{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى: (وَتَجِبُ اْلهَجْرَةُ عَلى مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى إِظْهَارِ دِيْنِهِ
فِيْ دَارِ اْلحَرْبِ، وَتُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَدِرَ عَلى ذلِكَ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه
وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُتمَّ علينا وعليكم نعمه، وأن يصرَف
عنَّا وعنكم نِقمَه، وأن يُفيض علينا بالصِّحة والرَّحمة، وأن يُذهب عنَّا البلاء
والنِّقمَة، وأن يُعقب المسلمين ذهاب الآفات وانتهاء الأوبئة والأمراض، وحصول
الخيرات والرحمات، إن ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
كنَّا في الدرس الماضي أتينا على جُملةٍ من المسائل التي عقدها المؤلف -رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى- في مُهادنة الكفار ومعاهدتهم، والمسائل المتعلقة بذلك، وفيما
ذكرناه من تلك المسائل نفع في هذا الواقع في حال اختلطت كثير من المسائل، وخلط
أناسٌ ولبَّسوا على الناس، حتى تلبَّسَ أناس بشيءٍ من الفتن ووقعوا في أمورٍ لا
تُحمَد عقباها، واستُبيحت دماء مَن لم يُبح دمه، ونُقضت عهود، وغُيِّرَت أمورٌ عن
وجهها الذي قرره أهل العلم وجرى على أصل الشرع من الكتاب والسنَّة، فحريٌّ بنا أن
نُراجع ونرجع، وأن ننظر ونتأمل، وأن نصدر عن أهل العلم الراسخين، وعن أقوال الفقهاء
المحققين، وأن لا نُرعِيَ سمعًا لهؤلاء الأحداث المحدثين، الذين تكلموا في العلم
بغير وجه، ودخلوا في المسائل على غير أصلٍ، وأخذت بهم الأهواء مأخذها، ولبَّسَ
عليهم الشيطان لبوس الباطل حتى تجرَّعوا الغُصص، ودخلوا في الأمور العظام، والله
المستعان.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد ذلك مسائل الهجرة فقال: (وَتَجِبُ
اْلهَجْرَةُ عَلى مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى إِظْهَارِ دِيْنِهِ فِيْ دَارِ
اْلحَرْبِ)، وهذا بيانٌ من المؤلف أن الهجرة باقية إلى يوم القيامة، وأن ما جاء في
الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في قوله: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ
الفَتْحِ» ، أن هذا متعلق بمكَّة، يعني لَمَّا تحولت من كونها دار كفر إلى دار
إسلام؛ فانتهت الهجرة منها، وصارت دارًا من ديار المسلمين، وليس في ذلك إشارةٌ إلى
أن الهجرة بجملتها قد انتهى حكمها، أو ذهب مُتعلقها؛ بل كلما وُجد حال تشبه تلك
الحال بأن يكون الإنسان في دار كفر وفي مجتمعٍ غير مُسلمٍ؛ فإن الهجرة متعلقةٌ في
حقه، ثم ما درجتها وما مُتعلقها؟ قد تجب وقد تستحب.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتَجِبُ اْلهَجْرَةُ عَلى مَنْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلى إِظْهَارِ دِيْنِهِ فِيْ دَارِ اْلحَرْبِ)، فإذا كان يعجز من إظهار
شعائر دينه من الصلاة والصيام والحج والحجاب واللباس وغيرها مما أوجب الله -جَلَّ
وَعَلَا-؛ فإذا كان لا يقدر على ذلك فتجب عليه الهجرة.
أما إذا أمكنه إقامة هذه الشعائر وإظهار تلك الأحكام؛ فإن الهجرة لا تجب عليها،
لِما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، وأصل ذلك فيما قال الله -جَلَّ
وَعَلَا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا
يَهْتَدُونَ سَبِيلً﴾ [النساء: 97]، فهذه الآية دالة على أن الهجرة لازمة، إلا مَن
تعذَّر عليه ذلك.
ولابد أن يُعلم أن الهجرة والحرص عليها، وأن ينأى الإنسان بنفسه إلى محل يأمن فيه
على دينه، ويسلم في عقيدته، ويكون بمنأىً من الشَّر والفتنة، من أعظم ما يُطلب من
المرء، ولذلك كان من أعظم أبيات العرب -بل هو أعظمها وصدقها كما قيل- في لاميَّة
الشنفري لما قالوا:
وَفي الأَرضِ مَنأى لِلكَريمِ عَنِ الأَذى ** وَفيها لِمَن خافَ القِلى مُتَعَزَّلُ
لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ ضيقٌ عَلى اِمرئٍ ** سَرى راغِبًا أَو راهِبًا وَهوَ
يَعقِلُ
فالإنسان ينأى بنفسه عن دار البلاء والشر والظلم والعدوان والكفر، وعبادة الأوثان،
وهذا من أعظم ما يكون.
وإن كثيرًا من الناس لَيطلبون بعض هذه الديار طلبًا لرغد العيش، وسعةً في الحال،
وغير ذلك من الأمور، على ما يفوت من دينهم، وعلى ما يذهب من صحة اعتقادهم، سواء كان
ذلك في أنفسهم، أو كان ذلك في أهليهم؛ ولذلك في بعض هذه الأنظمة ما يسوغ تمرد الولد
على والده والبنت على أهلها، والدخول في مسالك الشر والبلاء والفتنة، فينبغي الحذر
من ذلك أيَّما حذر، وأن يحرص الإنسان على دينه، وأن يجعل المقدَّم ما يطلبه في
النجاة في آخرته، والسلامة عند ربه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَدِرَ عَلى ذلِكَ)،
أمَّا مَن قدر فتستحب له الهجرة؛ لأنَّه كما قلنا: إن السلامة من هذه الديار، وإن
البعد من هذه الأماكن وتلك المجتمعات؛ فيه سلامة من كثير من البلايا والشرور.
وإن كثيرًا ممَّن لا خلاق لهم يقول: إن بعض ديار الكفر خير من ديار المسلمين...،
وأنَّ هنا كذا وهناك كذا...، والحرية في الحديث...؛ وكل ذلك لا يجزي على صاحبه
شيئًا، ما يكون من وجود المجتمع المسلم، وظهور شعائر الدين والأذان، مع ما يحتف
بذلك من بعض الإشكالات أو خلاف ذلك؛ لا شك أنه خير من كثير من تلك المجتمعات، وما
ينصهر فيها من الدين، وما تذهب فيها من الشعائر، وما يذوب فيه أهلها، حتى لا
يُفرَّق بينهم وبين غيرهم من أهل الكفر والإشراك بالله -جَلَّ وَعَلَا-، فكل ذلك من
الشُّبه التي تُسوَّق على بعض ضعاف النفوس، وتقبلها مَن في نفوسهم شيء من الهوى
والرغبة في هذه الدنيا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ تَنْقَطِعُ اْلهِجْرَةُ مَا قُوْتِلَ
اْلكُفَّارُ، إِلاَّ مِنْ بَلَدٍ بَعْدَ فَتْحِهِ)}.
هذا إشارةٌ إلى ما ذكرناه، أن الهجرة غير منقطعة، ما دام ثَمَّ ديار كفر، فإن
الهجرة منها مشروعة، سواء كان ذلك على سبيل الوجوب، أو كان ذلك على سبيل الاستحباب،
ويُعفَى في ذلك عن مَن لم يستطع كما جاءت بذلك الآية ودلَّت على ذلك النصوص، إلَّا
إذا فُتِحَت دار الحرب وصارت دار إسلام ودار هدًى وإيمان فالحمد لله، يُقرُّ أهلها
عليها، ويستقرون فيها، وتُقام فيها الشعائر، ويظهر فيها الدين، وتسلم فيها العقيدة،
والحمد لله رب العالمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلجِزْيَةِ)}.
هذا من الأبواب التي يذكرها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- وقد جاء في ذلك قول
الله -سبحانه وتعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29]، والسنة دالة على ذلك،
والإجماع منعقدٌ على هذا.
والجزية: مبلغ مقدَّرٌ معلوم، يُدفع من أهل الذمَّة جزاء القيام عليهم وحمايتهم
ودخولهم في أحكام أهل الإسلام.
ومتى ما طلب الكفار الجزية أُجيبوا إلى ذلك، وستأتي الإشارة إلى هذا.
إذن؛ هذا الباب متعلق بهذه الجزية من حيث مشروعيتها، ومَن تُؤخَذ منه، وكيف تُؤخَذ،
والحال التي تُؤخَذ فيه، وتفاصيل الأحكام المتعلقة بذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ تُؤْخَذُ اْلجِزْيَةُ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ
اْلكِتَابِ، وَهُمُ اْليَهُوْدُ وَمَنْ دَانَ بِالتَّوْرَاةِ، وَالنَّصَارَى وَمَنْ
دَانَ بِاْلإِنْجِيْلِ، وَالْمَجُوْسُ إِذَا اْلتَزَمُوْا أَدَاءَ اْلجِزْيَةِ
وَأَحْكَامَ الْمِلَّةِ)}.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إن الجزية مخصوصة، وإن خصوصها مُتعلقٌ بمَن
كان لهم كتاب، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولكن لاحظ هنا أن المؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال: (إِلاَّ مِنْ أَهْلِ اْلكِتَابِ، وَهُمُ
اْليَهُوْدُ وَمَنْ دَانَ بِالتَّوْرَاةِ)، ويقصد بذلك أن مَن دان بالتوراة يعني:
فِرَق اليهود على اختلافها وتنوعها ما دامت تنتسب إلى اليهوديَّة فهي داخلةٌ في اسم
"أهل الكتاب"؛ فيجوز عقد الذِّمة معهم وإلزامهم بالجزيَةِ وما يترتب عليها، حتى ولو
اختلفت بعض فرقهم وغيرها، وهذا راجعٌ من أهل العلم إلى الخلاف في السَّامرة، ومَن
في حكمها من الصَّابئة ونحوها؛ هل هي فرق من فرق اليهود والنصارى أو غير ذلك؛ فعلى
كل حال يقولون: إن كل مَن انتسب إلى اليهوديَّة بوجهٍ من الوجوه، وكانت التوراة لهم
كتابًا؛ فهم داخلون في عقد الجزية وصحتها.
كما أنَّ النصارى وكل مَن دان بالإنجيل على اختلاف فرقها وما اختلفت عليه وما
تفرقت؛ فإنهم داخلون في ذلك، فإذا عُقد معهم على بذل الجزية صحَّ ذلك، وإن اختلف
اسمهم، ما دام أنهم ينتسبون إلى الإنجيل، وإن اختلفوا فيما بينهم وإن تخالفوا، وإن
لم يعد بعضُهم بعضَهم من النصارى، كما هو حال أهل النصرانيَّة في هذا الوقت، ولذلك
قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «افترَقَتِ اليهودُ على إحدى أو
ثِنْتَيْنِ وسبعينَ فِرْقةً، وتفرَّقَتِ النَّصارى على إحدى أو ثِنْتَيْنِ وسبعينَ
فِرْقةً» ، فاختلافها وتباينها لا يخرجها من كونها نصرانيَّة أو يهوديَّة، فتدخل في
أحكام الذمَّة والجزية وما يترتَّب عليها.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد ذلك: (وَالْمَجُوْسُ إِذَا
اْلتَزَمُوْا أَدَاءَ اْلجِزْيَةِ وَأَحْكَامَ الْمِلَّةِ).
المجوس هم ليسوا أهل كتاب من حيث الأصل، والجزية إنما تؤخذ من أهل الكتاب، لكن حكم
أهل العلم بأنهم تؤُخَذ منهم الجزية؛ لأنَّ لهم شبهة كتاب، ولذلك حكم أبو بكر وعمر
وغيرهم من الصحابة بأن المجوس حكمهم حكمُ اليهود والنصارى، وجاء عن عمر -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- وغيره "سُنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب"، وهذا كله راجع إلى قول من قال
من الفقهاء -كما هو مشهور مذهب الحنابلة- أن الجزية إنما تؤخذ من أهل الكتاب ومَن
في حكمهم، خلافًا لِمَن يقول: إنها تؤخَذ من عموم الكفار.
قال المؤلف: (وَالْمَجُوْسُ إِذَا اْلتَزَمُوْا أَدَاءَ اْلجِزْيَةِ وَأَحْكَامَ
الْمِلَّةِ)، فكل مَن تؤخذ منه الجزية مطلوب منهم أمران:
أولًا: أن يدفعوا الجزية التي التزموها.
الثاني: أن يلتزموا أحكام ملَّة أهل الإسلام، فلا يُشهروا دينهم، ولا يُخالفوا ما
اتُّفق معهم عليه، ولا يقدحوا في دين أهل الإسلام، ولا يُظهروا السُّخرية بشعائر
الإسلام، إلى غير ذلك من الأحكام، وستأتي الإشارة إلى شيءٍ من ذلك، وربَّما كان
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قد أشار إليها إشارة لطيفة، وفصَّل غيره من
الفقهاء فيما تنتقض به أحكام الذِّمَّة في كتب أوسع من هذا الكتاب "عمدة الفقه" رحم
الله مؤلفه رحمة واسعة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَتَى طَلَبُوْا ذلِكَ، لَزِمَ إِجَابَتُهُمْ
وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ. وَتُؤْخَذُ اْلجِزْيَةُ فِيْ رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ. مِنَ
اْلمُوْسِرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُوْنَ دِرْهَمًا، وَمِنَ الْمُتَوَسِّطِ
أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُوْنَ دِرْهَمًا، وَمِمَّنْ دُوْنَهُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمً)}.
قوله: (وَمَتَى طَلَبُوْا ذلِكَ، لَزِمَ إِجَابَتُهُمْ وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ)، أصل
ذلك ما جاء في حديث ثوبان: « إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ»، ثم ذكر منها: « فَادْعُهُمْ إِلَى
إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» ،
فإذا أرادوا أن يحتموا بحمى أهل الإسلام، ويستظلوا بظل المسلمين، ويبقوا على
ديانتهم، ويدفعوا جزيتهم؛ فإنه يجب على أهل الإسلام أن يُجيبوهم، وليس على أهل
الإسلام أن يُلزموهم بالإسلام: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، فلا إكراه في ذلك، ولا حمل لهم على ما لا
يريدون، ولكن لهم إما أن يلتزموا أحكام أهل الإسلام فلا يُخالفوهم، ولا يُظهروا
شعائر دينهم، ولا ينتقصوا الإسلام وأهله، وفي ذلك مسائل ستأتي الإشارة إليها، فمتى
طلبوا ذلك لزم إجابتهم لما جاء في حديث ثوبان، وحرُمَ قتالهم، فلا يجوز بعد ذلك
الاعتداء عليهم.
ومقتضى هذا العقد هو الدَّفع عنهم، وحكمهم حكم أهل الإسلام، حتى لو هجم عليهم بعض
المسلمين لوجب على مَن دخلوا في ولايته، وعقدوا الذِّمَّة معه أن يدفع عنهم بما
التزموه من العقد معهم من دفع الجزية والتزام أحكام الملَّة، حتى ولو هجم عليهم بعض
المسلمين، فكما لو تهجَّم عليهم أو آذاهم بعض أهل الإسلام لوجب أن يُكفُّوا
ويُمنعوا، فكذلك إذا هجم عليهم غيرهم، لأن مقتضى هذا العقد هو الدفع والمنع من أن
ينالهم شر أو سوء أو فتنة، ولم تزل على مر العهود عند أهل الإسلام في أوقات كثيرة
من أن أهل الكفر قد دخلوا في ظلال أهل الإسلام؛ فلم يجدوا أعظم من ذلك أمنًا
وأمانًا ووفاءً ودفعًا ورحمةً وإحسانًا وعدلًا، فدُفع عنهم، ومُنع الشرُّ عليهم،
وأقاموا بسلام، ومُكِّنوا فيما بينهم من الأحكام، وخُلِّيَ بينهم وبين ممارسة شعائر
دينهم دونما أن يُظهروها أو يعلنوها، فيصلوا صلواتهم، ويتعاطوا ما أُذن لهم في
دينهم من شرب خمر أو غيره؛ ولكن بشرط أن لا يُظهروه، ولأجل ذلك ذكر في التاريخ من
المآثر في مثل هذا ما لم يُعرَف في أمةٍ من الأمم على اختلاف الأمم والشعوب في مرِّ
العصور والدهور.
وفي المقابل في ذلك، رؤيَت أمم كالنصارى وغيرهم الذين تسلَّطوا على المسلمين بعد أن
صارت الدولة دولتهم، وساموهم سوء العذاب، ونكَّلوا بهم، وعذَّبوهم، وحديث محاكم
التفتيش وغيرها مما ذكره المؤرخون شيءٌ يندى له الجبين، فلله الحمد على ما جعل في
هذه الشريعة من العدل والإحسان ولوفاء بالعهود، وعدم ظلم الناس، وحملهم على ما لا
يُريدون.
قول المؤلف: (وَتُؤْخَذُ اْلجِزْيَةُ فِيْ رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ. مِنَ اْلمُوْسِرِ
ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُوْنَ دِرْهَمً).
الجزية كل عام، وهذا بلا شك، وهو الذي جاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولئلَّا
يُرهقون؛ لأنه لو كانت تؤخذ منهم كل شهر لأدَّى ذلك إلى إرهاقهم وتكليفهم ما لا
يطيقون، ثم جاءت هذه الجزية بالتفريق بين غنيهم وفقيرهم، وهذا من أعظم ما جاءت به
هذه الشريعة، ومن أتم ما حكمَ فيه عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه.
إذا استقر هذا؛ فهل الجزية شيء مقدر محدود وهو الذي حدَّه عمر -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- فيكون مستنسخًا ومحكومًا به كلما جدَّ عهد ذمَّةٍ، وكلما وُجدت أمة على ذلك
العقد؟ أم أن هذا مرده إلى الإمام؟
هذا على خلاف بين أهل العلم، يعني أن حُكم عُمر هل هو حُكمٌ شرعيٌّ فيكون
مُستمرًّا؟ أم أنه قاله باعتباره إمامًا بحسب ما احتفَّ بهم في تلك الحال فيكون مرد
الأمر إلى الإمام يحكم فيه بحسبِ ما يراه باختلاف الظروف والأحوال؟
من أهل العلم من قال هذا، ومن أهل العلم من قال هذا، ونقل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى- لما قال: (مِنَ اْلمُوْسِرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُوْنَ دِرْهَمً)، دلَّ
على أن هذا حد محدود حكمَ به عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيُعمل به على اختلاف الأمم
والشعوب والأحوال، وهو قول الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
ولو قيل بالقول الثاني وهو قول لكثير من أهل التحقيق، وهو أن مرد ذلك إلى الإمام،
وأن ينظر فيه زيادةً ونقصانًا، وتغييرًا وتبدلًا؛ فإذا تجدد عقدٌ مع أمَّةٍ من
الأمم على عقد الذِّمَّة والجزية فإنه ينظر فيما يناسب ذلك من الحال؛ لكان هو أقربُ
وأتم.
وسيأتي أنه إذا حكم إمام من الأئمة على عقد جزية من العقود؛ فإنه محكوم به لا
يُغيَّر ولا يُبدَّل، سواء قلنا بالقول الأول أو القول الثاني؛ حُكِمَ به، فيكون
مُستمرًا أبد التاريخ ما لم ينقضوه أو يتغيَّروا أو يختلف الحال، يعني: يختلف حالهم
من أن يكونوا ذمَّة ثم ينتقلوا، أمَّا ما داموا ذمَّة فلو بقوا مائة سنة أو مائتي
عام أو ألفي عام وهو على ذلك العهد؛ فإنه لا يأتي عليهم إمام ليغيره، سواء قلنا
بالقول الأول وهو أن الجزية محددة وهذا ظاهر، أو قلنا بالقول الثاني أن المرد إلى
الإمام.
إذن؛ المرد إلى الإمام فيما يحدث من العقود، أما ما أُبرِمَ منه فهو على ما
أُبرِمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ جِزْيَـةَ عَلى صَبِيٍّ، وَلاَ امْـرَأَةٍ،
وَلاَ شَيْخٍ فَانٍ، وَلاَ زَمِنٍ، وَلاَ أَعْمَى، وَلاَ عَبْدٍ، وَلاَ فَقِيْرٍ
عَاجِزٍ عَنْهَ)}.
الدراهم من الفضة، وهي تقريبًا ثلاثة جرامات إلا شيئًا يسيرًا، على اختلاف في
تحديدها، لكن فيه كتب معقودة للمقاييس والموازين ونحوها، وتفصل ذلك تفصيلًا لمن
احتاج إليه، وتعرفون أن هذه من الأمور التي إذا قلنا إنها مختلفة فالأمر في ذلك
ظاهر، وإذا قلنا إنها ليست مختلفة فيُرجَع في ذلك لمن وليَ هذه الأمور إلى كتب
الموازين لتحديد ما يُقابلها مما جدَّ للناس من عملاتٍ واختلفت فيهم من أثمان.
قوله: (وَلاَ جِزْيَـةَ عَلى صَبِيٍّ، وَلاَ امْـرَأَةٍ، وَلاَ شَيْخٍ فَانٍ، وَلاَ
زَمِنٍ، وَلاَ أَعْمَى)، فمتعلَّق الجزية أهل القتال، فمَن لا قتال منهم لا جزية
عليهم، ولذلك الصبي لما لم يكن من أهل القتال فلا جزية عليه، والمرأة إذا كانت ليست
من أهل القتال فلا جزية عليها، وكذلك الشيخ الفاني الكبير الذي ليس من أهل الحرب،
وكذلك الزَّمن -وهم مَن بهم الأمراض المزمن، وهم المعاقين أو ذوي الاحتياجات الخاصة
وغيرها- فتعبير الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بقولهم: "الزَّمن"، يعني: مَن به
علَّة تبقى معه زمنه وتستمر معه حياته.
وكذلك أهل العمى ففي العادة أنهم ليسوا أهل قتال، ولكن تقدَّم معنا أنه لو كان له
قتال بوجه من الوجوه أو دخول في الحرب برأيٍ أو مشورة، فإنه يكون من المحاربة
فيُقتَل ويُدفع، فإذا كان كذلك فتكون عليه الجزية بحسب هذا.
قال: (وَلاَ عَبْدٍ)، فالعبد في أصح القولين لا جزية عليهم لأنه لا مال له.
قوله: (وَلاَ فَقِيْرٍ عَاجِزٍ عَنْهَ)، وهذا من أعظم ما جاء به الشرع، أن هؤلاء
حتى وإن خالفوا في الديانة، حتى وإن دفعنا عنهم؛ فإنهم إذا عجزوا عن دفع الجزية
فغنه لا يرتفع حكم أمانهم وذمَّتهم والدَّفع عنهم، وما يلزم لهم من أحكام أهل
الذمَّة.
قال: (وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ وُجُوْبِهَا، سَقَطَتْ عَنْهُ)، سقوطها بعد الوجوب
ترغيبًا له في الإسلام، فلو افترضنا أن السنة انتهت واستُحقَّ عليه أن يدفع، ثم
تجدد له عهد وهو لم يدفعها، قلنا لا تدفعها، ترغيبًا له في الإسلام، وتقريبًا له
غلى الثبات على الديانة.
طبعًا هم يتكلمون على كيفيَّة أخذها، وأنها تُؤخَذ منهم على وجه الصَّغار، ولأهل
العلم كلام في الصَّغار، فهل هو مجرَّد أخذها صغارًا؟ أم أنَّ الصَّغار شيء زائد
على أخذ الجزة، وهو أن يكون معها شيء من إطالة الوقوف وإتعابهم في ذلك، وأخذهم بقوة
ونحوها؟
قولان لأهل التفسير، منهم من يقول: إن الجزية صغارٌ، وهي انقيادٌ وإذلالٌ لهم ونحو
ذلك، فلا يُحتاج إلى ما هو أكثر من هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ مَاتَ، أُخِذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ)}.
إن مات أُخذَت من تركته ما دام أنه وجبت في ذمَّته وهو من أهل الذِّمة، فهي من
الديون المستحقَّة كما تسحق عليه الكفارة وديون الآدميين ونحوها؛ فهذا مالٌ مستحقٌّ
لبيت المال على ذلك الرجل الذمي الذي قد مات ولم يدفعها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنِ اتَّجَرَ مِنْهُمْ إِلى غَيْرِ بَلَدِهِ،
ثُمَّ عَادَ، أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ اْلعُشْرِ، وَإِنْ دَخَلَ إِلَيْنَا تَاجِرٌ
حَرْبِيٌّ، أُخِذَ مِنْهُ اْلعُشْرُ)}.
المتَّجرون من أهل الذِّمة إذا كان اتِّجارهم داخل دار أهل الإسلام فلا شيء عليهم،
لكن إذا كانوا يخرجون إلى ديارٍ أخرى، ثم يعودون بالبضائع والتِّجارات ونحوها؛ فإنه
يُؤخذ منهم نصف العُشر، يعني 5%، فإذا كانت البضاعة تساوي مائة ألف، فيؤخذ منه خمسة
آلاف.
توجد الآن بعض الأنظمة قد لا تختص بهذه الفئة ونحوها، لكنه في الجملة فيها ما
يُقارب ذلك، ولكن ينبغي أن يُنظَر إلى ما ذكره الفقهاء في كل صنف بخصوصه، فإنَّ ذلك
أحرى في الموافقة لما ذكره أهل العلم ولما قرره الفقهاء.
أمَّا الحربي الذي لا عهد بيننا وبينهم ولا أمان، فعندنا عهدٌ بترك القتال -وهو ما
مرَّ معنا في الهدنة والعهود- أما قول المؤلف: (وَإِنْ دَخَلَ إِلَيْنَا تَاجِرٌ
حَرْبِيٌّ)، يعني: مستأمَن -طلب الأمان- فدخل، سواء كان ذلك لمدة يوم أو يومين، شهر
أو شهرين، لتجارة أو لزيارة قريب، أو لغيره؛ فهذا يعتبر مستأمن، فإذا كان قد دخل
بتجارة فيُحفَظ بأمانه، لكن بتجارة يؤخذ ما يُقابل ذلك العُشر من تجارته، فإذا كان
يسوِّق البز والمنسوجات، أو المصنوعات؛ فتُقيَّم ويُؤخَذ منها 10 % أو يؤخذ من
أعيانها على ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهذا جاء في أثر عمر، وهو من
الشهرة بمكان، وعليه عمل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ نَقَضَ اْلعَهْدَ بِامْتِنَاعِهِ مِنِ
اْلتِزَامِ اْلجِزْيَةِ، أَوْ أَحْكاَمِ الْمِلَّةِ، أَوْ قِتَالِ اْلمُسْلِمِيْنَ
وَنَحْوِهِ، أَوِ الْهَرَبِ إِلى دَارِ اْلحَرْبِ، حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ)}.
هذه إشارة إلى ما ينتقض به العهد، والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لم يتوسَّع
فيها، فذكر بعضهم عشرة، وذكر بعضهم أكثر من ذلك، ما ينتقض به العهد، وأصلها هو
امتناعه عن الجزية، فينتقض عهده؛ لأنَّ عهدنا قائم على دفع الجزية، أو قال: لا
ألتزم بأحكام الملَّة؛ فينتقض عهد.
ففي هذا إشارة إلى أنه إذا كان ملتزمًا لأحكام الملة، لكنه حصلت منه مخالفة، كأن
يظهر شرب الخمر، أو أظهر الصليب، أو أظهر بعض شعائر دينه؛ فيعاقب على ذلك، ولكن لا
ينتقض عهده.
أمَّا ما ينقض العهد فيكون بعدم دفع الجزية، أو عدم الالتزام بأحكام الملة، أو قتال
المسلمين ونحوهم، أو سب لله ولرسوله، ونحو ذلك.
وفي هذا إشارة إلى ما ذكرنا سابقًا من مسائل ما يحصل من المشركين في الاستهزاء
بشعائر الدين، أو بالنبي الكريم، أو بغير ذلك؛ أنَّ هذه ليست مُتعلقها المعاهدين؛
بل من حيث الأصل أهل الذمة الذين يعشون بيننا والذين ندفع عنهم، فلا نسمح لهم بذلك،
وهذا مما ينتقض به عهدهم، أما المعاهدين فلا، العهدُ الذي بيننا وبينهم هو ترك
القتال فقط، وقد ينضم إلى ذلك أشياء، فهو بحسب ما عُقدَ عليه ذلك العقد، وهو بحسب
قوَّة المسلمين وعدمه، أما الذِّمِّي فلابد من التزامه لأحكام الملَّة، ولابدَّ أن
تسلم منه شعائر الدين وما ينتمي إليه المؤمنون، فلا يجوز له أن ينتقض شيئًا من ذلك.
قوله: (أَوِ الْهَرَبِ إِلى دَارِ اْلحَرْبِ، حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ)، أي: أراد
الهرب إلى المشركين والانتقال إليهم، فيحل دمه، وهذا من العدل، وإن كان هذا قد
يُفهَم من كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ولكن لم ينص عليه.
قال: (وَمَنْ نَقَضَ اْلعَهْدَ بِامْتِنَاعِهِ مِنِ اْلتِزَامِ اْلجِزْيَةِ، أَوْ
أَحْكاَمِ الْمِلَّةِ، أَوْ قِتَالِ اْلمُسْلِمِيْنَ وَنَحْوِهِ، أَوِ الْهَرَبِ
إِلى دَارِ اْلحَرْبِ، حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ)، يعني الفاعل لذلك، ثم قال: (وَلاَ
يَنْتَقِضْ عَهْدُ نِسَائِهِ وَأَوْلاَدِهِ بِنَقْضِـهِ)، فهم على عهدهم ما داموا
لم ينتقضوا ولو كانوا تبعًا لهم.
إذن؛ ما يحصل من انتقاض العهد إنما هو له بحسب ما جرى منه من فعل، ولكنه لا يسري
ذلك إلى مَن تحت يده من زوجٍ أو ولدٍ أو سواه، وهذا من تمام عدل هذه الشريعة
وكمالها.
قال: (وَلاَ يَنْتَقِضْ عَهْدُ نِسَائِهِ وَأَوْلاَدِهِ بِنَقْضِـهِ)، إلَّا أن
يكون منهم شيء من ذلك، فلو أنهم أظهروا ما أظهر والدهم، وأيَّدوه على ذلك؛ فينتقض
عهدهم، وإلَّا فلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِلاَّ أَنْ يَذْهَبَ بِهِـمْ إِلى دَارِ
اْلحَرْبِ)}.
فلو حملهم إلى دار الحرب انتقض عهدهم؛ لأننا إنما نؤمِّنهم ما داموا عندنا، وإنما
عهدهم ما داموا تحت حكمنا وملتزمين بعقدنا، فإذا انتقلوا ذهبَ عهدهم وأمانهم وحلَّت
دماؤهم، وصاروا كأهل الحرب سواء بسواء.
وبهذا نكون قد أنهينا ما يتعلق بمسائل الجهاد، ونعيد ما ابتدأناه: ما ذكرناه هو
كالإشارة إلى أصلِ المسائل التي قررها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- وقد
ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- على شيء من الاختصار والإجمال.
وقلنا: إن هذا كتأسيسٍ لطالب العلم، وهي كالأصول لمن أراد أن يتدرَّج في التَّعلُّم
والتَّفقه، والعلم بهذه المسائل على الوجه الذي ذكره المؤلف لا يؤهل الطالب
للإفتاء، ولا يوصله إلى مرحلة القضاء، ولا يكون كما يحصل في الواقع من الافتيات على
الأئمة والفقهاء في مسائل الجهاد والتَّصدِّي لها والحكم فيها، واستباحة الدماء،
والصدور فيها عن رأي الأحداث، فإن هذه المسائل هي مسائل قليلة وتأصيليَّة يحتاج
فيها إلى درجات كثيرة حتى يرقى فيها الطالب إلى أن يكون متضلِّعًا في هذا الباب،
وأن يكون قوله قولًا مستكملًا للأركان، مستجمعًا للأمور التي بها تصحُّ الفتوى
ويُرجع إليه في الأحكام.
كما أنَّا قلنا: إنه مهما اجتمع للإنسان في مثل هذه الأبواب من العلم بها وتكميل ما
يتعلق بها؛ إلَّا أن الوقائع مختلفة، وتحتاج إلى إعمال الفقيه نظره، وإلى أن ينظر
في العلل، وأن يستبين في المسائل بما ينطبق الواقع على ما ذكره الفقهاء أو يقرب
منه، ولما كان الأمر بهذه المثابة كان من أصعب ما يكون الحكم والبت والصدور في مثل
هذه المسائل.
ولأجل هذا كان لطلاب العلم المبتدئين والمتوسطين أن يُحجموا عن الوقائع، وأن
يمتنعوا من القول في النوازل، وأن يحفظوا في ذلك أنفسهم من الوقوع في الزَّلَّة
والنزول في الفتنة، والتَّعرُّض للمحنة.
وإني أقولها لكم كما قلتها لكثير من الطلاب: من أكثر ما درسنا هذا الباب، درسناه في
كتاب العمدة هنا، وفي الزاد، وفي الروش المربع، ودرسناه في المغني، ودرسناه في
الكتب الوسَّعة، ودرسناه على مشايخنا في سنن أبي داود في كتاب الجهاد، وقراناه
أيضًا في البخاري؛ قرأناه في كثير من الكتب، ومع ذلك لم تزل هذه المسائل في صعوبتها
ووعورتها من جهة تأصيلها ومن جهة صعوبة إنزالها على الوقائع وما يستجد من الأحداث.
فنعود ونقول: هذا باب عظيم، دراسته لأهل العلم متحتِّمة، لكن الجرأة من الطالب فيه
دحضُ مزلَّةٍ وبلاء وفتنة، متى ما أسرع إلى ذلك فليُعلَم أنه أسرع إلى شرٍّ يوشك أن
يلحق به بلاءً كثيرًا وشرًّا مستطيرًا، والله يتولَّانا برحمته.
بعد ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتاَبُ اْلقَضَاءِ).
كما تعلمون أننا في نهاية هذا الكتاب المبارك بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- والإخوة
طلبوا منِّي أن نسرع الخطى حتى يكون في نهاية هذه المجالس انتهاء لهذه المتن
المبارك، ولعل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يعيننا على ذلك، ربما أن تتحمَّلوا منَّا أن
نختصر في شيءٍ من هذه المسائل، خاصَّة وأن كتاب القضاء مما يليه القلَّة القليلة من
الناس، ويحتاجون إلى التَّضلُّع منه، والوقوف على تفاصيل مسائله، ولكن لن نُعدَمَ
بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- من العلم بهذا الكتاب وما ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ
تَعَالَى.
القضاء من الولايات الشرعية العظيمة، وقد جاء في هذه الولايات التحذير من طلبها أو
الاستشراف لها، وما يترتب على ذلك من آثارٍ عظيمة، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- قال لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تَسْأَلِ الإمارَةَ، فإنَّكَ إنْ
أُعْطِيتَها عن مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْها، وإنْ أُعْطِيتَها عن غيرِ مَسْأَلَةٍ
أُعِنْتَ عليه» ، وجاء في الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال
في مثل هذه الولايات: «فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وبِئْسَتِ الفاطِمَةُ» ، وقال -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ» ، وفي
ذلك أحاديث كثيرة.
ولم يزل الخُلَّص من الناس ومن طلبة العلم يتوقَوْنَ ولايتها والتَّعرُّض لها،
والدخول فيها، ولم تزلْ هذه سمتهم وصفتهم وطريقتهم على مر التاريخ خوفًا على نفوسهم
وطلبًا للنَّجاة في ديانتهم.
والقضاء بمعنى: الإحكام والتَّمام والكمال؛ لأنه يُقضَى في الشيء فيفصل فيه ويُتم،
فيُجعَل الأمر إلى أهله، ويُنزَع ممَّن ليس له حكمه، فهذا هو أصل هذه الكلمة.
ما الفرق بين القضاء والإفتاء؟
الحنابلة يذكرون مسائل الإفتاء في مطلع مسائل القضاء.
القضاء في الأصل إلزام، أمَّا الفتيا ليست إلزامًا، وإنما توضيح وتبيين.
الفتيا تكون للواحد وتكون للعموم من الناس، أمَّا القضاء فإنما يكون للمتخاصمين
بخصوصهما.
الفتيا تكون فيما يتعلق بالدِّيانة الخالصة، وتكون فيما يتعلق بالمعاملة وسواها،
أما القضاء فهو متوجِّهٌ إلى المعاملة ونحوها، ولا يتوجَّه إلى مسائل الديانة وما
يتعلق إلا من جهة التعزير في التقصير على القيام بها ونحو ذلك.
هذه ثلاثة من أبرز الفروق بين الإفتاء والقضاء، وثَمَّ فروق أخرى يذكرها الفقهاء
-رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- هنا.
أصل القضاء قوله تعالى: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك
الله ولا تكن للخائنين خصيم﴾ [النساء: 105]، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ: «القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ...» ، والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، وإجماع السلف
على أن هذه من أعظم الولايات وأعظم ما يترتب عليها، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- ولي القضاء، وكذلك خلفاؤه، واشتُهر ذلك عن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
وأرضاه- ووليه علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيره من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، يَلْزَمُ اْلإِمَامَ
نَصْبُ مَنْ يُكْتَفِى بِهِ فِيْ اْلقَضَاءِ)}.
القضاء فرض كفاية؛ لأن ذلك مما تتعلق به مصالح الناس، وإذا لم يوجد القاضي فإنه
يُوشك أنَّ كل واحدٍ يتطلَّع إلى مَن بيد غيره ويظنُّ أنه حقًّا له، وجُبلت النفوس
على الشُّح، وظنَّ أنَّ الشيء لها، وأن غيرها لا حقَّ له في ذلك، ولا يتأتَّى الفصل
في ذلك إلا بمَن تجرَّد من الهوى، ونظرَ بالحقِّ، وفصل بين الناس، ولم تزل
المجتمعات حتَّى مع فضلها وديانتها وعلو كعبها في الخير والهدى محتاجة إلى ذلك، حتى
الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم- اختلفوا واحتكموا وحكَّموا ونظروا، حتى
علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جلسَ بين يدي القاضي، وجاء مثل ذلك عن عمر وغيره؛ فهو
مما لا بدَّ للناس منه، ولذلك كان فرض كفاية.
قال: (يَلْزَمُ اْلإِمَامَ نَصْبُ مَنْ يُكْتَفِى بِهِ فِيْ اْلقَضَاءِ)، فهو من
ولايات الإمام، فإمَّا أن يقوم بها، وإمَّا أن يُنيب عنه مَن يقومَ بها، ولأجل ذلك
كان عمر يجعل القضاة، ولما جاءت تلك المرأة وذكرت من حال زوجها وصلاحه وديانته؛
فقال عمر: ما أحسن هذا! فانصرفت واستحيَت؛ فقال كعب: يا أمير المؤمنين، إنها تشتكي
زوجها. قال عمر: وما ذاك؟ قال كعب: إنها تشتكي ما يفوت عليها من حقها، وما يكون مما
تطلبه من زوجها. فعجب عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في ذلك، فأمر بالمرأة فرجعت، وأمر
بأن يحكم فيها كعب. فقال كعب: أرى أنه لو كان لهذا الرجل أربع نساء، فينفرد في نفسه
ثلاثًا فيما يريده من عبادة، وما ينفرد فيه من صلاح وديانة، ويجعل الليلة الرابعة
لزوجه. فقال عمر: ما أمرك الأول بأعجب من أمرك الثاني؛ فأمر به فجعله قاضيًا.
فدل هذا على أن الإمام ينصب القضاة، وإذا نصب القاضي فإنه يُغنيه، وجاء أنه يجعل له
كل يوم درهمًا، وجاء عن عمر أنه جعل لابن مسعود نصف شاة كل يوم، إلى غير ذلك مما
جاء، حتى لا يحتاج فيميل في حكمه، أو يقبل في ذلك محرَّمًا أو رشوةً أو سواها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَجِبُ عَلى مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، إِذَا طُلِبَ
وَلَمْ يُوْجَدْ غَيْرُهُ، اْلإِجَابَةُ إِلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ،
فَاْلأَفْضَلُ تَرْكُهُ)}.
كما قلنا: إن هذه لما كانت ولاية لا يرغب فيها أهل الفضل والعلم والصلاح؛ أراد
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يبين أنه قد تتعيَّن على الإنسان فلا يجوز له
أن يتخلف عن ولايتها، أو أن يتأخر عن القيام بها، وذلك أن يجتمع فيه أمران:
الأول: في قوله (وَيَجِبُ عَلى مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، إِذَا طُلِبَ وَلَمْ يُوْجَدْ
غَيْرُهُ)، ما دام أنه يصلح للقضاء ولم يُوجَد غيره، وأمره الإمام بولايتها، لأن
الإنسان لا يُولِّي نفسه ولا يطلبها كما جاء في النصوص المتقدم ذكرها؛ فإنه يجب
عليه أن يتولاها، وإلا فالأصل أن الإنسان يخاف في ذلك، ولهذا قال المؤلف -رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ، فَاْلأَفْضَلُ تَرْكُهُ)، لما جاء في
الحديث: « القُضاةُ ثلاثةٌ، قَاضِيَانِ في النَّارِ، وَقَاضٍ في الجنَّةِ»، وقوله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَن وَلِيَ القَضاءَ فقد ذُبِحَ بغيرِ سِكِّينٍ»
.
أما القاضيان اللذان في النار: قاضٍ قضى بالجهل وحكم به، وقاضٍ علم الحق وقضى
بغيره؛ فكلاهما في النار.
والثالث: علم الحق وقضى به، فهو في الجنة.
وليس المقصود بذلك كما يفهم بعض الناس أنَّه إذا افترضنا أن عندنا مائة قاض، أن
سبعة وستين منهم في النار، وثلاثة وثلاثين في الجنة! بل إن المقصود أنهم أصناف
ثلاثة، فقد يكون في بعض الأحوال أكثرهم من الصنف الأول الذي هو من أهل الجنة،
لكونهم أهل علم وقضوا بالحق، وقد يكونوا في بعض الأحوال من الصنف الثاني، لكونهم
أهل جهلٍ وضلالة، فيقضون بالجهالة ويحكمون بها، وقد يكونوا من القسم الثالث الذين
يتقحَّمون الشرَّ -نسأل الله السلامة- وهم أن يعلموا الحق، ومع ذلك يقضوا بغيره.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يعين مَن ولي القضاء، وأن يبلغه فيه
الخير والهُدَى، وأن يعصمنا وإيَّاهم وإيَّاكم من الشرِّ والرَّدى.
أظن أن الحديث قد انتهى إلى هذا، أسأل الله لي ولكم دوام التوفيق والسداد، وإلى
لقاء قادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.