الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

2008 22
الدرس العاشر

العقيدة التدمرية

{السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات "البناء العلمي" وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ سهل بن رفاع العتيبي، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات والأبناء والبنات من طلاب البناء العلمي، وأرحب بكم في هذا الدرس العاشر من دروس العقيدة التدمرية، أسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحب ويرضى، وأن يجعل وسيلتنا إليه التوحيد والإخلاص إنه جواد كريم.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- عند قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لَا يُرَى مَدْحٌ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحًا وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِمَ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا: فَكَذَلِكَ إذَا رُئِيَ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللَّهمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أما بعد.
فأرحب بالأبناء والبنات طلاب البناء العلمي وكذلك الإخوة والأخوات المشاهدين لهذه الدروس، وأسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
الحديث لا يزال موصولًا في القاعدة الأولى من القواعد النافعة والتي عنون لها المؤلف -رحمه الله- أن الله موصوف بالإثبات والنفي، وهذه القاعدة ذكرنا أنها تقدمت في مقدمة الأصل، وكذلك ذكر الشواهد عليها وبيننا ضوابط وشروط الإثبات وبينا ضوابط وشروط النفي، ثم فرع على هذه القاعدة فرعًا وقال بأنه ينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال.
ثم أجاب عن الذين يصفون الخالق بالنفي المحض والسلب المحض وهم المعطلة، أجاب بجوابين عقلين ثم أيضًا بجواب شرعي، وأن النفي الذي جاء في النصوص من خلال استقراء النصوص الصفات المنفية وهي كثيرة ولكن المصنف -رحمه الله- ذكر سابقًا أربع شواهد تدل على صحة مذهب السلف وأن النفي يتضمن إثبات الكمال، ذكر هنا الشاهد أو المثال الخامس: وهو نفي إحاطة الأبصار بالخالق -عز وجل-.
قال: (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ) أي من أمثلة وشواهد النفي الذي يتضمن إثبات الكمال،
 (وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ )، هذا نفي أو لا؟ نفي، ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ ، قال: (إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ) سيقال هل هذا مدح أو ذم؟ هل هذا نفي محض أو يتضمن الكمال؟ سيقال: أنه يتضمن الكمال.
قال: (إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ) لماذا قال إنما نفى؟ لأن المعتزلة استدلوا بهذه الآية على نفي الرؤية، وهذا استدلال باطل، ولهذا قال: (إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ) في الخالق -عز وجل- (كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ) كما ادعى المعتزلة مستدلين بهذه الآية على نفي رؤية الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة، لماذا لم تدل الآية على نفي الرؤية؟ قال: (لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى)، فإذا وصف المعتزلة -لاحظوا الآن وصف المعتزلة بأن الخالق لا يُرى، هذا مدح ولا ذم؟ هذا ذم وهذا هو النفي عندهم، لكن إذا مدح بأن الخالق ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ ، هذا مدح، لا تحيط به، فالمعتزلة لما نفوا الرؤية، يقول لهم: هذا النفي الذي وصفتم الخالق به وهو نفي أنه لا يُرى هذا ليس بمدح، هذا ذم، لماذا؟
(لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى، وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لَا يُرَى مَدْحٌ) إذاً المعتزلة لما نفوا الرؤية مدحوه ولا ذموه؟ ذموه، (إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحً) هذا لا يقال عند العقلاء، (وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ) إذا حملنا الآية على نفي الإحاطة دل على صفة الكمال، وإذا حملنا الآية على نفي الرؤية دل على صفة نقص، يقول: (وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِمَ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا: فَكَذَلِكَ إذَا رُئِيَ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً).
إذاً صفة الكمال أن تحمل الآية على نفي الإحاطة وليس على نفي الرؤية، فالمعتزلة لما حملوه على نفي الرؤية، نقول: هذا ذم للخالق وتنقص للخالق وليس بمدح، وللأسف يسمون أنفسهم أهل التوحيد، بل إنهم أهل التعطيل.
قال في الرد على المعتزلة في حملهم الآية على نفي الرؤية، فيقال هذا ذم وليس بمدح، والصواب الذي عليه السلف، أن تحمل الآية على نفي الإحاطة وهذا مدح للخالق -عز وجل-؛ لأنه نفي الإحاطة يدل على الكمال، فالخلق لا يحيطون به علماً.
{قال -رحمه الله-: (فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ إثْبَاتِ عَظَمَتِهِ مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى نَفْيِهَا لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَعَ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَ)}.
لاحظ هذه فائدة جديدة لطلاب العلم، بل لكل مؤمن، المصنف -رحمه الله- قلب الدليل على المعتزلة، قال: أنتم استدللتم بهذه الآية على نفي الرؤية والواقع أن الآية تدل على إثبات الرؤية، وهذا مُهم لطلاب العلم في الرد على شبه المعطلة.
قال في وجه دلالة الآية على إثبات الرؤية: (فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ إثْبَاتِ عَظَمَتِهِ مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ) وهو النفي الذي تضمن الكمال، (وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى نَفْيِهَ) إذاً الآية تدل على إثبات الرؤية، وجه ذلك، قال: (لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَعَ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ) كأنه هنا يقلب الدليل على المعتزلة بأن الآية تدل على إثبات الرؤية.
وجه ذلك أن الآية لم تنف الرؤية ولكن نفت الإحاطة، فدل على أن الرؤية ثابتة للخالق -عز وجل-، لكنه دليل على إثباتها لأنَّ الذي يُرى، صفة مدح وكمال ولا صفة ذم؟ لا شك كمال، المعتزلة لَمَّا نفوا الرؤية وهي صفة كمال معنى ذلك أنهم وصفوا الخالق بصفات النقص -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيراً-، (وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَ) في إثبات الرؤية وفي أن الآية تدل على عدم الإحاطة بالخالق -عز وجل- وَإِنْ رُئِيَ.
{قال -رحمه الله-: (وَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ: وَجَدْت كُلَّ نَفْيٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ: لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَهًا مَحْمُودًا بَلْ وَلَا مَوْجُودً)}.
هذه خاتمة الفرع الذي ذكرناه، بأن النفي لا يكون مدحًا إلا إذا تضمن صفة كمال، وأن أدلة الشريعة وأدلة الكتاب والسنة التي جاءت في الصفات المنفية عن الخالق تتضمن إثبات الكمال، ثم يقول: (وَإِذَا تَأَمَّلْت) هذا يدل على أن قوله: عامة ما وصف الله به نفسه، أي: كل ما وصف الله به نفسه، إذا تأملت ذلك في الصفات المنفية التي جاءت في الكتاب والسنة، (وَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ: وَجَدْت كُلَّ نَفْيٍ) جاء في النصوص (لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ) لم يرد، كل نفي ليس فيه مدح لم يصف الله به نفسه، وهذا أين موجود؟ ليس موجود في أدلة الكتاب والسنة ولكن موجود في كتب المتكلمين، النفي المحض، ليس بكذا، ليس بكذا، ليس بكذا، هذا لم يرد في أدلة الكتاب والسنة، النفي الذي ورد في أدلة الكتاب والسنة النفي الذي يتضمن إثبات الكمال.
ثم انتقل إلى الرد على مذهب المتكلمين الذين يصفون الخالق بالنفي المحض والسلب المحض، وهذا نعتبره فرع ثالث، (فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ) وهم المعطلة وهم أصناف: منهم من وصفوه بالنفي، ومنهم من وصفوه بنفي النقيضين، (فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ: لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَهًا مَحْمُودًا بَلْ وَلَا مَوْجُودً)، وهذا هو الجواب الأول العقلي، يقال لهؤلاء الذين يصفون الخالق بالنفي المحض والسلب المحض، الجواب الأول: أنكم لم تثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، وهذا ليس بمدح، بل ولا موجوداً؛ لأن هذا النفي لا يوصف إلا به المعدوم أو الممتنع، فيلزمكم أنكم تصفوا الخالق بالعدم أو بالممتنع، هذا هو الجواب الأول في الرد على الذين يصفونه بالسلب المحض.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَرَى أَوْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى الْعَرْشِ وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ؛ وَلَيْسَتْ هِيَ صِفَةً مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ)}.
هو الآن يرد على طوائف المعطلة، الطائفة الأولى الذين وصفوه بالسلب، وهؤلاء -كما تقدم- لنا في المقدمة وفي الأصل أنهم الفلاسفة والباطنية، منهم من وصفوه بالسلب ومنهم من وصفوه بنفي النقيضين، فيقال لهؤلاء بناءً على مذهبكم هذا: إنكم لا تثبتون إلهاً محموداً على الحقيقة، بل ولا تثبتون إلهاً موجوداً، هذا عدم.
قال: وشاركهم طائفة أخرى وهم الجهمية الأوائل الذين نفوا الأسماء والصفات، تبعهم المعتزلة نفوا الصفات، ثم تبعهم معطلة بعض الصفات كالأشاعرة والماتريدية.
قال: (وَكَذَلِكَ شَارَكَهُمْ)، الشبهة واحدة والجواب واحد، ولهذا نقول للأبناء والأخوات المتابعين في هذه الحلقات: الشبهة عند هؤلاء المعطلة واحدة والرد عليهم واحد، وفقط هم يُغيرون في الأساليب والعبارات وإلا النتيجة واحدة.
يقول: وكذلك شاركهم في الوصف الخالق بالسلب وكذلك بالشبه، في بعض ذلك كالذين قالوا: إنه لا يتكلم، ولا يُرى وليس فوق العالم أو لم يستو على العرش، لاحظ هذا قال به من؟ أهل الكلام الذين ينفون ماذا؟ ينفون الاستواء وينفون العلو، ويزعمون أنه ليس بداخل العالم ولا خارجه، ماذا سيقولون؟ هذا مدح ولا ذم؟ ذم، (وَلَا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ) هذا الجواب الثاني وهو العقلي.
قلنا: إن الجواب الأول: أن نقول: بناءً على مذهبكم -وهو رد على الفلاسفة والباطنية- أنكم لا تثبتون إلهاً على الحقيقة محموداً بل ولا موجوداً.
والجواب الثاني، قال: (هَذِهِ الصِّفَاتُ) التي هي السلب (يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ؛ وَلَيْسَتْ هِيَ صِفَةً مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ) هي صفة مدح للخالق، لا يكون مدح إلا إذا تضمنت إثبات الكمال.
{قال -رحمه الله-: (وَلِهَذَا "قَالَ مَحْمُودُ بْنُ سبكتكين" لِمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي الْخَالِقِ: مَيِّزْ لَنَا بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ. وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ؛ بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوْ الْمَعْدُومَاتِ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ: مِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمَعْدُومُ وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْجَمَادَاتُ وَالنَّاقِصُ)}.
مَحْمُودُ بْنُ سبكتكين نَاظَرَ مَنْ نفى هذه الصفات، وورد أنه ناظر ابن فورك الذي يقول: إنه (لا داخل العالم ولا خارج العالم)، فيقول محمود: ميز لنا بين هذا الرب الموجود المتصف بصفات الكمال وبين الذي تثبته أنت، تقول: لا داخل العالم ولا خارجه، ميز لنا بين هذا وبين العدم، هل سمة فرق؟
إذاً لما تقول: (لا داخل العالم ولا خارجه لا مباينًا ولا محايثً)، هذا عدم، فهو يلزمه أن يقول: ما الفرق بين وصفك للخالق بهذه الصفات وبين العدم؟ النتيجة واحدة.
قال في الجواب العقلي الثالث على الذين يصفون الخالق بالنفي المحض: (وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ) وهذا عند جميع المعطلة (لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ) هذه مذمة، ( بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوْ الْمَعْدُومَاتِ) وهذه عندهم شبهة حلول الحوادث، هم أرادوا الفرار من تشبيهه بالحيوانات المخلوقة، فمنهم من شبهه بالجمادات التي لا تسمع ولا تبصر وليس لها أي صفة، ومنهم من شبهه بالمعدومات ومنهم من شبهه بالممتنعات.
فيقال: نفي هذه الصفات عن الخالق تشبيه له بجماد أو ممتنع أو معدوم، كذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح، هذا ليس مدح للخالق، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات.
أيهما أكثر تنقصاً! تشبيه الخالق بمخلوق حي متصف بصفات -وهذا الذي أرادوا الفرار منه؟ أم تشبيهه بجماد؟ التشبيه بالجماد أسوء، وتشبيه بالمعدوم هذا أسوء وأسوء، أو تشبيهه بالمستحيل الوقوع أسوء، هو يريد أن يفر من شيء ويقع في أسوء منه، فهذه الصفات لا تشبه إلا المعدوم، وهو النفي المطلق، (فَهَذِهِ الصِّفَاتُ: مِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمَعْدُومُ) وهو النفي المطلق، (وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْجَمَادَاتُ وَالنَّاقِصُ) فيقال: وهذا النفي السلب المجرد مذمة وليس مدح، لا يكون مدحاً إلا إذا تضمن صفة كمال.
{قال -رحمه الله-: (فَمَنْ قَالَ: لَا هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: لَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلَا مُقَارِنٌ لَهُ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ)}.
هو يعقد مقارنة بين هذه المذاهب التي تتفق بالشبهة وكذلك الجواب عليها واحد، ولاحظوا كلهم يتفقون وإن تغيرت العبارات لأجل الإيهام، قال: (فَمَنْ قَالَ: لَا هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ) الذي يقول: (لا داخل العالم ولا خارج العالم)، هذا يصفه بالعدم، (فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ: لَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلَا مُقَارِنٌ لَهُ)، فيقال لهؤلاء جميعًا: رفع النقيضين كجمع النقيضين، هذا ما لا تقبله العقول، هذه الصفات التي تصفون الخالق بها هذا نفي محض، أنتم لا تثبتون رباً ممدوحاً على الحقيقة بل ولا موجوداً، وهذا اللازم لهذا الأقوال لكل ما ذهب السابق.
قال: (وَمَنْ قَالَ) الآن يعقد مقارنة بين التعطيل الجزئي والتعطيل الكلي واللوازم واحدة، قال: (وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ) وهؤلاء المعتزلة والجهمية كذلك (لَزِمَهُ) بناءً على هذا النفي (أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ) ولا بدَّ، طبعًا له اعتراض، سيعترض على الباطل بباطل، وسيستدل بالكلام الباطل بشبهة باطلة، فبماذا أجابوا على هذا الإلزام؟ انظر الجواب الذي لا يقبله عاقل، وفروا إلى ما هو أسوء، ماذا قالوا في هذا الجواب؟
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ قَالَ: الْعَمَى عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَصَرَ وَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْبَصَرَ كَالْحَائِطِ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ)}.
هنا لاحظ هذه الشبهة سبقت أو لا؟ أنهم قالوا إنما رفع النقيضين أو الجمع بين النقيضين إنما يلزم من يكون قابلا له والخالق لا يقبل هذه الأشياء، إنما رفع النقيضين أو الجمع بين النقيضين فيما يقبل السلب والإيجاب لا فيما يقبل العدم والملكة، بناءً عليه هل الوجود والعدم تقابلهم تقابل عدم وملكة ولا تقابل سلب وإيجاب؟ يعني يقال لهم: الوجود والعدم من حيث ننطلق فيه، هل الخالق موجود أو ليس موجود، تقابل وجود العدم تقابل السلب وإيجاب ولا تقابل العدم وملكة، سلب وإيجاب، هنا تنطلق من هذه القاعدة، فتقال: ممكن نقبله في بعض الصور تنزلاً لكن لا يقبل في كل الصور، الحياة والموت تقابل عدم وملكة ولا سلب وإيجاب؟ سلب وإيجاب، نفس الشبهة ولعل الأبناء الطلاب والطالبات يرجعون إلى صفحة سبعة وثلاثون ولهذا لا نكرر المصنف أعاد الشبهة، صفحة سبعة وثلاثون: (فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَا وَهَذَانِ يَتَقَابَلَانِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ) استدلال على الباطل بباطل، (لَا تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَإِنَّ الْجِدَارَ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إذْ لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُمَ).
أجاب عن هذا الاعتراض وهذه الشبهة فيما سبق بثلاثة أجوبة، هنا أجاب بنفس الأجوبة وأضاف بأسلوب آخر بأربعة أجوبة ولهذا لا نعيد الكلام فيها، إنما هو تأكيد لما سبق.
هذا اعتراضهم، ماذا كان الجواب؟ من وجوه.
{قال -رحمه الله-: (قِيلَ لَهُ: هَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ وَإِلَّا فَمَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ: يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ وَأَيْضًا فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الْجَمَادِ حَيًّا كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً ابْتَلَعَتْ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ)}.
هذا الجواب سبق وهو على فرض التسليم، فأجاب على فرض التسليم من هذين الوجهين:
الوجه الأول، أن يقال: هذه المصطلحات التي تصطلحونها إنما هي اصطلاحات (اصْطَلَحْتُمُوهُ وَإِلَّا فَمَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ: يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ)، وذكر هذا أيضًا شواهد من اللغة، في قولهم: أن الحائط لا يقبل أعمى ولا أبصر، فيقال هذا يخالف لغة العرب وأيضًا ما جاء بأدلة الشرع، هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني، يقال لهم: (فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الْجَمَادِ حَيًّ) الجمادات تسبح وَوَرَدَ في بعض النصوص أنها تتكلم، وضرب مثال: ( كَمَا جَعَلَ الله عَصَى مُوسَى حَيَّةً ابْتَلَعَتْ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ)، إذاً هذه قبلت هذه الأوصاف ولا ما قبلتها؟ قبلتها، وهذا مما يبطل قولهم، أن هذه الصفات إنما تتقابل تقابل عدم وملكة لا سلب وإيجاب، فيقال لهم: هذا لا يسلم لكم، بل لا الجمادات تقبل هذه الأوصاف، هذا الوجه الأول والوجه الثاني.
أما الوجه الثالث: {قال -رحمه الله-: (وَأَيْضًا فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا. فَالْجَمَادُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْكَلَامِ وَلَا الْخَرَسِ: أَعْظَمُ نَقْصًا مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ)}.
وهذا هو الجواب الثالث، وهو جواب عقلي أيضًا، أن يقال لهم -طبعًا في الوجه الأول منع هذا الاصطلاح، وفي الجواب الثاني منع، والجواب الثالث: أن يقال سلمنا لكم أن هذه الأشياء إنما تتقابل تقابل عدم وملكة، فأيهما أكثر مدحًا، الذي يقبل أو الذي لا يقبلها؟ الذي يقبل الصفات، فوصفكم الخالق بأنه لا يقبل هذه الصفات هذا ذم، فقال: (فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَ)، ولهذا نقول: تشبيهه بالممتنع أقبح من تشبيهه بالمعدوم، وتشبيهه بالمعدوم أقبح من تشبيهه بالجماد، وتشبيهه بالجماد أقبح من تشبيهه بالمخلوق الحي، فهو يفر من شيء فيقع فيما هو أسوء منه بزعمه أنه ينزه الخالق.
(فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصً) كلها نقص (مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا. فَالْجَمَادُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْكَلَامِ وَلَا الْخَرَسِ: أَعْظَمُ نَقْصًا مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ).
عندهم اعتراض ماذا قالوا؟
{قال -رحمه الله-: (فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْبَارِي لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ: كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ مَعَ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدِ مِنْهَا. وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ؛ لَا بِالْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْحَيِّ)}.
هكذا اعترضوا، قالوا: إنما هذا يَرِد إذا كان الخالق يقبل هذه الصفات، أمَّا هُم بزعمهم أن الخالق لا يمكن أن يوصف بهذه الصفات، فأجاب عليهم بقلب الدليل، قال: (كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ)، يعني يقال: أنتم تقولون إن إثبات الصفات يلزم منها تشبيه الخالق بالمخلوقات ثم شبهتموه بالجمادات، هذا أقبح، ومنكم من شبهه بالمعدوم وهذا أقبح، ومنهم من شبهه بالممتنع وهذا أقبح، قال: (كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ مَعَ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدِ مِنْهَا. وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ؛ لَا بِالْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ ينكر مَنْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ له بِالْحَيِّ).
يعني هؤلاء مثلاً المعتزلة، ينكرون على من يثبت الصفات بأنه شبه الخالق بالمخلوقات، فيقال: أنتم تنكرون على من يشبه الخالق بالمخلوقات وتشبهونه بالجمادات، أيهما أقبح؟ لا شك الجمادات، نقول مذهبكم أقبح من مذهب المشبهة.
ثم أيضًا الفلاسفة لما نفوا الصفات عموماً ووصفوه بالسلب، شبهوه بالممتنع، فيقال: أنتم تنكرون على المعتزلة تشبيهه بالجمادات وأنت تشبهونه بالمعدومات، فهذا أقبح.
الباطنية ينكرون على الفلاسفة تشبيهه بالممتنع وهم ينكرون عليهم تشبيهه بالمعدوم وهم يشبهونه بالممتنع، أيهما أقبح؟ لا شك الممتنع، وكل منهم ينكر على الآخر فيما هو يقع فيما هو أقبح منه، الذي سلم من هذه الإلزامات مذهب أهل السنة، لم يشبهوه بمخلوق ولا جماد ولا معدوم ولا ممتنع، فسلموا من كل هذا الباطل اللجلج.
يقول: تنكرون على المشبهة بالحيوانات وتشبهونه بالجمادات وهذا أقبح، وغيركم ينكر عليكم تشبيهه بالجمادات ويشبهه بالمعدومات، وغيره ينكر عليه تشبيهه بالمعدومات ويشبهه بالممتنعات.
ثم ذكر الوجه الرابع في الرد على هؤلاء الذين يصفون الخالق بالسلب المحض.
{قال -رحمه الله-: (وَأَيْضًا فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَهَا كَمَالٌ فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَا صِفَةُ كَمَالٍ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ وَمَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ: فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ: لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ)}.
هذا هو الجواب الرابع على فرض التسليم، يقال: (وَأَيْضًا فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ          ) التي هي تعطيلها وصف الخالق بالسلب، قال: (فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ) وليس مدح (كَمَا أَنَّ إثْبَاتَهَا كَمَالٌ) ولذلك أثبت أهل السنة إثباتًا يلزم منه الكمال، ونفوا نفيًا يلزم منه الكمال.
قال: (فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ) سواءً في حق الخالق أو في حق المخلوق نقص أو كمال؟ كمال، (مِنْ حَيْثُ هِيَ) يعني: وصف بها الخالق كمال، وصف بها المخلوق كمال، (مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَ) سمة قدر مشترك عند الإطلاق وتبقى مدح، لكن صفات الخالق تليق به لم يسبقها عدم وإلحاق ولا زوال، وصفات المخلوق تليق به، (صِفَةُ كَمَالٍ) فإذا أراد أن ينفي الحياة كما قال الجهمية والفلاسفة هذا ذم وليس مدح، (كَذَلِكَ) لاحظ كيف هو مثل بالصفات السبع عند الأشاعرة من باب الإلزام، (كَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ) التي هي الصفات السبع، (وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ وَمَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ) وهي قاعدة: (فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ) لأنه هو خالق المخلوق، فالذي خلق صفات الكمال في هذا المخلوق هو أولى بالكمال -عز وجل-.
قال على سبيل الفرق: (فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ) هذا مدح في الخالق أو ذم؟ بمعنى أن الخالق خلق المخلوق ومنحه العلم، بينما الخالق لا يتصف بالعلم، هذا مدح ولا ذم؟ ذم، فيقول: كون الخالق خلق المخلوق والمخلوق متصف بصفة الحياة وصفة السمع وصفة البصر وصفة الكلام، فهي مدح، فإذا الخالق خلق المخلوق وأوجد فيه هذه الصفات وهو لم يتصف بها هذا ليس مدحاً للخالق، (فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ) يلزم بها ماذا؟ أيهما أكمل؟ (لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهو أيضًا من باب الإلزام.
ثم عقد مقارنة بين هذه المذاهب، قال: {قال -رحمه الله-: (وَاعْلَمْ أَنَّ الجهمية الْمَحْضَةَ كَالْقَرَامِطَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ: يَنْفُونَ عَنْهُ تَعَالَى اتِّصَافَهُ بِالنَّقِيضَيْنِ حَتَّى يَقُولُونَ لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُلُوَّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ)}.
هنا يعقد مقارنة بين من ينفون النقيضين وهم الباطنية وبين من يصفون الخالق بالنفي السلب، ويدخل في هذا الفلاسفة ويدخل في ذلك المعتزلة ومن ينفي بعض الصفات، يقول: (وَاعْلَمْ أَنَّ الجهمية الْمَحْضَةَ كَالْقَرَامِطَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ: يَنْفُونَ عَنْهُ تَعَالَى اتِّصَافَهُ بِالنَّقِيضَيْنِ) يعني وصفوه بالممتنع (حَتَّى يَقُولُونَ لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ) هذا عدم، وهذا مذهب الباطنية، (وَمَعْلُومٌ) وهذا الجواب كرره من باب التأكيد، (وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُلُوَّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ) وهذا الجواب سبق وهو جواب عقلي في الرد على الباطنية الذين ينفون عن الخالق النفي والإثبات معاً، نفي النقيضين وقالوا: بأن جمع النقيضين كنفي النقيضين.
قال:(وَآخَرُونَ وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ فَقَطْ) وهم الفلاسفة السلب، (فَقَالُوا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ) وهكذا يدخل مع الجهمية وهكذا يدخل معهم المعتزلة، ثم عقد مقارنة بين الفريقين، قال: (وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وَجْهٍ) كيف، هؤلاء الفلاسفة الذين وصفوه بالسلب -أمل التنبه لأن العبارة دقيقة- (وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ أُولَئِكَ) أي من الباطنية الأوائل، (وَأُولَئِكَ) الباطنية (أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ) وتحتاج العبارة إلى تدقيق، هؤلاء الفلاسفة الذين وصفوه بالسلب ليس كذا وليس بكذا، قال: إنهم أعظم كفراً من الباطنية الذين نفوا النقيضين، لماذا؟
لأن الباطنية نفوا النفي ونفوا الإثبات، فنفوا النقص ونفوا الإثبات، وبالتالي هم أقرب إلى التنزيه؛ لأنه حتى النهي نفوه، حتى هذه الصفات نفوها فهم أقرب للتنزيه من هذا الوجه فقط، من وجه دون وجه.
قال: (وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرً) لأنهم وصفوه بالنقص، هؤلاء الفلاسفة نفوا الإثبات ووصفوه بنقص، فهم أعظم كفراً من هؤلاء، أما الباطنية فالنقص نفوه بعد، فنفوا النقص أيضًا، فالفلاسفة أعظم كفراً من هذا الوجه لأنهم وصفوا الخالق بالنقص، والباطنية نفوا الإثبات ونفوا النقص، قال: (وَأُولَئِكَ) الباطنية (أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ) من الفلاسفة، لماذا؟ لأن أولئك الفلاسفة نفوا الكمال فقط، وبقي النقص عندهم، فقول الباطنية أقبح من هذا الوجه لماذا؟ لأن الباطنية وصفوه بعدم، والفلاسفة ووصفوه بالموجود ولكن موصوف بصفات النقص، طبعًا لما يقول وجه دون وجه العبارة فيها دقة، النتيجة واحدة، وإن كان الباطنية أعظم كفراً من الفلاسفة، والكفر دركات، فهذا مقصوده، أن الباطنية نفوا النقيضين، فنفوا الإثبات ونفوا النفي، والفلاسفة النفي فقط ثم قال: هؤلاء أعظم كفراً من وجه وأولئك أعظم كفراً من وجه، لأن الفلاسفة وصفوه بالنقص والباطنية نفوا النقص.
ومن وجه آخر الفلاسفة أثبتوا خالقا ولكن بصفة النقص، والباطنية نفوا الوجود المطلق.
ثم انتقل إلى مسألة مهمة {قال -رحمه الله-: (وَآخَرُونَ وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ فَقَطْ فَقَالُوا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وَجْهٍ وَأُولَئِكَ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ وَصْفَهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ كَالْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ قَالُوا إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ يَزِيدُ قَوْلَهُمْ فَسَادً)}.
(فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ) يقصد الفئة الثانية الذي هم الفلاسفة، احتجوا بنفس شبهة الباطنية، فهي تتكرر إنما يغيرون في العبارات فقط، (فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ) أي الذين الفلاسفة، إذا قيل: إنكم إذا وصفتموه بصفات النفي يلزم منه، فإذا قيل: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك وهو وصفه بالعدم، ماذا قالوا؟ (كَالْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ قَالُوا إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ) وهو ليس بقابل، نفس الشبهة السابقة، ولها نفس الجواب، قال: (وَهَذَا الِاعْتِذَارُ يَزِيدُ قَوْلَهُمْ فَسَادً) قبحًا وفساداً، يعني احتجوا على الباطل بباطل.
نفس الجواب، نفس الشبهة ونفس الجواب، نفس ما احتج به الباطنية ونفس الجواب عليهم، احتجوا الفلاسفة ونفس الجواب الذي يرد به على الباطنية، جاء فريق ثالث وهم بعض من يثبت الصفات ويعطل بعضها، بعض المنتسبين للمذهب الأشعري كالرازي وأمثاله، ماذا قالوا؟ نفس التقرير ولكن غيروا في العبارات والأساليب.
{قال -رحمه الله-: (وَكَذَلِكَ مَنْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ - وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ إذَا قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا قِيلَ: لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ - وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُمْكِنٍ وَلَا قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِغَيْرِهِ قَالُوا هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَالْقَبُولُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَحَيِّزِ فَإِذَا انْتَفَى التَّحَيُّزُ انْتَفَى قَبُولُ هَذَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ)}.
(وَكَذَلِكَ مَنْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ) وهذا الحقيقة موجود في بعض كتب المتكلمين، لما ينفون العلو ماذا يلزم منه؟ إما أن يقولوا بالحلول والاتحاد أو يقولوا لا داخل العالم ولا خارجه، هذا هو مذهب هؤلاء، نفس عبارة الباطنية، ولكن الذين ينفون العلو وينفون الاستواء، تقول: إذا كنت تنفي العلو أين الخالق؟ إن قال في كل مكان يلزمه القول أهل الحلول والاتحاد، ويقال: لا داخل العالم ولا خارجه يلزمه قول الباطنية، يقول: (وَكَذَلِكَ مَنْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ) وهو الرازي ومن قال بمثل ما قال، نفس العبارات، (وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ العالم إذَا قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا قِيلَ: لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ - وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُمْكِنٍ وَلَا قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِغَيْرِهِ)، بماذا يجيب هؤلاء؟ نفس شبهة الفلاسفة وشبهة الباطنية، يقول: (إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ قَابِلً) والخالق لا يقبل، نفس الجواب العقلي السابق، نقول لا يقبل، يعني لا يقبل الوجود ولا يقبل العدم، لا يقبل الحياة ولا يقبل كذا، ماذا يكون هذا، فأجاب عليهم يعني احتجوا بنفس الشبهة ولكنهم غيروا في العبارات، ويجاب عليهم بنفس الجواب، قالوا: (إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ قَابِلًا  لِذَلِكَ) قضية تقابل الملكة والعدم والسلب والإيجاب، (وَالْقَبُولُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَحَيِّزِ فَإِذَا انْتَفَى التَّحَيُّزُ انْتَفَى قَبُولُ هَذَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ)، جاءوا بعبارات ليوهموا بها العوام والجهال وهي المصطلحات: المتحيز والجهة والجسم، بدلاً من أن يلبسوا على الناس بهذه المصطلحات، فجاء بمصطلح ما سبق السابقون إليه ولكنه أيضًا نفس النتيجة.
فقالوا: (إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ قَابِلًا لهم) والخالق لا يقبل، ثم جاء بمصطلح المتحيز، والتحيز الشيخ فصله بتفكيك هذا المصطلح والحقيقة التي يؤول إليها القول، بأنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، ماذا قال؟
{قال -رحمه الله-: (فَيُقَالُ لَهُمْ عِلْمُ الْخَلْقِ بِامْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْهُ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ: هُوَ عِلْمٌ مُطْلَقٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَوْجُودٌ وَالتَّحَيُّزُ الْمَذْكُورُ: إنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ الأحياز الْمَوْجُودَةِ تُحِيطُ بِهِ فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَالَمِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْهَا فَهَذَا هُوَ الْخُرُوجُ فَالْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَتَارَةً مَا هُوَ خَارِجُ الْعَالَمِ فَإِذَا قِيلَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ كَانَ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ)}.
هؤلاء مثل الرازي ومن قال بقوله، يقولون: هذا إنما يكون إذا كان قابلاً لذلك، والقبول إنما يكون من المتحيز، جاءوا بهذا المصطلح الذي غيروا فيه العبارة، فالشيخ أجاب، يقول: (عِلْمُ الْخَلْقِ بِامْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْهُ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ) تقول: لا داخل العالم ولا خارج العالم، هذا جمع بين النقيضين، والجمع بين النقيضين كرفع النقيضين، (هُوَ عِلْمٌ مُطْلَقٌ) يعني: في الذهن، يعني هذا افتراض تفترضه في الذهن، في الواقع العقل لا يقبل هذا، إما أن تقول: (داخل العالم ولا خارج العالم)، أما تنفي العلو وتنفي الاستواء وتقول: (لا داخل العالم ولا خارج العالم)، خاطب العقلاء بما يعقلون، ما أحد يقبل منك هذا الكلام، فيلزمك إما أن تقول بالحلول والاتحاد، وإما يلزمك تعطيل وجود خالق.
قال: (لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَوْجُودٌ) لاحظ أرجعهم إلى قضية الوجود، هل الخالق موجود أو ليس بموجود، التحيز الذين يعبرون به المذكور إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به، وهذا مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، (فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَالَمِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ) إذاً لا بدَّ أن يثبت العلو، (أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْهَا فَهَذَا هُوَ الْخُرُوجُ) عن العالم، فيلزمك أحد الأمرين: إما أن تأتي بشيء لا يقبله عقل، تبلى العقول فهذه مكابرة.
قال: (فَالْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَتَارَةً مَا هُوَ خَارِجُ الْعَالَمِ) ولا بدَّ، (فَإِذَا قِيلَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ) معناه ماذا؟ نقول: ماذا تقصد؟ معناه يعني نفس عبارة الفلاسفة والباطنية، فإذا عبر هذا المتكلم بأن الخالق ليس بمتحيز، نقول: هي نفس عبارة الفلاسفة والباطنية بمعنى أنه هو بقوله: (لا داخل العالم ولا خارجه)، لكنك موهت على الناس بلفظة (بِمُتَحَيِّزِ).
{قال -رحمه الله-: (فَهُمْ غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ لِيُوهِمُوا مَنْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِمَ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ؛ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ)}.
وهذه فائدة عظيمة وجليلة لطالب العلم في معرفة طرائق أهل الأهواء وطرائق أهل الباطل، وكيف يضلون الناس، فيستخدمون المصطلحات الهلامية التي تحمل أكثر من معنى لأجل التلبيس، وهذه أشار لها فيما سبق أظن في نهاية المقدمة، ذكر أنهم كيف يخدعون الناس ويوهمونهم بالمصطلحات، يقول: (فَهُمْ غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ) فقط، عبارة من؟ الباطنية وعبارة الفلاسفة لما قالوا: (بِمُتَحَيِّزِ)، الباطنية كانوا صرحاء والفلاسفة كانوا صرحاء، أما هؤلاء فإنهم فقط غيروا في العبارة وجاءوا بمصطلحات التحيز والجهة والجسم، لماذا جاءوا بهذه المصطلحات؟ لأجل ماذا؟ ليمرروا الباطل وخداع الناس وكما ذكر سابقًا السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، فهم غيروا العبارة فقط، فبدل ما قالوا لا داخل العالم ولا خارج العالم ووصفوه بالعدم، قالوا: ليس بمتحيز، فلا تجد من يقرأ كتب المتكلمين لا يكاد يفهمها ، لأنها ليست مصطلحات شرعية، لو تعطي هذه الكتب لعوام الناس لا يفهموا منها شيئًا، لأنها مصطلحات فلسفية من أجل تمرير الباطل.
(فَهُمْ) يقول شيخ الإسلام وهو الخبير (غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ) فقط، لماذا؟ لمخادعة الناس، (لِيُوهِمُوا مَنْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ) وهم الجهال والبسطاء (أَنَّ هَذَا مَعْنًى آخَرَ) غير معنى الفلاسفة والباطنية، (وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِمَ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ) الذي هو مذهب الفلاسفة ومذهب الباطنية، إنما فقط (كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ) من يقصد بأولئك؟ الفلاسفة والباطنية، (بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ) فلاحظ هذه الإلزامات وهذا في الحقيقة من دهاء ابن تيمية، عبقري وفريد في كشف شبه أهل الباطل والردود عليهم بالحجج العقلية، وهذا من فضل الله -عز وجل- عليه ومن فضل الله -عز وجل- على المسلمين أن وجد هذا العالم الجليل الذي يستخدم هذه الحجج، ولهذا هذا الكتاب مهم لطلاب العلم للتسلح بهذا السلاح لأجل الرد على جيوش أهل الزيغ والضلال الذين يلبسون على المسلمين في أعظم باب من أبواب الدين، وهو ما يتعلق بالخالق -عز وجل-، فيستخدم مثل هذه الحجج التي يكشفها هذا الإمام الجليل بهذه الأجوبة العقلية.
بهذا تنتهي القاعدة الأولى التي مقتضاها أن الرب -تبارك وتعالى- موصوف بصفات الإثبات وصفات النفي، وأن الإثبات لا يلزم منه التمثيل، بل يلزم منه التنزيه، والنفي ليس نفياً محضاً بل يلزم منه إثبات الكمال، ثم فرع على هذه القاعدة فروع وهو أن النفي المحض لا يوصف الخالق به وإنما يوصف بالنفي الذي يتضمن صفة الكمال، ولذلك جميع الصفات المنفية في الكتاب هي تتضمن هذا الكمال، ثم ناقش المعطلة الذين وصفوا الخالق بالسلب، ناقشهم مناقشة عقلية ومناقشة أيضًا بأدلة شرعية مما يدل على صحة مذهب السلف وبطلان مذهب هؤلاء المعطلة.
هذا ما يقال في هذه القاعدة، وأسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، ويجعلنا من المجاهدين في سبيله، المدافعين عن عقيدتنا التي عليها الرسل وعليها الصحابة والتابعون وأئمة الدين، وأن يكشف زيغ الذين يضلون المسلمين في أعظم باب من أبواب دينهم وهو ما يتعلق بصفات الخالق -عز وجل-.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
آمين وإياكم والإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
{وفي الختام هذه تحية عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد بن عمر، إلى أن نلتقيكم في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك