الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس الأول

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، ومع إطلالة هذا الفصل المبارك أرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، جعلنا الله وإيِّاكم في خيرٍ، وقَلَبَنا إلى خيرٍ، وأتمَّ علينا وعليكم النِّعمة، وبلَّغنا العلم والعمل.
{نشرع في هذا الفصل -بإذن الله- في كتاب "عمدة الفقه" للموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من كتاب "الحدود".
قال رحمه الله: (كِتاَبُ اْلحُدُوْدِ
لاَ يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلى مُكَلَّفٍ عَالِمٍ ِالتَّحرِيمِ)
}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
بادئ ذي بدءٍ أحمدُ الله على ما يسَّر، وأحمدُ الله -جلَّ وَعَلا- على ما وفَّقَ، أحمدُ الله على أن بلَّغُكم في العلم مبلغًا حتَّى بلغتم ما بلغتموه، وحتى وصلتم إلى ما وصلتم إليه، قضيتم شوطًا طويلًا، وفيه مسائل كثيرة، وفيه أبواب مُتعددة، وفيه ربما أحكامٌ معقَّدة، وفيه ما يُمكن أن يكون عونًا لإخوانه من الخير والهدى ما أسأل الله -جلَّ وَعَلا- أن يجعله في ميزان حسناتنا، وأن يبلغنا فيه الإخلاص وحسنَ القصد.
ولا تزال هذه الدروس قائمة، والمجالس مُتتالية، والعلم -بإذن الله جل وعلا- مرفوع، بلَّغكم الله أعلى درجاته، وجعلكم الله -جلَّ وَعَلا- منارةً فيه، وأبقاكم ذُخرًا للإسلام والمسلمين.
لا يسعنا في بداية هذا الفصل إلَّا أن نشكر الله شكرًا كثيرًا أن جعلنا في هذا الميدان، وأن بلغنا هذا الطريق، وأن سهَّلَ لنا هذا السبيل، وأن حمانا من مُضلَّات الفتن، وعصمنا من الطُّرق الضَّالَّة والمسالك المنحرفة، ذاك فضل الله علينا، لقد سلك أناسٌ كثير مسالك شتَّى، ربما بعضها يحملهم على التَّبعة في دينهم، وربما بعضها يتعلق به فساد الدين بأصله، وربما كان ببعضها انحراف في النَّظر أو التَّفكير أو العقل أو المنهاج، أو البعد عن أصول أهل السُّنَّة والجماعة، أو التَّخبُّط في ذا وذاك، أو الحيرة والشُّكوك والأوهام، أو الدخول في ميادين الأهواء والشُّبهات والشَّهوات؛ وكل تلك ميادين كثيرة، لم يزل الشيطان يتخطَّف أولياءَه، ويرتكس مَن أراد الله -جلَّ وَعَلا- انتكاسَه، ليسلك في تلك المسالك، وليبلغ تلك المستنقعات، عصمنا الله وإيَّاكم من البلايا والزَّلل، فلله الحمدُ وله الشُّكر على أن عصمنا، وأن حفظنا، وأن بلغنا الخير، ونسأل الله أن يُعيننا على هذا الطَّريق، وأن يبلغنا فيه أعلا المنازل، وأن يجعله عِصمةً لنا من كل سُوءٍ وبلاءٍ ومكروه.
ونشكر هذا البناء العلمي، هذه المؤسسة المباركة، هذه الأكاديميَّة التي علا منارها، وكثُرَ المنتمون إليها، ولم يزل خيرها يتبدَّد وينتشر ويُشرق كما تشرق الشَّمس في كل صباح على مشارق كثيرة من أنحاء المعمورة، يتلقاه الطلاب والطالبات الذين ربما لم يُحالفهم الحظ أن ينتظموا في الدراسات المباشرة، وربما فاتَ عليهم الكثير من هذه الفُرَص، أو لم يتسنى لهم لأجل بعض ظروف الحياة ومتعلقاتها، أيًّا كان الأمر ذا أو ذاك؛ فإنَّ فضل الله في إتاحة هذا السَّبيل، والإشراقة بهذه الشاشة، والوصول بهذه البرامج هي منَّةُ الله، جعل هؤلاء الإخوة سببًا فيها، وهي منَّةُ الله عليهم في أن يشكروا الله على أن هداهم وأن جعلهم على هذا الميدان أو على هذا السبيل، فهي منَّة الله عليكم -أيُّها المشاهدون- أن يسَّر لكم العلم، وأوصله إلى بيوتكم، وإلى أمكان وجودكم، وإلى حيثُ تكونوا في مشارق الأرض ومغاربها، فنسأل الله أن كما يسَّرَ أن يُعقبنا التَّوفيق، وأن كما سهَّلَ أن يُعقبنا الإعانة على التَّسديد، وأن يبلغنا فيه خيرًا في ديننا ودنيانا.
وهذا الذي نبتدئ فيه في هذا الفصل لابدَّ -كعادتنا- أن نذكر بين يدي البداءة بالإخلاص لله -جلَّ وَعَلا- وتجديد حسن القصد، وطلب رضا الله -سبحانه وتعالى.
أنتم كلما ازددتم في العلم ازداد إعجاب المرء بنفسه، وتطلَّعت إلى أن تتبوأ عند الناس مكانًا، فلا يزال الشيطان يُغري بها حتَّى يجعل ذلك غايتها وسبيلها، ولايزال الشيطان أيضًا بصاحبكم الذي يخرج في مثل هذه الشاشة إلى أن يُعظِّم من أمره وهو ليس بشيء حتَّى يُريد بذلك السُّمعة عند الناس، أو الجاه عند الخلق، وكل ذلك من مُضلَّات الأعمال ومن مُفسدات القُصود والنَّوايا، «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» ، جعل الله هجرتنا وعلمنا وعملنا وسائر أعمالنا وما نخرج في مثل هذه الشاشات وما تتلقون من علوم، وما تترفَّعون فيه بينَ الخلق من الهدى والخير أن يكونَ ذلك خالصًا لوجهه سبحانه، وأن لا يصرف قلوبنا إلى شيءٍ من الدنيا أو حطامها أو المراءاة أو السُّمعة، أو غير ذلك من حظوظ النفسِ وشهواتها؛ فإنَّ الحي لا تُؤمن عليه الفتنة، ولم تزل النيَّة أشدَّ ما تكون معالجةً للمرء في إبَّان حياته وتقلبات أعماله.
ومن المهم أن نؤكِّد على جانب الإخلاص، ثمَّ الظَّفر بالجدِّ والاجتهاد، ها أنتم وصلتم إلى ما وصلتم إليه، وقد جعلتم خلف ظهوركم فصول كثيرة ربَّما قاسيتم فيها من التَّعب ومن الانشغال ومن المعاناة ومن ضعف البث، وأحيانًا من انقطاع الاتِّصال بأي سبب من الأسباب، وربما لضعف القدرة على توفير بعض هذه الأمور الماديَّة أو سواها؛ لكنَّ الله -جلَّ وَعَلا- سهَّل لكم حتَّى بلغتم ما بلغتموه، فكما يُسِّرَ لكم هذا فالله الله فيما بقي، والله الله فيما يأتي، فإنَّه كما ذهب الذَّاهب فإنه سيذهب الحاضر، وستبقى الأعمال، وستجري -بإذن الله جل وعلا- الحسنات، وسيُكتَب العبد -بإذن الله جل وعلا- في ميدان العلم وأهله السَّالكين طريق الجنان، الطَّالبين لرضا الرحمن، المبتغين عند الله -جلَّ وَعَلا- أعظم الأجور والثَّواب، فلله الحمد على أن هدانا لهذا السبيل، والله الله في شكر بالجدِّ والاجتهاد، كما قال الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200]، وكما قال الله -جلَّ وَعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُو﴾ [الأنفال: 45]، فإذا كان المجاهد مُصابرًا عند التقاء الفئات والأعداء؛ فإنَّ طالب العلم مجاهدٌ، فهو مطلوبٌ منه الصَّبرُ والمصابرة، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 122]، فأنتم ممَّن نفرَ، وأنتم ممَّن جاهدَ، وأنتم ممَّن بذلَ، وأنتم ممَّن اهتمَّ؛ فكونوا من المصابرين والصَّابرين، والمرابطين الطالبين، عسى الله -جلَّ وَعَلا- أن يبلغكم في العلم مبلغًا.
كتاب الحدود الذي نحن بصدد الحديث فيه ونقل مسائله، وكما قلنا: إنَّ المنهاج في مثل هذه المجالس إنَّما هو تبسيط المسائل ودراستها بما يحتاج إليه المكلف، وهي كالأساس لطالب العلم، ربَّما نحتاج في بعض المسائل إلى أن نتوسَّعَ قليلًا ونختصر في أخرى.
ولمَّا كانت مسائل الحدود وما يتعلق بها كبعض المسائل التي مرَّت بنا في الفصل الماضي لا يُعنَى بها المكلف أصالةً أو يختصُّ بها مَن ولي القضاء وما شابهه من المنازل التي يُعالج بها كثيرًا من هذه المسائل؛ فهذا ممَّا يُحتم أن يكون حظُّ طالب العلم من مثل هذه المسائل هو إدراك أصلها وما ينبني عليها، والدليل الذي استدلَّ به الفقهاء عليها، وإذا اشتدَّ الخلاف في مسألة أو ظهرت الحاجة إلى ما شابهها فقد نشير إلى ذلك بحسبِ ما يقتضيه الحال والمقال؛ فلأجل ذلك سيتفاوت الحديث في مثل هذه المسائل أحيانًا بين شيءٍ من الاختصار أو الزيادة على ذلك بحسب ما يُسِّر الله -جلَّ وَعَلا.
وكما قلنا: إنَّ "الكتاب" هو اسمٌ للشيءِ المجموع، وأصله من الكتاب المكتوب، وهو الأحرف والكلمات والجُمل التي جُمِّعَت حتى جُعلت في هذا الكتاب، كالكتيبة التي جُمِعَ أفرادها فلما كان كتاب الحدود مشتمل على أبواب وفصول ومسائل وجُمل وأحكام؛ سُمِّيَ كتابًا لاتِّساعه، فيندرج تحته الأبواب، وتحت الأبواب فصول، وتحت الفصول مسائل، وربما احتيج إلى تنبيهات أو فروعٍ ونحوها.
الحدود: جمعُ حدٍّ.
والحد: هو الفاصل والمانع، قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَ﴾ [البقرة: 187]، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَ﴾ [البقرة: 229]. فهذا والمعنى من حيث الأصل، وله إطلاق بأن يدخل في حدود الله -جلَّ وَعَلا- كل ما جاء فيه من الله أمر أو نهي وجعل لذلك حدًّا لا يُتجاوَز، فيدخل فيه ذلك كله.
والمقصود بالحدود عند الفقهاء ما هو أخص من ذلك، فالحدود هي: عقوبةٌ مُقدَّرةٌ شرعًا في معصيةٍ. وبعضهم يقول: لأجل حق الله -جلَّ وَعَلا.
فهي عقوبة مُقدَّرة، بمعنى أنَّ العقوبة تُخرِج الأمور المحرَّمة -أو الممنوعة أو المطلوبة- ولها حدود، لكنها ليس مترتبٌ عليها عقوبةٌ بخصوصها.
ثم إنَّ هذه العقوبة لا تخلو:
- إمَّا أن تكون مُطلقة، وللقاضي أن يزيد فيها وينقص، وهذا بابه باب التَّعزير.
- وإمَّا أن تكون مُقدَّرة، وهي التي محل بحثنا في هذه الأبواب، فجاء في حدِّ الزنا كذا، وجاء في حد السرقة كذا، على ما سيأتي بإذن الله -جلَّ وَعَلا- وبناء على ذلك فهي عُقوبةٌ مُقدَّرةٌ شرعًا في معصية الله -جلَّ وَعَلا-، وهذا يُخرج ما كان بابه باب التَّأديب، حتَّى ولو لم يكن على معصيةٍ من المعاصي، وإنَّما يُطلب الاهتمام بالشَّيءِ أو التَّرفُّع عنه، أو القيام على أمر وعدم التَّهاون به على سبيل التَّهذيب والتَّأديب.
وكون الحدود تكون في المعصية فإنَّ هذا لأجل حقِّ الله، وهناك بعض الحدود تكون لحقِّ الآدمي كالقذف ونحوه، فلأجل ذلك بعضهم يقتصر على قوله "في معصيةٍ"، لئلا يدخل في الإشكال هل كل الحدود لأجل حق الله، أو بعضها مشتركٌ بين حق الله -جلَّ وَعَلا- وحق الآدمي على ما أشرنا إليه.
والأصل في الحدود الكتاب والسُّنة والإجماع، فالله -جلَّ وَعَلا- أمرَ بذلك في كتابه في غير ما مسألةٍ، سواءٌ كان ذلك في آحادها، أو في جملتها، قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَ﴾ [البقرة: 187]، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَ﴾ [البقرة: 229]، وقال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38]، وقال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2]، إلى غير ذلك مما ستأتي الإشارة إليه -بإذن الله جل وعلا.
وأحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كثيرة قولًا وفعلًا، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «واغْدُ يا أُنَيْسُ علَى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَ» ، وَرَجْمُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لماعز، إلى غير ذلك، وأيضًا في عقوبة الخمر وجلد الشَّارب ما هو مشهورٌ في السُّنَّة في الصِّحاح، وستأتي الإشارة إليه -بإذن الله جل وعلا.
والإجماع منعقدٌ على ذلك، والحاجة داعيةٌ إلى هذا.
لماذا جاءت الحدود في بعض المسائل بخصوصها، ولم يكن ذلك في كل المسائل، ولم تترك كل الأحكام مرسلة أو مطلقة بدون ما تحديد إلى القاضي وإلى مَن يلي هذه الأمور من الولاة والقضاة ونوَّاب الحاكم ونحوه؟
نقول: لَمَّا كانت مثل هذه الجرائم ممَّا يُراد صدُّ النُّفوس عنها، ومنعهم من الوقوع فيها، والنفس داعية بطبيعتها إلى هذه المعاصي؛ لم يكن بدٌّ من أن تجعل فها عقوبةٌ ظاهرةٌ مُقدَّرةٌ رادعةٌ للناسِ عن انتهاك حرمات الله -جلَّ وَعَلا- فيها، أو التَّجاوز؛ لأنَّه إذا كان ذلك إلى القاضي فإذا ظهر منهم ضعفٌ أو قصورٌ أو تقليل والنفس مندفعة إلى الشَّهوات، كالزنا وشرب والخمور، أو التسلُّط على أموال الناس بالسرقة ونحوها؛ فبناء على ذلك جاء من الشرع تحديدٌ لتلتك العقوبات حسمًا لمادة هذه الشُّرور، ومنعًا لضعفاء النُّفوس من الإقبال عليها وتعاطيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لاَ يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلى مُكَلَّفٍ عَالِم ِالتَّحرِيمِ)}.
الحدود التي سيأتي بيانها -بإذن الله جل وعلا- لا تجب إلَّا على المكلف، وهذا على سبيل الحصر، فغير المكلفين من المجانين والصِّغار ونحوهم ليس عليهم في ذلك حدٌّ، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» ، وبناء على ذلك لا يجب الحد إلا على مُكلف، فغير المكلفين لا؛ لأنهم لا يعون، ولا يحصل منهم تمام القصد وإرادة الجرم، ولا يكون فيهم المنع والرَّدع الذي يكون للمكلف الذي يعلم عواقب الأمور ونتائجها وما تؤول إليه ونحو ذلك.
مسألة مهمَّة! قد يقول القائل أنَّ بعض الصغار يتجرَّؤون على الحرمات، سواء كان في ذلك الزنا، أو السرقة -على وجه الخصوص- أو تعاطي المحرَّمات كشرب الخمور وغيرها، فإذا قلنا: "مكلف" فكأننا نسهِّلُ لهؤلاء تعاطي ذلك!
نقول أولًا: قولنا: إنه لا يجب الحدُّ إلا على المكلف لا يعني ذلك أن هؤلاء خِلوٌ من العقاب، فالذي يُرفَع عنهم هو الحد -وهو العقوبة المقدرة شرعًا- ولا يعني ذلك أن القاضي لا يقضي بعقوبةٍ تعزيريَّة للحال، فإن كان ذلك الصغير ممَّن يتعاطى هذه الأمور بكثرة ويُقبل عليها فإنَّ عقوبتها تشتد وتقارب ذلك، وكلما كان الصغير أقرب للبلوغ فهو أدركُ لمعاني الأمور وللارتداع ونحوه؛ كـان الأمر أزهر في حصول العقاب ونحوه.
ويُذكر أنَّ بعضَ السُّراق كانوا يرتِّبون للسَّرقة ويُقدِّمون طفلًا يسرق، حتَّى لا تلحق به المسائلة الشرعيَّة ونحو ذلك، وهذا نوعٌ من المكر والخداع!
ونقول: صحيح أنه ستنتفي عن هذا الصبي العقوبة المقدرة شرعًا، ولكن لن تنتفي عنه جميع التِّبعات، ثم مَن كان وراءه يحثُّه ويُحرِّضه على مثل هذه الأعمال المشينة فإن القاضي يتتبعهم ويقضي عليهم بما يُناسب الحال من التَّعذيب، وربما كانت عقوبة التَّعزير في ذلك أشد إذا كان ذلك على سبيل التَّخطيط وتكوين العصابات، والتَّجمُّع لإرادة النِّكاية بالناس وإحداث الفساد فيهم.
وقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَالِم ِالتَّحرِيمِ)، هذه مسألة مُهمَّة، فالجاهل لا تبعة عليه، فلو زنا الإنسان جاهلًا بتحريم الزنا، فلا يترتب على ذلك العقوبة والمؤاخذة، ولكن هذا قد يعني أن الجاهل أحسن من العالم، فما بال الناس يتعلمون! يبقون على الجهالة حتَّى يُعذَرون ولا يُؤاخذون!
ونقول: إن قول المؤلف: (عَالِم ِالتَّحرِيمِ) على الإطلاق، وأنَّ الجهل عذر يمنع من المؤاخذة؛ بل إذا كان ذلك الجاهل معذورًا بجهله، أما إذا كان غير معذور فإنَّه يُؤاخذ، وإلَّا -كما قلنا- لكان الجهل أولى من العلم حتَّى لا يؤاخذ الناس، ولكن المقصود أنَّه لا يُؤاخذ إذا كان مَعذورًا، كمن كان حديث عهد بإسلام، أو كمن نشأ في بادية بعيدة ليس حولها العلم، أو في أحوال الجهالات، أو وقع الناس في شيءٍ من اللغط ولا يحسنون العلم ولا يُوجد من يُعلمهم، أو وُجدوا في مكانٍ مغلق كسجنٍ أو غيره ولم تصل إليهم الأحكام ولم يُعلَّموا المسائل ونحوها.
إذن ليس في كل الأحوال يسلم الجاهل من المؤاخذة، ولكن مع ذلك لو كان جاهلًا وهو مفرط في التَّعلم، وكان بإمكانه أن يتعلم، وكانت المجالس تُلقَى فيها ما يفيد الناس من علوم ونحو ومع ذلك لم يتعلم، فهنا نقول إنه مؤاخذ وتلحقه التَّبعة ونحو ذلك، وكلام المؤلف هنا في الحد، وهو إيقاع هذه العقوبة المحددة شرعًا بهذا الفاعل مع كونه جاهلًا.
ونقول: صحيح إنَّ الجاهل لا يُقام عليه الحد حتَّى ولو كان مفرِّطًا،؛ لأنَّ الحدود في الأصل جاءت فيها القاعدة الشرعية والتي أصلها الحديث النبوي «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، فلما كان الجهل شبهة وبناء عليه يُدرء عنه الحد.
إذن؛ عندنا ثلاث أحوال:
- إمَّا أن يكون جاهلًا معذورًا بجهله: فهذا ليست عليه مؤاخذة.
- وإما أن يكون جاهلًا غير معذورٍ بجهله: فيسقط عنه الحد، ولكنَّه يُعزَّر بحسب تفريطه في التَّعلُّم، وربَّما كانت له عقوبتان:
* عقوبة في تعاطي هذا المحرَّم وإن لم تصل حد الزِّنا أو حد الخمر -بحسب ما تعاطاه.
* وعقوبة في تهاونه بالأمور الشرعية، وعدم تعلُّمه لها ومعرفته بها.
- أن يكون عالِمًا: فهذا الذي يندرج في هذه المسألة ويُوقَع به الحد، ويكون عليه تبعته.
{أحسن الله إليكم شيخنا، بعضهم يكون عالمًا بالتَّحريم ولكنَّه جاهلًا بالعقوبة. فما حكمه؟}.
الجهل بالعقوبة ليس مانعًا من إقامة الحد عليه، فما دام يعرف أنَّه محرَّم فيجب عليه أن يتبعد عنه، وما دام يعرف أنَّه إثم فلا يجوز تعاطيه، والعلم بالعقوبة لا أثر له في إقامة الحد عليه من عدمه، ولذلك قال المؤلف هنا: (عَالِمٍ ِالتَّحرِيمِ)، ولم يقل "عالم بالعقوبة أو الحد".
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُقِيْمُهُ إِلاَّ اْلإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ)}.
لأنَّ هذا من مهام الإمام، وممَّا لا يُتجاوز فيه عليه؛ لأنَّ الحد أصله أنَّه حق لله -جلَّ وَعَلا- من حيث الجملة، وإن كنا قد قلنا: إن بعض الفروع قد يُختلف فيها، ولكن من حيث الأصل فهو حق لله -جلَّ وَعَلا- فلا يُقيمه إلَّا مَن كان نائبًا عن الله، والنَّائب عن الله -جلَّ وَعَلا- هو إمام المسلمين، ولذلك كان الإمام سلطان مَن لا سلطان له. وهذا من جهة.
من جهةٍ ثانية: أنَّ هذه مسائل يكون فيها الإشكال، ويحصل فيها الاختلاف، وتتعلق بها تبعات كثيرة، فلو جُعلت لآحاد الناس لأفضى ذلك إلى أن تُقامَ على مَن لا يستحقها، وأن يكون في ذلك فوضى في إقامتها، فهذا يُقيمه على هذا الشخص ثم يأتي آخر ويُقيمه عليه، فربما عُوقب الشَّخص أكثر من مرَّة، وربَّما تُرِكَ الناس بدون عقاب؛ لأنَّ هذا سيقول: فلان سيُعاقِب، وهذا يقول: فلان سيُعاقِب؛ فيُترَك بدون عقاب، فلو كانت لآحاد الناس لأفضى ذلك إلى أن تكون الأمور فوضى، فيُقام على مَن لا يسحق الإقامة عليه، وفيها تبعات لا يُحسنها إلَّا أهل العلم ومَن وليَ هذه الأمور، وفيها أيضًا شُبهٌ واعتبارات لابدَّ أن تجتمع، وترتفع الموانع حتَّى تُقام، فلأجل ذلك كانت إلى الإمام أو نائبة، ولئلَّا يكون الناس فوضَى يُقيمُ بعضهم على بعض، فيكون في ذلك نوعٌ من التَّشفِّي، ونوعٌ من الفوضَى، وربما حصل في ذلك التَّكرار -كما قلنا- أو التَّساهل.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- كان هو الذي يُقيم الحدود، ولم يكن أحدٌ سواه، وإذا أُريد إقامة الحد فإنَّما يُوكِّلُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويُفوِّض مَن يقوم به كما في قصَّة أنس «واغْدُ يا أُنَيْسُ علَى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُقِيْمُهُ إِلاَّ اْلإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ إِلاَّ السَّيِّدُ، فَإِنَّ لَهُ إِقَامَتَهُ بِالْجَلْدِ خَاصَّةً عَلى رَقِيْقِهِ اْلقِنِّ؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَجْلِدْهَ»)}.
قوله: (إِلاَّ السَّيِّدُ)، فالسَّيدُ فيما يتعلق بأمتِهِ مستثنًى، والاستثناء في ذلك لمجيئ السُّنة به، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثُمَّ إنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَبِعْها، ولو بحَبْلٍ مِن شَعَرٍ»، فهذا دليل على أن للسَّيد ذلك.
وقالوا من جهة أخرى: إنَّ الأمةَ -أو العبد- متاع ومال، فإذا جُعل إقامة الحد فيهما إلى الإمام أو القاضي؛ فإن ذلك يُفضي إلى أن يظهر فعله، وهذا يُنقص قيمته، فيتضرر سيده بذلك، واغتُفِرَ في باب العبيد والإماء وجُعل ذلك إلى أسيادهم، فمُنِعَ أن يتطاولوا على هذه الشُّرور، ولم يُحال ذلك إلى القضاء لئلَّا يشيع ويُتجاوَز أمر السيد، فيحصل بذلك التَّبعة عليه بنقص القيمة ونحوها.
والإقامة هنا مخصوصة بالجلد، وما كان من القتل ونحوه فإنَّه ليس له ذلك؛ لأنَّ هذا فيه إزهاق لنفس، وهذا أمره أعظم؛ ولأنَّ الاستثناء إنَّما جاء في الجلد، فلأجل ذلك اختصَّ الأمر به على ما ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال: (فَإِنَّ لَهُ إِقَامَتَهُ بِالْجَلْدِ خَاصَّةً)، دلَّ ذلك على أنَّ ما سِوى الجلد من قطعِ يد السَّارق أو القتل لا يختص بالسَّيد؛ بل هو على الأصل.
قال: (عَلى رَقِيْقِهِ اْلقِنِّ)، القنُّ هو اسم للعبد والأمة، ولكن لها دلالة، فإذا قيل: "القن" يعني الخالص، وهذا يعني أنَّ المُكاتَب لا يُقيم السيد عليه الحد؛ بل يرجع إلى الأصل وهو أنَّ الإمام أو نائبه هو الذي يُقيمه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَيْسَ لَهُ قَطْعُهُ فِيْ السَّرِقَةِ، وَلاَ قَتْلُهُ فِيْ الرِّدَّةِ، وَلاَ جَلْدُ مُكَاتَبِهِ وَلاَ أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ)}.
مثلما قلنا، وهذا باعتبار أنَّ أمر السرقة أو القتل أشد، وإنما جاء الاستثناء في الجلد، فبقي الأمر مُتعلقًا بها.
قوله (وَلاَ قَتْلُهُ فِيْ الرِّدَّةِ)، فإن القتل يكون للإمام.
قال: (وَلاَ جَلْدُ مُكَاتَبِهِ)، هذا يشير إلى ما قلناه قبل قليل أنَّ القن إشارة إلى المُكاتَب.
قال: (وَلاَ أَمَتِهِ الْمُزَوَّجَةِ)، جاء أثرٌ أنَّ الأمة الْمُزَوَّجَةِ لا تُفوَّض إلى السيد، ولأن السيد له ولاية والزَّوج له ولاية، فلا ينفرد أحدهما بإقامة الحد، فرجع الأمر إلى أصله فكان إلى الإمام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَحَدُّ الرَّقِيْقِ فِيْ الْجَلْدِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ)}.
هذا هو حُكم أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فجاء عن غير واحدٍ من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأصل ذلك ما جاء في كتاب الله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25]، فأخذ أهل العلم من هذا أنَّ الأصل في العبيد والإماء أنهم على النص من الأحرار والحرائر، ولا يُستثنى من ذلك إلا مسائل قليلة جدًّا، ولذلك حتى في مسائل الطلاق ومسائل التَّعدُّد في النِّكاح ونحوها فالعبد على النصف من الحر، وهكذا..
إذن؛ هذا أصله في كتاب الله -جلَّ وَعَلا- وهو حكم أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وهو المشهور عن الحنابلة، كما هو قول جماهير أهل العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ سَقَطَ)}.
سقط الحد لأن الأصل في الحدود قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»؛ ولأن ذلك الرجل الذي اعترف بين يدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أعرضَ عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقال له: «أَنِكْتَهَا؟». قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟» قَالَ: نَعَمْ . فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يردُّه، فدلَّ على أنَّه إذا رجعَ عن إقراره فإنَّه لا يُؤاخَذ بإقراره الأول، وهذا خلاف ما يكون من الإقرار بالحقوق وسواها، فإنَّ مَن أقرَّ بشيءٍ طُولبَ به، ولو نفاه بعد ذلك فإنَّه لا ينفعه، ولكن في الحدود ينفعه ذلك لِمَا ذكرنا من الأثر؛ ولأنَّ الأصل أن الحدود تُدرأ بالشُّبهات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ كَيْفِيَةِ إِقَامَةِ اْلحَدِّ.
وَيُضْرَبُ فِيْ الْحَدِّ بِسَوْطٍ، لاَ جَدِيْدٍ وَلاَ خَلِقٍ)
}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في صفة الضَّرب وما يتعلق به من أحكام.
قال: (وَيُضْرَبُ فِيْ الْحَدِّ بِسَوْطٍ، لاَ جَدِيْدٍ وَلاَ خَلَقٍ)، يعني: بسوطٍ متوسِّطٍ، فالجديد يكون إيلامه أشد، والخَلِق ربما لا يكون له أثر، والمقصود من العقوبة الرَّدع، فلابدَّ أن يكون فيها نوعُ إيلامٍ، وليسَ المقصود به التَّشفِّي حتَّى يكون الإيلام فيها شديدًا، وليس المقصود فيها الشكل حتى يُجعل ذلك بأي سوطٍ، ولأجل هذا لما جيء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بسوطٍ لم يُفك أو عليه ريشته ونحو ذلك، قال: «ل»، وجيء بشيءٍ خلقٍ فقال: «لا، بين هذا وذاك»، فدلَّ على أن السوط يكون بالوسط، ولِمَا ذكرنا من المعنى من أنَّ المقصود هو الرَّدعُ والإيلام بالقدر الذي يمنع هذا من مُعاودة هذا الفعل، والوقوع في هذا الحرام، فكان بما لم يؤذيه لجدَّته ويُهلكه، ولا بما لا يكونُ فيه ردعٌ كالخلِق والضَّعيفِ والسَّوط المتهالك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُمَدُّ، وَلاَ يُرْبَطُ وَلاَ يُجَرَّدُ)}.
المجلود لا يُمدُّ، فيُجعل على حالته المعتادة بحسب ما يتيسر مما يُصاب به أجزاء جسمه، كما جاء ذلك عن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قال: (وَلاَ يُرْبَطُ وَلاَ يُجَرَّدُ)؛ لأنَّه لو جُرِّد فإن الإيلام سيكون أشد، صحيح أنَّه يكون على ما اعتاد مما يلبسه من الثياب، فلو كان لبس ثيابًا كثيرة تقيه من شدَّة الضرب ومن إيلام السوط فإنه لا يُقرُّ على ذلك، وكذلك لا يُجرَّد حتى يُباشر السوط جلده، فإنَّ ذلك يكون فيه الإيلام شديدًا، فيُجعل على ما اعتاد من لبسه من الثياب التي جرت عادة الناس بلبسها.
وقوله: (وَلاَ يُرْبَطُ)؛ لأنَّه لو كان جلده في الحد مبني على إقراره فإنه إذا هرب لا يُلحَق ولا يُتبَع؛ لأنَّه كما أنه لو رجع عن إقراره لقُبل منه، فكذلك لو هرب لكان كما لو رجع عن إقراره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُتَّقَى وَجْهُهُ وَرَأْسُهُ وَفَرْجُهُ)}.
يعني تُتَّقى مواطن الإيذاء والقتل، كما جاء عن ابن مسعود وغير واحدٍ من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وكذلك جاء النهي عن الضرب على الوجه؛ ولأنَّ هذه مواطن يكون فيها الهلاك، وربما تفضي بنفسه إلى الذهاب والفوات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا، وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَتُمْسَكُ يَدَاهَ)}.
قوله: (وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمً)، هذا هو المعتاد وجاء عن بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
قوله: (وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً)، جاء ذلك عن علي وابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قال: (وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَ)؛ لأنها مع الجلد والضرب ربما تتحرك وربما انكشفت عورتها، فلأجل ذلك تُربط عليها ثيابها حتى يُؤمَن من ذلك حصول انكشاف عورتها وظهور ما يجب سترها منها وتُمسَكُ يداها في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيْضًا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أُخِّرَ حَتَّى يَبْرَ)}.
إذا كان الذي حُكِمَ عليه بالجلد مريضًا؛ فلو كان المرض مما يُرجَى بُرؤه، عارض ويزول، سواء كان هذا العارض مما تقصُر مدَّته أو تطول؛ فيُنتظَر حتى يبرؤ؛ لأنَّ فعل الحد به في حال مرضه ربما يُفضي به إلى أن يسري ذلك إلى موته ويفضي إلى هلاكه، وليس هذا هو مقصود العقوبة، أو زيادة حصول الألم عليه وامتداد مرضه، أو شدَّة ما أصابه في جسده؛ فلأجل ذلك يُنتَظر حتى يبرؤ، سواء كان البرؤ قريبًا أو حتى لو تباعد قليلًا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لِمَا رَوَى عَلِيٌّ -رضي الله عنه: أَنَّ أَمَةَ رَسُوْلِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- زَنَتْ، فَأُمِرْتُ أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِذَا هِيَ حَدِيْثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيْتُ إِنْ أَناَ جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ»)، فأقرَّه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على تأخير ذلك حتى يذهب عنها ما وجدت من سيلان هذا الدم ومن أثر النفاس بالتَّعبِ والعنت الذي هو كالمرض، فهو حالة تعتري البدن وتضعف معها بسيلان هذا الدم وحصول الضعفِ في الأعضاء؛ فكذلك المرض سواء بسواء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يُرْجَ بُرْؤُهُ وَخُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ السَّوْطِ، جُلِدَ بِضِغْثٍ فِيْهِ عِيْدَانٌ بِعَدَدٍ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً)}.
إذا لم يُرجَ بُرؤه والحد ثابتٌ عليه ومتعلقٌ به، وأمر الله -جلَّ وَعَلا- بإقامة الحدود، وإثبات ما أثبته الله -جلَّ وَعَلا- واجب؛ فلئلا يحصل افتلاتٌ للنفس وأذيَّتُها، وهذا منهيٌّ عنه وليس مقصودٌ للشَّارع أن يسري ذلك الأثر إلى الهلكة والتَّلف؛ فلأجل ذلك حكمَ الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- بأن يكون جلده بما يليق بحاله، ولذلك قالوا (بِضِغْثٍ) وهو عذق التَّمر، وفيه أطراف كثيرة، فإذا ضُربَ مرَّةً واحدة فكأنَّه ضُرب بعدد ما فيه من هذه الأطراف، ولأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (جُلِدَ بِضِغْثٍ فِيْهِ عِيْدَانٌ بِعَدَدٍ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً)، فيحصل بذلك إنفاذُ حكم الله -جلَّ وَعَلا- وتمام الحد، ويحصل بذلك الأمنِ على هذا من التلف والهلاك.
وهذا فيه قصَّة أيوب لما أقسَمَ أن يجلد زوجته، فأمره الله -جلَّ وَعَلا- بمثل ذلك، فكأن الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أخذوا بذلك في كل ما شابه الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ تَدَاخُلِ اْلحُدُوْدِ
وَإِنِ اجْتَمَعَتْ حُدُوْدٌ للهِ تَعَالى فِيْهَا قَتْلٌ، قُتِلَ، وَسَقَطَ سَائِرُهَ)
}.
هذا الفصل في أحكام الحدود إذا اجتمعت، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنِ اجْتَمَعَتْ حُدُوْدٌ للهِ تَعَالى فِيْهَا قَتْلٌ، قُتِلَ، وَسَقَطَ سَائِرُهَ)، يعني لو أن شخص سرقَ وارتدَّ -نسأل الله السلامة والعافية- فهنا عليه قطعٌ وقتلٌ؛ فهل نقطع يده ثم نقتله؟
هذا هو محل الكلام بين الفقهاء.
وعلى سبيل المثال: لو أنَّ شخصًا شرب الخمر وعليه حد قتل لكونه قتلَ غيلةً، أو لكونه محاربٌ حُكِمَ عليه بالقتل، أو ممَّن تعتَّدى السرقة، على القول بأن يُقتَل في الرابعة -وهذا سيأتي بيانه بإذن الله جل وعلا.
المهم أن الحدود اجتمعت على هيئة يكون فيها خفيفٌ وما هو أشد؛ فالمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول يُكتفَى بالقتل، ويدخل في ذلك سائرها، وهذا نوع من التداخل في الحدود.
والخلاف بين الفقهاء في كون المقصود من هذا هو الرَّدع أو الإيلام لتكفير الخطيئة؟
فمن قال: إن المقصود من ذلك تكفير الخطيئة أوجبَ في مثل هذا تعدد الحدود.
ومن قال: إن المقصود هو الرَّدع؛ فإن قُتل فقد دخل سائر الحدود، وهذا هو الظَّاهر، وقالوا: وإن كان المقصود من ذلك التَّكفير لكن الأصل هو أن يُردَع، فإذا كان فيه قتل فإن القتل يأتي على كل ذلك، ولأجل ذلك يُقتل ويدخل سائرها في القتل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَوْ زَنَى مِرَارًا، أَوْ سَرَقَ مِرَارًا، وَلَمْ يُحَدَّ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ)}.
الحال الأولى: إذا اجتمعت حدود متفرقة ولها عقوبات متنوِّعة.
الحال الثانية: إذا اجتمعت حدود من نوع واحد، كأن يكون زنا أكثر من مرة، أو زنا بامرأتين -نسأل الله السلامة- أو زنا بامرأة عشر مرات، أو زنا أكثر من ذلك بكثير، فهنا يجب عليه حدٌّ واحدٌ، لأنَّه كله يصدق عليه أنَّه زنا، وقد حكم الله -جلَّ وَعَلا- في قوله ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: 2]، والزاني هنا يصدق على ما حصل منه الزنا مرَّة وما حصل منه أكثر من مرَّة، وبناء عليه قال الفقهاء كما هو متقرر عند المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو مشهور المذهب عند الحنابلة أنه لا يُحدُّ إلا مرَّةً واحدةً، وتكون الحدود في ذلك متداخلة.
ومثل ذلك لو كانت منه سرقة لمرات كثيرة؛ فإنَّما يجب عليه قطعٌ واحدٌ كما قال المؤلف (فَحَدٌّ وَاحِدٌ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنِ اجْتَمَعَتْ حُدُوْدٌ مِنْ أَجْنَاسِ لاَ قَتْلَ فِيْهَا، اسْتُوْفِيَتْ كُلُّهَا، وَيُبْدَأُ بِاْلأَخَفِّ فَاْلأَخَفِّ مِنْهَ)}.
هذه هي الحال الثالثة: وهي أن تجتمع حدود، وهذه الحدود من أنواع مختلفة ولكن ليس فيها قتل، فبناء على ذلك لا نقول من أنها تسقط ويُستوفَى أشدُّها كما قيل فيما إذا اجتمعت حدود فيها قتل، ولا يُقال من أنها تتداخل فيُكتفَى بحدٍّ واحدٍ؛ بل تُستوفَى كلها.
مثلًا: من عليه حدٌّ لشرب الخمر، وحد لقذف محصنةٍ، وحدٌّ لزنا؛ ففي مثل هذه الحال يُستوفَى منه كلها، فيُجلد للخمرِ، ثم يُجلَد في القذف، ثم يُجلَد في الزِّنا.
لماذا قلنا الزنا آخرها؟
لأنه أشدها، في حد الخمر سواء قلنا بجلده أربعين أو ثمانين -على ما سيأتي من الكلام بإذن الله جل وعلا- ثم القذف ثمانين، ثم الزنا مائة.
والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال: (وَيُبْدَأُ بِاْلأَخَفِّ فَاْلأَخَفِّ مِنْهَ).
{أسأل الله أن يكتب ذلك في موازين حسناتكم}.
أنا أشكرُ لكَ وأشكرُ الإخوة المشاهدين، وأسأل الله أن تكون بداية طيبة، وأن يُعيننا على ما نقصد من إتمام هذا الكتاب -بإذن الله جل وعلا- في هذه المرحلة.
{وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك