الدرس التاسع عشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2011 22
الدرس التاسع عشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" فأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات، والأبناء الطلاب والطالبات في برنامج البناء العلمي، وفي جمعية الأكاديمية الإسلامية المفتوحة في درس العقيدة ونحن في الدرس التاسع عشر في الشرح والتعليق على كتاب الرسالة التدمرية في تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين الشرع والقدر، أسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لما يحب ويرضى.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرسالة التدمرية: (فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا. فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم.
بعد أن انتهى المصنف -رحمه الله- من توضيح حقيقة الإثبات للأسماء والصفات، وبيَّن عقيدة السلف والأئمة في هذا الباب وفي هذا الأصل، وضوابط الإثبات وضوابط النفي، ثم ردَّ على المنحرفين والزائغين عن طريق الرسل في هذا الباب، وناقشهم مناقشة شرعية وعقلية في ضلالهم وانحرافهم ومنشأ الضلال والانحراف في هذا الباب، واستغرق معه ثلثي الكتاب في مقدمة لهذا الأصل، ثم في أصلين شريفين، ثم في مثالين، ثم في سبع قواعد جامعة نافعة.
انتقل إلى الأصل الثاني الذي كان عنه السؤال، ولهذا نعود إلى مقدمة الكتاب في الصفحات الأولى، حيث سُئل شيخ الإسلام أن يكتب لهم مضمون ما سمعوه منه في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وهذا سبق في الفصل الأول، وفي الشرع والقدر وهذا هو الأصل الثاني، ثم بيَّن أهمية هذين الأصلين، قال: (لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ) يعني: تحقيق الإيمان لهذين الأصلين، ودفع الشبه التي ترد في هذين الأصلين، وسبب ضلال انحراف الزائغين لهذين الأصلين العظيمين.
ثم قال: (وَكَثْرَةِ الِاضْطِرَابِ فِيهِمَ) يعني: كثرة من ضل وزاغ في هذين البابين الشريفين، (فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إلَيْهِمَا وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادِ: لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاطِرِ وَالْأَقْوَالِ مَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى بَيَانِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ) وهي القواعد والضوابط والأصول والأدلة التي بينها ليفرق بها بين الحق والباطل، قال: (لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ تَارَةً وَبِالْبَاطِلِ تَارَاتٍ وَمَا يَعْتَرِي الْقُلُوبَ فِي ذَلِكَ: مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي تُوقِعُهَا فِي أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ).
وتبين لنا أنواع الضلالات التي حصلت في الباب الأول، وسيبين أنواع الضلالات التي حصلت في الباب الثاني، ثم ذكر الفرق بين الأصلين، فقال: (فَالْكَلَامُ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ: هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْكَلَامُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ: هُوَ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ نَفْيًا وَإِثْبَاتً)، ثم ذكر أدلة التفريق بين هذين الأصلين، ثم ذكر الواجب في كل أصل، قال: (وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ) أي: الواجب في الأصل الثاني، (وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ).
ثم ذكر الواجب في الأصل الثاني، الذي سيكون الحديث عنه هنا، قال: (وَلَا بُدَّ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ) خلقه المتعلق بالقدر، وأمره المتعلق بالشرع، ولا تعارض ولا تناقض بينهما، (فَيُؤْمِنَ بِخَلْقِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَيُثْبِتَ أَمْرَهُ الْمُتَضَمِّنَ بَيَانَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ: مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ)، وهو الخلل والضلال والزيغ الذي سيذكره في هذا الباب ممن حصل من المنتسبين للإسلام.
ثم ذكر الأصل الثاني، (وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ: وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ) الإخلاص والكافرون.
هذا ما ذكره في المقدمة مما يوضح المراد هنا، بعد أن حقق القول في الأصل الأول،
انتقل إلى الأصل الثاني، قال: (فَصْلٌ وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي) وهو المتعلق بتوحيد العبادة، وعبر عنه بالشرع والقدر، قال: (وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعً) أي: يؤمن بهما جميعًا ولا تعارض ولا تناقض بينهما؛ لأنه وجد من توهم التعارض بين القدر والشرع، فأخذ بالقدر وترك الشرع، ومنهم من عكس، فأخذ بالشرع ونفى القدر، وهؤلاء هم الجبرية والقدرية وهم طرفي نقيض، كما وجد في الباب الأول المعطلة بأصنافهم والمشبهة في الطرف النقيض، هنا في هذا الأصل وجد الجبرية في طرف والقدرية في طرف آخر، وكل من هؤلاء دركات في الضلال والانحراف، فلا بدَّ من الإيمان بالشرع والقدر جميعًا، وسيبين حقيقة الفرق بينهما وأنه لا تعارض بين قدر الله وشرعه.
(فَنَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ)، الخلق متعلق بالقدر، والأمر متعلق بالشرع، هنا بدأ ببيان الواجب في الشرع والقدر اعتقادًا وعلماً، ثم بعد ذلك سيبين الواجب فيهم عملاً، فابتدأ في بيان الواجب فيهم علماً واعتقادًا، وبدأ بالقدر، قال: (فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ)، وهذه مراتب القدر الأربعة: العلم والكتابة والمشيئة والخلق.
العلم، أي: يؤمن بأن الله -عز وجل- يعلم كل شيء أزلاً وأبدًا، جملة وتفصيلا، ما يتعلق بفعل وأفعال العباد، علم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، علم ما كان في الماضي، وما يكون في الحاضر، وما سيكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم المستحيل الذي لم يقع لو قع كيف يقع لكمال علمه، ومن ذلك علمه بأفعال العباد، وهذا أمر مُهم؛ لأنَّ النقاش هنا هو في علم الله بأفعال العباد، وفي كتابه لأفعال العباد، وفي مشيئته لأفعال العباد، وفي خلقه لأفعال العباد، بمعنى أنه لا يوجد من ينفي العلم المطلق أو ينفي الكتابة المطلقة أو ينفي المشيئة المطلقة أو ينفي الخلق المطلق، هذا لا يوجد، الإشكال عند القدرية فيما يتعلق بأفعال العباد من طاعات ومعاصي، وهذا هو موضع النقاش، وموضع النزاع والخلاف فيما يتعلق بأفعال العباد، ولهذا المصنف هنا يثبت عموم العلم لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، والكتاب لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، والمشيئة لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، والخلق بما في ذلك أفعال العباد، فهي مخلوقة لله -تبارك وتعالى- من طاعات ومعاصي.
ولهذا ورد عن الشافعي أنه قال: "نَاظَرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خُصِمُوا وَإِنْ جَحَدُوهُ كَفَروا"، والقدرية يقصد بهم نُفاة القدر، خاصة الأوائل منهم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي، الذين نفوا العلم والكتابة والمشيئة والخلق لأفعال العباد، فيقول: "ناظروا القدرية بالعلم" أي: بعلم الله، فيقال لهؤلاء القدرية:

هل الله يعلم ما أنتم فاعلوه غداً أو لا يعلم؟
هل الرب -تبارك وتعالى- يعلم ما أنت فاعله غداً أو لا يعلم؟ بماذا سيجيب؟
إن أقر خصم وإن أنكر كفر، "ناظـروا القدريّـة بالعلـم، فـإن أقـرُوا بـه خِصُمـوا، وإن أنكروه كفـروا".
ثم استدل بالأدلة التي تدل على عموم العلم وعموم الكتابة وعموم المشيئة وعموم الخلق، فاستدل بقوله تعالى: (﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ )، وهذا عام لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، وأيضًا الكتابة عامة بما في ذلك أفعال العباد، (وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي: في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: («إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»)، وهذا التقدير العام شامل لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، وهذا التقدير العام هو سر الله في خلقه لم يطلع عليه أحد، لا ملكٌ مُقرب ولا نبي مُرسل ولا يُغيَّر ولا يُبدَّل.
ثم انتقل بعد ذلك إلى ذكر الواجب في القدر اعتقاداً، ذكر الواجب في الشرع اعتقاداً فقال:
{قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَعِبَادَتُهُ تَتَضَمَّنُ كَمَالُ الذُّلِّ وَالْحُبِّ لَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ فَأَمَرَ الرُّسُلَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ وَالْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا؛ إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ»)}.
قال بعد بيان الواجب في القدر اعتقادًا: (وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) أي: كما يجب الإيمان بمراتب القدر الأربع، كذلك يجب الإيمان بشرعه -عز وجل- وأنه لا تعارض بينهما، (وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)، ثم بيَّن أهمية العبادة (كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ) لقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، (وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ) كما سيأتي بالآيات التي ذكرها: (﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ )، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وكل رسول يقول لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ﴾ ، بل أول أمر في كتاب الله أمر الله به في سورة "البقرة" ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21].
فالواجب مع الإيمان بمراتب القدر الأربع، أيضًا يجب الإيمان، أي: التصديق الجازم والاعتقاد الذي يلزم منه الامتثال والعمل، (أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ)، إذاً العبادة لا تكون مقبولة عند الله إلا إذا كانت خالصة، أما إذا عبد الله وعبد غيره فهي وإن سميت عبادة من جهة اللغة فهي ليست عبادة من جهة الشرع، فلا تكون عبادة إلا إذا كانت خالصة لله، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، (كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ).

ثم عرَّف العبادة، ما العبادة؟ العبادة تعرف من وجهين، تعرف من جهة ذاتها وتعرف من جهة أنواعها، فمن جهة ذاتها: هي التذلل والخضوع لله محبة وتعظيمًا، ومن جهة أنواعها عرفها شيخ الإسلام في كتاب العبودية في قوله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة"، إذاً العبادة يمكن أن تعرف باعتبارين: باعتبار ذاتها وباعتبار أنواعها، كما أن الواجب يمكن أن يعرف باعتبارين، فيقال الواجب ما أمر به على جهة الإلزام، ويقال: الواجب ما يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه، كلاهما تعريف صحيح، لكن هنا عرفته باعتبار وهنا عرفته باعتبار، وهكذا العبادة يمكن أن تعرف من جهة ذاتها، فيقال: هي كمال الذل والحب له، أو يقال: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
قال: (وَذَلِكَ) أي: هذه العبادة، (وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ -عز وجل- ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ ) وهذا تنبيه مهم: أن طاعة الرسول هي طاعة لله، لماذا؟ لأن الله -عز وجل- قد أمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا جُعلت الشهادتان، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ركناً واحدًا، الركن الأول من أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله للتلازم بينهما، والعبادة لا تقبل إلا بشرطين، بالإخلاص والمتابعة، والإخلاص تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والمتابعة تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله.
فلذلك طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة لله، ولهذا انظر كيف نبه لهذه القاعدة المهمة، قال: (﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ )، ولهذا الذي يدعي أنه يحب الله ويطيع الله، ثم يخالف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، نقول: هذا ما أطاع الله، ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن أطَاعَنِي فقَدْ أطَاعَ اللَّهَ، ومَن عَصَانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ»، فطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة لله، ولهذا نبه لهذا الأمر المهم، وهو قوله: (﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ )، ثم ذكر الأدلة على ذلك: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ).
ولهذا لو احتج محتج، وقال: إنَّ السنة لا يُستدل بها وإنما هو يُستدل بالقرآن، كما هو يوجد عندما يسمون أنفسهم بالقرآنيين، نقول: هذه الدعوة دعوة كاذبة يكذبها القرآن، فالله يقول في كتابه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: 64]، فإذا كنت تزعم أنك تتبع القرآن، فيلزمك أن تتبع السنة وإلا أصبحت هذه الدعوة لا دليل عليها.
(وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ )، وهذه الآية تسمى بآية المحبة وتسمى بآية المحنة، ادعى قوم محبة الله، فامتحنهم الله بهذه الآية، ولهذا كل مدعي لمحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكل مدعي لمحبة الله، ثم هو لا يتبع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنقول: دعواك هذه باطلة لا دليل عليها، بدليل أن الله قال: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ، فدليل صدق محبة الله ومحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو إتباعه -عليه الصلاة والسلام-.
وقال أيضًا في الدليل الثالث: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ )، وهذه بينت حقيقة العبادة وأنها يجب أن تكون خالصة لله، وقال: (﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ )، ولاحظ أيضًا هذا يدل على أن (لا إله إلا الله) تدل على معنى العبادة وليس معنى الربوبية فقط كما يدعيه المتكلمون.
ثم أيضًا لاحظ كيف نوع الأدلة: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ﴾ )، وفي قوله: ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ فالاختلاف والتفرق حصل في الأمم السابقة، وحصل أيضًا في بعض المنتسبين للدين في هذه الأمة، وهو التفرق والاختلاف، ولهذا مر معنا كيف حصل التفرق والاختلاف في باب الأسماء والصفات، وهكذا حصل التفرق والاختلاف في باب العبادة، فمنهم من فسر العبادة بالتوحيد والربوبية، وهذا هو الاختلاف الذي نهى الله عنه، وهذا هو التفرق الذي نهى الله عنه.
قال: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحً﴾ )، ومتى يكون العمل صالحاً؟ إذا كان خالصاً لله موافقاً لشرعه، ولهذا قُيد العمل في كثير من الآيات في القرآن العظيم بالصلاح، ﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر: 1- 3]، فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان خالصاً لوجه الله موافقاً لشرعه.
(﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ )، ثم قال معقبًا على هذه الآيات مبينًا وجه الاستدلال بها: (فَأَمَرَ الرُّسُلَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وما حصل من افتراق في باب الأسماء والصفات وكذلك في باب التوحيد هو التفرق والاختلاف الذي نهى الله عنه، (وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ») أي من جهة التوحيد والعقيدة، («وَالْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ»)، العلات أي: الضرات، أي: إخوة لأب، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وقصد بالأب التوحيد وقصد بالأمهات الشرائع، وهذه من الأمثال النبوية لتقريب الفهم، فالأنبياء كلهم دعوا إلى عقيدة واحدة واختلفوا في الشرائع، هنا ضرب بهم هذا المثل، «إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ» أي: الضرات أو الجارات أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، ثم قال: («وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا؛ إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ»).
{قال -رحمه الله-: (وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ . وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ إلَى قَوْلِهِ؛ ﴿إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ وَقَالَ عَنْ مُوسَى: ﴿يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ وَقَالَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُو﴾ وَقَالَ عَنْ بلقيس أَنَّهَا قَالَتْ: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ )}.
بعد أن قرر الواجب في الشرع اعتقادًا والواجب في القدر اعتقادًا، ثم بيَّن حقيقة العبادة وهي التذلل والخضوع لله، وأن طاعة الرسول هي طاعة لله -تبارك وتعالى- وذكر الشواهد، ذكر أنَّ هذا الدين بهذا المفهوم الذي هو التذلل والخضوع لله مع كمال المحبة وكمال التعظيم هو الدين الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وهو الإسلام بالمعنى العام، قال: (وَهَذَا الدِّينُ) الذي سبق تعريفه وذكره في قوله: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ﴾ [الشورى: 13]، هذا الدين الذي هو تذلل وخضوع لله مع المحبة والتعظيم، والذي هو طاعة الرسل والذي هو تقرب إلى الله -عز وجل- بما شرعه، هذا الدين بهذا المفهوم وبهذا المعنى هو دين الإسلام بالمعنى العام الذي لا يقبل الله دينًا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين، بهذا المعنى الذي هو تذلل وخضوع لله وامتثال أوامره واجتناب زواجره، لا من الأولين ولا من الآخرين.
ثم ذكر على أن هذا الدين بهذا المعنى هو دين الأنبياء جميعًا، ذكر ثلاثة أدلة.
الدليل الأول: أنَّ جميع الأنبياء على دين الإسلام بهذا المعنى، هذا هو دين الأولين، قد يقول قائل: كيف أن جميع الأنبياء على دين الإسلام؟ ذكر الشواهد بذلك، الشاهد الأول: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ )، إذاً نوح -عليه السلام- من المسلمين، وقد دعا إلى الإسلام بالمعنى العام.
وأيضًا قال عن إبراهيم، وإبراهيم خليل الرحمن (﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ إلَى قَوْلِهِ﴿فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ) إذاً إبراهيم -عليه السلام- هو على دين الإسلام.
الشاهد الثالث: (وَقَالَ عَنْ مُوسَى) كليم الرحمن الذي أرسل إلى بني إسرائيل: (﴿يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ ) فإذاً -عليه السلام- على الإسلام، (وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ) -عليه السلام- وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، : ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ ) إذاً الحواريون شهدوا بأنهم مسلمون، (وَقَالَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ) عموماً، ذكر خواص الأنبياء، ثم ذكر العموم (﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُو﴾ )، إذاً هذه الشواهد تدل على أن الأنبياء جميعًا على دين الإسلام، (وَقَالَ عَنْ بلقيس أَنَّهَا قَالَتْ: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ )، ﴿وَأَسْلَمْتُ﴾ إذاً هي على الإسلام، فهذا الدليل الأول: أن جميع الأنبياء على دين الإسلام بهذا المعنى العام الذي هو تذلل وخضوع لله مع المحبة والتعظيم والذي هو طاعة لرسل الله.
ثم بيَّن معنى الإسلام الذي جاء في هذه الآية.
{قال -رحمه الله-: (فَالْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ)}.
هذا هو حقيقة الإسلام بالمعنى العام، فالإسلام بهذا المعنى الذي جاء في هذه الآيات والذي هو دين الأنبياء جميعًا دعا إليه نوح، ودعا إليه إبراهيم، ودعا إليه موسى، ودعا إليه عيسى، وجميع الأنبياء السابقين هو الاستسلام لله وحده، يعني: انقياد لله، اعتقادا وقولاً وعملاً، امتثال لأوامره التي جاءت على ألسنة رسله، واجتناب لزواجره التي جاءت على ألسنة رسله، هذا هو الإسلام بالمعنى العام، استسلام لله، انقياد واعتقاد وامتثال في الباطن والظاهر.
قال: (فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ) فهذا هو المشرك، (وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ) فهذا هو المستكبر عن عبادته، فأصبحت الأصنام ثلاثة، المستسلم لله وحده لا شريك له، هذا هو المسلم، من استسلم له ولغيره هذا هو المشرك، وهو الذي عليه المشركون في زمن النبوة، من لم يستسلم لله (كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ) وهذا الذي يسمى بالكافر ويسمى بالملحد، لا يعبد الله أصلاً.
قال: (وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ) كلاهما من جهة الحكم كافر، وإن كان المشرك يعبد الله ويعبد غيره، والملحد لا يعبد الله أصلاً، لكن في الحكم كلاهما كافر، قال: (وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ)، فبين حقيقة الشرك وحقيقة الكفر، وحكم الشرك والكفر، وحقيقة الاستسلام لله وحده، وأنه يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده، وقصد بهذا أن يُبَيِّنُ حقيقة العبادة؛ لأن هذا التأصيل سيحتاجه في الرد على المتكلمين الذي جعلوا التوحيد هو الإقرار بالربوبية فقط، ولهذا كما أنه أَصَّلَ للباب الأول أَصَّلَ أيضًا لهذا الباب لأجل أن يرد على المتكلمين الذين انحرفوا وضلوا ضلالاً كبيراً في هذا الباب العظيم.
فإذاً هذا هو الإسلام وهذا هو التوحيد يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده وطاعة الرسل هي طاعة لله، ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ ، ومن عصى الرسول فقد عصى الله.
{قال -رحمه الله-: (فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ؛ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ: كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ فَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ؛ وَإِنَّمَا تَنَوُّعُ بَعْضِ صُوَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ وَجْهُ الْمُصَلَّى فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ)}.
وهذا الحقيقة توضيح مهم، قال: (فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ) وهو التوحيد وهو العبادة، التوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، فهذا الإسلام بهذا المعنى هو التوحيد الذي أرسل الله به الرسل جميعًا، وهو دين الإسلام الذي أرسل الله به الرسل جميعًا، وحقيقته قال: (وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) يعني: لا يقال إن شريعة نوح تختلف عن شريعة إبراهيم، تختلف عن شريعة موسى، تختلف عن شريعة عيسى، نقول: نعم، ولذلك طاعته بشريعة موسى في زمنه وطاعته بشريعة إبراهيم في زمنه وطاعته بشريعة نوح في زمنه، هي الطاعة، هي التوحيد، هي العبادة.
قد يقول قائل: كيف تجعلون هذا الإسلام والشرائع مختلفة؟ فيوضح لك بمثال، يقول: (فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ: كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي دِّينُ الْإِسْلَامِ)، فعندما أمر في أول الأمر باستقبال بيت المقدس، طبعًا هو عبر هنا باستقبال الصخرة للشهرة وإلا المقصود بها هو بيت المقدس، فامتثال الصحابة لهذا الأمر هو طاعة، ثم لما نُسخت القبلة من جهة بيت المقدس إلى الكعبة صار امتثالهم للأمر الثاني هو عبادة، وهكذا يقال في شرائع الأنبياء، فهو ضربه من باب المثال الذي يوضح أن اختلاف الشرائع بين الأنبياء هو داخل في الدين، ولهذا قال: (كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ فَالدِّينُ) بهذا المعنى (هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ) وفي جميع شرائع الأنبياء.
قال: (وَإِنَّمَا تَنَوُّعُ بَعْضِ صُوَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ وَجْهُ الْمُصَلَّى فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ) من جهة العقيدة واحد وإن اختلفت الشرائع؛ لأن هذه الشرائع هي امتثال لأمر الله في ذلكم الوقت، (وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدً) عند جميع الأنبياء (كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ) يعني: في شرعة الرسول الواحد قد يأتي النسخ، فيأمر به في وقت وينسخ في وقت، فطاعته في أول الأمر وطاعته بعد النسخ كلاهما من شرعة رسول واحد، وهكذا يقال في الأنبياء وإن اختلفت الشرائع.
{قال -رحمه الله-: (وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ: أَنَّ أَوَّلَهُمْ يُبَشِّرُ بِآخِرِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ وَآخِرَهُمْ يُصَدِّقُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-: لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً﴾ )}.
هذا هو الدليل الثاني على أنَّ الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، ذكر الدليل الأول: أن الأنبياء جميعًا قد دعوا إلى الإسلام بهذا المعنى الذي هو استسلام لله وحده لا شريك له وانقياد له وحده لا شريك له وإن اختلفت الشرائع.
الدليل الثاني على أن الإسلام هو دين الأنبياء، قال: (وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ: أَنَّ أَوَّلَهُمْ يُبَشِّرُ بِآخِرِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ وَآخِرَهُمْ يُصَدِّقُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ)، ولهذا من كفر برسول واحد قد كفر بجميع المرسلين، كما قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105]، ومعلوم أنه لا يوجد في ذلك الوقت إلا نوح، فلما كذبوا نوحًا -عليه السلام- كذبوا جميع الرسل، ولهذا من كذب موسى فقد كفر بجميع الرسل، وبنو إسرائيل الذين أرسل إليهم عيسى فكذبوه، فقد كفروا، لماذا؟ لأنهم كذبوا بعيسى -عليه السلام-، وهكذا اليهود والنصارى الذين كذبوا محمدًا -عليه الصلاة والسلام- قد كفروا، بل لو وجد مسلم وكذب موسى أو كذب عيسى، فقد كفر، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: 285].
فالأنبياء مما يدل على أن دين الأنبياء واحد، وهو الدين الذي جاء به الإسلام، ولهذا ما يقال في وحدة الأديان، نقول إن قصدتم بوحدة الأديان أن الدين واحد وهو الذي جاء به الرسل وختم به دين الإسلام، فهذا حق، فندعوكم إلى هذا، إذا هذا المفهوم بمعنى أن الرسل جميعًا دعوا إلى التوحيد وأن الديانات والرسالات والكتب ختمت بالإسلام وختمت بالقرآن وختمت بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نعم، فنحن ندعو إلى الدين الحق وإلى الدين الواحد الذي دعا إليه جميع الأنبياء فلا اختلاف بينهم، أما إن قصدتم ديانات نسخت وحرفت فلا.
ثم ذكر الشواهد على أن الأنبياء يصدق بعضهم بعض ويؤمن أولهم بآخرهم ويصدق آخرهم بأولهم لا يفرقون، ذكر الشواهد على ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مُتَلَازِمًا وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ وَقَدْ قَالَ لَنَا: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ: آمَنَّا بِهَذَا كُلِّهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَمَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا؛ بَلْ يَكُونُ كَافِرًا وَإِنْ زَعْم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ. كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلً﴾ فَقَالُوا: لَا نَحُجُّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ فَإِنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ حِجِّ الْبَيْتِ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ» وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ )}.
هذه الأدلة الثلاثة: هي تدل على أن دين الأنبياء واحد وهو الإسلام، ذكر الدليل الأول: أن جميع الأنبياء دعوا إلى الإسلام في هذا المعنى، وأن الأنبياء يبشر أولهم بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، وأيضاً التلازم بين الإيمان بالرسل، وأن من كفر برسول واحد فقد كفر بالكل، إذًا هذه الأدلة الثلاثة تدل على أن الأنبياء قد دعوا إلى دين واحد وهو الإسلام الذي هو استسلام لله وحده لا شريك له، انقياد لطاعته -عز وجل- وامتثال لما أمر به رسله.
ثم انتقل إلى مسألة وهي: قد يقول قائل: هل النصارى مثلاً على الإسلام؟ أو هل النصارى مسلمون؟ هل اليهود مسلمون في ذلك الزمن؟ هل أتباع نوح -عليه السلام- مسلمون؟
والجواب: أن ذلك يحتاج إلى تفصيل، نقول: ماذا يقصد بالإسلام؟ هل يقصد المعنى العام أو يقصد المعنى الخاص؟ إن قصد به المعنى العام نعم كما تقدم في الآيات، فهم مسلمون بالمعنى العام، وإن قصد به المعنى الخاص، أي: الدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك يخص ما جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام-، ولذلك قال: إن النزاع لفظي؛ لأنه قد يثبته ويقصد شيئًا، وقد ينفيه ويقصد شيئًا آخر.
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ "وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ" فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْخَاصَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ إسْلَامَ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ)}.
إذاً هذا هو الجواب على التفصيل، الإسلام الخاص الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي هو الشريعة التي جاءت به معلوم أن هذه جاءت بعد الأنبياء السابقين وهي عامة لكل الناس، الإسلام بهذا المعنى الذي هو عقيدة وشريعة، الذي هو الشريعة هذه خاصة بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، قال: (لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ولهذا لم تلزم الأمم السابقة، لماذا؟ لأن لم تأتي بعد، (وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَ) إذا قيل: الإسلام الغالب عند الناس يتناول أي معنى؟ المعنى العام أو الخاص؟ المعنى الخاص.
قال: (وَأَمَّا الْإِسْلَامُ) الذي جاء في الأدلة السابقة (الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ) الذي هو انقياد واستسلام وامتثال، فهذا جاء به الأنبياء، وبالتالي فيقال: نعم الأنبياء كلهم على الإسلام، والأمم السابقة من أمة موسى وعيسى هم على الإسلام بهذا المعنى العام.
{قال -رحمه الله-: (وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَبِهَا بُعِثَ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وَقَالَ عَنْ الْخَلِيلِ: ﴿وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} {إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ وَقَالَ ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ ؟ وَذَكَرَ عَنْ رُسُلِهِ: كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ: ﴿إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطً﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبً﴾ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ}).
هنا يبن حقيقة هذا الإسلام الذي دعا إليه جميع الأنبياء، قال: (وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ مُطْلَقً) أي: بالمعنى العام، وهذا المعنى سيفيد منه في الرد على المتكلمين الذين حصروا التوحيد في الربوبية، فيقولوا: إنَّ هذا الإسلام الذي دعا إليه جميع الأنبياء وهو التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، ورأسه مطلقًا (شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) التي تعني: لا معبود بحق إلا الله، (وَبِهَا بُعِثَ جَمِيعُ الرُّسُلِ )، ثم ذكر الأدلة، لاحظ كم دليل، تسعة أدلة تدل على هذا المعنى الذي حصل فيه الضلال والانحراف لدى المتكلمين والفلاسفة، كما ضلوا في باب الأسماء والصفات ضلوا في هذا الأمر الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وهو الإسلام بمعنى الانقياد لله والامتثال له وعبادته وحده لا شريك له.
ثم بيَّن أمراً مهمًا: وهو أن حقيقة الشرك الذي نهى عنه الأنبياء هو الشرك في الألوهية وليس الشرك في الربوبية فقط كما زعم المتكلمون.
ولهذا قال:
{قال -رحمه الله-: (وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الشِّرْكَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالشِّرْكَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالشِّرْكَ بِالْكَوَاكِبِ، وَالشِّرْكَ بِالْأَصْنَامِ - وَأَصْلُ الشِّرْكِ الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ - فَقَالَ عَنْ النَّصَارَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ؟ فَبَيَّنَ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ)}.
مراده بهذا أن يُبَيِّنُ أن حقيقة الإسلام الذي دعا إليه الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والشرك الذي نهى عنه الرسل هو الشرك في الألوهية والعبادة وليس هو شرك الربوبية، ولهذا يقول: (وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الشِّرْكَ بِالْمَلَائِكَةِ) ما حقيقته؟ هل اعتقد هؤلاء أن الملائكة يخلقون ويرزقون؟ لا، (وَالشِّرْكَ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالشِّرْكَ بِالْكَوَاكِبِ، وَالشِّرْكَ بِالْأَصْنَامِ - وَأَصْلُ الشِّرْكِ الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ)، ثم ذكر الأدلة، ما حقيقة شرك هؤلاء؟ أنهم كما قال الله عن النصارى: (﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ).
جاء في قصة عدي -رضي الله عنه- لما نزلت هذه الآية، قال: "يا رسول الله ما اتخذوهم أربابًا" وقد كان على النصرانية، يعني: لا يعتقدون أن الأحبار وهم العلماء والرهبان وهم العُباد أنهم أرباباً، وهكذا المشركون لا يعتقدون أن اللات والعزة ومناة هي الرب، لماذا إذاً عبدوهم؟ لأجل أن يشفعوا لهم عند الله، وسائط ولهذا قال عدي: "ما اتخذوهم أرباباً" قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ألم يحلوا لهم الحرام فيطيعوهم، ويحرموا عليهم الحلال فيطيعوهم»، قال: "بلا"، قال: «فتلك عبادتهم إياهم»، إذاً الشرك أين وقع؟ في الربوبية أو في الألوهية.
ثم ذكر الشواهد، الشواهد التي حصلت، ثم عقب على هذه الشواهد، فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فإذا كان اتخاذ الملائكة والنبيين والأحبار كفر، فغيرهم من باب أولى.
فهو هنا أيضًا ينبه إلى أمر مهم: وهو أن الشرك الذي هو ضد التوحيد والذي حذر منه أنبياء الله، هو الشرك في الألوهية وليس هو الشرك في الربوبية كما ادعى المتكلمين والفلاسفة في كتبهم.
ثم قال معقبًا على ذلك مبينًا الحقيقة.
{قال -رحمه الله-: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. بَلْ وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ)}.
وهذا الدليل أيضًا عقلي، دليل حسي، الفلاسفة والمتكلمون يزعمون أن التوحيد هو الإقرار بالربوبية وأن الشرك هو الشرك بالربوبية، يقول ابن تيمية: -: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ) أي: عموم الخلق، عموم الأمم (لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. بَلْ وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ) حتى عند الفلاسفة، هذا ما يوجد عند العقلاء، (بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ) هذا لا يوجد، ولهذا ما يدعيه المتكلمون والفلاسفة في كتبهم هي دعاوى تخالف العقل وتخالف الفطرة، لا وجود لهذا، (بَلْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ: مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُهُ مِثْلَهُ)، ولهذا هم في الشدائد يعبدون الله، وفي الرخاء يشركون به، هل يعتقدون أن هذه الأصنام هي الله.
إذاً ما الشرك الذي نهى عنه الأنبياء؟ هو الشرك في العبادة وليس الشرك في الربوبية كما يدعي المتكلمون والفلاسفة، (بَلْ عَامَّتُهُمْ) أي المشركون (يُقِرُّونَ أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ صَنَمًا؛ كَمَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: " لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ" فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ وَقَالَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك»)، هذا التأصيل والتقعيد سيستفيد منه في الرد على المتكلمين، وأنه عامة المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، عامة الخلق بل الإشراك بالربوبية قليل ونادر في البشرية، إنما الشرك وقع في الألوهية.
لعلنا نكمل بقية ذلك في الدرس القادم -إن شاء الله-، أسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل وسيلتنا إليه التوحيد والإخلاص، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
اللهم أمين، وإياكم والإخوة والأخوات، المشاهدين والمشاهدات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك