الدرس الثاني و العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس الثاني و العشرون

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّا الله الجميع.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في باب صفة الحكم: (وَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يَقُوْلاَنِ: قَرَأَهُ عَلَيْنَا، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ بِحَضْرَتِنَا، فَقَالَ: اشْهَدَا عَلَيَّ أَنَّ هَذَا كِتَابِيْ إِلى فُلاَنٍ، أَوْ إِلى مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِيْنَ وَحُكَّامِهِمْ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا وإيَّاكم من العلم والهُدَى، وأن يُبلغنا البر والتُّقى، وأن يُعيننا على الحق والهُدَى والصواب، وأن يجنِّبنا الشرَّ والخطأ والخلل، وأن يحفظنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا في كتاب القاضي إلى القاضي، وكنَّا قد ذكرنا مقدِّمةً لهذا الباب، وهي مسألة القضاء على الغائب، وقلنا إنها معتبرةٌ ويُحتاجُ فيها إلى الكتاب، لأنه في الغالب أنه يكون لدى قاضٍ آخر فيكتب إليه بذلك، وإن كان أصل المسألة ليس من مسائل كتاب القاضي إلى القاضي.
بعد هذ أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يُثبت ما يتعلَّقُ بكيفيَّة اعتبار كتاب القاضي، فيقول المؤلف: (وَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يَقُوْلاَنِ: قَرَأَهُ عَلَيْنَ)، فإذا ذهب الكتابُ إلى القاضي، جاء الشاهدين وقالا: نشهدُ أن الشيخ فلان ابن فلان حكم على هذا المدَّعى عليه بأنه لزمه هذا القرض، وأنَّه لازمٌ في ذمَّته، وأنه مستحقٌّ لفلان بن فلان، وأنه ثبت لدينا ذلك بالبينة القاطعة.
قوله: (قَرَأَهُ عَلَيْنَا، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ بِحَضْرَتِنَ)، فإمَّا أن يكون الشيخ هو الذي قرأ أو قُرِئَ بحضرته، واتفق على ذلك، وقال: اشهدا على هذا؛ فلابدَّ أن يكونا قد شهدا على هذا الأمر.
وفي هذا إشارة إلى أنه لو أن القاضي كتبَ القضاءَ وختَمَهُ وأدخلَه، ثم أرسلَه معهما وقال: اشهدا بما فيه، فهذا لا يصلح، وهذا هو مفهوم كلام المؤلف هنا؛ لأنه قال: (قَرَأَهُ عَلَيْنَا، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ)، فجعل هذان هما مناط صحَّة الحكم بكتاب القاضي إلى القاضي، ونصَّ بعض الفقهاء على أنه لو أشهدهما عليه مُدرجًا مختومًا؛ فلا نأمن أن يكون غُيِّرَ أو اختلف؛ فلابدَّ أن يشهدا بمضمونه تفصيلًا.
ولا يختلف الحال بين أن يكون كتاب القاضي إلى قاضٍ آخرَ بعينه أو إلى قضاة المسلمين في جملتهم، فإذا كتب: إلى الشيخ محمد بن أحمد بن صالح؛ فذهب إلى هذا الشيخ فيُمضي ما فيه. أو قال: إلى مَن يصله من قضاة المسلمين، أو: إلى مَن يصله من قضاة جدَّة، ونحو ذلك؛ فمَن وصل إليه لزمه أن يحكم بذلك، أو يُجريَ ما فيه من الحكم.
حتَّى ولو قال: إلى محمد بن أحمد بن صالح؛ فلما وصل الكتاب إليه إذا محمد بن أحمد بن صالح مات، أو عُزِلَ عن القضاء، ووليه غيره؛ فإنه يقوم مقامه في هذا، وكثير من هذه الرسائل كُتِبَت من قضاة وماتوا أو ذهبوا.
وكذلك لو أن القاضي الذي حكمَ مات، فما دام أنه كتب وأشهدَ عليه فإنه يلزم بما كتبه.
وهنا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تبيينًا لهذه المسألة: (فَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوْبُ إِلَيْهِ، أَوْ عُزِلَ، فَوَصَلَ إِلى غَيْرِهِ، عَمِلَ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ اْلكَاتِبُ، أَوْ عُزِلَ بَعْدَ حُكْمِهِ، جَازَ قَبُوْلُ كِتَابِهِ)، وهذا واضحٌ لا خفاء فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُقْبَلُ كِتَابُ اْلقَاضِيْ فِيْ كُلِّ حَقٍّ، إِلاَّ اْلحُدُوْدَ وَاْلقِصَاص)}.
هذا فيما يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي.
عندنا كتاب القاضي إلى القاضي يتعلق به جهتان:
الجهة الأولى: إمَّا أن يكون قد كتب إليه ليُنفِذَه: فهذا يثبت فيه كل شيء، يعني استُكمِلَت القضية وانتهت فقط ليؤخَذ الحق من هذا، حضر المدَّعى عليه وانتهى الأمر.
إذن؛ في التَّنفيذ يثبت فيه كل شيء، ويسمونه عندنا الآن: قضاء التَّنفيذ، والأصل فيه أن القاضي يحكم والقاضي الثاني يُنفِّذ، فهذا أصله كتاب القاضي إلى القاضي، وهذا يدخل فيه كل شيء ولا حدَّ له.
الجهة الثانية: وهي أكثر إشكالًا، وهي إذا ثبت لديَّ أن لفلان بن فلان خمسة وعشرين ألفًا على فلان، وهذا بالبيِّنة وبشهادة فلان وفلان وفلان؛ فهذا أثبتَ أن له، ولكن ما الذي سيحكم به القاضي الذي يصل إليه الكتاب، يأتي ويفتح القضيَّة، ويستدعي المدَّعَى عليه، ويقول له: ثبت كذا وكذا؛ فهل عندكَ ما يرد ما ثبت بموجب شهادة الذين شهدوا، ولكن لم يشهدوا عندي، وشهدوا عند فلان وكتب إليَّ بشهادتهم؛ فهذا هو محل الكلام.
وبناء على ذلك؛ هل يُقبل فيه كل شيء؟
يثبت في حقوق الآدميين ونحوها، إلا في الحدود، لأن الحدود تُدرَأُ بالشبهات، وكتاب القاضي إلى القاضي فيه شبهة أنه لم يثبت من كل وجه، أو فات عليه كذا، فهذا مما يُدرَأ به.
هل القصاص مثل ذلك؟
هذا ظاهر ما ذكره المؤلف هنا، وهي من بعض اختياراته، وإن كان في مشهور المذهب عند الحنابلة استثناء الحدود فقط.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلقِسْمَةِ)}.
القسمة لها متعلقان:
في أبواب المعاملات -كما يذكره بعضهم- وفي باب القضاء، من جهة أنه في الغالب يُقسَم إذا اختلفوا فارتفعوا إلى القاضي فيقسم بينهم؛ فلأجل ذلك ذكرت في مثل هذا الباب من جهة أنَّه يلي هذا الأمر أو يحكمُ بالقسمةِ أو بعدمها القاضي، أمَّا في الأصل إذا اتفقا ولم يختلفا وتنازلا أو تواضعا، أو واحد أخذ ناقص ورضي، فلا إشكال في ذلك، وإنما محل الكلام هنا في أن يكون في مِلكٍ شريكان أو أكثر، ثم بعد ذلك يكون بينهما خلاف، أحدهما يُريد البيع والثاني يُريد الإمساك، أحدهما يُريد القسمة والآخر لا يُريد، فيرتفعا إلى القاضي، فيحكم بينهم إمَّا بالقسمة في بعض الأحوال أو بعدمها، على ما سيذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا.
والأصل في القسمة جاء في السنن ودلَّ عليه الدلائل، والحاجة داعيةٌ إلى ذلك، والشريعة مليئة بالأحاديث والدلائل على هذا، كما في قسمة المواريث وسواها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهِيَ نَوْعَانِ:
قِسْمَةُ إِجْبَارٍ، وَهِيَ: قِسْمَةُ مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلاَ رَدِّ عِوَضٍ إِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيْكَيْنِ قَسْمَهُ، فَأَبَى اْلآخَرُ، أَجْبَرَهُ اْلحَاكِمُ عَلَيْهِ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِلْكُهُمَا بِبَيِّنَةٍ)
}.
إحداها قسمة إجبار: وهي التي تتساوى فيها الأملاك والأجزاء.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قِسْمَةُ مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلاَ رَدِّ عِوَضٍ)، كأن تكون أرضًا كبيرة، فإذا قسمناها نصفين فهذا يأخذ النصف وهذا يأخذ النصف، وليس هذا بأتمَّ من هذا، ولا هذا بأحسن من هذا.
لكن لو كانت لا يُمكن قسمها، كأن يكون بيتًا وفيه زرع، ولو قسمت هذه تكون صغيرة لا يُمكن الانتفاع بها، وهذه الانتفاع بها من أوجه كبيرة، فإذا كانت على هذا النحو فيكون فيها رد عوض، فهذا هو القسم الثاني الذي سيُذكَر.
أمَّا الحال الأولى فلا إشكال فيها، فيُجبرهم القاضي؛ لأنه ليس على أحد فيها ضرر، ولا يُحتاج فيها إلى مُقابل حتى يكون حكمها حكم البيع فيُحتاج فيها إلى التراضي؛ فلأجل ذلك قال: (مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلاَ رَدِّ عِوَضٍ)، تتساوى من كل وجه، سواء كان أخذ هذا النصف وهذا النصف، أو أخذ هذا الثلثين وأخذ هذا الثلث، المهم أنها متساوية، الثلث هذا يساوي الثلث هذا يساوي الثلث هذا.
قوله: (إِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيْكَيْنِ قَسْمَهُ، فَأَبَى اْلآخَرُ)، أما إذا اتفقا فهما على ما اتفقا عليه، وإذا ثبت عندهما ملكهما، يعني لما يقسم بينهما القاضي ويصدر لهم صكًّا، ثم يثبت أنه ليس ملكهما، كأن يأتي واحدٌ ويقول: هذه أرضي وملكي عليها، فإذا تحقق القاضي من ثبوت الملك لهما قسم بينهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ، لَمْ يُجْبِرِ الْمُمْتَنِعَ عَلَيْهِ)}.
يعني: إذا ثبت عند القاضي أنه ملكه لا يُوجد شرط الإجبار، فبناء على ذلك لا يكون للقاضي إجبارٌ في مثل هذه الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ طَلَبَاهَا فِيْ هَذِهِ اْلحَالِ، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، وَأَثْبَتَ فِيْ اْلقَضِيَّةِ أَنَّ قَسْمَهُ كَانَ عَنْ إِقْرَارِهِمَا، لاَ بِبَيِّنَةٍ)}.
قوله: (وَإِنْ طَلَبَاهَا فِيْ هَذِهِ اْلحَالِ)، يعني: ليس فيه ما يثبت الملكية، فتُقسَم بينهما بناء على الإقرار.
قوله: (وَأَثْبَتَ فِيْ اْلقَضِيَّةِ أَنَّ قَسْمَهُ كَانَ عَنْ إِقْرَارِهِمَا، لاَ بِبَيِّنَةٍ)، لئلا يكون القسم في هذه الحال طريقًا إلى دعوى الملكيَّة، هو يريد أن يقسم القاضي بينهما حتى تكون في ملكهما، فيُبيِّن القاضي أنه قسَمَ بينهما بناء على إقرارهما أن هذه الأرض ملكًا لهما، وإذا أقرَّ أحدهما لم يُجبَر الممتنع، فإذا قال الممتنع: أنا لا أُثبت أنه ملك؛ فهنا لم تثبت بينة المِلْك، فلا يقضي القاضي بالقسمة ويحكم بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِي: قِسْمَةُ التَّرَاضِيْ؛ وَهِيَ قِسْمَةُ مَا فِيْهِ ضَرَرٌ؛ بِأَنْ لاَ يَنْتَفِعَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيْبِهِ فِيْمَا هُوَ لَهُ، أَوْ لاَ يُمْكِنُ تَعْدِيْلُهُ، إِلاَّ بِرَدِّ عِوَضٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَلاَ إِجْبَارَ فِيْهَ)}.
قسمة التَّراضي هي قسمةُ ما فيه ضرر، يعني لو كان أبوهما قد تركَ لهما هذا البستان، وهذا البستان أحدهما منبتٌ فيه شجرٌ مثمر وخيرٌ كثير، وآخر لا ماء فيه؛ وهما ابنٌ وبنت، وهذا يعني أنه له سهمين وهي لها سهمٌ -الثلثان والثلث- فجاء القاضي ليحكم بينهما ويُقسم، فلو أنه أعطى البنت هذه الجهة لكان في ذلك ضرر كثير، ولو أعطاها هنا لتضرر الآخر، فهذه (قِسْمَةُ مَا فِيْهِ ضَرَرٌ؛ بِأَنْ لاَ يَنْتَفِعَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيْبِهِ فِيْمَا هُوَ لَهُ، أَوْ لاَ يُمْكِنُ تَعْدِيْلُهُ، إِلاَّ بِرَدِّ عِوَضٍ مِنْ أَحَدِهِمَ)، فبناء على ذلك يعطيه بدله فيما يُقابل ذلك.
وحقيقة قسمة التراضي أنها بيع، كأن له ملكًا في هذه الألفين اشتراها منه مقابل الخمسين ألف، وبناء على ذلك يكون فيه رد عوض، وتكون في حكم البيع، والبيع لا يكون إلا بالتراضي؛ فلا يكون فيها إجبارٌ بحال من الأحوال، فإمَّا أن يتفقا، يقول: خذ هذا وأعطيك خمسين ألفًا، أو خذ هذا وأعطيك مائتين ألف...، فإن اتفقا الحمدُ لله.
أما لو لم يتفقا فإنه لا يكون فيها إجبارٌ، لأنَّه فيه ضرر على واحدٍ منهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاْلقِسْمَةُ إِفْرَازُ حَقٍّ لاَ يَسْتَحِقُّ بِهَا شُفْعَةٌ، وَلاَ يَثْبُتُ فِيْهَا خِيَارٌ)}.
قوله: (وَاْلقِسْمَةُ إِفْرَازُ)، يعني: فرز حق هذا عن حق هذا.
قوله: (لاَ يَسْتَحِقُّ بِهَا شُفْعَةٌ)، يعني: لَما قسمَ بين اثنين من الإخوان، يقول الثالث: أنا أشفع وآخذها! نقول: لستَ بأولى منهما، فهي قسمةُ إفرازٍ، وبناء على ذلك لا يكون فيها بيعٌ يترتب عليه أحكام الشفعة وسواها.
قوله: (وَلاَ يَثْبُتُ فِيْهَا خِيَارٌ)، يعني: ليس فيها خيار بأن يعود أحدهما فيما حُكِمَ فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتَجُوْزُ فِيْ اْلمَكِيْلِ وَزْنًا، وَفِيْ الْمَوْزُوْنِ كَيْلاً، وَفِيْ الثِّمَارِ خَرْصً)}.
المكيل هو: نوعٌ من المقاييس يعتبرُ فيه الشيءُ بحجمه.
والوزن: نوع من المقاييس يعتبر الشيء بخفَّته وثقله.
فعندنا المكيل والموزون، والفقهاء يُكرِّرونه كثيرًا، فـ "الكيلو" عبارة ليست عربية وليست صحيحة وليست داخلة معنا، فـ "الكيلو" الذي عندنا الآن في جهة الموزونات باعتبار الشي بخفَّة وزنه، وليس هذا هو محل الحديث.
المكيل: هو اعتبار الشيء بحجمه، مثل الصاع والمُد، فالمُدُّ يُجعل في القطن، أو التمر، أو في الحديد، فما يملأه من التمر غير ما يملأه من الحديد لو وزنَّاه بثقله، ولكن كلها تملأ هذا المُد، فإذا انتقلنا إلى ثقله وجدنا بعضه خفيف وبعضه ثقيل، وكذلك الصَّاع.
ففي عرف أهل الإسلام فيما مضى كانت عندهم أشياء يعتبر فيها الكيل -يعني اعتبار الشيء بحجمه- ومثل الآن اللتر والبرميل والجالون والصاع والسَّطل؛ فكل هذا اعتبار للأشياء بالكيل، لأنها بالأحجام.
أما الوزن مثل: الجرام، الكيلو -الذي هو اعتبار الشيء بالثِّقل فيكون في الموزونات-، والطن، وهكذا.
لو أنَّ مكيلًا من المَكِيلات مثل البر أو الأرز اعتُبروا بالوزن، وقسماه وزنًا فهما على ما اتفقا عليه.
قوله: (وَفِيْ الْمَوْزُوْنِ كَيْل)، مثل: الحديد، النحاس؛ فلو أنهم كالوه وجعلوه ملء هذا الصاع أو ملء هذه الغرفة ونحو ذلك؛ فنقول: هما على ما اتفقا عليه.
قال: (وَفِيْ الثِّمَارِ خَرْصً)، فلو قال لأخيه: لك هذه الزُّبرة من التمرة وأن لي هذه الزُّبرة -يعني المجموعة- وانتهينا، فيجوز ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتَجُوْزُ قِسْمَةُ اْلوَقْفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْهَا رَدُّ عِوَضٍ)}.
الوقف لو كان وقفًا على شيئين فقسمته فيه مصلحة، وبناء عل ذلك لو قُسِمَ هذا الوقف الذي على هذا المسجد -مثلًا- وبقيته التي على هذه المدرسة، فجعل هذا للمسجد وهذا للمدرسة، بدل أن يكون مشتركين فيكثر فيهما الإشكال؛ فنقول: ما دام أنه ليس فيه رد عوض فيجوز ذلك، أمَّا إذا كان فيه رد عوض فهذا يعني أن فيه بيع، فإذا كان فيه بيعٌ فالوقف لا يجوز بيعه، فبناء على ذلك لا يجوز القسم في مثل هذه الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ طِلْقًا، وَبَعْضُهُ وَقْفًا، وَفِيْهَا رَدُّ عِوَضٍ مِنْ صَاحِبِ الطِّلْقِ لَمْ يَجُزْ)}.
إذا كانت هذه الأرض جزء منها موقوف وجزء منها مطلق -فالطَّلق ضد الوقف- وهو مِلك لا وقف فيه، فإذا كان صاحب الطلق متضرر وصاحب الوقف متضرر، وهذا لا يستطيع أن يطور الوقف ويُحسن الانتفاع منه، وصاحب الطلق لا يستطيع الإفادة منه لكونه متداخلًا مع الوقف، فإذا قسمها فكان فيه رد عوض من صاحب الطلق على الوقف فمعنى ذلك كأن صاحب الطلق اشترى من الوقف، وشراء بعض الوقف لا يجوز، فبناء على ذلك لا نصححه، ولكن العكس صحيح، فلو أن الوقف جاء ليأخذ هذه الجهة وصاحب الطلق يأخذ هذه الجهة، فقال صاحب الطلق: هذا أقل من حق! فيقول ناظر الوقف: نعطيك ما يقابله كذا وكذا؛ فكأنهم زادوا الوقف أكثر، وفتحوا فيه، وهذا فيه مصلحةٌ للوقف، فيجوز ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ مِنْ رَبِّ اْلوَقْفِ، جَازَ)}.
مثلما قلنا: إن كان من رب الوقف واشترى من صاحب الطلق فيجوز؛ لأنه تكبيرٌ للوقف وزيادة فيه، وليس فيه بيعُ شيءٍ من الوقف أن تصرُّفٌ فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا عُدِّلَتِ اْلأَجْزَاءُ، أُقرِعَ عَلَيْهَا، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ عَلى شَيْءٍ، صَارَ لَهُ، وَلَزِمَ بِذلِكَ)}.
إذا عُدِّلَت الأجزاء، مثلًا بأن كان نصفَ نصفَ وهذا يساوي هذا، فلا نعيِّن أحدًا إلا بالقُرعَة، فنضرب القرعة ونقول: هذا وقفكَ وهذا طلقك، أو العكس، وهكذا...، أو كان بينَ اثنين أو ثلاثة شركاء وقسمنا بينهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَجِبُ أَنْ قَاسِمَ اْلحَاكِمِ عَدْلاً، وَكَذلِكَ كَاتِبُهُ)}.
القاسم يلي ما يليه الحكام في الفصل بين الخصوم، وبناء على ذلك لابدَّ أن يكون عدلًا، فإذا كانت القسمة قد جرت من الحاكم بنفسه أو من وكيله، وهذا هو الغالب الآن خاصَّة في التَّطورات الحديثة، فأحيانًا يحتاج الحاكم في شركات التقنية ونحوها أن يكون القاسم ممَّن له خرةٌ بالتَّقنية، وأن هذا يُقابل هذا، وهذا يساوي هذا، وهذا أكثر من هذا، فبناء على ذلك لا بأسَ أن يستعين بقاسم، ولكن لابدَّ أن يكون عدلًا، لئلَّا يحيف في الحكم، ولئلَّا يظلم، ولئلَّا يأخذ رشوةً، ولئلَّا يحيف بأي وجهٍ من الوجوه.
ومثل ذلك الكاتب، لأنه يضبطها، فإذا كان فاسقًا فيُمكن أن يُغيِّر في المكتوب، أو أن يزيد أو أن ينقص، أو أن يحرِفَ شيئًا إذا لُعِبَ معه أو أُعطِيَ شيئًا ليميل إلى أحدهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتاَبُ الشَّهَادَاتِ)}.
هذا الكتاب من أعظم الأبواب، وهي: جمع شهادة.
والشهادة بمعنى الحضور، وضد الغيب، فالشاهد ضد الغائب، قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر: 22]، يعني: عالم لما يغيب وما يحضر.
والشهادةُ متضمِّنةٌ للعلم بالشي علمًا يقينيًّا والنَّطق به وعدم الكذب فيه، ولأجل كان من أعظم الألفاظ هو لفظ "الشهادة"، يعني يُمكن أن يقول: أنا أعلم، أنا أقول إن هذا كذا، ولكن قول: "أنا أشهد" أشد وآكد، ولأجل ذلك كان إثبات الإيمان بالله وبرسوله بلفظ الشهادة؛ لأنه علمٌ ويقينٌ، وقولُ وإقرارٌ، وإعلامٌ، فالشهادة تتضمَّن هذه الأشياء الثلاثة:
- يقين.
- اعتقاد.
- قول وإعلام الغير.
ولا يُؤمن الإنسان بمجرَّد اعتقاده في نفسه حتَّى يقول، ولا يترتَّب على ذلك أثر حتى يعلم الغير فيُرتب على ذلك أنه مسلم وأنه مؤمنٌ ؛ فهذا من جهة أصل لفظ الشهادة.
والأصل فيها قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: 282]، وقوله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: 2].
والأدلة في ذلك كثيرة، ومنها ما جاء في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «شاهداك او يمينه»، والإجماع منعقدٌ على اعتبار الشهادة في الجملة.
والشهادة من اقوى البينات، وكما تقدَّم معنا؛ هل هذ البينة فقط وما سواها قرينةٌ على الثبوت والمِلك؟ أم أن البينات متعددة وكل ما دلَّ على الحق فهو بينةٌ ومثبت له؟
هذا خلاف بين الفقهاء، ومن أكثر مَن فصَّل فيها مَن كتب في مسائل القضاء، وأيضًا في هذا الموضع يذكر الفقهاء، وعلى سبيل المثال: ابن القيم في كتب الطرق الحكميَّة تكلم عليها، وهو ممَّن وسَّع فيها، وقال: البينة هي كل ما أبانَ الحقَّ وأظهره، فسواء كان ذلك بالشِّهادة أو بغيرها من الإثباتات.
واعتبار ذلك جاء في الشرع، في الكتابة في وصية وغيرها، مما يدل على أنها مثبتةٌ للحقِّ ودالَّة عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَداَؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا لَمْ يُوْجَدْ مَنْ يَقُوْمُ بِهَا سِوَى اثْنَيْنِ، لَزِمَهُمَا اْلقِيَامُ بِهَا، عَلى اْلقَرِيْبِ وَاْلبَعِيْدِ، إِذاَ أَمْكَنَهُمَا ذلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُونُوْا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ})}.
قوله: (تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَداَؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ)، التَّحمُّل: هو أن يُقال: يا فلان اشهد على هذا، فتحمُّل ذلك فرض كفاية، إذا وُجد من يكفي سقط عن الباقين، أما إذا لم يُوجَد فلا يجوز لي أن أدعوكَ إلى الشهادة وأقول لك: اشهد عل هذا. وتقول: لا أشهد! أقول: يا أخي يضيع حقي! تقول: ما عليَّ ولا أُدخل نفسي في هذه الأمور؛ فأنت آثمٌ إذا تخلَّفتَ عن أداء الشَّهادة، ولم يكن غيركَ يُمكن أن يقومَ بذلك.
إذن؛ الشهادة فرض كفاية، والله -جَلَّ وَعَلَا- أمر بإقامة الشهادة وإثبات الحقوق، قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُو﴾ [البقرة: 282]؛ لأنهم لو أبوا لضاعت الحقوق، ولاختلطت الأمور، ولتجرَّأ السُّفهاء وضعاف النفوس على حقوق الناس وأموالهم فأخذوها ولعبوا بها، ولا تُحفَظ الحقوق إلا بنحو الشهادة، والعلم بأن هذا ملك فلان، وذلك ملك آخر، وهكذا..
ثم قال: (وَأَداَؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ)، في بعض الأحوال يتحمَّلها الكثير، كل الناس الذي جاؤوا وحضروا المجلس شهدوا بأن فلانًا أعطى فلانًا هذه السيارة، فجاء بعدَ مدَّة نسيَ أو أنكرَ؛ لأنه ليس بلزوم أن يكون جاحدًا، ولكن نسي أو اختلف عليه الأمر أو فاتَ عليه أو التبس عليه هل أعطاها لفلان أو لآخر؛ فجاء لمن شهدوا وكانوا حاضرين، فإذا شهد اثنان منهم فالحمد لله، لكن لو كل واحد منهم قال: لا أستطيع أشهد لأن فلانًا قريبًا لي! فنقول: لا يجوز لهم أن يتأخروا، قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُو﴾ [البقرة: 282]، والآية تشتمل على التَّحمُّل والأداء.
قال: (إِذَا لَمْ يُوْجَدْ مَنْ يَقُوْمُ بِهَا سِوَى اثْنَيْنِ، لَزِمَهُمَا اْلقِيَامُ بِهَا، عَلى اْلقَرِيْبِ وَاْلبَعِيْدِ، إِذاَ أَمْكَنَهُمَا ذلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ)، أمَّا إذا كان يلحقهما ضرر من إيذاء ونحوه؛ فمن القواعد المقررة شرعًا: أنَّ ما يتعلق بالإنسان في نفسه أولى مما يتعلق بغيره، فحفظ الإنسان لنفسه مقدَّم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ» ، وقال تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ [البقرة: 282]، فإذا لحق بهم ضرر جاز لهم أن يتركوا التَّحمل أو الأداء إذا لحق بهم الضَّرر، وتعلَّقت بهم تبعةٌ في ذلك.
ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُونُوْا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ﴾، وهذا من أعظم الدلائل على أن إقامة الشهادة لازمة، وأن الإنسان يشهد بالحق ولو كان مرًّا، ولو كان على والده أو ولده أو أقرب قريب؛ فإن هذا من إعطاء الحقوق، ومنع الظلم، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومً». فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا كيفَ أنْصُرُهُ؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «تَحْجُزُهُ، أوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ» ، فكذلك أن تشهد على مَن يستحق أن يُشهَدَ عليه، لئلَّا يتمادى في أخذ الحق، ومنع صاحب الحق من حقه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الْمَشْهُوْدُ بِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الزِّنَى وَماَ يُوْجِبُ حَدَّهُ، فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُوْلٍ)}.
المشهود عليه أنواع، بدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بأشدها وأكثرها، وهو الشهادة في الزنا، والشهادة في الزنا لابدَّ فيها من أربعة شهود، قال تعالى: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ﴾ [النور: 13]، كما قال -جَلَّ وَعَلَا- في قصة الإفك، فالشهادة في الزنا يُطلب فيها أربعة شهود يشهدون بمضمون ذلك، وسيأتي في تحقيق الشهادة أنها لابدَّ أن تكون على شيءٍ واحدٍ مخصوصٍ، وأن لا يختلفا في الشهادة، حتى في أدق الأمور، فلو أن أحدهما شهدَ بأنهما كانا في هذه الزاوية، وشهد الآخر بأنهما كانا في زاوية أخرى ونحو ذلك؛ فإن هذا مما يحصل فيه اختلاف فيها.
إذن؛ اعتبار أربعةُ شهودٍ في هذه المسألة ظاهرٌ في دلالة الشرع، وهو محل إجماع واتِّفاقٍ بين أهل العلم.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الزِّنَى وَماَ يُوْجِبُ حَدَّهُ، فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ عُدُوْلٍ)، واعتبار الحريَّة في الشهادة هو قول جمعٍ من الفقهاء، وفيه خلافٌ عند بعضهم في هل تعتبر شهادة العبدُ أو لا، ولعلَّ أن يأتي ذكرها بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- فيما يأتي.
ثم انتقل المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- على سبيل الاختصار إلى ما يُطلب فيه شاهدين، أما ما يُطلَبُ فيه ثلاثة شهود هو شيءٌ واحد وهو الذي جاء في حديث قبيصة، وهو مَن ادَّعى فقرًا بعدَ غنًى إمَّا لزكاةٍ ونحوها، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ قَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ» ، فهذه المسألة بخصوصها هي التي يُطلب فيها ثلاثة شهودٍ.
ثم ذكر المؤلف الأمر الثاني فقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِيْ: الْماَلُ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، فَيَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِرَجُلٍ مَعَ يَمِيْنِ الطَّلَبِ)، كون المال وما يُقصَد به المال يُطلب فيه شاهدين رجلان، أو رجل وامرأتان؛ فهذا دلالة آية الدَّين في سورة البقرة: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ [البقرة: 282].
لِمَ خصَّ الفقهاء شهادة المرأتين بالمال وما يُقصَدُ به المال؟
قالوا: لأن مرد الشهادة في الأصل إلى الرجال، وهم الذين يشهدون الأمور ويختلطون بذلك، فلما جاءت الآية باعتبار شهادة المرأتين فإنَّما جاءت في الديون والأموال؛ فاعتُبرَت في ذلك، وما سواها بقي على الأصل، وهو أنه لم يأتِ ما يدل على اعتبار شهادتهم فيها.
أما ما يُقصَدُ به المال فمثل الشُّفعة، والخيار، والحوالة؛ كلها تؤول إلى الأموال ويُقصَد بها الأموال، فبناء على ذلك كانت كالبيع، ومثل القرض، والرهن، والوصيَّة؛ كلها تثبت بشهادة رجل وامرأتين كما تثبت بشهادة رجلين، ولكن بإجماع أهل العلم أنه لا تثبت بشهادة أربع نساء، فلابدَّ أن يكون أحد طرفي الشهادة رجلًا، ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾، فجاءت على سبيل الاستثناء، ومن المعلوم والمتقرر في قواعد اهل الأصول أنه إذا جاء على الاستثناء فإنَّما يكون مخصوصًا بذلك، ولا يُقاس عليه غيره، ولا يُنتقلُ إلى ما يشابهه، فهو مقصور محصور.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَبِرَجُلٍ مَعَ يَمِيْنِ الطَّلَبِ)، هذه من المسائل التي فيها خلاف بين الفقهاء، وبين الجمهور وبعض أهل الرأي؛ هل يُقضَى بالشَّاهد وحده والشاهد واليمين؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة أنه يُقضَى بالشَّاهد مع اليمين، فإذا لم يكن للإنسان إلَّا شاهدٌ فقوي جانبه، والشَّاهد الواحد لا يرقى إلى أن يُحكَمَ به، فبناء على ذلك يُحتاج إلى اليمين، لأنه لما قويَ جانبه واليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين، ولأنه جاء عند مسلم في صحيحه أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- "قضى بالشاهد مع اليمين"؛ فكان ذلك معتبرًا وأصلًا ظاهرًا، وإن خالف مَن خالف فيه من الشُّهداء.
ويبقى أن ننبه على أن المؤلف قال: (وَبِرَجُلٍ مَعَ يَمِيْنِ الطَّلَبِ)، فبناء على ذلك لو كان الشاهد في هذا امرأة أو امرأتين -فإنه على كلامهم- لا تتأيَّدُ باليمين في ذلك، لِمَا ذكرنا من قولهم أن شهادة النساء في هذه الأمور على سبيل الاستثناء، فكانت مقصورة في محل ما جاء به الدليل والنَّص.
ولعلنا نقف عند هذا الحد، وأظن أننا أخذنا جملة من المسائل كافية، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يتم علينا النعمة والرحمة، وأن يعيننا على ما نقصده من تمام هذا الكتاب في شيءٍ من السهولة والاختصار، والله أسأل لي ولكم التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك