الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس الثامن

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أرحب بك وبالإخوة جميعًا، شكر الله لك.
{نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنِ اطَّلَعَ فِيْ دَارِ إِنْسَانٍ، أَوْ بَيْتِهِ مِنْ خَصَائِصِ اْلبَابِ أَوْ نَحْوِهِ، فَحَذَفَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يغفر لنا خطايانا وأن يُوفقنا ويُتم علينا النعمة، وأن يرحمنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنَّا في الدرس الماضي أتينا على جملةٍ من المسائل المتعلقة بالمحاربين، ثم انتقلنا في فصلٍ مختصٍّ ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- فيما يتعلق بدفع الصَّائل، وهي من المسائل الملحَّة كثيرًا فيما يتعلق بالوقائع الحالية، إلى أن انتهى المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إلى هذه المسألة المهمة، فقال: (وَمَنِ اطَّلَعَ فِيْ دَارِ إِنْسَانٍ، أَوْ بَيْتِهِ مِنْ خَصَائِصِ اْلبَابِ أَوْ نَحْوِهِ، فَحَذَفَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ).
هنا يُلحَظُ أن هذه المسألة لم تأتِ على نسقِ مسائل دفع الصائل من الدفع بالأسهل فالأسهل، مُقتضى مَن اطلع على بيتِ أُناس أن يُقال له: "اذهب لا تنظر" فإن لم يذهب يُضرَب، لكن الشَّارع جعل لمثل هذه الحال عقوبةٌ مختصَّة، فما الذي خصها بذلك؟
أولًا: نحن نسلم بما جاء من كتاب ربنا ومن سنة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وقد جاء في مثل هذه المسألة حديثًا من أصح الأحاديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «لَوْ أنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بغيرِ إذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بحَصاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ ما كانَ عَلَيْكَ مِن جُناحٍ» ، ولم تكن عليه مطالبة وكان ذلك هدرٌ.
إذن؛ الشارع جعل في هذا المسألة حديثًا يخصها، وحكمًا بعينها.
ثانيًا: لَمَّا كان الناس في بيوتاتهم لا يخلو من موضع يُطَّلع عليهم منه، إمَّا فتحةٌ في بابٍ، وإما انخفاضٌ في جدار كالسُّور ونحوه، أو انفتاح لنافذة أو غير ذلك، والناس لا يستطيعون أن يتحفَّظوا في بيوتاتهم عن مَن هم في خارج البيت، فمن تقصَّد ذلك فإن هذا مما يتأذَّى به الناس وهو كثيرٌ؛ فاحتيج إلى عُقوبة خاصة تمنع مثل هذا الاستعداء وتتعلق بها دفع هذه الشرور، فجعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنَّ مَن نظرَ فكأنَّما عرَّض عينه للتلف والهلاك، فكأنه هو الذي تسبب على نفسه، وهو الذي أذهب حرمتها، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ( فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ)، وهذا هو أصل الحديث، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، كما هو قول جمهور أهل العلم، وإن خالف في ذلك مَن خالف من فقهاء الحنفية -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وفي هذه المسألة لفتةٌ كريمة في بيان ما جاء به الشرع من العناية بالبيوت، وحفظ حقوقها، ومنع الاطلاع على العورات، أو الكشف عمَّا دخل فيها، وفي هذا صيانة للمجتمعات من أن تنكشف أمورهم، أو أن تظهر عوراتهم، أو أن ينقاد الناس وينساقوا إلى تتبع العورات، وإظهار ما في البيوتات، وتتبع ما في الأحوال، حتى لا يُستطال على الناس، ويُذكر خاصتهم، ويُفضح أمرهم، فلم يزل الشارع يجعل للناس حفظًا وصيانة، ورِدعًا وأمانًا لهم في بيوتاتهم، وأنه لا يُمكَّن مَن ضعُفَ قلبه أو زاغت عينه أن يطَّلع على هذه العورات فيكشفها أو يُذيعها أو يملأ نفسه بما يتطلع عليه من الفضول والنَّظر، وقضاء شهوته والفرح بمثل هذه العورات ونحوها.
فهذا أمرٌ معلوم، وهو من أعظم ما يكون في الشرع، وأتم ما يكون عند أهل العلم في إدراك هذه المسائل وجمعها، لما يحصل به سلامة المجتمعات وصلاحها؛ ولأن كل واحد ينبغي أن ينشغل بنفسه، ويحفظ نفسه، ولا يتقصَّد غيره، ولا يتتبع عورات المسلمين.
وجاء في بعض الأحاديث: «لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِع اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» ، أو كما جاء في الأثر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ عَضَّ إِنْسَانٌ يَدَهُ فَانْتَزَعَ فَسَقَطَتْ ثَنَايَاهُ، فَلاَ ضَمَانَ فِيْهَ)}.
هذه مسألة أقرب ما تكون إلى مسألة المدافعة، وما ينتج عنها من تلف؛ فهو هدرٌ لا ضمان فيه، وأصل ذلك يعود لهذه المسألة التي حصلت في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن شخصًا عضَّ يد آخر، فلمَّا عضَّ يده جذب يده بقوَّة، فما كان إلا أن سقطت ثنايا ذاك، فجاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لما فات من ثناياه وما حصل عليه من بلاء؛ فجعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذلك هدرًا، فهي دليل على أنَّ كل مَن تُسُلِّطَ عليه فدفع ذلك فلا شيء عليه.
على سبيل المثال: ما يحصل اليوم في كثير من الوقائع؛ أناس يمشون على الدراجات النارية أو العادية، فيجذب جوالًا أو حقيبة؛ فلو أنَّ صاحب الجوال أمسك بالجوال يريد أن يأخذه، وهذا يمسك بالجوال يريد أن يسرقه؛ فتجاذباها فسقط من هذه الدراجة أو اصطدم ببيت، أو صدم في سيارة أخرى، أو حصل له ما حصل؛ فهذا هدرٌ؛ لأنه هو الذي تسبب على نفسه، ولو كان الذي يريد سرقته شيئًا تافهًا؛ لأنه ليس الأمر في الشيء التافه، وإنما الأمر في أنهم أرادوا أن ينتهكوا الحرمة، وكان لصاحب الحق حقًّا في المدافعة والممانعة؛ فكأنه أصل أصيل في أن كلَّ من تُسلِّطَ عليه فحفظ نفسه فهو في سلامة، والمتسلط في تلفٍ وهلاكٍ وهدرٍ ولا ضمان فيما ينتج عن هذه المدافعة؛ لأنه مُعتدٍ، وكأنه هو الذي عرض نفسه للهلاك.
مسألة المدافعة ذكرناها في أول الباب، وهي مَن عرض لنفسه أو ماله أو عرضه فإنه يدفع ذلك؛ وهنا مسألة مُهمَّة ننبه عليها: هل هذه المسائل على حدٍّ سواء؟
الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- يقولون: من طُلبَت نفسه فيجب عليه أن يدفع؛ لأن حفظ نفسه واجب، فلا يسلم نفسه فيقتلوه؛ بل يدفع بما يندفع به شرهم، فإن قتلوه وهو يدفع ذلك فهو شهيد، وهذا أمر واجب؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يُهلك نفسه، وكذلك لا يجوز له أن يُمكِّن من أراد إهلاك نفسه منها.
وكذلك العِرض؛ لو أن شخصًّا تُسلِّطَ على عرضه فلا يجوز له أن يُخلِّيَ بينه وبين مُريدِ الشر، فيجب عليه أن يدفع، ولا يجوز له أن يسهل له أو أن يُقرَّه، أو أن يُخلِّيَ بينه وبين ذلك، حتى ولو لم يكن مريدًا في نفسه ويقول: لا أستطيع دفعه؛ نقول: لا يجوز للإنسان أن يترك ذلك، ويجب عليه أن يدفع، فإما أن يندفع، وإما أن يُقتل دون ذلك ويكون شهيدًا.
وفي حالٍ واحدةٍ يجوز للإنسان أن لا يدفع عن نفسه، وهي مسألة الفتن إذا اشرأبَّت وإذا عظُمَت؛ فإنَّ للإنسان ألَّا يدفع عن نفسه، وأن يستسلم حتى يُقتل، كما جرى لعثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرضَاه- فإنه لمَّا عظُمَت الفتنة لم يكن له ليدافعهم ولا ليُقاتلهم ولا ليتشفَّى فيهم، ولا ليتمكَّن ممن هجموا عليه حتى قتلوه، فتلطَّخت أيديهم بهذا الدم الشريف، ولحق بهم الإثم العظيم، وقتلوا خليفة خليفة خليفة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذا النورين، في المنزلة التي بلغه الله -جَلَّ وَعَلَا- إياها، وهي أعظم المنازل، في كونه ممن شُهِدَ له بالجنة، وتسنَّم الخلافة، فهو ثالث الخلفاء، وهو من أعظم الصحابة فضلًا وأرفعهم قدرًا.
وجاء في الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أمر إذا خاف الإنسان من السيف أن يغطِّيَ وجهه، لئلا يبهره شعاع السيف، إمعانًا وتأكيدًا من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في أن الفتن يُقطَع دابرها، وأنه لو قامت الفتنة لم يزل الناس يتبارزون، فتورث الفتنة شخصًا بعدَ آخر، وثالث ورابع حتى تعظُم وتأكل الأخضر واليابس، ولا يكاد ينجو منها أحد من المسلمين.
ولَمَّا كان الأمر بهذه المثابة فإنه إذا وقعت الفتنة فأريد شخصٌ بالمكيدة والقتل فإنه يُخلِّي بينهم وبينَ ذلك، وكما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فَكُنْ عَبدَ اللهِ المقتُولَ ولَا تَكنْ عَبدَ اللهِ القَاتِلُ» .
أما المال: فيجوز له أن يدفع، ويجوز له أن يخلي بينهم وبينه، لأن المال له عوض، ولأن حفظ نفسه أعظم.
ما هو الأولى؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة أن الأفضل له أن يخلي بينه وبين المال، وأن يستبقي نفسه ويمنع الشر عليها، ويطلب السلامة فيها، وما يفوت عليه من مال يُمكن أن يُستدرك من السلطان بالقبض عليهم ومطالبتهم بالعوض، ويُمكن أن يكون ذلك له عند الله -جَلَّ وَعَلَا.
وفي بعض الأحوال -كما في دفع الصائل- أن شخصًا يُمكن أن يدفع الصائل فيقطع منه أو يُصيبه أو يقتله، ثم إذا جيء عند القاضي لم ثبت شيئًا من ذلك.
فإذا قال: هو صالَ عليَّ. فيُقال له: أثبت ذلك.
فإذا أثبته فالحمد لله، وإذا انضمَّت القرائن فصدَّق القاضي فقبلها فأمضى ذلك فالحمد لله، وإذا لم يُوجد ما يُمكن أن يُعتمَد عليه في أن هذا صائل وهذا مصولٌ عليه، وان هذا محقٌّ وذاك مبطلٌ فحصل على هذا الشخص أمرٌ بالقتل ونحو فقتل فالحمد لله، فهذا ابتلاء من الله -جَلَّ وَعَلَا- وهو عند الله محق، وهو عند الله -جَلَّ وَعَلَا- شهيد، وهو عند الله مأجور، وهو في هذا مبتلًى، والله يتولَّاه برحمته.
ويحصل في بعض الأحوال، خاصة لمن هم في أول بلوغهم ولا يزال فيهم تعلقًا ببعض ضعاف النفوس ونحوهم، ربما يريدوهم عن شهوةٍ أو يطلبوهم إلى محرم فيتدافعوا، فيقتل هذا الظالم المعتدي، ثم يطلب الناس لذلك بينة أن هذا صائلٌ وهذا مصولٌ عليه فلا يجدون! فيُحكم عليه بالقتل، وذُكِرَ في هذا قصص.
ففي كل الأحوال نقول: إذا لم يثبت ذلك فإنه لا يضيع عند الله شيء، والله -جَلَّ وَعَلَا- يكون قد ادَّخر لذلك من الأجر والثواب وعِظَم المصاب ما يوازيه من الأجر عند الله -سبحانه وتعالى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ قِتاَلِ أَهْلِ اْلبَغْيِ)}.
هذا بابٌ مهمٌّ، يُسميه أهل العلم: "باب قتال الباغين" أو "باَبُ قِتاَلِ أَهْلِ اْلبَغْيِ" أو "باب قتال البغاة"؛ كله معنى واحد.
وتسميتهم بـ "أهل البغي، أو البُغاة" انطلاقًا من الآية: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 9]؛ ولأن البغي من الظلم والطلب والعدوان، فهؤلاء البغاة طلبوا الخروج، وقصدوا الممانعة والمشاكلة؛ فسُمُّوا بُغاة بذلك.
في هذا الباب من المسائل المشكلة، ومن الأحوال التي يُحتاج فيها إلى مزيدِ بحثٍ ودقَّةٍ في النَّظرِ، وتتبع لما ذكره الفقهاء، وينبغي لطالب العلم من التأني وحسن النظر، وتتبع الأقاويل وعدم الاستعجال ما يتأتَّى معه فهم هذا الباب والرسوخ فيه، وعدم الزيغ فيه إلى طريقة أهل الخروج وأهل الضلال، وما يكون من الشر والعداون.
ولم تزلْ الفتن في ذلك ضاربةً أطنابها، ولم تزل الشرور في ذلك كثيرةٌ جدًّا، فيُزيَّنُ لأناس حتى يظنوا حقًّا ما ليس بحقٍّ، وأنَّ أمرًا صحيحًا ما ليس بصحيح؛ فيجتمعوا على هذا الأمر فيكبروا في الباطل فيقعوا في حبائله، فيلحق بهم الشيطان من الفتنة والشر والبلاء العظيم ما الله به عليم.
لكن لا ينفك من حصول هذه الأحوال في بعض حِقَب التاريخ، فيحتاج إلى بحثها وإلى النظر فيها، وإلى تكييفها التَّكييف الشرعي، والانطلاق فيها من منطلق النصوص من كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُمُ: اْلخَارِجُوْنَ عَلى اْلإِمَامِ)}.
مِن سُنة الله -جَلَّ وَعَلَا- أن جعل للناس إمامًا يَسوسهم، وقائدًا يحكمهم، وسلطانًا يُجري أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- وأمر رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ويُمضيَ الأحكام، ويقوم في الناس بالخير، ويُظهر العدل، ويحث على الخير، ويمنع الشر.
وفي واجبات الإمام من كتب الآداب السلطانية ونحوها ما هو معلوم، وذكر الفقهاء في ذلك أشياء، أعظمها عشرة أشياء في مهام الإمام.
والإمام من أهم ما يجب أن تقوم به الولاية، فإن الجماعة هي جماعة الدين وجماعة الأبدان، وجماعة الأبدان لا تكون إلى بإمام، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو﴾ [آل عمران: 103]، ولا يتأتَّى ذلك إلا بإمام.
وجاء في بعض الآثار: "السلطان هو ظل الله في أرضه"، بمعنى أنه هو الذي يجتمع عليه الناس ويأتمرون به، وينعمونَ بالسكون والطمأنينة.
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم ** وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
فلا يصلح الناس بدون أمير لهم، ولا يُمكن أن تستقيم للناس حال، ولذلك أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بأن يكون أميرٌ، وأن يُجعل لهذا الأمير ولايته، وأن تُحفَظ في ذلك هيمنته، وما له من النفوذ والأمر والنهي، وبهذا أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه، فقال: ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء: 59]، فأمر بطاعته، ومنع من الخروج عليه، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّه سَتَكُونُ هَناتٌ وهَناتٌ، فمَن أرادَ أنْ يُفَرِّقَ أمْرَ هذِه الأُمَّةِ وهي جَمِيعٌ، فاضْرِبُوهُ بالسَّيْفِ كائِنًا مَن كانَ» ، فأمر بقتل الآخر لئلا يُنازع السلطان في سلطانه، ولئلا يتفرق الناس في اجتماعهم على إمامهم واجتماع شؤونهم، وطيب معيشتهم؛ بل وأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالصبر على الإمام حتى مع نقصٍ في الدنيا، أو اعتداءٍ وظلم على الأموال، كما في حديث عبادة بن الصامت المشهور، قال: "بايعنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله"، وجاء في الحديث «وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ» ، وهذه الجملة من هذا الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لم تزل غصَّةً في حلوق أهل الظلم والهوى، وأهل الضلال والجهل، وأهل الشر والعداون؛ الذين لم يزالوا يريدوا أن يخرجوا على السلطان لأدنى ما يختلفون عليه، أو لأقل ما يكون من الاختصاص أو الافتيات أو المحاباة، أو غير ذلك من حظوظ الدنيا التي تكون حاصلة في حقيقة الأمر.
وأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالصبر على الإمام حتى ولو كان منه نقص في الديانة وإخلال بالأوامر، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لَمَّا سأل أبا ذر «كيفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عن وَقْتِهَا؟»، وأيشٍ أعظم من الصلاة!
قالَ: قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي؟ قالَ: «صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فإنْ أَدْرَكْتَهَا معهُمْ، فَصَلِّ، فإنَّهَا لكَ نَافِلَةٌ» . وفي الحديث: «خِيارُ أئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ ويُحِبُّونَكُمْ، وتُصَلُّونَ عليهم ويُصَلُّونَ علَيْكُم، وشِرارُ أئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ ويُبْغِضُونَكُمْ، وتَلْعَنُونَهُمْ ويَلْعَنُونَكُمْ». قالوا: قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، فَلا نُنابِذُهُمْ بالسَّيْفِ؟ قالَ: «لا، ما أقامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا، ما أقامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ» ، وقال-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ، فإنْ أصَابُوا فَلَكُمْ، وإنْ أخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» فيؤدي المرء الحق الذي عليه، ويسأل الله الذي له.
وأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بلزوم الجماعة في هذه الأحوال كلها، فلما ذكر الفتن قال في حديث حذيفة: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ». قال حذيفة: قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ» .
فكل ذلك دالٌّ على منع الخروج والتفرق والتَّصدُّع، ومنع كل ما يكون منه شر في تفرق الناس وعدم الانقياد للإمام.
وجاء في حديث العرباض بن سارية وهو من الأهمية بمكان؛ لما قالوا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع، فأوصنا. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «اسْمَعُوا وأَطِيعُوا، وإنِ اسْتُعْمِلَ علَيْكُم عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» ، وهذا الحديث ليس فيه إزراءٌ بالعبد الحبشي، ولكن لما كانت قريش ومَن ماثلها من العرب يأنفون من أحكامهم، وربما لا ينقادون لهم؛ أراد أن يُبينَ لهم أبعدَ ما يكون في أذهانهم ممَّن يُمكن أن يكون واليًا عليهم، فمع كونهم لا يرتضونه، وكونهم في طبيعة نفوسهم لا يستقيمون له ولا ينقادون؛ فأمر مع ذلك بالانقياد والطاعة بحكم الله -جَلَّ وَعَلَا- وحكم نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
كل هذا يدل على هذا الأصل الأصيل، ويُحتِّم علينا الاستقامة عليه والأمر له، ولم يحصل في الإسلام رزيَّةٌ أعظمَ من الخروج على الإمام، وهي أوَّل الفتن وأعظمها، وهي شرُّها، وهي بابها، ولم يزل الناس إلى يومنا هذا يسطلون بنار الخروج، ويجدون أثره وبلاءه في تغيُّرات الزَّمان وتقلبات الأيام.
يقول علماء أهل السنة والجماعة: "الإمام له ذنوبٌ كالجبال، ولهم حسنات كالليل؛ فإذا جاء الليل غطى الجبال".
وهذا من عجائب الأقوال لأهل السنة في الأئمة، مع مقولاتٍ كثيرة، وإن قالَ مَن قال من أهل الثورة والظلم والعدوان والتَّحزُّب والشرور ونحوها؛ فنحن مذعنونَ ومستسلمون ومنقادون، لأن هذا هو حكم الله، وحكم نبي الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وبهذا تحصل الخيرات وتستقيم الأمور، وتدفع الشرور.
وأيُّ شيءٍ جنى الناس من قتل عثمان لأنهم نقموا ما نقموا منه، سواء كان ذلك صحيحًا أو غير صحيحٍ، أو فيه تأويلٌ أو يسع فيه الكلام والاجتهاد؛ إلَّا البلاء والشر والفتنة العظيمة التي بقيت إلى آخر الزَّمان!
والحجاج بلغ في البلاء ما بلغ، وكان منه استطالة، وكان منه شرور؛ فلما خرجَ مَن خرج من أهل الفضل، فما الذي جنوه!
يقولون: الذي قُتل في فتنة ابن الأشعث أكثر من الذين قتلهم الحجاج في سنوات! فلا فائدة في الخروج، ولا فائدة إلا في الاستقامة على أمر الله ولزوم الإمام.
قال المؤلف: (وَهُمُ: اْلخَارِجُوْنَ عَلى اْلإِمَامِ يُرِيْدُوْنَ إِزَالَتَهُ عَنْ مَنْصِبِهِ، فَعَلَى اْلمُسْلِمِيْنَ مَعُوْنَةُ إِمَامِهِمْ فِيْ دَفْعِهِمْ بِأَسْهَلِ مَا يَنْدَفِعُوْنَ بِهِ).
الخارجون على الإمام ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: خارجون بتأويلٍ سائغ، وهؤلاء يُسميهم الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- البُغاة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وقول جمهور من الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى-، وهم الذين خرجوا بتأويل سائغ، يعني: نقموا عليه ما يُمكن أن يكون قادحًا في ولايته، فيجتمعون ويكونون جمعًا كثيرًا، وبعض الفقهاء يشترط أن يكون لهم إمام مُطاع، وبعضهم لا يشترطُ ذلك؛ فإذا خرجوا فهم مخطئون ومفارقون للجماعة، لكن هؤلاء لا يُقاتلون حتى يستنفذ معهم طريق الإصلاح؛ لأن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 9].
ويقول أهل العلم: إن عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا وقعت موقعة الجمل، أوَّل شيءٍ فعله أنَّه دعاهم وراسلهم وكاتبهم، حتى قالوا: يا لثَارات عثمان!
وفي قصة عمار المشهورة لَمَّا أرسله إليهم وخطب فيهم الخطبة المشهورة وقال: إنكم تعلمون أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال «تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» ؛ فتأوَّلوا وقالوا: قتلوه الذين أخرجوه!
فاستمرَّ الأمر لأمرٍ أراده الله تعالى، فموقعة الجمل وموقعة صفين وقع فيهما شيءٌ من البغي، والأحداث فيها متقاربة، والبلاء فيها عظيم، وهي وقعت بين خير خلق الله -جَلَّ وَعَلَا- من أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ومن أتباعه.
وهذا فيه حكمة بالغة، وهي أن الإنسان لا يظن أنه بعيدًا عن الخطأ، وأنه يفوت عليه الوقوع في الجهالة؛ فلذلك لا يزال المرء طالبًا لمرضات ربِّه، سائلًا الله -جَلَّ وَعَلَا- التوفيق لما فيه صلاح دينه، ولذلك قال عمار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مقالة عظيمة، وهي: "وإن الله ابتلاكم بزوجة نبيكم التي هي زوجته في الآخرة"، يعني: مع إبقاء فضلها وإظهار منزلتها؛ لينظر أتتبع قوله أو تتبع زوجها.
فكانت فتنة، حصل فيها ما حصل، وعظُمَ فيها البلاء، لكن المحكُّ في ذلك أنَّ البغاة إذا قاموا يُدعونَ، لعلهم أن يرجعوا.
القسم الثاني: لا يكون لهم تأويل سائغ:
- فإن كانوا قليل فهم قطاع طريق، مثلهم مثل غيره تجري فيهم أحكام المحاربين.
- لو كانوا ممن يكفرون الناس بالذنوب، فهم الخوارج.
والخوارج في أصح قولي أهل العلم غير البغاة، وهم الذين جاءنا وصفهم في السنن، أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذكر «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فأيْنَما لَقِيتُمُوهُمْ فاقْتُلُوهُمْ، فإنَّ في قَتْلِهِمْ أجْرًا لِمَن قَتَلَهُمْ يَومَ القِيامَةِ» .
ويفترق الخوارج عن أهل البغي في أنهم لا تأويل لهم، وإنَّما هو أحد أمرين:
- إما مُعتقدون لعقائد أهل الأهواء، كالتكفير بالكبيرة ونحوها.
- أو أنهم مُستبيحون للدماء، كما هم خوارج أهل العصر، ليسوا مكفرة بالذنوب على طريقة الخوارج الأولين، لكنهم مستبيحون لدماء المسلمين، مكفِّرون لهم بأي ذنب على حسب أهوائهم.
يقول بعض أهل العلم: خوارج هذا العصر أسوأ من خوارج العصر الأول من جهة أن أولئك أقل أحوالهم أنهم وصفوا بشيءٍ من العبادة والتُّقَى، وهؤلاء لا عبادة ولا تُقًى، وخروج واستباحةٌ للدماء -نسأل الله السلام والعافية.
وذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هؤلاء الذين سيخرجون على أمَّته يقتلون برها وفاجرها.
إذن؛ حال الخوارج تختلف عن حال البغاة، وهذا في قول مالك، ومشهور مذهب أحمد، وجماعة من أهل العلم.
هل البغاة كفرة أو لا؟
بعض أهل الحديث كفَّروهم، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».
وقال: عليٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبعض الصحابة : "من الكفر فروا"، فلا يُحكَم بكفرهم، ولكنهم أهل بغي وضلال عظيم وشر مستطير كما جاء في أوصافهم المشينة التي جاءت في الأحاديث النبوية، أنهم من أعظم ما يفتك في الأمَّة، ويُدخل عليها البلاء، ويُظهر فيها الشر، ويعظم بهم الفتنة، ولم يزل الناس في هذا اليوم أعظم ما يكونوا من البلاء ببلائهم وشرهم وخروجهم، وتعدِّيهم على حرمة المسلمين، واستباحتهم للدماء، ونهكهم للحرمات، وخفرهم للعهود، وتسلطهم على المستأمنين، وقتلهم للذمِّيين، إلى غير ذلك ممَّا لا حدَّ له في المفاسد التي ارتكبوها والشرور التي تلبَّسوا بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إذن؛ هؤلاء هُم الخوارج، وهم أشد ما يكونوا بلاءً، وأعظم ما يكونوا شرًّا، بينهم وبين البغاة فرقٌ شاسع وبونٌ كبيرٌ، فلا يقربونهم بحال، فهؤلاء أهل هوى، وأولئك لهم تأويلٌ سائغ، وهؤلاء أقل أحوالهم الفسق، والبغاة فيفسقهم مَن يفسقهم من أهل العلم ويختلفون في بعض ما يتعلق بهم.
وبهذا عرفنا صنف البغاة وصنف الخوارج وما يتعلق بهم، والشرور التي تترتب على بلائهم وشرهم.
وينبغي هنا أن يُذكر أنَّ كثيرًا من الناس لا يأنف عن الوقوع في الفتنة ويتعرَّض لها، ويظنُّ أنَّه بمنأًى منها، وفي سلامةٍ من الوقوع فيها، والصحابة -رضوان الله عليهم- أبعد الناس عن الشرور، وأمنعهم من الفتن، ورُويَ أنَّ عليا لقي أسامة بن زيد فقال له: ما نعدك إلا من أنفسنا يا أسامة، فلم لم تدخل معنا -أي في القتال؟
فقال له أسامة: "يا أبا الحسن، إنك والله لو أخذت بمشفر الأسد لأخذتُ بمشفره الآخر معك حتى نهلك جميعًا، أو نحيا جميعًا، وأما هذا الأمر الذي أنت فيه، فوالله لا أدخل فيه"
ولما جاء عامر بن سعد بن أبي وقاص إلى أبيه وقال: فلمَّا رآه سعدٌ قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب، فنزل فقال لأبيه: أنَزلتَ في إبلك وغنَمِك وتركتَ الناس يَتنازَعون الملك بينهم؟ فضرب سعدٌ في صدرِه فقال: اسكت، سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» . فيطلب الإنسان سلامة نفسه ويخاف.
وجاءه مَرَّة أهل فتنة فدعَوْه - رضِي الله عنه - إلى الخروج معهم، فأبى عليهم سعدٌ وقال: "لا، إِلَّا أَنْ تُعْطُونِي سَيْفًا لَهُ عَيْنَانِ بَصِيرَتَانِ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِالْكَافِرِ فَأَقْتُلُهُ، وَبِالْمُؤْمِنِ فَأَكُفُّ عَنْهُ".
وفي فتنة ابن الشعث، فما نجا إلا أربعة: الحسن البصري، ابن سيرين، مطرف بن عبد الله الشخير، وابن المسيب؛ أربعة فقط نجوا، وهذا لعظم الفتنة!
وأظن فيه كتاب لطيف في السلامة من الفتنة في قصة ابن الشخير، وما فيها من لطائف وأحكام.
وجاء عن بعض السلف أنه قال: "لأن آخذ بالثقة في القعود أحبّ إليّ من أن ألتمس فضل الجهاد بالتغرير" ، يعني أن أُعتبر مثبَّطًا أحبَّ إليَّ من أن أُغرَّ فأدخلَ جهادًا ليس بجهادٍ، فيجب على الإنسان أن يكون بعيدًا عن الفتنة.
كم من الطلاب الذين ارتقوا في العلم مرتقًى كبيرًا، حتى إذا وقعوا في الفتنة هلكوا، حتى إذا وقعوا في الفتنة زاغوا، حتى إذا وقعوا في الفتنة صدوا، حتى إذا وقعوا في الفتنة ذهب عليهم العلم، حتى إذا وقعوا في الفتنة وقع عليهم البلاء الكبير في الدنيا والآخرة.
قيل لشريح: هنيئًا لك السلامة من الفتنة. قال: ويحك! فأينَ ميلُ القلب.
يعني: وما يدريك، يُمكن قلبي مائل إلى شخص؛ لأن القلب إذا مالَ يوشك أن يميل اللسان، وإذا مال اللسان يوشك أن يميل الفعل؛ فلا يزال هو يخاف على نفسه من ميل القلب لئلا يحصل عليه الزَّيغ، وهذا هو قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لما ذكر الفتن، فقال: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ» .
فتأملوا هذا القدر «وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ»، يعني: يكفى الإنسان حتى يقع في الزَّللِ والضَّلال أن تطلع نفسه غلى مثل هذا، أن يتلقَّف الأخبار.
ولذلك فإن الفتن التي وقعت في وقتنا الحاضر خلال عشرين أو ثلاثين سنة فيما نحفظ ونرى ونتابع؛ أنه وقع فيها أناسٌ كانوا يُعدُّونَ من خيرة الناس وفاضليهم المحبين للعلم والمقدَّمين فيه، لكن لم يرد الله -جَلَّ وَعَلَا- لهم النَّجاة لمثل هذا الحديث، أنهم إمَّا قاموا للفتنة أو سعوا إليها وركضوا، أو أقل الأحوال أنَّهم استشرفوها.
وأنبه هنا إلى مسألة: ليست الفتنة فقط أن ترى نفسك من أهل الأهواء، أو تتلبَّس بفتنة داعش، أو بهذه الفتنة أو بتلك، أو بفتنة الإلحاد؛ حسبُ كثيرٍ من الناس أنه وقعَ في الفتنة وما يدري.
على سبيل المثال: أحيانًا يُجري بعض الكلام الذي يُسوِّغ به لبعض المنطلقات أو الأصول التي ينطلق مها الداعشيون المفسدون ونحوهم، فيأتي ببعض الكلام الذي يسوغ لبعض أهل الأهواء وأهل الإلحاد وأهل الضلال، ويتلقاها آخر فينحل بهم وينخدع بشرهم، فيكون البلاء على مَن تكلَّم بالكلمة الأولى، وهو لم يزل يظن نفسه مصلٍّ ساجدٍ، إذا عُدَّ خيار الناس عُدَّ منهم، وكم أمضى عليه لسانه من الفتنة، وأدخله فيه من البلاء! فيدخل في قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: 47]، فيظن نفسه من اهل الخير وإذا به من أعظم أهل الفتنة!
ولذلك ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- هذا في الحديث المشهور: « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» . قال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لمعاذ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعاذُ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ على جَهنَّمَ إلَّا حصائِدُ ألسنَتِهِم؟!» .
فالحذر الحذر!
اِحفَظ لِسانَكَ أَيُّها الإِنسانُ ** لا يَلدَغَنَّكَ إِنَّهُ ثُعبانُ
كَم في المَقابِرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ ** كانَت تَهابُ لِقاءَهُ الأَقرانُ
يُمرِّر رسالة فيها من تنظيراتهم أو كلامهم أو شبههم ما قد يدخل على غيرك فيفسد قلبه، فتكون سبب ضلاله، وتكون ممَّن رعى الشرَّ ودعا إليه -نسأل الله السلامة والعافية.
هذا بابٌ عظيم، وهو باب فيه مسائل دقيقة، ولا ينبغي للطالب أن يدخل فيه إلا بشيءٍ من البصيرة، وأن يتلقاه على أصولٍ صحيحةٍ، على سبيل أهل السنة والجماعة، طالبًا لنفسه النَّجاة، طالبًا لنفسه السلامة، خائفًا من التَّبعة والهلكة، خائفًا من أن تتلقفه الأهواء، أو أن تُلقَى في قلبه الشُّبهات، أو أن يُمرِّرَ بعض هذه الشُّبَه فيغتر بها غيره، فيكون عليه وزره، فيلحق به بذلك من الفتنة ما هو شيءٌ كثير.
أسأل الله أن يعصمنا، وأن يحفظنا، وأن يتمَّ علينا وعليكم النعمة والرحمة، وأن يجعلنا في خير دائمين، وأن يجعلنا على الحق مستقيمين، وأن يثبت قلوبنا، وأن يثبت نفوسنا، وأن يعصمنا في أقوالنا وأعمالنا، وأن يهدي ضالَّ المسلمين، وأن يجعلنا على الحق مستقيمين حتى نلقاه، وأن يثبتنا على الإسلام والسنة، وأن يحيينا عليها، وأن يحيها بنا، وأن يُميتنا على ذلك غير مبدلين ولا مغيرين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
شكر الله لك أن احتملتنا في هذا الخروج، وشكر الله لكم أيها الإخوة المشاهدين، ونفعنا الله بما قلنا، وأدمَ الله هذا البناء بناءً راسخًا، وعلمًا شامخًا، وخيرًا دائمًا، ومعينًا صافيًا ينهل منه الناس ويستفيدون، والله نسأل لنا ولكم التوفيق والسَّداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك