{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وحيا الله طلبة
العلم وطالباته، أفاضَ الله عليكم من رحماته.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى: (باَبُ قِتاَلِ أَهْلِ اْلبَغْيِ. وَهُمُ: اْلخَارِجُوْنَ عَلى
اْلإِمَامِ، يُرِيْدُوْنَ إِزَالَتَهُ عَنْ مَنْصِبِهِ، فَعَلَى اْلمُسْلِمِيْنَ
مَعُوْنَةُ إِمَامِهِمْ فِيْ دَفْعِهِمْ بِأَسْهَلِ مَايَنْدَفِعُوْنَ بِهِ، فَإِنْ
آلَ إِلى قَتْلِهِمْ، أَوْ تَلَفِ مَالِهِمْ، فَلاَ شَيْءَ عَلى الدَّافِعِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه،
وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يبصرنا بالحق، وأن يهدينا له، وأن
يُعيننا على الاستمساك به، وألا يُزيغ قلوبنا، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما
بطن، وأن يجعلنا على الحق مُستقيمين في الدنيا، وبذلك نلقى الله -جَلَّ وَعَلَا-
وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
أيُّها الإخوة طلاب العلم؛ لا يزال الحديث موصولًا في التَّوطئة والتَّقديم لهذا
الباب المهم العظيم، وهو باب: "قتال أهل البغي" أو "باب قتال الباغين" كما في بعض
النُّسَخ، وكنا في المجلس الماضي قد تكلمنا على توطئة ومُقدمة في أول هذا الباب، من
جهة ذكر الفقهاء له، ومن جهة ما يتعلق بالإمام ونصبه واعتبار ولايته وعدم الخروج
عليه، وأيضًا ما يتعلق بالبُغاة وصفتهم، وذكر الخوارج سواء كانوا خارجين على طريقة
أهل الأهواء بالتكفير بالكبيرة وما يتعلق بذلك، وهي الفئة والطائفة المشهورة منذ
الزمن الأول، ومن أول البدع خروجًا في الإسلام، وجاء منهم من الضَّلال والزَّيغ ما
الله به عليم، وذلك لأنهم خرجوا على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
وتمسَّكوا بأشياء ضالَّة، واستمسكوا بأمور فاسدة، وهم دعوا إلى كتاب الله -جَلَّ
وَعَلَا- وقالوا : ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة:
49]، فقال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه- الكلمة المشهورة: "كَلِمَةُ حَقٍّ
أُرِيدَ بهَا بَاطِلٌ" ، يعني: أنهم ما دعوا حقيقةً إلى ما جاء في الكتاب والسنَّة،
وإنما رفعوا المصاحف وزعموا أنهم داعين إليها بما وصلَ إلى نفوسهم من الظنون
الفاسدة والأهواء المضلَّة والبدع المنحرفة، وإلا لم يكونوا على الحق، وما كان لهم
أن يهتدوا إلى الحق خلافًا لأصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وما
كان لهم أن ترتفع سيوفهم على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويكونوا
هُم المحقِّين وأصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مُبطلين.
ولم تزل هذه الطائفة بلاءًا على الإسلام والمسلمين، يتجدد بلاؤها ويزيد شرها، حتى
وصلت إلى هذه الأزمنة التي تنوَّعت هذه الطائفة في صورها، لكنها تبقى مُستبيحة
للدماء، خارجة على المسلمين، مستهينةٌ بأنفسهم ودمائهم قتلًا وإيذاءً وبلاءً
عظيمًا، وأيضًا استهانةً بما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- من صيانة المعاهدين
والذِّميين والمستأمنين، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «مَنْ
قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ، وهؤلاء لا يُبالون على أي
شيءٍ وقعت أيديهم، وتلطَّخت به من الدماء، فإنهم لا يُبالون في ذلك حتى قتلوا
النساء وروَّعوا الآمنين، وحتى استباحوا الصبيان، وحتى أشاعوا الفوضى، وحصل من الشر
ما هو معلوم.
تكلمنا على هذه المسائل وإن كان الحديث فيها طويل، وتمنيت لو كان لها سلسلة مخصوصة
لتبيين زيف باطلهم وشرهم، وزيغهم على الحق، لوجود من فُتِنَ بهم من المسلمين، لأنه
لا يخلو في هذا الزمان من دخول داخلةٍ عليهم ممن وظَّفوهم لصالح غير المسلمين؛
ففتكوا بالمسلمين وبغيرهم، وأظهروا الشر في بلاد المسلمين ورفعوا لواء الفتنة
وأظهروا الشرور في ذلك، ولكن لعل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن ييسر لذلك وقتًا نعرض فيه
شيئًا من هذه الشُّبه والأهواء، وما يندرج فيها من سوء، ومما يجب على أهل الإسلام
وعلى من أراد سبيل السلامة والتمام من حفظ نفسه وصيانة قلبه من الفتنة والهوى التي
تدخل على المسلمين من خلاله.
وذكرنا اعتبار الإمامة عند أهل السنَّة والجماعة وصيانتها وعدم الخروج عليها، وما
جعل الله -جَلَّ وَعَلَا- لها من المنزلة، وما أوجب لها من الحق على عموم أهل
الإسلام.
قال المؤلف أنه إذا خرج أهل البغي (فَعَلَى اْلمُسْلِمِيْنَ مَعُوْنَةُ إِمَامِهِمْ
فِيْ دَفْعِهِمْ)، فإنَّ ذلك من الواجبات المتحتِّمة، وأنه لا يسوغ تركهم؛ لأن هذا
يُفضي إلى حصول الصدع في أهل الإسلام، وأن يتفرق المسلمون، وتُستباح الدماء، ويحصل
بسبب ذلك من البلاء ما هو شيءٌ كثير.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بِأَسْهَلِ مَايَنْدَفِعُوْنَ بِهِ).
وهنا إشارة مُهمَّة إلى أنَّ دفع البُغاة مثل دفع الصائل، فيُدفعون بما يُدفع به
الصائل، الأسهل فالأسهل، ولكن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- والفقهاء جعلوا لهم
بابًا مخصوصًا للحاجة إلى تبيين بعض الأحكام المختصَّة بهم لعِظَم الفتنة في ذلك،
ولاحتفافها ببعض المسائل التي وقعت في صدر الإسلام ويُحتاج إلى بيانها والإفادة
منها، واستنباط ما يتعلق بذلك من الأحكام على ما جاء من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ.
إذن؛ يُدفَعون بأسهل ما يندفعون به، ولأجل ذلك لو أدبر مدبرٌ في قتال هؤلاء ولم
يُقبل على المعركة والقتال؛ فلا يجوز لحاقه أو الإجهاز عليه أو قتله أو تصويب
السلاح إليه، ولأجل ذلك قال المؤلف (بِأَسْهَلِ مَايَنْدَفِعُوْنَ بِهِ)، فإذا
كانوا يندفعون بالتخويف والتهديد لم يَجُزْ أن يُحرَّك السيف من غمده، ولا أن
يُطلَق السلاح عليهم، فإذا لم يكونوا كذلك فإنَّهم يندفعون بما هو أشد من هذا.
وبناء على هذه المسألة ينص الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أنهم لا يُقتلون
بسلاح عام؛ لأنه ليس المقصود قتلهم والإجهاز عليهم؛ وإنما المقصود دفع شرهم، فإذا
كان يندفع شرهم بقتال الواحد والاثنين، ومَن أقبل في مقدِّمة جيشهم أو سريتهم ونحو
ذلك ويرجع الباقون؛ فإنَّه يكون الأمر هو المتحتم ولا يجوز الإتيان على باقيهم،
وهكذا..
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ آلَ إِلى قَتْلِهِمْ، أَوْ تَلَفِ
مَالِهِمْ، فَلاَ شَيْءَ عَلى الدَّافِعِ)، وهذا واضح، يعني: لو كان الأمر يُمكن
دفعه بغير القتال لوجب وتحتَّم ولم يجُزْ القتل، ومَن قتل في مثل هذه الحالة فإنَّ
القتل مضمون، وإن يده مُعتدية، وعليه في ذلك التبعة.
لكن إذا لم يندفعوا فقتل من قُتل منهم أو أُتلفت بعض أموالهم أو دوابهم التي تحملهم
ونحو ذلك؛ فلا شـيء، ولذلك قال المؤلف: (أَوْ تَلَفِ مَالِهِمْ، فَلاَ شَيْءَ عَلى
الدَّافِعِ)، وعبَّر بـ "الدَّافِع" لإبانةِ أنَّ المطلوب منه الدفع، بأي شيءٍ
اندفعوا فليكن كذلك.
والكلام يتضمَّن -وإن لم ينص الفقهاء على هذا- أنه في حال المدافعة لو كان يُمكن أن
يُدفع بإصابة في بعض أعضائه فتعمَّد قتله لم يكن ذلك جائزًا؛ لأن المقصود هو دفعهم
بما هو أسهل في مثل هذه الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ كَانَ شَهِيْدًا، وَلاَ
يُتْبَعُ لَهُمْ مُدْبِرٌ، وَلاَ يُجَازُ عَلى جَرِيْحٍ، وَلاَ يُغْنَمُ لَهُمْ
مَالٌ، وَلاَ تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ)}.
قوله: (وَإِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ كَانَ شَهِيْدً)؛ لأنه قَتَل بحقٍّ؛ ولأنه قام
بما أُمِرَ به؛ ولأنه حفظ بيضة الإسلام وإمام المسلمين وجماعتهم، فهو في قتال حقٍّ
مشروعٍ، وهو مأجورٌ على ذلك، وهو عند الله ممن كتبت لهم الدرجة والمنزلة، وجاء في
الخوارج عن أبي أُمامة الباهلي أنه لَمَّا أُتيَ برُؤوسِ الأزارقةِ فنُصِبَتْ على
دَرَجِ دِمَشقَ، جاء أبو أُمامةَ، فلمَّا رَآهم دَمَعَتْ عَيناه، فقال: "شَرُّ
قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ
أَدِيمِ السَّمَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ هَؤُلَاءِ" ، يعني: من قتله الخوارج فهم
خير قتلى؛ فدلَّ ذلك على أنَّ القتل في مثل هذا قتلٌ بحقٍّ، وأنَّ الدافع في هذا
مأجورٌ، وأنه لا يُعدُّ قتلَ فتنةٍ، ولا يُعدُّ مُتساويًا مع غيره، بل هو على أجرٍ
وثوابٍ منزلةٍ.
ثم يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُتْبَعُ لَهُمْ مُدْبِرٌ، وَلاَ
يُجَازُ عَلى جَرِيْحٍ)، هذا فيه إشارة إلى أنَّ قتل هؤلاء مثل دفع الصائل،
وللإبانة عن الفرق بين قتل المشركين وجهادهم، وقتال وجهاد من سواهم، فهذا مجاهدة
وجهادٌ وقتال بحق، لكن له أحكامٌ تخصُّه ولا تصل إلى الأحكام التي تتعلق بقتال
المشركين، ولهذا قال: (وَلاَ يُتْبَعُ لَهُمْ مُدْبِرٌ)، فلو أدبر منهم واحد أو
عشرة أو نصف الجيش حتى لو كان قائدهم؛ فإنه لا يُتبع؛ لأن المقصود هو اندفاع شرهم
ودفع فتنتهم، وذلك يحصل برجوعهم وانكسارهم عن ساحة المعركة وتفرقهم بعدَ الاجتماع.
ثم قال: (وَلاَ يُجَازُ عَلى جَرِيْحٍ)، كذلك لو وُجد جريح لا يُجاز عليه.
والفقهاء وأهل العلم يجعلون مُقابل أهلِ البغي أهلَ الحق والعدل؛ لأنهم لم يكن منهم
بغي، فهم على حقٍ وهدى وصواب، فهم أهل عدل وأهل حق، فلو كان أحد من أهل العدل والحق
رأى منهم جريحًا أو طريحًا فإنه لا يُجهِز عليه، إلا إذا كان يخاف شَرَّه، أو لا
يزال يُمكن أن يكون منه اعتداء فهذا شيء آخر، لكن من حيث الأصل هذا الجريح قد انقطع
شَرُّه، فلأجل ذلك كان حُكمه حُكم دفع الصائل، وهذا لا صيال منه، وبناء على ذلك لا
يكون عليه إجهاز.
قال المؤلف: (وَلاَ يُغْنَمُ لَهُمْ مَالٌ)؛ لأنهم من أهل الإسلام، وفعلهم مع كونه
شنيعًا، وخروجهم مع كونه فتنة، وفعلهم مع كونه محرَّمًا؛ إلا أنه لا يُخرجهم عن
دائرة الإسلام وحكمه، فبناء على ذلك لا يُغنم لهم مال، ولا يكون المال الذي يصل إلى
أهل الحق والعدل منهم غنيمة؛ بل يرده إليهم الإمام، أو يتصرف فيه بما يكون به دفع
شرهم، بحسب الأحوال التي يؤول إليها أمرهم.
قال: (وَلاَ تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ)، مثلما قلنا، فإنَّ الكفار قد تُسبَى
ذراريهم ونساءهم ونحو ذلك، أمَّا هؤلاء فهم أهل إسلامٍ، فلا سبي عليهم، ولا يدخلون
فيما يدخل فيه أحكام قتال المشركين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ غُسِّلَ وَكُفِّنَ
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ)}.
مَن قُتل منهم قُتل على الإسلام، وبناء على ذلك له أحكام المسلمين، والمسلم يُغسَّل
ويُكفَّن ويُصلَّى عليه، وحُرمَة الإسلام باقية، وحق الإسلام قائم، وإن جرى منه ما
جرى من الدخول في البغي وترتب على ذلك من الفتنة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ ضَمَانَ عَلى أَحَدِ اْلفَرِيْقَيْنِ
فِيْمَا أَتْلَفَ حَالَ اْلحَرْبِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ)}.
أمَّا أهل الحق والعدل فهذا ظاهر في أنهم لا ضمان عليهم؛ لأنَّهم دفعوا صائلًا،
ودفعُ الصائل لا ضمان عليه؛ ولأنه هو الذي عرض نفسه للهلكة، وهو الذي اعتدى، وهو
الذي كان منه ظلم وعدوان ونحوه.
ولكن لماذا لم يكن على أهل البغي ضمان؟ يعني لو أمسكنا بواحدٍ منهم وكان قد قَتَلَ
أو أَحرَقَ مالًا لأهل الحق والعدل؛ فلماذا لا نضمنه؟
أهل العلم يقولون: إنَّ السبب في ذلك أمران:
الأول: لأنهما مُتأوِّلة، يعني: لهم تأويل وشُبهة، ولهم شيء يعتمدون عليه.
الثاني: أن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- جرى شيء في وقتهم من هذا،
فلم يكن منهم تغريم لأهل البغي، ولا طلبٌ للضمان، ولا تعلق بهم شيء من ذلك، فكان
هذا كالاتفاق بين أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا أَخَذَ اْلبُغَاةُ حَال امْتِنَاعِهِمْ مِنْ
زَكَاةٍ، أَوْ جِزْيَةٍ، أَوْ خَرَاجٍ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِمْ، وَلاَ عَلى
الدَّافِعِ إِلَيْهِمْ)}.
يعني: لو أنَّ البُّغاة لَمَّا كثروا وكانت لهم قوة في مدينة، فأخذوا الزكاة من
أهلها؛ فبناء على ذلك لا نقول: إنها تُعاد، فإذا أخذَت وذُهِبَ بها فيما ذُهِبَت
فيه وأجزأت عن صاحبها وتعلق بذلك حكمها، فبناء على ذلك لا يُعاد عليهم طلب الإخراج
من الناس، ولا تؤخَذ منهم وقد أخذوها؛ لأن لهم تأويلًا فيما أخذوه.
ومثل ذلك لو أخذوا جزية أو خراجًا ممَّن يتَّجرون من المشركين إلى بلاد المسلمين؛
فإنه لا يُؤخَذ مرَّة أخرى، ولا يُطالب أهل البغي برده، ولذلك قال: (وَلاَ عَلى
الدَّافِعِ إِلَيْهِمْ)، فمن دفع إليهم فقد أدَّى الذي عليه، وهم لهم شبهة، وظنوا
أنَّ الولاية إليهم بتأويلٍ، فاعتبرنا الأمر في ذلك مما ينقطع به دابر الشر لئلَّا
تُذكَى نار الفتنة وتزيد الأمور، وحتى يُطمس أمر الفتنة برُمَّتها وما جرى فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمِهِمْ، إِلاَّ
مَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ)}.
كذلك لو أنهم في زمن قوتهم وشوكتهم وتغلبهم على هذه المدينة أو هذه البلدة أجروا
أحكامًا وعيَّنوا قضاةً، وفصلوا في خصوماتٍ ونحوها، فما فصلوا فيه من الخصومات بحكم
حاكمهم معتبر ولا يُعترض عليه، إلا في حال واحدة، وهي أن يكون ذلك الحكم خارجًا عن
دائرة الاجتهاد وهو مما ذكره الفقهاء في كتاب القضاء، إمَّا مخالف للإجماع أو لصريح
الكتاب والسنة، ولا وجه له عند أهل العلم.
أمَّا إذا كان قد حكمَ بحُكمٍ سواء كان على رأي مذهب الحنابلة أو غيرهم، أو ذهب من
راجحٍ إلى مرجوح ونحوه؛ فإنَّ ذلك سائغٌ في اعتبار الفقهاء والقضاة، فبناء على ذلك
لا يُنقض شيء من هذه الأحكام إلا ما يُنقَضُ من قاضٍ من قضاة أهل الحق والعدل فيما
خالف فيه الإجماع أو صريح الكتاب والسنة على ما سيأتي بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- في
كتاب القضاء.
انتهينا من قتال أهل البغي، وكما قلت لكم إن فيه مسائل كثيرة، وفيه أحكام دقيقة،
وجرى في عهد أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من قتال البغاة ونحوهم،
وأيضًا جرى من قتال الخوارج والمرتدين في بعض الأحوال، وهذه المسائل من المسائل
المشكلة جدًّا، فكما قلنا أنه ينبغي لطالب العلم أن يستأني في ذلك وألا يستعجل، وأن
يكون مرده وأخذه في هذا عن أهل العلم الكبار، وأن دراسة المسائل من حيث التَّأصيل
والتَّعلُّم يختلف عن دراسة الوقائع من حيث الحكم والتَّصوُّر والعمل بمقتضاه، فقد
يسعنا في مثل هذا المجلس أن نبحث مثل هذه المسائل، ولكن لو خرجنا من هذا المجلس إلى
أن ننظر في بعض الوقائع التي حصلت هنا أو هناك؛ فإنه لا يسع طلاب العلم ولا متوسط
الطلبة أن يقطع في شيءٍ من ذلك وأن يبتَّ فيها، وما حصل كثير من الضلال والانحراف
في مثل هذا إلَّا أن صغار الطلاب ومتوسطيهم خاضوا في مثل هذه المسائل، ونصَّبوا
أنفسهم قضاةً وحكموا على العلماء وخالفوهم، وحصل بسبب ذلك الزيغ الكثير والبلاء
الكثير.
ومن جهة أخرى؛ أن المسائل التي وقعت بين أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- لأهل العلم فيها منهج رصين، وهو أنَّ الأصل في منهج أهل السنة والجماعة
أنهم يترضَّونَ عن جميع آل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأهل بيته من
أزواجه وبناته، وأصحابه من المهاجرين والأنصار، وممن شهدوا العقبة ومَن بعدهم، وممن
حضروا بيعة الرضوان وبعدها، ومن أسلم قبل الفتح ومن بعده؛ على طريقة أهل السنة في
جعلهم طبقات ودرجات في العلو والمنزلة، فبعضهم يجعلها خمس، وبعضهم يجعلها اثنا عشر،
فكلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وكلهم عدول خيار، وكلهم لهم منزلة الصحبة وسابقة
الفضل، وإن تفاوتوا في الفضائل، فأفضلهم الخلفاء والمبشرون بالجنة، والتفضيل في
أفرادهم بحسب ما جاء في مناقبهم ودرجاتهم، وأيضًا باعتبار مجموعاتهم وطبقاتهم -على
ما ذكرنا.
فإذا كان كذلك؛ فإنه يُقابل هذا الكف عما شجر بين أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ-، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: « إِنَّمَا
أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ، فَبِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ، وقال
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا
ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتي ما يُوعَدُونَ» ، وقال: « لا تَسُبُّوا أصْحابِي،
لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ لو أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ
أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدْرَكَ مُدَّ أحَدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ» ، لعلو منزلتهم ورفيع
دردتهم، فنهى عن سب أصحابه جميعًا.
ولأجل هذا أجمع أهل السنة والجماعة كما حكى ذلك الخطابي والقرطبي وغيرهم؛ أنه لا
يجوز التعرض لأصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ولما سُئل عمر بن عبد
العزيز قال: "تلك دماءٌ عصمني الله منها، فليعتصم منها لساني"، ولما سُئل أحمد،
قال: "كلا وعد الله الحسنى"، وقال في مرة أخرى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا
مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 134] .
وبالنَّظر إلى الوقائع التي جرت، فهم إما مصيبون قد أصابوا الحق ووفقوا له، وإما
مجتهدون مخطؤون، وهم عند أهل السنة والجماعة ليسوا بمعصومين، تجري منهم الخطيئة
وتقع منهم الكبيرة، لكن إما أن يكون لهم من الخطايا ما تابوا منها، وإما أن يكون
فيها مجتهدين متأولين، وإما أن يكون لهم مما يقابلها من الفضائل وسابقة الإسلام
كحضور العقبة أو بدر أو كونهم من أهل الحديبية أو غير ذلك من الفضالئ التي اختصَّهم
الله -جَلَّ وَعَلَا- بها.
ثم إن أهل السنة والجماعة يقولون: إنَّ أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- فيما ذكر من هذه الأحداث منها كثير مكذوب لا حقَّ فيه، وإنما نفثَ فيه
أهل الضلال وأهل البدع والأهواء من ضلالهم وبلائهم وشرهم ما كذبوا به على أصحاب
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، فلم يكن في ذلك شيئًا من الحق.
فلا ينبغي الدخول في مثل هذا توسُّعًا وتدقيقًا ونحوه، وقد جعل بعض المنتكسين وأهل
الأهواء طريقةً خلاف طريقة أهل السنة من حكاية مثل هذه القصص وجعلها منهاجًا في
مجالسهم ونحو ذلك، وجعل بعضهم ممن بلغ به البلاء مبلغًا أن يجعل مناط كلامه وكثيرًا
من أحواله في النيل إما من معاوية أو من بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ.
ونحن لا نقول شيئًا من هذا، قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]، ونقول: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى﴾ [الحديد: 10]، وما جاء من الدلائل الكثيرة في فضلهم.
فهذه إشارة إلى شيءٍ مما يُتمَّم به هذا الباب، وإن كانت هذه المسائل تُدرَس في كتب
الاعتقاد، لكن لما كان يعرض لها الفقهاء في قتال أهل البغي، والحديث ذا أهميَّة،
والمتطاولون على السنة وعلى أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كُثُر؛
احتيج إلى البيان والتوضيح منعًا للشرِّ والهوى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ حُكْمِ اْلمُرْتَدِّ)}.
المقصود بالمرتد: مَن كفر بعدَ إسلامه، والله -جَلَّ وَعَلَا- ذكر المرتدون فقال:
﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217]، فهذا ظاهر.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال في الحديث الصحيح عن ابن عباس وغيره:
«مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوْهُ»، وفي حديث ابن مسعود عن النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- في الصحيح: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ»،
وذكر منهم «وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق لِلْجَمَاعَةِ» .
والإجماع مُنعقد على ذلك عند أهل العلم، وإن شغَّبَ في ذلك المشغِّبونَ من أهل
الأهواء في هذا الزَّمان، فقالوا إن قتل المرتد حكر للناس في أفكارهم، ومنعٌ لهم من
الاختيار والتَّعددية!
فنقول: إنَّ الأصل في دين الإسلام أنه على التَّخيير والاختيار، لا على الإكراه
والحمل على ذلك بدون رضا، ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ
بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَ﴾
[البقرة: 256]، فلا إكراه في دين الله -جَلَّ وَعَلَا-، لكن مَن آمن بالإسلام وسمع
القرآن، وصدَّق النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه قد استبان له الحق، وأخذ من هذا
المعين، فما كان له أن ينكف بعد إسلامه، وأن يرجع بعد إيمانه، ولذلك لو عُذر
اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو تُركَ وخُلِّيَ بينه وبينَ ما اعتقدَ؛ فلا يُحمل
على دين وملة الإسلام حملًا، لكن لا يُقبل من المسلم الذي عرف الحق والهدى أن يزيغ
عنه وينقلب عليه.
ومن أعظم ما يُقال في هذا أنَّ أحكام المرتدين وقتالهم من أشهر وقائع أهل الإسلام،
وأجمع عليها الصحابة، فقاتلوا المرتدين الذين ارتدوا بعد النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقالوا إننا كنا نعطي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
ولا نعطيكم أنتم، فارتدوا عن الإسلام ولم يسلموا ببعض الشعائر الظاهرة، فكان
الصحابة مُجمِعون على قتالهم، وفي هذا قصة أبي بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
وهي من مناقبه العظام، فقال: "والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه لرسول الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لقاتلتهم عليه"، «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ
حتَّى يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فمَن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فقَدْ
عَصَمَ مِنِّي مالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحِسابُهُ علَى اللَّهِ» ، فدل على
أنهم إذا تركوا ذلك فقد حلَّت دماؤهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ اْلإِسْلاَمِ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَجَبَ قَتْلُهُ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ : «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوْهُ»)}.
قوله (وَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ اْلإِسْلاَمِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَجَبَ
قَتْلُهُ)، يعني أن النساء كالرجال في ذلك، لأن بعض الفقهاء قال إن المرأة لا تقتل،
وأصل هذا ما جاء في حديث ثوبان في الغزو «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا
طِفْلًا، وَلَا امْرَأَةً» ، ولما رأى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-
امرأة مقتولة قال: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ!» ، يعني استنكارًا لقتلها.
وهنا أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يبين أن حكم المرتد مختلف تمامًا عن
قتل من لم يُقاتل من المشركين كالنساء والولدان والشيوخ ونحوهم، فهذا حكم آخر جاء
فيه الدليل، فاستوى فيه الرجل والمرأة على حد سواء، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوْهُ»، فـ "مَنْ" تدل على
الرجل والأنثى العاقلين، فيدخلون في حكم ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولاَ يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلاَثًا،
فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ قُتِلَ بِالسَّيْفِ)}.
لا يُقتل حتى يُستتاب، يعني: يُطلَب منه أن يتوب وأن يرجع، ويُطلَب منه أن يترك ما
وقع فيه من الرِّدَّة ومن النَّكسة، ومن الانقلاب على الإسلام وأهله، فإذا كان عنده
شُبهةٌ تُبيَّنُ له، وإذا كان عنده شيءٌ لعب بعقله أو غيَّرَ عليه نظره فإنه
يُبيَّن له الحق ويُدعَى إليه، فلا يُقتل حتى تُطلب توبته، وفي هذا إشارة -كما هو
مذهب الحنابلة وقول جماهير أهل العلم- أن طلب توبته واجب، ولا يجوز أن يُقتل قبل أن
تطلب توبته، خلافًا لبعض الفقهاء الذين قالوا من أن الاستتابة سُنَّة مُستحبة،
ولذلك لما جاء مَن جاء من اليمن فسأل عمر: هل من مغربة خبر؟ فقيل: إنَّ فلانًا كفر
بعد إسلامه. قال عمر: فماذا فعلتم؟ قالوا: قتلوه. فقال عمر: "هلا أبقوه ثلاثًا!
اللهم إني لم أحضر، ولم أرضَ إذ بلغني"، فتبرَّأ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من ذلك
لَمَّا تركت استتابته.
لقائل أن يقول: إذا كان الزاني لو تاب لم تُقبل توبته بين إيقاع الحد عليه، ومثل
هذا السارق، ومثله القاذف، والمحاربين بعد وصولهم إلى السلطان؛ فلماذا تُطلب توبة
المرتد؟ فهناك قلنا لو تاب هو من نفسه فإنه لا يحُلْ بين الإمام وإقامة الحد عليه،
فلماذا تطلبون التوبة هنا؟
نقول: ثَم فرق كبير بين هذه وتلك:
الرِّدة ليست حدث لا يمكن استعادته، هو مقالة أو عقيدة عرضت له، فإذا أزالها وعاد
إلى الحق فكأن شيئًا لم يكن، لكن مَن زنا فلا يُمكن إذا تاب أن يزول الزنا؛ لأن
الزنا وقع ولا يُمكن محوه وإنهاؤه، ومثل ذلك السرقة ونحوها، فلأجل ذلك كان بينها
فرقٌ، فهنا تُطلب التوبة، وطلبها أصلٌ صحيحٌ واجبٌ عند أهل العلم، وهناك لا تحول
بين إقامة الحد على من تابَ بعدَ أن رُفع إلى السلطان.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ قُتِلَ بِالسَّيْفِ).
تُطلب التوبة ثلاثة أيام؛ لأن هذه الأيام الثلاثة مدَّة ليست كثيرة، ويُمكن فيها أن
يُراجع نفسه، وأن يرجع إلى ما أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- به، وأن يستبين الحق وأن
يهتدي إليه، والثلاثة أقل الجمع، فبناء على ذلك تكون الاستتابة واقعة في الأيام
الثلاثة، في كل يوم يراجع لعله أن يتوب ويرجع إلى أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- فإن
تابَ فقد رجع إلى الإسلام ورجع إلى ما كان، وتعلقت به أحكام المسلمين، ولم يجب عليه
قتلٌ ولا سواه، أما إذا أصرَّ -نسأل الله السلامة والعافية- فإنه يُقتل بالسيف.
والقتل للأحاديث التي مرَّت بنا، وكون ذلك بالسيف؛ لأنه أيسر وأسهل في القتل، وأمنع
من العذاب، لأنه يُقتل في آنٍ سريعة، وبناء على ذلك كان السيف أحسن مما سواه،
ويستدلون أيضًا بحديث «لا قود إلا بالسيف»، وما ماثله من أدلة، وقد تقدَّم ما يتعلق
بذلك.
عمومًا الأمر في آلة القتل فيه سعة، فلو انتقل من ذلك إلى الأسلحة الموجودة الآن
كالرمي بالرصاص ونحوه، فالأمر فيه محتملٌ، والمقصود بذلك هو عدم حصول التَّعذيب له
والمثلة به في حال القتل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ جَحَدَ اللهِ تَعَالى، أَوْ جَعَلَ لَهُ
شَرِيْكًا، أَوْ نِدًّا وَوَلَدًا، وَكَذَّبَ اللهَ تَعَالى أَوْ سَبَّهُ، أَوْ
كَذَّبَ رَسُوْلَهُ أَوْ سَبَّهُ، أَوْ جَحَدَ نَبِيًّا، أَوْ كِتَابَ اللهِ
تَعَالى، أَوْ شَيْئًا مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، أَوْ جَحَدَ أَحَدَ أَرْكَانِ
اْلإِسْلاَمِ، أَوْ أَحَلَّ مُحَرَّمًا ظَهَرَ اْلإِجْمَاعُ عَلى تَحْرِيْمِهِ،
فَقَدِ ارْتَدَّ، إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مِمَّنْ تَخْفَى عَلَيْهِ اْلوَاجِبَاتُ
وَالْمُحَرَّمَاتُ، فَيُعَرَّفُ ذلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، كَفَرَ).
هذا ذكر من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لبعض المكفرات، أو إيرادٌ من المؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لبعض ما تحصل به الردة.
وهنا مسألة مهمَّةٌ للغاية، وبودي أن الإخوة طلبة العلم وطالباته أن يتوقفوا هنا
وقفة يُحتاج إليها كثيرًا، هذا كتاب عند الحنابلة، فهل انفرد هذا الكتاب بذكر ما
تكون به الرِّدة أو لا؟
نقول: لو بحثت في هذا الكتاب، أو بحثت في كتاب آخر من كتب الحنابلة، أو نظرت في كتب
فقهاء الشافعية -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أو تنقَّلت إلى كتب المالكية -رَحِمَهُم
اللهُ تَعَالَى- أو كذلك كتب الحنفية -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- ستجد أن السياق
واحد، وأن كل واحد من هؤلاء الفقهاء على اختلاف مذاهبهم واختلاف أزمانهم واختلاف
كتبهم؛ ستجد أنهم يذكرون هذه المسائل.
فلأجل ذلك لم ينفرد بذكر المكفرات فئةٌ معيَّنة، ولا جهةٌ، ولا بلدة، ولا غمام من
الأئمة، ولا محمد بن عبد الوهاب، ولا ابن تيمية، ولا ابن القيم؛ بل هذه طريقة أهل
العلم على اختلاف المذاهب، بل ذكر فقهاء الحنفية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في تتبع
المسائل التي يقع فيها الإنسان بالكفر أوسع بكثير ممَّا ذكره غيرهم، ولذلك ما يأتي
في كلام بعض أهل العصر وما يُوصَم به بعض الأشخاص أو الجهات أو الدعوات أو البلدان
بأنهم مُكفِّرة أو نحو ذلك؛ فإن هذا نوعٌ من التَّشغيب والتَّضليل، وليس لذلك أصلٌ
صحيح، بل المعروف بزيادة التَّكفير إنما هم الخوارج الذين كانوا يُكفرون بالكبيرة
-كما قلنا- وأما أهل السنة والجماعة باختلاف مذاهبهم من الحنفية والمالكية
والشافعية والحنابلة فهم على أصل واحدٍ في ذكر المكفرات واجتماع الشروط وانتفاء
الموانع، وذكروها وبيَّنوها، ثم جعلوا لكل ذلك قيدًا بحسب ما جاء فيه من الكتاب
والسنَّة، وبحسب ما يكون فيه من التكليف وانتفاء الشبهة وعدم ما يمنع من إلصاق
الوصف بذلك من إقامة الحجَّة وغير ذلك. ففي هذا إشارة واضحة.
وبعض أهل الأهواء في التكفير أكثر، وهم أضل، فأكثرُ تكفيرًا وليسوا على قاعدة
صحيحة، ولذلك جرى منهم تكفير لأصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ولأفضل
الخلفاء الراشدين، قل مثل ذلك في كثير من أهل الأهواء، أما مَن أرادَ أن يُميِّعَ
عقيدة أهل الإسلام فيسوي المسلم بالكافر؛ فهذا ليس بصحيح.
نقول: إن التكفير له قاعدة صحيحةٌ مرعيَّةٌ تمنع التَّجاوز، وتمنع الاستطالة على
الناس، ووصف أحد بالكفر وهو غير مستحقٍّ له، ولذلك جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ
بِهَا أَحَدُهُمَ» ، يعني إما أن يكون هذا مستحقًّا لهذا الوصف فيلحقه به، وإما
ألا يكون مستحقًّا له فيكون القائل أحق بهذا الوصف -نسأل الله السلامة- وهذا الحديث
من أحاديث الوعيد التي تدل على أن هذا الأمر من الأمور الكبار.
ومسائل التكفير من أعظم المسائل وأشدِّها، ولا يتصدَّى لها آحاد الناس، ولأجل ذلك
حتَّى وإن كان الطالب يدرس هذا من جهةِ الدراسة والتأصيل إلا أن إلحاق هذا الوصف
وترتُّب أحكامه عليه لا يكون إلَّا لأهل العلم الكبار، ولا يكون إلَّا لمن وليَ
القضاء الذي يجمع الأمور وتنتفي معه الموانع، ويرتب الأحكام على وجه صحيح لا يكون
فيه شيء من الظلم ولا العدوان، ولا الشر ولا الخطأ.
على كل حال؛ هذه المسألة من المسائل المهمَّة، ولعلها بإذن الله -جَلَّ وَعَلَا- أن
تكون في مستهل ومطلع درسنا القادم، فنستفتح بها الحديث، ونكمل بإذن الله -جَلَّ
وَعَلَا- تفريعات هذه المسائل، والله نسأل لنا ولكم التوفيق والسداد، والشكر موصولٌ
لهذا البناء، جعله الله -جَلَّ وَعَلَا- بناء مباركًا ومؤسسة رائدة في الخير والهدى
والعلم والتوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.