوصل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، قال: (وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ) لماذا قال؟ قال: (فَإِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ قَدْ صَارَ بِتَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُسْتَعْمَلًا فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ) يعني: على قراءة الوقف، فيكون التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها، شيء لا يعلمه إلا الله، على قراءة الوصل يكون التأويل بمعنى التفسير، فلا منافاة إذاً بين قراءة الوقف وبين قراءة الوصل، ولا منافاة بين القولين.
ثم بيَّن وجه كونه لا منافاة بين القولين: أن التأويل له اصطلاحات ثلاثة على جهة العموم.
{قال -رحمه الله-: (أَحَدُهَا - وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ - أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ؛ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَتَرْكِ تَأْوِيلِهَا؛ وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟)}.
قال: (وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ) لأن من أثبت التأويل له مقصد ومن نفى التأويل له مقصد، من قال: إن الآية على الوقف فلا يعلمه تأويله إلا الله، يقصد معنى، ومن على قراءة الوصل له معنى آخر، قال معللاً: إنه لا منافاة بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ التأويل قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملًا في ثلاثة معاني، (أَحَدُهَا - وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ) بدأ به لأن الخلاف وقع فيه، وأكثر اللغط وقع في هذا المعنى، (وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ) يعني جاء متأخر في العصور المتأخرة، (مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ - أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ؛ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ). طبعًا جاءت في بعض الكتب إضافة لدليل يقترن به وفي بعضها هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، لكن هم يقولون لدليل يقترن به، فينظر في هذا الدليل المقترن باللفظ، بالسياق إن كان هذا الدليل المقترن في السياق يوضح المعنى فيكون هو تأويل محمود ويكون هو بمعنى التفسير.
(صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ) الذي يتبادر للذهن، مثل ما مر معنا في الحديث القدسي «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني»، قد يتبادر للذهن أن الوصف للرب، لكن السياق دل على أن الوصف أن الذي مرض هو العبد، فوجدت القرينة، فإذا وجدت القرينة في السياق فحينئذٍ يكون صرفه عن المعنى المتبادر للذهن في أول وهلة إلى المعنى الذي جاء في السياق، هذا يكون تأويل صحيح وتأويل محمود وهو بمعنى التفسير.
أما إذا لم توجد القرينة مثل قول المتكلمين في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ، قالوا: الذي جاء هو الملك أو الذي جاء هو الأمر، أين القرينة؟ لا توجد، فنقول: هذا تأويل مذموم -هو التحريف-، طبعًا يدعون وجود القرينة، نقول: أين هي؟ قالوا: القرينة عقلية، هذه هي القرينة التي يدعونها وجود قرائن عقلية، نقول: هذا خلاف اللغة، وخلاف ظاهر القرآن، وخلاف ما عليه السلف، ودعوة القرائن العقلية سيفتح الباب لكل عابث بالقرآن وآيات الصفات وآيات المعاد وآيات الأحكام، هم يدعون هكذا وجود قرائن، فإذا سألتهم أين القرينة التي من أجلها صرفتم المجيء من مجيء الرب إلى مجيء الأمر أو الملك؟ قالوا: والقرينة هي قرائن عقلية، وهذا هو التأويل المذموم الذي هو التحريف.
قال: (وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَتَرْكِ تَأْوِيلِهَا؛ وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟) فيه تفصيل، التفصيل بحسب القرينة، هل القرينة معتبرة وموجودة في السياق؟ نقول: نعم، يقول من باب التفسير ويكون تأويل محمود، أو القرينة مدعاة خارج الدليل أو دعوة قرائن عقلية، ونقول هذا تأويل باطل، ولهذا المصنف -رحمه الله- طرح هذا السؤال بمعنى أنه هذا التأويل فيه تفصيل لبيان حكمه، هل هو مذموم أو ليس بمذموم؟ وسيعود مرة أخرى إلى الجواب عن هذا السؤال، هل هذا التأويل محمود أو مذموم أو حق وباطل؟ وهذا من باب العدل والإنصاف، في الحكم على مثل هذه المصطلحات.
هذا هو المعنى الأول التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك.
{قال -رحمه الله-: (الثَّانِي: أَنَّ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ - مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ - وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ وَمُجَاهِدٌ إمَامُ الْمُفَسِّرِينَ؛ قَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ" وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يَعْتَمِدُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ)}.
هذا هو المعنى الثاني الذي جاء في الآية على قراءة الوصل ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾ ، فعلى قراءة الوصل يكون التأويل بمعنى التفسير، قال: (وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ) كما سمى ابن جرير تفسيره بتأويل آي القرآن، ويقول: تأويل لا يقصد تأويل على اصطلاح المتكلمين، وإنما يقصد التفسير، وهذا الذي يستخدمه إمام المفسرين مجاهد، والذي قصده مجاهد من قوله: (عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِهَ)، بل جاء في بعض الروايات أنه عارضه ثلاث مرات، عن ابن عباس، قال: هو المصطلح السائد في كتب التفسير وعن أئمة التفسير يقصدون بالتأويل التفسير، ثم أثنى على مجاهد ومكانة مجاهد وأنه قال عنه الثوري: ("إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ" وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يَعْتَمِدُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَ).
قال: (فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ) أي: من أهل العلم المقصود أنهم يعرفون تفسيره، هذا هو المعنى الثاني.
{قال -رحمه الله-: (الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي التَّأْوِيلِ: هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا الْكَلَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ . فَتَأْوِيلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَادِ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بِهِ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ: مِنْ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ لَمَّا سَجَدَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ قَالَ: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ فَجَعَلَ عَيْنَ مَا وَجَدَ فِي الْخَارِجِ هُوَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَ)}.
وهذا المعنى الثالث هو على قراءة الوقف ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ ، لا يعلم الحقائق التي يؤول إليها إلا الله، لا يعلم الكيفيات إلا الله، قال: -: (الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي التَّأْوِيلِ: هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا الْكَلَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ . فَتَأْوِيلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَادِ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بِهِ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ: مِنْ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ)، وهذه الحقائق والكيفيات لا نعلمها، نعم نعلم المعاني ولكن الكيف لا نعلمه، فيدخل في هذا كل الأمور المتعلقة بالمعاد وما يتعلق بالصفات وأحوال القبور، فلا نعلم كيف هي، لأن ذلك من الأمور الغيبية، لأن الإنسان لا يعلم كيفية الأشياء إلا بمشاهدتها أو مشاهدة النظير، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله يدخل في ذلك كيفيات الصفات، يدخل في ذلك الأمور الغيبية، كيفية الملائكة، كيفية الجن، يدخل في ذلك أحوال الآخرة، كل ذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
ثم ذكر من معاني التأويل بمعنى أنه قد يكوكن في الأخبار وقد يكون فيما يقع في أخبار الدنيا وقد يكون في الأوامر، (كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ لَمَّا سَجَدَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ قَالَ: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ فَجَعَلَ عَيْنَ مَا وَجَدَ فِي الْخَارِجِ هُوَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَ) أي حقيقتها، متى تحققت؟ لما وقعت.
{قال -رحمه الله-: (فالتأويل الثَّانِي: هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ أَوْ تُعْرَفَ عِلَّتُهُ أَوْ دَلِيلُهُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ هُوَ عَيْنُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ)}.
كأنه يقول: هل ثَمَّ وجود تناقض بين التأويل الذي بمعنى التفسير والتأويل الذي بمعنى الحقيقة؟ لا تعارض بينهم، هذا له معنى وهذا له معنى، بمعنى أنه لا يوجد.
قال: (فالتأويل الثَّانِي: هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ) التفسير المتعلق بالمعنى، أما الثالث فهو المتعلق بالحقائق، قال: (فالتأويل الثَّانِي: هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ) ولهذا نقول معاني الصفات معروفة، ومعاني أمور الآخرة والنعيم في الجنة معروفة، فهذا هو التأويل الذي هو تفسير المعنى فهو معلوم، حتى يفهم وإلا كيف يفهم القرآن؟ كيف يتدبر القرآن؟ كيف تفهم معاني الصفات إذا كنا لا نعرف معناها؟ فالتفسير الذي يفسر به اللفظ سواءً ما يتعلق بالصفات أو أمور الآخرة وأحوال القبر، (حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ أَوْ تُعْرَفَ عِلَّتُهُ أَوْ دَلِيلُهُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ هُوَ عَيْنُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ).
{(وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ. "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ يَعْنِي قَوْلَهُ: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ» وَقَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عيينة: السُّنَّةُ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ)} تأويل الأمر بمعنى الامتثال، فهذا التأويل الذي هو تأويل الأمر هو امتثاله، ولهذا لما نزل قوله -عز وجل- في سورة "العصر" ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» بمعنى أنه يمتثل ما جاء في القرآن، (كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ) أي يمتثل الأمر (يَعْنِي قَوْلَهُ: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ» وَقَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عيينة: السُّنَّةُ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) يعني تحقيقه وامتثاله، أنه يمتثل الأمر ويجتنب النهي، هذا فيما يتعلق بالأمر والنهي.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ: هُوَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِهِ وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ وَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَأَمْرٌ وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ: الْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَعْلَمُ أَتْبَاعُ أبو قراط وَسِيبَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَقَاصِدِهِمَا مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ)}.
هنا المصنف -رحمه الله- يفرق بين التأويل "الأمر" والتأويل "الخبر"، تأويل الأمر امتثال، (فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ) فتأويل الأمر امتثاله كما امتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ ، وقال سفيان: السنة هي تأويل الأمر والنهي أي امتثاله وتطبيقه، (وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ وَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَأَمْرٌ) كما تقدم في أول الرسالة، كما تقدم الخبر يدور بين التصديق والتكذيب والأمر يدور بين الامتثال وعدمه.
(وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ) من أهل اللغة والفقه: (الْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ) الفقهاء أعلم بالتأويل أي: بتفسيره وحقائق الأمر وحقائق النهي، لماذا هم أعلم من أهل اللغة؟ لأنهم يعرفون المصطلحات الشرعية ويعرفون المقاصد الشرعية، ولهذا لو أتيت لصاحب اللغة الذي لا يعرف المصطلحات الشرعية ربما فسرها تفسيرات واسعة، فأهل الفقه وأهل العلم أعلم بالحقائق الشرعية، مثلاً مسمى الإيمان، مسمى الإيمان في الشرع له معنى خاص وليس كالمعنى الواسع الذي هو في اللغة، معنى الزكاة، فصاحب اللغة لم ينظر الزكاة تكون عنده معاني كثيرة متعددة، لكن صاحب الشريعة يعرف ماذا يقصد بالزكاة.
فيقول: (الْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ) لهذا لا يمكن أن تأتي لصاحب لغة وتقول له فسر لي القرآن وهو ليس عنده خلفية شرعية؛ لأن المصطلحات الشرعية للمقاصد الشرعية قد لا يدركها صاحب اللغة، بخلاف الذي عنده الفقه والعلم فهو يعرف المصطلحات الشرعية.
(كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ) علل لماذا الفقهاء أعلم بتأويل القرآن من أهل اللغة؟، قال: (لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ) لماذا؟ (لِعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولهذا أيهما أعلم بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة أو المتأخرين؟ الصحابة شهدوا بالتنزيل وأهل اللغة وهم أعلم بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا الذي يعلم مقاصد الشريعة هم أهل الشريعة، وكلما كانت هذه المقاصد جاءت عن الصحابة وكبار الأئمة لا شك أنها أولى وأقرب بمن جاء من المتأخرين.
علل لماذا الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة؟ لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به، يعرفون الأحكام والأوامر، ولهذا لاحظ لما أنت تريد أن تسأل عن حكم فقهي تسأل العلماء، ما تسأل غيرهم، لأن العالم هو أعلم بمقاصد الشريعة وأعلم بالتفسير وأعلم بفهم أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وفقه الأحاديث.
(لِعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثم مثل: (كَمَا يَعْلَمُ أَتْبَاعُ أبو قراط وَسِيبَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَقَاصِدِهِمَا مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ) وهذا في كل فن، لاحظ في فن الطب الآن من الذي يعرف مقاصد الأطباء؟ هم الأطباء والصيادلة وغيرهم لا يعرف، من الذي يعلم بمقاصد علم الكيمياء والفيزياء والرياضيات؟ الكيميائيين والفيزيائيين، غيرهم لا يعرف، سمة اصطلاحات في العلم لا يعرفها إلا أهل الاختصاص، فأهل الاختصاص يعرفون، فأنت لما تأخذ وصفة طبية وتذهب بنفسك تقرأها أنت لا تفهم الرموز الموجودة والمصطلحات، بينما أهل الطب والصيادلة يفهمون هذه المصطلحات، فهو يقول كل علم فيه مصطلحات لا يفهمها إلا أهل العلم، بما في ذلك المصطلحات الشرعية، فهذا التأويل الذي يعلمه العلماء لماذا؟ لأنهم يعرفون مقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومقاصد الشريعة.
{قال -رحمه الله-: (وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ)}، هو ذكر الفرق هنا بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر، تأويل الأمر لابد من معرفته، لماذا؟ لأنه يترتب عليه امتثال، فلابد من معرفته حتى تتمثل، ولأنه يجب العمل به ويجب الانتهاء عما أنهى عنه، فيجب معرفة الأمر والنهي تأويل أي تفسيره وحقيقته، حقيقة الأمر وكيف تطبق الأمر، حقيقة النهي وكيف تمتثل الأمر، يقول: (وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ) لأجل العمل به والتطبيق (بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ) أنت تؤمن بمعناه ولكن ما تعلم الحقائق والغيبيات، هذا أمرها إلى الله -تبارك وتعالى-، فذكر الفرق بين تأويل الأمر والنهي وبين تأويل الأخبار.
ثم ذكر فائدة هذا المعنى الثالث من معاني التأويل، وهذا التفصيل ما فائدته، قال.
{أحسن الله يا شيخنا، هل أذنتم لي في سؤال؟ هل ممكن يقال: إن التأويل بخلاصة يعني المعنى الثالث أنه مطابقة الواقع امتثالًا أو خبرًا؟}
طبعًا فيه أوامر إذا قصدت الأوامر فنعم، إذا قصدت الأخبار فالأخبار تتعلق بالكيفيات التي لا نعلمها، أما الأوامر هي مطابقة الأمر، امتثال الأمر كما هو، واجتناب النهي كما جاء، فيما يتعلق بالأخبار، فالأخبار هو يصدق المعنى لكنه ما يتعلق بتأويلها ووقوع الأمور الغيبية هذه أمرها إلى الله.
{لكن نحن نقول حتى الأخبار نؤمن أنها ستقع}.
صحيح نعم من حيث الوقوع ومن حيث الصدق فيها.
{أحسن الله إليكم}.
{قال -رحمه الله-: (إذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الصِّفَاتِ وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلِهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وماءً وَخَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ تَشَابُهٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَجْلِهَا الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ، وَلَا حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ)}.
هنا بدأ في التطبيق على التأويل بالمعنى الثالث وفائدة معرفة هذا المعنى الثالث، قال: (إذَا عُرِفَ ذَلِكَ) إذا عرف هذا التفصيل وهذا التفريق بين التأويل الذي هو بمعنى التفسير والتأويل الذي هو بمعنى الحقائق، قال: (إذَا عُرِفَ ذَلِكَ: فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ) الذي هو حقائق الأسماء والصفات والغيبيات، (الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ) بمعنى أن حق وحقيقة والكيف لا نعلمه، ولهذا قال: (وَلِهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ) فنعمل إن كان أمر نمتثله وإن كان نهي ننتهي عنه وإن كان خبر نصدقه ونؤمن بأنه حق.
يقول: (نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ) وهذه طريقة الراسخين في العلم، لا يفرقون بين المحكم والمتشابه أو لا يردون المحكم لأجل المتشابه، بل يردون المتشابه للمحكم، ثم علل، لماذا نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه؟
قال: (لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ) من حيث الإطلاق العام، مثل: أسماء النعيم في الجنة، (يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَ) من جهة القدر المشترك العام، لكن الحقائق عند التقييد والإضافة والتخصيص مختلفة لكنها حق، ولهذا لما نقول أهل السنة والجماعة يقولون من غير تكييف لا ينفون الكيفيات، وإنما ينفون العلم بالكيفيات، قال: ( كَمَا أَخْبَرَ) ضرب مثال لتوضيح القاعدة ( كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وماءً وَخَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ) نعرف هذه المعاني، (وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ) وهذا هو الشق الثاني، هو حقيقة ولكن ليس كحقيقة أو كيفية ما هو موجود الدنيا، ولا حقيقته كما كحقيقة ما موجود في الدنيا، ثم ضرب مثال آخر أيضًا تطبيق للقاعدة، (فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى) وهذا في المثل الأول الذي مر معنا في مقدمة الكتاب، لما ضرب المثل بنعيم الجنة، قال: (فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى) يعني إذا كنا نؤمن بالنعيم الذي في الجنة ولا يماثل نعيم الدنيا، كذلك نؤمن بأسماء الرب وصفاته ولا تماثل أسماء وصفات المخلوقين، (وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ تَشَابُهٌ) من حيث القدر المشترك الذي لأجله يفهم المعنى (أَنْ لَا يَكُونَ لِأَجْلِهَا الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ، وَلَا حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ).
{قال -رحمه الله-: (وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْغَائِبِ لَا يُفْهَمُ إنْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِدِ وَيُعْلَمُ بِهَا مَا فِي الْغَائِبِ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِمَا فِي الشَّاهِدِ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْغَيْبِ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْلَمُ فِي الشَّاهِدِ)}.
وهذه القاعدة سبقت، يعني قد يقال: ما فائدة هذا القدر المشترك؟ فائدة هذا القدر المشترك لأجل أن تفهم المعاني، فيقول: (وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْغَائِبِ لَا يُفْهَمُ إنْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ) فلأجل أن تفهم معاني الأسماء ومعاني الصفات ويفهم النعيم وأحوال الآخرة يعبر عنه بالأسماء المعلومة لنا في الدنيا، هذه فائدة الإخبار عن الأمور المغيبات بالأسماء المعلومة لنا، وهذه القاعدة أعادها وأكد عليها وقد ذكرها سابقًا.
{قال -رحمه الله-: (وَفِي الْغَائِبِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَنَحْنُ إذَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِالْغَيْبِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ: مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَلِمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ وَفَهِمْنَا مَا أُرِيدَ مِنَّا فَهْمُهُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ وَفَسَّرْنَا ذَلِكَ وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْلَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بَعْدُ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)}.
إذاً المعنى معلوم، والحقيقة الكيفية مجهولة، هذا الذي قصده من هذه القاعدة، فكل ما يتعلق بأمور الآخرة نعلم ذلك من جهة المعاني وإلا كيف نؤمن بها؟ كيف نتدبرها؟ فهي معلومة لنا ولهذا الغرض أخبر عن الأمور الغيبية بما هو معلوم لأجل معرفة المعاني وفهم المعاني، وأما ما يتعلق بالحقائق والكيفيات فهذا هو الذي لا يعلمه إلا الله.
{قال -رحمه الله-: (وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْلَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بَعْدُ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْله تَعَالَى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قَالُوا: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ قَبْلَهُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَمِنْ اللَّهِ الْبَيَانُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ)}.
وهذا تأكيد للقاعدة، أن المعاني معلومة والكيفيات مجهولة بالنسبة لنا، وهذا سبق معنا في صفحة 43 في الأصل الثاني وكرره هنا أيضًا ويعتبر قاعدة في جميع الصفات، فبين أن الاستواء معلوم من جهة المعنى خلافًا لمن يقول غير معلوم من المفوضة والمعطلة، وأما الكيفيات فهي مجهولة خلافًا للمشبهة.
{(وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ، وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك»، وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِه)}.
وهذه أدلة ماذا؟ أدلة على أن الكيفيات مجهولة، بعد أن ذكر الأدلة على الوجه الأول المعاني معلومة، ذكر الأدلة على الوجه الثاني ومنها قوله -عز وجل-: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْم﴾ [طه: 110]، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ومنها هذه الأحاديث التي تبين أن الكيف مجهول.
{(وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك»، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ، وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ فَمَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ).
هذا وجه آخر، أيضًا من الأمور التي لا نعلمها من الأسماء التي استأثر الله -عز وجل- بها، ومن الأشياء التي لا نعلمها معاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها، ومن الأشياء التي نعلمها الصفات التي استأثر الله -عز وجل- بعلمها، سمة أمور لا نعلمها، لا يعلمها إلا هو.
{(وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. فَنَحْنُ نَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا اتَّفَقَتْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَعَانِيهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ مُتَبَايِنَةٌ مِنْ جِهَةِ الصِّفَاتِ)}.
وهذا أيضًا يؤكد ما سبق، يؤكد القاعدة أن الصفات معلومة المعنى، العلم والقدرة والرحمة والسمع والبصر ليس جامدة أو لا معنى، بل لها معاني معلومة وتنوعت في معانيها، فهي معلومة المعنى، أما ما يتعلق بالكيفيات فهذه أمرها إلى الله، يقول: (فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ) أي دلالتها على ذات الرب، كلها صفات لذات واحدة، ومن جهة المعاني فهي مختلفة، فمعنى العلم يختلف عن معنى القدرة يختلف عن معنى الرحمة يختلف عن معنى البصر.
{(وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ. وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّنْزِيلِ وَالشِّفَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَرَادِفَةِ - لِاتِّحَادِ الذَّاتِ - أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَبَايِنَةِ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ؟ كَمَا إذَا قِيلَ: السَّيْفُ وَالصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ وَقُصِدَ بِالصَّارِمِ مَعْنَى الصَّرْمِ وَفِي الْمُهَنَّدِ النِّسْبَةُ إلَى الْهِنْدِ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ فِي الذَّاتِ مُتَبَايِنَةٌ فِي الصِّفَاتِ)}.
ذكر هذه الأمثلة ما يتعلق بأسماء الرب وما يتعلق بأسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما يتعلق بأسماء القرآن تحت قاعدة، هل أسماء الرب مترادفة أم متباينة؟ هل أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم- مترادفة أم متباينة؟ هل أسماء القرآن الكريم مترادفة أم متباينة؟
الذي يقول بمعنى أنه لا فرق بينه من جهة المعاني يعتبرها كلها مترادفة غير متباينة، والذي ينظر إلى معنى هذه الأسماء فهو يقول بأنها متباينة من حيث المعنى ومترادفة من حيث الدلالة على الذات، فهكذا يقال في هذه الأمثلة الثلاثة، فأسماء الرب هي مترادفة من وجه ومتباينة من وجه، مترادفة يعني أنها بمعنى واحد، كلها تدل على ذات واحد، متباينة من حيث المعاني وهذا عند أهل اللغة وعند العقلاء قاطبة، فمن حيث المعاني هي متباينة، فمعنى العليم يختلف عن معنى السميع يختلف عن معنى البصير.
هكذا أيضًا مما يوضح هذه القاعدة أيضًا، أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلما يقال: محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب، هل هذه الأسماء لها معاني مختلفة؟ نعم معاني مختلفة يعرفها أهل اللغة ولكنها تدل على اسم واحد وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهي متباينة من وجه مترادفة من وجه، هكذا فيما يتعلق بوصف القرآن الكريم وأسماء القرآن، لما يوصف بالفرقان والهدى والنور والتنزيل والشفاء إلى غير ذلك من الأوصاف، هل هذه الأوصاف والأسماء مختلفة من حيث معانيها؟ نعم الفرقان له معنى، والهدى له معنى، والنور له معنى، والتنزيل له معنى، والشفاء له معنى، والنور له معنى، فكل اسم وكل صفة لها معنى يخصها، فهي متباينة من حيث المعاني، ولكنها تدل كلها على كتاب واحد.
يقول: (وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَ) عموماً (هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَرَادِفَةِ - لِاتِّحَادِ الذَّاتِ) كلها تدل على شيء واحد، أسماء الرب تدل على ذات الرب، أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم- تدل على الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، أسماء القرآن كلها تدل على كتاب واحد، (هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَرَادِفَةِ - لِاتِّحَادِ الذَّاتِ - أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَبَايِنَةِ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ؟ كَمَا إذَا قِيلَ) ضرب مثال آخر: (السَّيْفُ وَالصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ وَقُصِدَ بِالصَّارِمِ مَعْنَى الصَّرْمِ وَفِي الْمُهَنَّدِ النِّسْبَةُ إلَى الْهِنْدِ)، قال: (وَالتَّحْقِيقُ) يعني الجواب عن هذا السؤال إذا سُئل هل أسماء الرب مترادفة أم متباينة، (وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ فِي الذَّاتِ) في دلالتها على الذات، (مُتَبَايِنَةٌ فِي الصِّفَاتِ) وهذا يرد به على المعطلة والمفوضة.
المفوضة يقولون أنها لا معنى لها، مترادفة كلها من حيث المعاني، وكذلك المعطلة عموماً الذين عطلوا صفات الرب.
هذا ما يتعلق بالتطبيقات على هذه القاعدة التي عنون لها بأن نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، الوجه الذي نعلمه هو المعاني، والوجه الذي لا نعلمه هو الكيفيات، وبهذا يرد على المفوضة ويرد على المشبهة ويرد على المعطلة المحرفة ويبين صحة مذهب السلف الذي دلت عليه هذه الأدلة من كتاب الله ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والآثار المروية عن أئمة التفسير وعن صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين وإياكم والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات جميعًا.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك