{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياكَ الله تحيَّة عاطرة، أسأل الله أن يُتمَّ علينا وعليكَ وعلى
المشاهدين والمستمعين نعمه.
{اللهم آميـن.
قال الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ حَصَرَ اْلعَدُوُّ بَلَدَهُ،
وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ عَلى ذَكَرٍ حُرٍّ، بَالِغٍ، عَاقِلٍ، مُسْتَطِيْعٍ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه
وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعدُ؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من أهل العلم الراسخين،
ومن القائمين على العلم والمعلمين، وأن يُعقبنا العمل والهُدى والفقه في الدين، وأن
يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
أيُّها الطلاب والطالب والمشاهدين والمشاهدات؛ لا يزال الحديث في كتاب الجهاد،
ولعلكم أن تتثاقلوا قليلًا ما يكون من البطء في بعض هذه المسائل التي نحن بصددها،
ولتعلموا -أيها الإخوة- أنه لولا الحاجة إلى شيءٍ من التطويل والتوضيح والتبيين
لكثرة الاشتباه، ولكثرة ما يتعلق بهذا من الحرص من بعض طلاب العلم، ومما يجدون في
قلوبهم من الحُرقة والغيرة على الإسلام وأهله، وما يتمنَّونَ من تحقيق هذه الشعيرة
والدخول في هذا اللواء حتى يكونوا من المجاهدين في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا-، لكن
قد يُداخل قلوبهم شيءٌ من الغيرة فتحملهم على عملٍ ليس على أصلٍ صحيح، فيُعقبهم ذلك
بلاءً عظيمًا، ولما كانت دواعي ذلك قائمة، وحصول شيء من هذه الانحرافات بادية، ولما
وردَت الفتن في هذا الزَّمان، وكثُرَ المتكلِّمون بالجهاد والداعون إليه، وهم أبعد
الناس عن الجهاد وأهله، وهم الذين أحق بأن يُجَاهَدوا ويُقاتَلوا ويُدفعوا ويُمنعوا
ويُمنع شرهم الذي بلغ الإسلام وأهله؛ ولذلك جاء في الخوارج أنَّ النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال عنهم مع ما ذكر في الأحاديث أنكم تحقرون صلاتكم مع
صلاتهم وصيامهم مع صيامهم، وذُكر من صلاحهم أنَّهم يقرؤون القرآن، ويذكرون الله
-جَلَّ وَعَلَا- ويُكثرون قيام الليل، وهذا مشهورٌ في سيرهم لمن تتبَّع بعض سِيَرهم
وذكر ما عندهم من أبيات في هذا المجال، ومع ذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ: « يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»
، وجاء في الخوارج عن أبي أمامة الباهلي أنه لَمَّا أُتيَ برُؤوسِ الأزارقةِ
فنُصِبَتْ على دَرَجِ دِمَشقَ، جاء أبو أُمامةَ، فلمَّا رَآهم دَمَعَتْ عَيناه،
فقال "شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتْلَى
قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ هَؤُلَاءِ" ، فهذا الذي
نقول إنهم أحق ما يكون من جهادهم ودفعُ شرِّهم، ومنع بلائهم على الإسلام وأهله.
ولأجل ذلك فنحن نحتاج إلى قراءة هذا الكتاب قراءةً صحيحة على وفق ما ذكره أهل العلم
الراسخين، كم حصل في كتاب الجهاد هذا من التَّغيير ومن الضَّعف ومن التَّبديل ومن
التَّشويه، ومن حمله على غير وجهه، ومن إدخال فيه ما ليس منه، ومن سماع مسائله
وتقريرها عمَّن لم يُحقق فيه مسألةً ولم يدرس فيه بابًا، ولم يصل فيه إلى أصلٍ
صحيحٍ؟!
وسألتُ كثيرًا من الطلاب الذين لقيتهم مَن منكم مَن لم يتكلَّم في مسائل الجهاد؟
قالوا: ما في أحد إلَّا تكلم.
مَن منكم درسَ كتاب الجهاد ولو مرَّة واحدة ليست دراسة راسخة توصله إلى هذا؟ فيذكر
كثير من الطلاب أنهم لم يدرسوه!
وإنَّما هي مسائل يجتذبونها أو يسمعونها ويقررونها، ويصدرون عنها، ويحصل بسبب ذلك
البلاء والشَّر العظيم.
ولأجل ذلك نقول: إن هذا الباب باب صعب، وباب عظيم، ويحتاج فيه إلى شيءٍ من التَّروي
والنَّظر وحسن الدراسة، وأحلتكم فيما مضى على قول مطرف بن عبد الله الشِّخير،
فسيرته من أعظم السير في البعد عن الفتن، وهو القائل في مقالته المشهورة: "لأن آخذ
بالثقة في القعود أحبّ إليّ من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير" ، فإذن أنت في سلامةٍ
وأنت ثابت لم تخرج لتستبيح دمًا أو لتواجه عدوًا، حتى إذا خرجتَ سُئلتَ: هل خروجك
على وجهٍ أم لا؟ هل أنت على حقٍّ أو سواه؟ هل أنت محق أم مبطل؟ هل أنت متجاوزٌ أم
لا؟
وفي ذلك من الأمور ما الله به عليم.
وذكرنا في الدرس الماضي ما يتعلق بكونه فرض كفاية، وأن جهاد المال سنة مؤكَّدة،
وكثير من هذه المسائل لا يحسنها الطلاب، وإنما يقولون: إنَّ المسائل مجموعة، ومتى
يتعيَّن على الإنسان إذا حضر الصَّف، وقلنا: إن هذا ليس على إطلاقه، ويُمكن أن
تُستثنى من ذلك بعض المسائل على ما ذكرنا، كذلك قال المؤلف هنا: (أَوْ حَصَرَ
اْلعَدُوُّ بَلَدَهُ)، وفي بعض النُّسَخ (أو حضَرَ العدو بلده)، فإذا أحاط العدو
وحصرَ بلدًا من بلاد المسلمين؛ فيتعيَّن الجهاد. هل هذه عبارة صحيحة؟
لا، ولذلك كانت عبارة المؤلف أدق، وقوله أحسن: (أَوْ حَصَرَ اْلعَدُوُّ بَلَدَهُ)،
فيجب الجهاد على مَن حصر العدو بلده، ولا يجب الجهاد على العموم، وهذا من أكثر
المسائل إشكالًا، الآن في هذه الأوقات تحصل أحيانًا من الاعتداءات على بعض بلاد
المسلمين، أو تقوم فيها بعض الحروب؛ فيأتي مَن يأتي إمَّا على قدر من الجهل كبير،
أو قدر من الهوى والتَّغرير عظيم، فيقول: تعيَّن الجهاد، الجهاد واجب، الجهاد فرض
عينٍ؛ لأن العدو حضر بلدًا.
نقول: إذا حضر العدو البلدَ فيتعيَّن الجهاد على أهل البلد، ويتعيَّن الجهاد دفعًا
عنهم، ولو أنَّ العدو حصَرَ البلد ورأى الإمام أن ينكفؤوا إلى مكانٍ أو أن يرجعوا
إلى غيره تحصيلًا لمصلحةٍ أعظم لوجب ذلك.
إذن؛ وجوب الجهاد إذا حصر العدو بلدًا إنما يكون ذلك بقيده، فلا يجب على الجميع،
وإلَّا لوجب على مرِّ الدهور والعصور الجهاد على كل المسلمين في أنحاء المعمورة؛
لأنه ما من وقت إلَّا ويوجد مكانًا أو جهةً يتسلَّط عليها العدو.
ولابدَّ أن يُعلم أنه لو تسلَّط العدو على بلدٍ وبينَ بلدٍ آخر وهؤلاء المشركين أو
الكفار عهد؛ فلا يعني ذلك أنَّهم ينبذوا العهد ويُقاتلوهم، ولذلك لَما قام أبو بصير
وخرج وقاتل المشركين وتربَّص بهم وجرى ما جرى؛ لم يكن للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- ليُفسدَ ما بينه وبين المشركين من عهدٍ وميثاق، وإنَّما خلَّى بينه
وبينهم، يأخذ منهم ويأخذونَ منه، ويحصل ما يحصل بينهم، كما في القصة المشهورة.
إذن؛ حصْرُ العدوِّ للبلد يُعيِّنُ على أهل البلد أن يدفعوا عن أنفسهم؛ لأن هذا
يكون من دفع الصَّائل، ومن الجهاد المتعيِّن، ومن حفظ حرمات المسلمين، ومن حفظ بيضة
الإسلام وأهله، لكن قد يكون الخروج إلى بلدٍ أخرى أولى، وقد يسقط الجهاد لكون العدو
أكثر من ضعف المسلمين، ويحرص المسلمين على استبقاء أنفسهم، حتى ولو ذهبت بلدهم ونحو
ذلك؛ فكل هذا خارج عن أصل المسألة.
أمَّا أكبر خطأ، وأعظم خلل في هذه المسألة، وهي التي جرَّت الويلات في هذه الأوقات
أنَّه لَمَّا حصلت بعض الإشكالات في أماكن وفي بقع قالوا: إنَّ الجهاد مُتعيِّنٌ
بكل حالٍ، ولم يلتفتوا إلى أصولٍ أخرى تعارض ذلك وتُمانعه، وهذا على فرض أن تلك
البقعة قام فيها الجهاد على وجهه، فكيف إذا كان كثير من هذه البقاع إنما هي مواطن
للفتنة، وليس الجهاد فيها بمتحقق، وليست الرايات فيها ظاهرة، وإنما هو إما قتال على
أرضٍ، وإما لمصالح دنيويَّة، وإما رايات متفاوتة، وإما لأشياء غير ظاهرة، ومع ذلك
يأتي بعض أهل الجهالات والحماسة وغيرهم ويقول إنه فرض عين.
والعجيب أنَّ كثيرًا ممَّن أفتوا بأنه فرض عينٍ لم يتحرَّك واحد منهم إلى تلك
المواطن، وهذا يدل على خللٍ في الفتوى -وهذا لا إشكال فيه- وخللٌ عندهم؛ لأنه لا
يُمكن حتى لو أفتى واحد أو اثنين وعنده عذر أن يكون جميع مَن أفتى ولم يتحرَّك واحد
منهم ولم يأمروا أحدًا ممَّن حولهم بالخروج لديه عذر، فكل هذا دليل على حصول اللغط
والخطأ والجهل والضَّلال في مثل هذه المسائل الكبار.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ عَلى ذَكَرٍ حُرٍّ،
بَالِغٍ، عَاقِلٍ، مُسْتَطِيْعٍ).
إذن؛ بـيَّن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- حكم الجهاد من حيث الأصل، ثم الآن
يُبيِّن تعلُّق الجهاد بآحاد المسلمين وأفراد الناس، من الذي يجب عليه ومن الذي لا
يجب عليه، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ عَلى
ذَكَرٍ)، يعني أنَّ النساء لا جهاد عليهنَّ، وهذا جاء في الحديث الذي في الصحيح أن
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لما سألته عائشة: هل على النساء من جهاد؟
فقال: «نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» ،
فدلَّ على أنَّ المرأة لا يجب عليها جهادٌ، ولا تدخل في القتال، ولأنَّ النساء
يدخلهن من الخور والضعف وعدم الثبات، ما لو دخلنَ في الجهاد والقتال لربَّما أفضى
بهنَّ إلى أن يكنَّ سبب بلاء على الإسلام وأهله، فتُفتح الثغرة ويستبيح الكفار
البيضة، ويتسلَّطوا على المسلمين.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (حُرٍّ)، أمَّا الإماء فلا يجب عليهنَّ الجهاد؛ لأنه
لا قتال عليهن من باب أولى لكونهنَّ نساء ومملوكات.
والعبيد لا يجب عليهم جهاد؛ لأنَّ منافع العبد مملوكة لسيده، فلا يُفتات عليه في
ذلك، فلو أذن له السيد فيجوز له أن يخرج، لكنه لا يجب عليه لكون منافعه قد تعلَّقت
بسيده، والشرع جاء بالتَّيسير وعدم تكليفه ما لا يستطيع، فيكون قد أمره الله -جَلَّ
وَعَلَا- بطاعة سيده ثم يأمره بالجهاد، ثم يمنعه سيده من الجهاد، فهل يذهب هنا أو
هناك؛ فيحصل له بسبب ذلك من الإشكال، فخفَّف الله -جَلَّ وَعَلَا- عنه كثيرًا من
هذه الأحكام تحصيلًا للمصلحة التي تتعلق به والمنفعة التي تُناط به من القيام على
سيده واستخدامه والانتفاع به.
قال: (بَالِغٍ)، فلا يجب الجهاد على غير البالغ، وأصل ذلك قصَّة ابن عمر، فإنَّ ابن
عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: "عرضتُّ على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني، وعُرضتُّ عليه وأنا ابن خمس عشرة
سنة فأجازني"؛ فدلَّ ذلك على أنَّ غير البالغ لا جهاد عليه.
ومن جهةٍ ثانية: فإنَّ الأحكام والتَّكاليف إنَّما تكون على البالغ، ومن دون البلوغ
فإنه قد رُفع عنه القلم؛ فإذا كان قد رفع عنه القلم في الصلاة والصيام والحج؛ فمن
باب أولى أن لا يجب عليه الجهاد، أمَّا الزَّكاة فلها حكمٌ آخر كما هو مذهب الجمهور
أنها تجب عليه، لكونها من الأحكام الوضعية لا من الأحكام التَّكليفيَّة، ومرَّ
الكلام على ذلك.
قال: (عَاقِلٍ)، أما غير العاقل وهو المجنون فلا قصدَ له، وهذه عبادات، والعبادات
لابدَّ فيها من قصود؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «إنَّمًا
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، فلا يُتصوَّر من المجنون أن يكون منه قتالٌ وجهاد،
فلا يكون الجهاد إلَّا من قاصدٍ يقصده وعاقلٍ يعرفه يقوم بحق الله -جَلَّ وَعَلَا-
فيه.
قال: (مُسْتَطِيْعٍ)، أمَّا غير المستطيع فلا يجب عليه الجهاد، قال تعالى: ﴿غَيْرُ
أُولِي الضَّرَرِ﴾ [النساء: 95]، فرفع الله -جَلَّ وَعَلَا- عنهم الحرج، قال تعالى:
﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [الفتح: 17]، فكل هؤلاء قد رُفِعَ عنهم الحرج، وابنُ أمِّ مكتوم
كان يبقى في المدينة فيُصلِّي بالناس، وأيضًا بعضُ مَن أصابته عاهةٌ في عهد النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بعرجٍ أو غيره؛ فأولئك لم يكونوا ليخرجوا في
الجهاد، فبناء على ذلك لابدَّ أن يكون مُستطيعًا، قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: 91].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاْلجِهَادُ أَفْضَلُ التَّطَوُّعُ؛ لِقَوْلِ
أَبِيْ هُرَيْرَةَ: سُئِلَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: أَيُّ
اْلأَعْمَالِ أَفْضَلُ، أَوْ أَيُّ اْلأَعْمَالِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «إِيْمَانٌ بِاللهِ
وَرَسُوْلِهِ» قَالَ: ثُمَّ أَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ: «اْلجِهَادُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ،
ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُوْرٌ». وَعَنْ أَبِيْ سَعِيْدٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُوْلُ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «رَجُلٌ
يُجَاهِدُ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ»)}.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قرَّرَ حكمَ الجهاد وأنَّه فرض كفاية، ثم قرَّرَ
متى يتعيَّن ويكون واجبًا عينيًّا، ثم انتقلَ إلى مَن يجب عليه الجهاد من آحاد
المسلمين، ثم انتقلَ بعدَ ذلك إلى فضل الجهاد والأجر فيه.
وكما قلنا: إن الجهاد من الشَّرائع العظام، ولا اختلاف في ذلك، وهو ذروة سنام
الإسلام، ولكن هنا نصَّ المؤلف على أخصِّ شيءٍ للجهاد، وهو أنَّه أفضل عمل
يُتطوَّعُ به، لكثرة ما جاء فيه من الأحاديث والفضائل، ولعظم ما يترتَّب عليه من
نشر الإسلام، وإظهار التَّوحيد والإيمان، ومن قمع الشرك وأهله، ولما يكون فيه من
استباحة الدماء وقتل النفوس وإزهاق الرُّوح، ولا يجود الإنسان بنفسه ودمه وحياته في
أمرٍ إلَّا كان من أفضل الأمور وأعظمها؛ فلأجل ذلك كان أفضل الأعمال، قال -جَلَّ
وَعَلَا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [الصف: 10،
11]، ومثلما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في حديث أبي هريرة أنه لم يذكر
شيئًا بعد الإيمان أفضل من الجهاد، وهو ذروة السَّنام، وذروة الشيء أعلاه، وفي ذلك
أحاديث كثيرة في فضل الجهاد، كقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «عَيْنَانِ
لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ
تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وما جاء في أنَّ المجاهد إذا خرج استمرَّ عمله لا
ينقطع، ولما قيل: هل يساوي عمل المجاهد عمل؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«هل تسطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم فلا تفتر، وأن تصوم فلا تفطر؟». قال: لا. فهذا
يدل على أن الجهاد أفضل ما يكون.
واختلف أهل العلم؛ هل الجهاد أفضل من العلم أم أن العلم أفضل من الجهاد؟
والحقيقة أنَّ العلم والجهاد يؤولان إلى أمرٍ واحد، والغاية منهما واحدة، وهو إظهار
دين الله -جَلَّ وَعَلَا- والدَّعوة إليه، وهداية الناس له، فهذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أن الجهاد أشد من جهة أنه تُفتلت فيه الأرواح، وتُزهق فيه النَّفس،
حتى تكون كلمة الله هي العليا، لكن العلم من جهة أنه ليس أحد يستطيعه وأنه يأتي على
الإنسان في عمره كلِّه، والعلم لا يقدر عليه كل أحد؛ بل لابد لمن أوتي آلته، فلأجل
ذلك قال بعض أهل العلم: إنَّ العلم أفضل من الجهاد.
والحقيقةُ أنَّهما أنَّ لهما من الفضل والدرجة ما لهما، وأنَّ أحدهما يُقدَّم على
الآخر بحسب الحال، فإذا كان في حال بلاء الناس في الجهل والارتكاس في البدعة وحصول
الضَّلالة وتقحُّم الناس للشَّهوات؛ فإنَّ العلم وهداية الخلق ودعوتهم إلى الحق،
وتبيين السُّنن، وإبطال البدع، وإظهار الخير والهُدى، ومنع الشرِّ والرَّدى؛ هـو
أفضل.
وإذا كان الناس على استقامةٍ وهُدى، ويُحتاج إلى الدفع عن الإسلام وأهله، ومنع
الشرور وعدم تطاول الكفَّار؛ فقد يكون ذلك أفضل.
وعلى كل حال؛ فلا شكَّ أنَّ ما ذكره الحنابلة وذكره جمعٌ من الفقهاء أن الجهاد أفض
مُتطوَّعٍ به بالنَّظر إلى الأحاديث التي فيه، وأيضًا ما يترتَّب عليه مما يبذله
الإنسان من إزهاق نفسه هو حقيقٌ بأن يكون محلًّا للنَّظر والاعتبار، لكن التفضيل
النِّسبي هو عند جماعة من أهل العلم أقرب إلى المقصود، ولا يُمكن التفضيل العام،
فيُنظر إلى حال الناس بالنسبة إلى حاجة الناس إلى العلم، أو حاجتهم إلى الدفع عنهم
والذَّودِ عن حرماتهم وحفظ بيضة الإسلام وأهله.
وحتَّى في مثل هذه الأزمنة كثير من الناس يقول: اُنظر كم قُتل من المسلمين؟ وكم
استُبيحَت من الأعراض؟ وكم وكم وكم!
نقول: لو نظرنا إلى مَن يُقتَل -وليست إراقة الدماء برخيصةٍ- فلو قُتل عشرة آلاف أو
عشرين ألفًا أو مائة ألف أو مليون أو عشرة ملايين؛ كم الذين يتخبَّطون في الجهالات
من المسلمين؟! أممٌ ودولٌ كاملة. كم الذين يتساهلون بأحكام الله ويحتاجون مَن
يُبصِّرهم ويُعلمهم ويدعوهم ويتألَّفهم على الحق ويدعوهم إليه ويُناديهم إلى
الاستمساك به؟!
فلأجل ذلك كان هذا من الأشياء التي يُدفَع بها كثير من حماسة المتحمِّسة حينَ عرض
مآسي المسلمين، فما عند المسلمين من الجهالات وما يلحق المسلمين من النَّقص في
دينهم أعظم ممَّا يكون من التَّسلُّط عليهم في أنفسهم وفي أعراضهم وفي أموالهم.
ويجب البذل في ذلك كله، والدفع عن ذلك بحسبه، وعسى الله أن يُعزَّ دينه، ويمنع
الشرَّ، ويحصل الخيرَ، ويُقرَّب الناس إلى الهُدَى، ونُهدَى إلى الحقِّ وطريقٍ
مستقيمٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَغَزْوُ اْلبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ
اْلبَرِّ، وَيُغْزَى مَعَ كُلِّ بِرٍّ وَفَاجِرٍ، وَيُقَاتِلُ كُلُّ قَوْمٍ مَنْ
يَلِيْهِمْ مِنَ اْلعَدُوِّ)}.
قوله: (وَغَزْوُ اْلبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ اْلبَرِّ)، هذا في أنواع الغزوات،
ولا شكَّ أنَّ الغزو ليس كله على حدٍّ واحدٍ، فبعضه أشد من بعض، وبعضه يُتعرَّض فيه
إلى المهالك، ولا يتصدَّى له إلَّا الخُلَّص من الناس، وفيما مضى كان من أصعب ما
يكون الدخول في البحر، لحصول اللُّجَّة والظُّلمَة، ولا يدري الإنسان إلى أي شيءٍ
يُقاد، ولا إلى أيِّ شيءٍ يُوجِّهه الهواء، فيحصل بسبب ذلك من البلاء الشيء الكثير،
فلأجل ذلك ذكر الفقهاء أن غزو البحر أفضل، لِمَا جاء في الحديث لما ذكر النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «نَاسٌ مِن أُمَّتي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً في
سَبيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ، مُلُوكًا علَى الأسِرَّةِ، أوْ
قَالَ: مِثْلَ المُلُوكِ علَى الأسِرَّةِ» ، فامتدحهم بهذا، فكان ذلك تقديمًا لهم
على غيرهم، فلأجل ذلك ذكر الفقهاء أن غزو البحر أفضل من جهة ما جاء في الحديث
بخصوصه، ومن جهة ما يكون في غزو البحر من الصعوبة والوعورة وغيرها.
هذا من حيث الأصل، وكما قلنا: إنه قد يكون في تغيُّرات الأحوال وصعوبة القتال في
أزمان ما يكون، ويكون في كلٍّ من الخير بحسب ما يكون فيه من المشقَّة، ولذلك قال
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أجرك على قدر نصبك» ، وفيما مضى كان
القتال سويعات أو أيام يسيرة، ثم إمَّا ينتصر هذا أو ذاك، لكن الآن تدوم المعارك
مُددًا طويلة، فقد يتأتَّى للناس الآن من سبُل الوقاية والحرص والتَّوقِّي ووجود
هذه المعدَّات والأسلحة والدفع والمضادَّات وغيرها، ولكن في طول المعارك ومقاومة
الأعداء ومقارعتهم لمددٍ طويلة من الشِّدَّة والبلاء والوعورة ما الله به عليم،
فيلحق الفضل بحسب ما يلحق من الخير، وهذا قد يُؤخَذ من عبارة المؤلف (وَغَزْوُ
اْلبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَزْوِ اْلبَرِّ) من جهة ما يحتف به من المصاعب، وما يكون
فيه من التَّعرُّض للهلكةِ والظُّلمَةِ والمشقَّة.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُغْزَى مَعَ كُلِّ بِرٍّ وَفَاجِرٍ)،
وهذه التي ذكرناها مقدِّمَةً وأصلًا أصيلًا في أوَّلِ الباب، والمؤلف -رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى- قرَّرها هنا على ما يُقرره الفقهاء، فيكون الجهاد مع الإمام برًّا
كان أو فاجرًا، ولا يُفتات عليه، وهذا خلاف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة الذين
من أصولهم الخروج على الأئمة، ومن أصول المعتزلة الأمر بالمعروف والنهي علن المنكر
الذي يكون منه الخروج على الأئمة ومقاتلة المسلمين.
وفيه ردٌّ على الرَّافضة الذين يقولون: لا يكون الجهاد حتى يكون المهدي المنتظر،
فيجعلون ذلك نافيًا لهذه الشَّعيرة.
ومع ذلك كلِّه نقول: هذه الشَّعيرة مع الإمام، يقوم بها، وبما يجب لها، وبما يجب
فيها، ويُقيمها على حدودها الأصيلة، ولا يكون فيها اعتداء ولا استباحة لدماء لا
يجوز استباحتها، ولا تعدٍّ على مَن لا يجوز قصده، ولا نقضٍ للعهودِ، ولا إهلاك
لعموم الناس، ولا تسلُّطٍ على الضَّعفةِ والنساء والصبيان وغير المقاتلةِ، إلى غير
ذلك مما جاء من ضوابط يذكرها العلماء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في تفاصيل هذا
الكتاب في مطوَّلاتِ منه.
قال: (وَيُقَاتِلُ كُلُّ قَوْمٍ مَنْ يَلِيْهِمْ مِنَ اْلعَدُوِّ).
كما قلنا: هذا ليس جملةً منفصلةً من كلِّ وجهٍ، وإنَّما جملةٌ مُرتَّبةٌ على الجملة
التي قبلها (مَعَ الإِمَامِ)، لكن من حيث التَّراتيب النَّظريَّة أنَّ كل قومٍ يجب
عليهم أو يتحقَّق في حقِّهم، ويكون أولى لهم أن يُقارعوا العدو الذي يُقارعهم
والعدو الذي يُهددهم والعدو الذي يُريد الدخول عليهم، فإنَّ ذلك أحفظَ في حفظ ثكنات
المسلمين وبُلدانهم وعدم التَّسلُّط عليهم، وهذا يُشير إلى ما ذكرنا من المسألة
السابقة.
وهنا مسألة مُهمَّة راجعة إلى مسألة كبيرة: هل دولة الإسلام دولة واحدة أو دولٌ
شتَّى؟
الأصل أنَّ الإسلام قام كدولة واحدة، ولكن لم يلبث إلى أن تفرَّقت ممالكه وانفصلَت
دوله، ولا يسع الناس إلَّا اعتبار ما هم فيه من الحال كلٌّ بإمامه، وإلَّا لأفضى
ذلك إلى إشكالٍ كبيرٍ وتضاربٍ عريضٍ، ولم يزل أمر المسلمين منذ القرون الأولى إلى
هذا الزَّمان دول، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم أنَّه يلزم مَن في هذا المكان ما يلزم
مَن تحت ذلك الإمام؛ بل أقرُّوا ما يكون من حالهم ومن ولايتهم ومن إمامهم الذي
بايعوه وعهدهم الذي تعاهدوا عليه، فلأجل ذلك قال: (وَيُقَاتِلُ كُلُّ قَوْمٍ مَنْ
يَلِيْهِمْ مِنَ اْلعَدُوِّ)، باعتبار أنَّه مع الإمام، وباعتبار الأصول التي
ذُكِرَت، متى يجب ومتى يتعيَّن ومتى يكون فرضَ كفايةٍ، ومتى يُعرَض عنهم ومتى
يُعاهدون، إلى غير ذلك على ما سيأتي بإذن الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَتَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُوْنَ يَوْمًا،
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ:
«رِبَاطُ يَوْمٍ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيْمَا
سِوَاهُ»)}.
الرِّباط: هو البقاء في ثغور المسلمين التي تلي الكفار، فثَمَّ بُلدان -أو ما يسمى
الآن بالحدود- إذا كان يليهم أحد من الكفار، فهذا هو الرباط في سبيل الله -جَلَّ
وَعَلَا- ويكون الأجر في هذا الرباط كلٌّ بحسبه، فأشدُّه خوفًا أعظمه أجرًا، وأكثره
أمانًا أقله أجرًا، فلا يزال الناس في هذا الخير ويحصل لهم أجر الرباط، ولكنهم
يتفاوتون بتفاوت ما يترتب على ذلك من المصلحة، وما يحصل من الخوف، وما يكون من
اندفاع العدو، والسَّهرِ على المسلمينَ.
ولَمَّا كان الرباط والمرابطة والبقاء في هذا المكان مع ما يكون من بعد الإنسان عن
أهله، خائفًا على نفسه، متخلِّصًا من كثيرٍ من أمور الدنيا وملاذها وشهواتها، وكما
يبذل في ذلك من سهرٍ في ليله، ومن مناوبةٍ مع صاحبه، ومن تعرُّضٍ للمهالك، ففيه من
الأجر ما فيه، ولهذا جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه قال:
«رِبَاطُ يَوْمٍ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيْمَا سِوَاهُ»،
وجاء عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» ، مع كون هذه الألف
فيها صلوات وفيها زكوات وفيها صدقات، وفيها أعمال طيبة، فيوم واحد خير من ألف يوم،
مما يترتب عليه من المصلحة العظيمة في حفظ الإسلام وأهله، ولذلك لم تزل هذه الرباط
من أعظم الأعمال التي يتقرَّب بها إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- ولم يزل الرباط في سبيل
الله -جَلَّ وَعَلَا- قائمًا على مرِّ الدُّهور والأعصار، ولم يزل أناسٌ يُرابطون
ويسهرون على حفظ حرمات المسلمين، وسواءٌ كان في ذلك ما يتعلق بحفظهم من الكفار
-الذي هو أصل في الرباط- أو كان ما يترتب عليه من حفظِ بلدِ المسلمين من الشرور
التي يتربص بها المجرمون، سواءٌ كان ذلك من مخدرات أو إشاعة للفوضى، أو إرادة
لانتهاك الحرمات، وما يكون فيهم من ضلالٍ ونشرٍ للأهواء، أو من إرادةٍ للمقدسات،
كما هو واقع الآن في بلانا وفي بلادٍ كثيرةٍ ممَّن لم يزالوا يتربصون بها شرًّا
ويُريدون بها بلاءً، يودُّونه لو فُتح لهم ثغيرة ليصلوا المسلمين بشرهم وبلائهم،
وأنَّى لهم ذلك والله يحفظ عباده ويتولَّى من قام على هذا الأمر، ويُعينهم على ما
استعدُّوا له وسهروا فيه، وأقاموا من هذه الشَّعيرة العظيمة، وحفظوا من الإسلام
وأهله، وكانوا سببًا للأمن والأمان في البلاد والعباد.
والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر جملةً من الأحاديث في الرباط لعِظَم ما
يترتب عليه، ولعظم فضله، ولعظ أثره، ولقلَّةِ مَن يصبر على هذا الرباط ويقوم به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «رِبَاطُ
يَوْمٍ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ»، وَمَنْ مَاتَ
مُرَابِطًا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ، جَرَى لَهُ أَجْرُهُ إِلى يَوْمِ اْلقِيَامَةِ
وَوُقِيَ اْلفَتَّانُ)}.
أعظم ما يكون أن يموت الإنسان مُرابطًا في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا- فله أجر وله
منزلة، وله عند الله -جَلَّ وَعَلَا- درجة، ويجري عمله؛ لأنه لو لم يمت لبقي في
رباطه، فأجرى الله -جَلَّ وَعَلَا- عليه عمله وما مات عليه من الخير، وما مات عليه
من الفضل، وما دفع الله به من الشرور، وأُمِنَ الفتَّان، فأيُّ شيءٍ أعظم من الرباط
في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا- والفتنة التي تكون للإنسان في قبره ويتعرَّض لها مَن
مات وانقطعت حياته يُؤمَن منها المرابط لعظم ما ترتَّبَ على عمله؛ ولأنَّ مثله ظهر
صدقه، وعُلم حسنُ قصده؛ لأنه لا يصبر على هذا إلَّا مَن حسُنَ منه القصد وصحَّ منه
العمل -بإذن الله جل وعلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- -جَلَّ وَعَلَا: (وَلاَ يُجَاهِدُ مَنْ أَحَدُ
أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ، إِلاَّ بِإِذْنِهِ، إِلاَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ)}.
يعني أنَّ الجهاد وإن كان فرض كفايةٍ إلَّا أنه لا يجوز للولد أن يُجاهد بدون إذن
أبويه، أحدهما أو كلاهما، أمه أو أبوه جميعًا أو أحدهما، فإذا امتنعت الأم أو امتنع
الأب، أو لم يكن له إلا واحد وامتنع فإنه لا يجوز له أن يُجاهد، ولذلك لَمَّا جاء
ذلك المجاهد وترك أبويه يبكيان قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:
«ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَ» ، وفي الحديث الآخر:
قالَ رَجُلٌ للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أُجَاهِدُ؟ قالَ: «لكَ أبَوَانِ؟»
قالَ: نَعَمْ، قالَ: «فَفِيهِما فَجَاهِدْ» ؛ ولأنَّ حقهما متعيِّنٌ، ولو نظرنا إلى
حق الأبوين وما يكون من فرض الكفاية ففرض العين -الذي هو برٌّ بالأبوين وقيامٌ
بحقِّهما- مُقدَّمٌ على فروض الكفايات التي إذا لم يتصدَّى لها هو تصدَّى له غيره
من المسلمين.
فلأجل ذلك لا يجوز لأحد الجهاد إلا أن يأذن له أبويه في الجهاد الحق الصَّحيح،
والعجب كلُّه أنَّ في كثيرٍ من هذه الأوقات لمَّا خرج أناسٌ إلى مواطن الفتنةِ
وزعموها جهادًا واستباحوا لأنفسهم الخروج بدون إذنٍ، وقطعوا العهود التي أمر بها
ولي الأمر، وأيضًا كان بينه وبين أولئك البلدان من العهود والمواثيق، وتعرَّضوا
لأخطارٍ كثيرة، وعرَّضوا أنفسهم لفتنٍ كبيرة؛ وكـل ذلك مخالفة لما ذكره أهل العلم.
فإذا كان الجهاد الحق الذي قام براية صحيحة وبوجهةٍ قويمة، وهو على أصلٍ، ويُطلب
فيه الحق، وما ذكره الفقهاء من تعاملاتٍ صحيحة؛ لا يكون إلَّا بإذن الأبوين، فكيف
يكون ذلك إذا كان في الفتن وإذا كان في الشرور، فلا شكَّ أنَّ هذه ظلماتٌ بعضها
فوقَ بعضٍ.
قال: (إِلاَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ)، فإذا كان فرضَ عينٍ فهنا يسقط حق الأبوين
لكونه فرضَ عينٍ حاضرٌ في آنه، فلزمه كما يلزمه من فروض الأعيان، فعلى سبيل المثال
لو حضرَت الصلاة الفريضة شخصًا وخاف فواتها، وطلب منه أبوه شيءٌ فإنَّ فعله للصلاة
مقدَّمٌ على ذلك لتعيُّنها عليه، فكذلك هنا إذا تعيَّن عليه الجهاد يُقدَّم على ما
يكون من طاعة الأبوين.
وقد يُستثنى من ذلك مسائل، كأن تكون حاجة والده إلى ذلك متعيِّنة، كخوف هلكته، أو
حاجة أمه إلى مَن يقوم عليها وإلَّا هلكت، ولا يوجد غيره يقوم به.
إذن؛ في بعض المسائل قد يتعيَّن عليه ذلك، لكن من جهةِ الجُملة أنه إذا تعيَّن
الجهاد سقطَ طلب طاعة الوالدين في البقاء والتَّثبيط وعدم الحضور للمعارك والجهاد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَدْخُلُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْضَ اْلحَرْبِ
إِلاَّ امْرَأَةً طَاعِنَةً فِيْ السِّنِّ؛ لِسَقْيِ اْلمَاءِ وَمُعَالَجَةِ
اْلجَرْحَى، وَلاَ يُسْتَعَانُ بِمُشْرِكٍ إِلاَّ عِنْدَ اْلحَاجَةِ إِلَيْهِ)}.
قوله: (وَلاَ يَدْخُلُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْضَ اْلحَرْبِ إِلاَّ امْرَأَةً
طَاعِنَةً فِيْ السِّنِّ).
الأصل -كما قلنا- أنَّ النساء لا يدخلنَ الحرب، ولو أنَّ امرأةً أرادت أن تساعد
المقاتلين وأن تقوم مع المجاهدين فلا يخلو:
- إما أن تكون امرأة كبيرة: فهذه لو حضرت فلا تُقص
- أو تكون امرأة صغيرة: وهذه يُخشى أن يستولى عليه الأعداء، ويستبيحون عرضها،
ويتسلَّطون عليها لِما جُبلت عليه النساء من الضَّعف، وما يكون فيهنَّ من الرَّغبة،
أمَّا لو حضرت المرأة الكبيرة فإنها لا تُقصَدُ بفتنةِ ولا تُطلَب بشهوة، فبناء
عليه يُؤمَن في أقل الأحوال من حصول هذه الشُّرور، فإن وُجدت فإنما تكون بهذه
الصفة، وإلَّا فإنَّ الأصل أنَّ النساء لسنَ من أهل القتال، ولا يجب عليهن حضوره،
ويُخشَى أن يكنَّ سببَ بلاء على المقاتلين بما يكون من ذهاب صبرهنَّ وظهور جزعهنَّ
وإسراعهنَّ في الهلعِ والهربِ وما يتبع ذلك من دبِّ الضَّعف في صفوف المجاهدين
والمقاتلين.
قال: (وَمُعَالَجَةِ اْلجَرْحَى)، فإذا احتيج إلى ذلك كمساندة ودعمٍ ونحوه، وأُمنت
هذه الشُّرور لكونها كبيرة، أو لكونها بعيدة في أماكن مأمونة؛ فيكون كذلك، وإلَّا
فكما قلنا إنَّ الأصل عدم حضورهن.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن يجزيَكم خير الجزاء على
استماعكم وإنصاتكم، وأسأل الله أن يوفقنا للهدى والصواب، وأن يُجري الحقَّ على
ألسنتنا، وأن يُعيننا على ما تحمَّلنا من الأمانة، وأن يبلغنا العلم والهُدَى، وأن
يُجنِّبنا الفتن والرَّدى، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وأدام الله على
هذا البناء قيامه وفضله وأجره وعلمه، وأجرى الله للقائمين عليه الأجر والثواب، وصلى
الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.