{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة طلاب العلم والطالبات، وأسأل الله -جلَّ وَعَلا-
لهم الخير في الدنيا والآخرة.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى: (وَتُدْرَأُ اْلحُدُوْدُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَوْ زَنَى بِجَارِيَةٍ لَهُ
فِيْهَا شِرْكٌ وَإِنْ قَلَّ، أَوْ لِوَلَدِهِ، أَوْ وَطِئَ فِيْ نِكَاحٍ
مُخْتَلَفٍ فِيْهِ، أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيْهِ حَقٌّ،
أَوْ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، أَوْ مِنْ مَالِ غَرِيْمِهِ الَّذِيْ يَعْجِزُ عَنْ
تَخْلِيْصِهِ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، لَمْ يُحَدَّ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه
وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فأسألُ الله -جلَّ وَعَلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، الذين إذا
أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يجعلنا هُداةً مهتدين،
غير ضالِّينَ ولا مُضلين، وأن يرزقنا العلم والعمل.
بين يدي البداءة في هذا الدرس أريد أن أنبه إلى كلمة كثيرًا ما يُخطئ فيها أو يحصل
فيها شيء من اللحن؛ لأن بعضهم يذكر فيها خلافًا، فيُقال: "حَلَقَة" أو "حلْقَة"،
بعضهم يقول: إنَّ "حلَقَة" جمعٌ لـ "حالق"، ولكن "حلْقَة" على وزن "سجْدة - سجْدَات
أو سَجَدَات"، وهي جمعٌ لـ "الحلْقَة" التي هي مُستديرةٌ مُتحلِّقَة. هذا تنبيه
لأنَّه يكثر لدى الطلاب نطقها.
قال المؤلف: (وَتُدْرَأُ اْلحُدُوْدُ بِالشُّبُهَاتِ).
أشرنا إلى أصل هذه المسألة، والحديث المشهور عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» كما هو عند أحمد
والبيهقي وغيره، ولكن في الجملة فإنَّ الحديث من جهة الرواية تُكلِّمَ في إسناده
وصحَّته، لكنَّ أهل العلم لا يختلفون في الحكم به وفيما يتعلق به، ولذلك كانت قاعدة
شهيرةً عندَ الفقهاء أنَّ الحدود تُدرأ بالشُّبهات، ولا يكادون يختلفون في ذلك،
فإذا وُجدت شبهةٌ فإنَّها تُدرَأ، وجاء عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعن غيره:
"لئن أُخطئ في العفو أحب إليَّ من أن أُخطِئَ في العقوبة".
ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أمثلةً لمثل هذه الشُّبهات التي يحصل بها
الدَّرء عن الحد والمنع من إقامته.
قال: (فَلَوْ زَنَى بِجَارِيَةٍ لَهُ فِيْهَا شِرْكٌ).
يعني لو أنَّ شخصًا مشاركٌ لآخرَ في جارية، فمن المعلوم أنَّ مَن ملكَ جاريةً جاز
له وطؤها، كما قال الله -جلَّ وَعَلا- في كتابه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾
[المؤمنون 5، 6]، فمِلكُ اليمين جائزٌ للإنسان أن يتسرَّى بها، وأن يستمتع بها، وأن
يُفضيَ فيها شهوته ويقضيَ وطرَه، فإذا كان له فيها مشاركة كأن تكون بين شريكين أو
بين عشرة؛ فهو له فيها شركٌ، فهذا المشاركة هي نوعُ ملك، والملك يُفضي إلى إباحة
الاستمتاع وقضاء الوطر، فقد يظن أنَّ ملكه لبعضها كملك جميعها، فهذه شبهةٌ تردأ عنه
الحد فلا يُقام عليه فيها.
إذن؛ الأمة المشتركة بينَ اثنين فأكثر لا يجوز لواحدٍ منهما أن يستمع بها بأي حالٍ
من الأحوال، وهذا قد تقدَّمت الإشارةُ إليه في ذكر ما يتعلق بأحكام الأرقاء ونحوهم،
فلا يجوز لهذا ولا ذاكَ ولا جميعهم الاستمتاع بها حتى لو أذن الجميع لواحدٍ، فمتى
ما لم يكن مالكًا لها ملكًا تامًّا لا يشركه فيها غيره فإنَّه لا يجوز له أن يستمتع
بها، ولكن مع ذلك لَمَّا كانت الحدود تُدرَأُ بالشُبهات فمِلكُ بعضها قد تكون شبهةً
لواحد منهم أنه يجوز له أن يستمتع بها؛ فلأجل ذلك درأنا عنه الحد.
وكما قلنا في الدرس الماضي: إنَّ متعلق الحكم هنا إنما هو في الحدود، ولا يعني ذلك
أنَّ مَن دُرِأَ عنه الحد لا يُعاقَب بحسب ما جرى منه من تجاوزٍ، وبحسب قوَّة تلك
الشُّبهة من ضعفها، فإذا قويت الشبهة قلَّت العقوبة، ولكنه لا يُخلَّى من العقوبة
إلَّا حيث يرى القاضي أنَّ مثله يُعذَر في ذلك.
قال المؤلف: (وَإِنْ قَلَّ)، ولهذا قلنا: فيها شركٌ سواء بين اثنين أو بين عشرة،
حتى لو كان يملك فيها (3%) أو (1%) أو يملك فيها (90 %) ؛ فالمشتركة بين اثنين
فأكثر لا يجوز لواحد منهم الاستمتاع بها، ما لم تكن خالصةً لأحدهما دون الآخر.
قال: (أَوْ لِوَلَدِهِ).
لو كانت الجارية لولده؛ فما الشُّبهة التي تمنع إقامة الحد عليه إن استمتع بها؟
لأنَّه جاء في الحديث «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ، وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ: «وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» ، فبناء على ذلك لَمَّا كان
كسبُ ولدكَ هو كسبٌ لكَ فكأنَّ هذه الأمة هي ملكٌ لك، وإن كان التَّملُّك عند
الفقهاء -وبخاصَّة الحنابلة لأنَّهم أوسع الناس في هذا الباب- لا يكون إلَّا بسبعة
شروط تقدَّم ذكرها في كتاب الهبات والعطايا، وبناء عليه لَمَّا كان الولد من الكسب
فإن هذا شبهة للأب في أنَّه يظنُّ أنَّ هذه من كسبه، ولَما كانت ملكًا لولده فهي
ملك له فيستمتع بها، فندرأ عنه الحد بهذا السبب. وكما قلنا: إنَّ درأ الحد لا يعني
منع العقوبة بوجهٍ ما.
قال: (أَوْ وَطِئَ فِيْ نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيْهِ).
إذا وطئ في نكاح مختلف فيه يكون الوطء وطءَ شبهة، ووطء الشبهة يكون في العقد أو في
الحال، كالنِّكاح بدون ولي، وإن كان جماهير الفقهاء وصاحبا أبي حنيفة وهو المقدَّم
في أحد القولين عند أبي حنيفة أنَّه لا يجوز النكاح بدون ولي، وعلى القول بجوازه
فإن ذلك إنما هو خلاف الأصل عند مَن قال به، ومعنى ذلك لو أنَّ شخصًا نكح بدون ولي
ورأينا بطلانه؛ فإن استمتاعه بها له شبهة من جهة قول بعض الفقهاء أنَّ نكاحه صحيح،
وأن استمتاعه بهذه المرأة على وجهٍ مشروع.
فبناء على ذلك نقول: هذه الحال تمنع من إقامة الحد على هذا الشخص.
ثم ننظر بعد ذلك هل يُعاقَب أو لا يُعاقب؟
- فإن كان ممن أتى هذا الحكم على وجه الهوى وإرادة إفراغ الشهوة والوصول إلى هذه
المرأة ولو مع عدم موافقة وليها؛ فقد يُعاقب عقابًا شديدًا.
- وإن كان ممَّن يرتضي قول أبي حنيفة وهو على مذهبه ولا يعرف غيره، أو يظن أن هذا
القول هو الأتم وهو الأرجح؛ فله شبهةٌ في ذلك، فقد لا يكون عليه في هذا أيُّ تبعةٍ
أو عقوبة.
إذن؛ هذا نكاح مختلف فيه، وأيضًا بعض صور نكاح التحليل مختلفٌ فيها، وذكر الفقهاء
لذلك أمثلة أخرى.
قوله: (أَوْ مُكْرَهً)، أي: مُكرهًا في الوطء.
هل عليه حد إذا وطء مكرهًا أو لا؟ وهل عليه عقوبة أو لا؟
قوله: (أَوْ مُكْرَهً)، مبني على قول الحنابلة أنَّه لا إكراه في الحد.
لماذا لا إكراه في الحد على الرجل؟
يقولون: إن الرجل ليس مثل المرأة، فالرجل لابدَّ له من انتشار الذَّكر وإنعاظه،
وهذا مرده إلى النفس، وبناء عليه لا يُتصوَّر الإكراه، فإذا كان لم يُنعِظ فإنَّه
مهما جُعِلَ الرجل على تلك المرأة فإذن ذكره يعترض عند فرجها ولا يلج فيها، فهذا هو
كلام الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وبناء على ذلك يقولون: لو أُكرِهَ ووطء فهو مؤاخذٌ به؛ لأنَّه كان بإمكانه أن لا
يُنعِظ.
هل عليه حد أو لا؟
كونهم يقولون إنه غير معذور، أو أنَّه لا إكراه في الزنا؛ ولكنهم يقولون إنَّ هذا
شبهة تمنع من إقامة الحد.
إذن؛ الحنابلة يجعلون الإكراه في الحد منزلة بين منزلتين، لا هو حكم القاصد للزنا
المريد له فيُقام عليه حد الزنا، ولا هو المعذور من كل وجهٍ فلا تطاله العقوبة بأي
أمر من الأمور؛ بل هم يجعلونه منزلة بين المنزلتين.
وسيأتي الكلام على هذا، وأن القول بالإكراه في هذا متصوَّر، فأحيانًا إذا حصلَت
مُماسَّةٌ وجُعِلَ لحم هذا على لحمه، أو رأى ما يُعجبه؛ فإنَّ النفس أحيانًا
تتحرَّك ولو لم يكن هذا بإرادة الشَّخصِ وقصده.
قال: (أَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيْهِ حَقٌّ).
كما لو سرق من إرثه الذي بينه وبين إخوته، فهو له فيه نصيبٌ وحق، وبناء عليه لا
يُقطَع.
ومثل ذلك لو سرق من بيت المال فإنَّه لا يُقطَع، ولكن لا يعني ذلك أن لا يُعاقَب
مثلما قلنا في المسائل كلها، بل يُعاقَب عقابًا عسيرًا، ولكنه لا يصل إلى درجة
الحد؛ لأنَّ له حق في ذلك ولو بوجهٍ يسير، والأصل في الحدود أنَّها تُدرَأ
بالشُّبهات، حتَّى ولو كانت الشُّبهة يسيرةٌ جدًّا -كما تقدم.
إذن؛ كل هذه الأمثلة راجعة إلى القاعدة التي استهلَّ بها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى- هذه المسائل.
ومثل ذلك: إذا كانت شركة بين أشخاص، فإن له شبهة في مثل هذا، وبناء على هذا لا يكون
فيه قطع.
لقائل أن يقول: الآن الشركات كبيرة، مثل شركات الألبان أو المصانع التي يُوجد فيها
ملايين الأسهم، وقد يصل المشتركون فيها إلى مليون أو أكثر، فماذا لو سرق منها؟
نقول: لو سرقَ من هذه الشركة التي له فيها شرك حتى ولو كانت تتمحَّض أن مشاركته
منفصلةٌ عن تصرفه ونحو ذلك، لكنه داخلٌ في هذا معنى "أن الحدود تُدرأ بالشبهات"،
وبناء على ذلك فإن القاضي يصرف عنه الحد، ويُقيم عليه التَّعزير بحسب ما يكون فيه
من قصدٍ للاعتداء وظلم فيه ممَّن كان يظن له أن يتسلط على حقه وأن يأخذه لتأخرهم في
دفه أو لغير ذلك من الأسباب.
إذن؛ يتلخَّص من ذلك: أنَّ المشاركة سواء كانت صغيرة كما لو كانت بين شخصين فأخذَ
منها، أو كانت كبيرة كما لو كانت في صور الشركات الحديثة؛ فكل ذلك لا يُخرجُه عن أن
يكون شريكًا، ولا يُخرجه عن أن تكون تلك شبهة تمنع من إقامة الحد عليه.
وهذا الكلام لو كان قد سرق من نفس الشركة، أما لو كان سرق منتجًا من منتجاتها لكن
ملكيَّته تؤول إلى شخصٍ آخر فهنا لا شبهة، ويُقام عليه الحد.
على سبيل المثال: لو أنَّك اشتريت من هذه الشركة ألبان أو عصيرات أو غيرها، ثم جاء
أحد وسرق منك، ولو كان يملك هذه الشركة؛ فإنه يعتبر سارق ممَّن لا شركة له معه،
وبناء على ذلك يكون عليه الحد في ذلك ولا شبهة.
أمَّا لو أخذ شيئًا من نفس الشركة التي هو مشتركٌ ولو بجزءٍ من أجزاءٍ يسيرة جدًّا
-كما قلنا- فإنه لا يخرج عن كونه شريكًا، وبناء عل ذلك فلا حد؛ لأنَّ الحدود تُدرأ
بالشُّبهات.
قال: (أَوْ لِوَلَدِهِ)، كذلك لو كانت الشَّراكة لولده، فهو له حق -كما قلنا فيما
مضى- فالولد من كسبه، وبناء على ذلك لو كانت شراكة لولده أو غرث لولده فسرق من ذلك
وأخذ، وتطاولت يده -نسأل الله السلام والعافية- فإن الحد يُدرأ عنه، لأن الحدود
تُدرأ بالشُّبهات، وبناء على ذلك يكون عليه تعزير، ولا يصل إلى الحد بحال من
الأحوال للشُّبهةِ التي ترد في هذا الأمر، وهو أنَّ لولده شركة وحقًّا في ذلك
المال.
لو لم يكن عالمًا أنَّ لولده حقًّا. فما الحكم؟
العبرة بالحال، فما دام أن له شركة فمعنى ذلك أنَّه كما لو أخذ من بعض ماله، والحال
أنَّ الولد له شركة أو حق، وبناء عليه يُدرأ الحد.
قوله: (وَإِنْ سَفَلَ)، يعني ليس المقصود ولده الصلبي فحسب؛ بل ولد، وولد ولده،
وولد بنته، وولد بنت بنته، وولد ابن ابنه، وولد ابن بنت بنته، وولد بنت بنت بنت ابن
ابن ابنه؛ كلهم داخلون في هذا؛ لأنهم أولادٌ له، وللأب أن يأخذ من كسب ولده.
وأما الأم؛ فعلى الكلام المتقدم في الخلاف في كونها تتملكه أو لا؛ على ما مضى
بيانه، ولا يُحتاج إلى إعادته.
فإذا قلنا إنها تملك فيكون لها شبهة، وإن قلنا من أنها لا تملك فلا شبهة ويُمكن
إقامة الحد في مثل هذه الأحوال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ مِنْ مَالِ غَرِيْمِهِ الَّذِيْ يَعْجِزُ
عَنْ تَخْلِيْصِهِ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ، لَمْ يُحَدَّ)}.
يعني لو كان لشخصٍ مال عند غريمه -شخص يُطالبه- ولم يقدر عليه، فلأهل العلم كلام في
هل للإنسان أن يتسلط على ماله الذي عندَ غيره فيأخذه، فما وصلت إليه يده فإن له حق
في استخلاصه أم لا؟
الحنابلة يمنعون من ذلك، يقولون: حتى ولو كان لك حق ووصلتَ إليه، فلا يجوز له أن
يأخذه حتَّى يقضيه ويعطيه.
وإن كنَّا نقول: إنَّه لا يجوز له أن يأخذ، ولكن له شبهة؛ لأنَّ بعض الفقهاء يقول:
يجوز له أن يأخذ ذلك؛ ولأن له حق في هذا المال.
وبناء على ذلك؛ فمن كانت هذه حاله فإنه لا حد في مثل هذه الحال؛ بل قد يُعزَّر،
ويرتفع التَّعزير أو يضعُف بحسب الحال التي هو فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ اسْتِيْفَاءِ اْلقِصَاصِ فِيْ
الْحَرَمِ وَاْلغَزْوِ.
وَمَنْ أَتىَ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَـأَ إِلى اْلحَرَمِ، أَوْ لَجَأَ
إِلَيْهِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ حَتَّى يَخْرُجَ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كأنه كالاستثناء فيما يمكن
أن لا يُقام فيه الحد، أو يُمتنع من إقامة الحد بسببه، وهذا مخصوصٌ بذلك المكان
الذي شرَّفه الله -جلَّ وَعَلا- وعظَّمه، والذي خصَّه بهذه الخصيصة، هذا البيت الذي
يفدُ إليه الناس، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «فإنَّ دِمَاءَكُمْ،
وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ
يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذ» ، وقوله -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ»، كما جاء ذلك الحديث الذي في
الصحيح؛ فكل هذه الأحاديث والدلائل دالَّةٌ على خصوصيَّة هذه البقة بما خصَّها الله
-جلَّ وَعَلا- وبما شرفها، فلما كان الأمر كذلك أرادَ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى- أن يُبيِّنَ حكمَ استيفاء الحدود فيها، فهل هو انتهاكٌ لحرمتها فلا يكون
جائزًا؟ أم أن ذلك جائزٌ مباحٌ؟
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَتىَ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ،
ثُمَّ لَجَأَ إِلى اْلحَرَمِ، أَوْ لَجَأَ إِلَيْهِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، لَمْ
يُسْتَوْفَ مِنْهُ حَتَّى يَخْرُجَ)، وذلك لما جاء في الحديث «ولا يحدُّ فيه»،
فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- نهى عن الحد فيها، وقال: «إنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، ولَا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي،
وإنَّما أُحِلَّتْ لي سَاعَةً مِن نَهَارٍ» ، ثم عادت حرمته إلى يوم القيامة.
ما وجه تحريم الحد فيها مع أنه قتل بحق؟
نقول: إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لَمَّا أحلَّت له أُحلَّ له ما هو
قتلٌ بحق؛ لأن المحارب والكافر الذي يُقاتل ولم يكن بينك وبينه عهد يجوز قتله وحلٌّ
دمه، ومع ذلك لَمَّا كانوا في هذا البيت لم يجُزْ، وأنَّه لم يُحلّ للنبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- إلا ساعة من نهارٍ، فكان ما سواها راجعٌ إلى التَّحريم مع
حل دمائهم وإباحة الاعتداء عليهم؛ فدلَّ ذلك على أنَّ من كان عليه حدٌّ فما دام في
الحرم فلا يُحد.
والحرم الآن أصغر من مكة، وهذه مسألة مُهمَّة؛ لأنَّه لو كان في مكَّة ولكنه خارجٌ
عن الحرم فإنه يُقام عليه الحد، أمَّا داخل الحرم فلا حتَّى يخرج.
وكان الفقهاء دائمًا يُعبِّرون بالحرم ومكة داخلة في ذلك، لأن مكة كانت صغيرة،
فكلما ذكروا مكَّة فهي داخلة في الحرم فتندرج فيها أحكام الحرم، لكن الآن اختلف
الأمر، فإذا قيل: "مكة" فيُحتاجُ إلى التفصيل، هل هو داخل الحرم أو خارجه لاتساع
أطرافها، وأما إذا قيل: "الحرم" فيشمل الحرم المعلوم، وهو جزء من أجزاء مكة.
إذن؛ إذا لجأ إلى الحرم يُترَك حتى يخرج، وكذلك مَن لجأ إليه ومن عليه قصاص؛ فإنه
مباح الدم من حيث الأصل ومستحق للاستيفاء، ولكن لَمَّا كان في هذه البقعة لشرفها
وخصوصيتها فإنه لا يُعتدَى عليه.
لقائل أن يقول: قد يكون هذا سبب لأن يُجرم المجر فيلجأ إلى البيت فيمتنع من إقامة
الحد عليه، فيكون ذلك سبيلًا للمجرمين والمفسدين في أن ينتهكوا الحرمات ويستبيحوا
الدماء وتتعلق بهم الحقوق!
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَكِنْ لاَ يُبَايِعُ وَلاَ يُشَارِيْ)،
يعني مثل الحصار، فهذا حصارٌ مبنيٌّ على أصل صحيحٍ واضحٍ، والمقصود منه أنه لا
يُراد بقاؤه، فلا يُمكن انتهاك الحرمة لهذه البقعة ولا يُراد بقاؤه في الحرم لأنه
مطلوب أن يخرج حتى يُؤدِّيَ الذي عليه من استيفاء الحق والحد الذي أوجب الله -جلَّ
وَعَلا.
وبناء على ذلك يكون حصلت بذلك المصلحتين جميعًا، فلا يكون في هذا فتحُ ذريعة
للمجرمين بأن يبلغوا هذا المكان، وأن يلجؤوا إلى هذه البقعة فيتخلصوا مما عليهم من
الحقوق وما أُدينوا به من المطالبات والأمانات، ولا هو الذي يكون به انتهاكٌ لتلك
الحرمة، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَكِنْ لاَ يُبَايِعُ وَلاَ
يُشَارِيْ).
وهنا مسائل المقاطعة وما يتعلق بها، وهي مسائل دقيقة، ولا يظن الناس أنها سهلة،
فالناس يدعون غيرهم ألا يشتروا من كذا أو كذا لمجرد أنها مصنوعة في تلك البلد، وهذا
قد يكون فيه إشكال، فإنها وإن كانت مصنوعة في تلك البلد إلا أنها مملوكة لمسلم
الآن، فأنت الآن تقاطع المسلم، فلما كانت هذه المسائل مشكلة، والنبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأصحابه حتَّى في حربه مع المشركين كانت تأتي إليه البُرُد
ونحوها من الشام والفرس وهي بلد قتال وحرب، وكانوا يتعاطونها، فلأجل هذا كانت
المقاطعات في مثل هذه الصور يجب أن تكون محصورة بمتعلق واحد وهو من له ولاية في
رعاية هذه المصالح وهو ولي الأمر، سواء قلنا: إنه من الجهاد أو من مسائل السياسة
الشرعية، فذلك مردُّه إلى الإمام، فالجهاد مرده إلى الإمام، والسياسة الشرعية من
متعلقات الإمام، لئلا يحصل للناس شر وبلاء بسبب ذلك.
وهذا ليس موضوعنا، لكن إشارة إلى أن الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- نصُّوا على
مسائل كثيرة لها أصول لمسائل يُحتاج إليها، لكن الناس لا يتنبَّهونَ إلى دقَّة كلام
أهل العلم والفقهاء، وإلَّا فإنَّ هذه المسألة لي فيها بحث، والأمر الذي تعاطاه
الناس كان فيه شيءٌ من التجاوزات في الفتيا والإخلال الكبير.
على أنه ينبغي من جهة الكمال والتَّمام أن تُطلَب سلع أهل الإسلام وأن تُعان، وأن
يتداعى على ذلك الناس حتى يكثر الخير فينا، وتقام قوَّتنا، ولا نحتاج إلى غيرنا،
ولكن المنع والحد والحُرمَة والوجوب ونحوه فهذه مسائل أخرى، قد يترتب عليها مفاسد
أكبر، فتنطلي بسبب ذلك إشكالات، فلأجل ذلك لا ينبغي أن يُنتقل من هذا الأمر إلى ذاك
إلا بوضوح، أما من جهة الجملة فلا شكَّ ولا ريبَ أن أخوَّة أهل الإسلام ودلائل
الشرع ومقاصد الشريعة داعية إلى أن يتداعى الناس إلى أنفسهم، وأن يطلبوا الخير في
بلدهم وفي أهل الإسلام ومصانعهم وقوَّتهم، ونحو ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ فَعَلَ ذلِكَ فِيْ اْلحَرَمِ، اسْتُوْفِيَ
مِنْهُ فِيْهِ)}.
أمَّا إذا فعلها في الحرم فهو الذي انتهك الحرمة، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]،
ولا شكَّ في قول أهل العلم أنه يُستوفَى منه ويُؤخَذُ بذلك؛ لأن انتهاكه لحرمة
البيت أعظم، وإتيانه لهذا السوء أشد، وبناء على ذلك لم يمنع من الاستيفاء منه فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِنْ أَتَى حَدًّا فِيْ اْلغَزْوِ، لَمْ
يُسْتَوْفَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دَارِ اْلحَرْبِ)}.
إذا أتى حدًّا وهم في المعركة حال الحرب والمواجهة مع المشركين فإنه لا يُستوفى منه
إلا إذا رجع، وذلك منعًا لئلا تضعف نفسه فيلحق بأهل الشرك بالله -جلَّ وَعَلا-
ولأجل ذلك منع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- من الاستيفاء حال الحرب،
وجاء هذا عن الصحابة، فرجعوا فطُلبُوا، وحتَّى قبل المعركة لو كان قد قُيِّدَ بسبب
هذا فإذا قامت المعركة فإنه يُطلق، حتى إذا انتهت ثم رجع الناس وتباينت الأمور ولم
يكن فيه مظنَّة أو شبهة أو خوف لحاقه بالمشركين؛ أُقيمَ عليه الحد، فهذا هو الذي
ذكه المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ الزِّن)}.
هذا شروع من المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في الحدود واحدًا بعدَ واحدٍ، فبدأ
بحد الزنا.
والزنا من الجرائم الشديدة، والأفعال المنكرَة، والبلاء العظيم الذي يتعلق به بلاء
على الفرد وعلى المجتمع، ويلحق بسببه من الشُّؤم والشَّر ما الله -جلَّ وَعَلا- به
عليم، ولذلك جاء في الحديث الذي في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- وصفه بأنه من أعظم ما يكون، فقال: «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي
وهو مُؤْمِنٌ» .
والزنا من أكبر الكبائر وأشد المحرمات، ولما يترتب عليه من اختلاط الأنساب وانتهاك
الأعراض، وحصول البلاء الكبير، فلما كان حفظ البيوتات ومنع التسلُّطِ على العورات
واستباحتها من أعظم ما تنتظم به المجتمعات وتسكن بها وتطمئن، وتمتنع من مواقعة
الشرور وإتيانها، ولذلك ما كانت الفاحشة تنتشر في بلدٍ إلا ليحصل بسبب ذلك وبال على
الناس في دينهم وبركة أرزاقهم، ويلحقهم بسبب ذلك أيضًا من الوهن في أجسامهم
والأمراض ونحوها، وهذا أمرٌ مشاهد.
ونحن نقول خاصَّة في مثل هذه الأوقات التي كثُرَت فيها الشهوات، وتعالَى ما يدعو
الناس إلى الشَّر مع قلَّةٍ في الديانة وضعفهم في الاستقامة، فربما انجذب -خاصَّة
من هم في سن الشباب- إلى هذه الأمور؛ فيجب على الإنسان أن يحفظ نفسه، وأن يحفظ
دينه، وأن يحفظ عرضه، وأن لا يتسلط على الحرام، حتَّى لا يكون ممَّن جاء فيهم
الحديث أنهم يشربون من عصارة أهل النار وهي طينة الخبال، وهم الزُّناة والزَّواني
-نسأل الله السلامة والعافية.
وممَّا يدلُّك على عظم هذا الأمر: أنَّه من أشد الحدود وأعظمها، ولذلك تجد أنَّ
الزاني المحصن حده ليس الموت فحسب؛ بل الرَّجم، وغير المحصن الجلد والتَّغريب، وليس
ذلك في واحدٍ من الحدود، وذلك لعظم ما يتعلق به من الفساد والشر، فيُتنبَّه لذلك
ويُحذَر، وبخاصة في مثل هذه الأوقات التي سهُلَ فيه إتيان المحرمات والوقوع فيها
-نسأل الله السلام والعافية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الزَّانِيْ، مَنْ أَتَى اْلفَاحِشَةَ فِيْ قُبُلٍ
أَوْ دُبُرٍ، مِنِ امْرَأَةٍ لاَ يَمْلِكُهَا، أَوْ مِنْ غُلاَمٍ، أَوْ مَنْ فُعِلَ
بِهِ ذلِكَ، فَحَدُّهُ الرَّجْمُ، إِنْ كَانَ مُحْصَنً)}.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الزَّانِيْ، مَنْ أَتَى اْلفَاحِشَةَ فِيْ قُبُلٍ
أَوْ دُبُرٍ مِنِ امْرَأَةٍ لاَ يَمْلِكُهَ).
إتيان الفاحشة في القُبُل هذا ظاهر، وهو الفرج الذي هو عادة مسلك الذكر، وهذا ظاهرٌ
في أنه الزنا، وهو محرم.
قوله: (أَوْ دُبُرٍ)، وهو وإن كان محرَّمًا إلا أنه يدخل في أنه إيلاج، وهو إتيانٌ
للمرأة، فبناء على ذلك كان هذا الحكم -ولو كان محرَّمًا- داخلٌ في حكم الزنا
وحدِّه، فتعلقت به عقوبته وحده.
وقول المؤلف: (مَنْ أَتَى اْلفَاحِشَةَ فِيْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ مِنِ امْرَأَةٍ لاَ
يَمْلِكُهَ)، فيه إشارة أنها إذا كانت مملوكة له فإنه لا يُحد في مثل هذا، لأنه لا
يكون من قبيل الزنا؛ بل هو إتيان مَن حلَّت له في دبرها، وإتيانُ مَن حلَّت له في
دبرها إتيانٌ للمحرم، ولذلك فيحرم على الزوج أن يأتي المرأة في دبرها، ولكن لو
أتاها في الدبر لكان فاعلًا للمحرم ولكنَّه ليس بزانٍ ولا متعدٍّ على الفروج التي
أمرَ الله بعدم إتيانها.
فأراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يُبيِّن بقوله: (أَوْ دُبُرٍ مِنِ
امْرَأَةٍ لاَ يَمْلِكُهَ) أن هذا داخل في حد الزنا، ولا يعني ذلك أن إتيان المرأة
في دبرها -إن كانت مملوكة- أن ذلك جائز، وهذا عند الفقهاء كثير، يذكرون المسألة
لأنها داخلة في حدود المسألة التي هي محل البحث، ولكن المسألة قد يكون لها حكم من
جهةٍ أخرى متروكٌ ذلك الحكم إلى موضعه ومحلِّه، وهذا جارٍ على عمل الفقهاء كثيرًا،
فهم لا يحتاجون إلى كثرة الاستثناءات لأن هذه مختصرات، والمتفقِّه سيأتي على أول
الكتاب وآخره، وما لم يُذكر هنا سيُذكر هنا، فسيستدرك ما كان قد علق بذهنه أو أسرع
إلى فهمه على وجه عدم النظر والبحث.
قال: (أَوْ مِنْ غُلاَمٍ)، الذي هو اللواط -نسأل الله السلام والعافية.
ومن مشهور المذهب عند الحنابلة أنه داخلٌ في الزنا؛ لأنه إيلاج وإتيانٌ، فكما أنَّ
إتيان المرأة في دبرها له حكم الزنا؛ فيكون هذا في الرجل سواء بسواء، وهذا هو أحد
القولين في المسألة، وإن كان القول الآخر في المسألة -وهو خلاف مشهور المذهب عند
الحنابلة- ولكنه قول جمع من الصحابة كابن عباس وغيره وجاء به الحديث، وهو أن اللواط
له عقوبةٌ خاصَّة، وجاء الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال:
«فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» كما عند أبي داود وغيره.
فالحنابلة عندهم في هذا خلاف:
القول الأول: وهو مشهور المذهب الذي جرى عليه المؤلف أنه كالزنا، وأنه إيلاج،
والزنا له عقوبة جاء بها الحكم في دلائل النصوص.
القول الثاني: أن له حكمٌ يخصُّه جاء به الدليل.
ماذا تقولون عن هذا الدليل؟
تكلَّموا فيه ورجعوا إلى الأصل وهو اعتباره زنا.
ولكن ما دام أن فيه حديث، وهذا الحديث وإن كان في بعضه كلام، ولكنه مؤيَّدٌ بأقاويل
الصحابة، ولأجل ذلك جرى عليه قول كثير من أهل التَّحقيق، وإن كان خلاف مشهور المذهب
عند الحنابلة أن إتيان الغلمان لا يكون حكمه حكم الزنا؛ بل اللواط له حكمٌ يخصُّه
جاء به النَّص، وهو القتل في كل حالٍ لا محالة للفاعل والمفعول، للمحصن وغير المحصن
على حدٍّ سواء، ولأجل ذلك قال المؤلف: (مِنْ غُلاَمٍ أَوْ مَنْ فُعِلَ بِهِ ذلِكَ)؛
لأنه كما أنَّ المرأة زانيةٌ فكذلك الرجل زانٍ، وكما أنَّ الفاعل يُقتَل فكذلك
المفعول به يُقتَل -إن قلنا حدهم القتل- وإن قُلنا حدهم حد الزنا فهم زُناة يُفعل
بالفاعل والمفعول في اللواط كما يُفعل به في الزنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَحَدُّهُ الرَّجْمُ، إِنْ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ
جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، لِقَوْلِ رَسُوْلِ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «خُذُوْا عَنِّيْ، خُذُوْا عَنِّيْ، قَدْ
جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلاً؛ اْلبِكْرُ بِاْلبِكْرِ، جَلْدُ مِئَةٍ
وَتَغْرِيْبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ»)}.
قوله: (فَحَدُّهُ الرَّجْمُ، إِنْ كَانَ مُحْصَنً)، سيأتي تفسير لفظ "المحصن" في
كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعد قليل، وهو: الحر البالغ الذي وطء زوجة
مثله.
إذا كان محصنًا فحدُّه الرجم، والدليل على ذلك: الآية المنسوخة ﴿الشَّيْخُ
وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ﴾، وبمثل هذا جاء حديث عبد
الله بن سلام لما ترافع اليهود إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وكان
عندهم، فأرادوا أن يحتالوا لعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يحكم بحكم
أخف من ذلك، فأظهر الله -جلَّ وَعَلا- في ذلك الحكم الذي يكرهون، فأقيمَ على
اليهوديين حد الرجم في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وذلك محل إجماع
لا يختلفُ فيه أهل العلم، وهو أنَّ الزاني المحصَن والزانية المحصنةُ إذا كان ذلك
باختيارها وانطبقت شروط إقامة حد الزنا عليهما؛ فإنَّهما يُرجمان لهذا الحديث
وللآية المنسوخة، ولإجماع أهل العلم على ذلك.
هذا الحكم وإن كان كما يُسوِّق أو يتكلم بعض أهل العصر بأن هذا فيه حدَّة أو شدَّة،
أو أن هذا دينٌ لا رحمة فيه، أو إلى غير ذلك من الأقاويل الفاسدة؛ فإنَّا هذه
مبدؤها ممَّن سوَّقوا الباطل، وسهَّلوا فيه، وتداخلت عندهم الأنساب، ولم يعرفوا
الآباء من الأمهات، إلى غير ذلك من البهيميَّة الشَّديدة، أمَّا مَن علم عظم ما جاء
به الشرع من صيانة البيوتات، وحفظ الأنسان وعدم تداخلها، ومعرفة الولد لوالده،
ومعرفة الولد لأمه، ومنع أن يكون في ذلك شيءٌ من البهيميَّة المطلقة؛ علم أنَّ
شدَّة العذاب والعقاب في مثل هذا هي لمصلحةٍ عظيمة، وهي حفظ هذه المجتمعات وهذه
البيوتات من أن تُنتهك حرماتها أو أن تتداخل أنسابها.
ويوجد عند الكفار كثيرًا الآن ما يسمونه بعيد الأم، ولكنَّنا لم نسمع يومًا ما بعيد
الأب. لماذا؟
هذا من نتائج الحضارة الغربية، لأن الأم معروفة هي التي ولدته، لكن لما كانت
العلاقات بينهم وبين الرجال علاقات عن طريق الصداقة، أو عن طريق المعرفة، أو عن
طريق الملاقاة حتى لا بصداقةٍ ولا بغيرها، فلم يكن الأب معروفًا، فلأجل ألا يدخلوا
في حرج ويقولوا عيد الأب وهو لا يعرف مَن أبوه!
فلم يرد ذلك على ألسنتهم، ولم يوجد ذلك في مناسبتهم، ولم يُذكَر بوجهٍ من الوجوه،
والناس لا يظنون ذلك معروفًا أو له سبب، ولكن السبب فيه هذا، فليُتنبَّه!
أمَّا الشَّرع والإسلام فقد حفظت ذا وذاك، فحفظت للآباء حقوقهم وجعلت لهم من البر
والمكانة والرفعة والمنزلة، وأبقت البيوت في حفظها وفي صيانتها، وفي عدم التداخل
عليها، وفي عقوبة كل من سوَّلت له نفسه أن يُريد فيها بشيءٍ من قطع أو كسر سياجها،
أو انتهاك حرمتها، أو التسهيل في أمرها، فكان الاعتبار بهذه الأمور أعظم، والنظر
فيه أكبر، وهذا هو شرعنا، وهذه ملَّة ربنا، وسنة نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ-، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، فالدين
كامل، والنعمة تامَّة، والرحمة ظاهرة، والأحكام لا تناقض فيها ولا اعتراض، ولا
إشكال فيها ولا اشتباه، وإنما ذلك سعيُ أهل الباطل حتَّى يسوِّقوا لباطلهم، وحتَّى
يشككوا في هذا الدين الذي تأبى البشرية جمعاء في غربها وفي شرقها وفي عربها وفي
عجمها -إذا عرفوا الدين على وجهه- إلَّا أن يقبلوه وأن يتشربوه، وأن يرضوا به دينًا
لهم.
ولأجل ذلك متى ما وجدتَّ غربيًّا أو شرقيًّا، أو قليلَ علمٍ أو كثيرَه؛ تُلقَى عليه
هذه الأحكام بكل سهولة، وتُبيَّن له المعاني بكل وضوحٍ، وتُنفَى عنه تلك الشُّبَه؛
إلا وجدته رضيًّا بهذا الدين، مُقبلًا عليه فرحًا به، أمَّا وقد شبَّهوا فإنَّما
ذلك منهم إرادة لصدِّ الناس عن هذا الدين الحنيف، وعن هذه السنَّة النبويَّة
الشَّريفة، والله -جلَّ وَعَلا- يتولَّانا برحمته، ولله الحمد أن جعلنا مسلمين
وهداة مهتدين.
وبين أيدينا مسألة مهمَّة!
وهي مسألة كثيرة الوقوع والكلام فيها، وهي من الشُّبَه، وهي منجرَّةٌ إلى ما
يُحتاجُ إلى الحديث عنه، وهي أن بعض المنتميين إلى الشريعة الذين ليسوا على علم
وعلى طريقة أهل العلم الراسخين؛ تجد أنهم في مسائل الحدود وفي بعض الأحكام يخرجون
عن دائرتها، فيقول بعض الضُّلَّال وبعض مريدي الفتنة وبعض مَن حصلت عليه الشُّبهة
أو أرادوا أن يسوِّقوا لها؛ يقولون: ليس المقصود الحد بذاته، وإنما المقصود إشاعة
العدل، وإظهار الخير، ومنع البغي؛ فكل ما كان من شأنه أن يمنع هذه الشرور أو يحول
بينها فهو مقصود الشريعة ومرادها!
فجعلوا ذلك طريقًا إلى تكذيب الكتاب، ورد سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ- والتَّلاعب بالشَّرعِ على حسب أهوائهم، وردِّ النصوص إلى فهومهم، وإرادة
التَّطاول على الشرع والعبث به، وحرفِ الناس عنه، وإذا تُكلِّم في هذا تُكلِّم في
الثاني، وإذا تُكلِّمَ في الثاني تُكُلِّمَ في الآخر، فهذا يُفضي إلى أن يُقال ليس
المقصود من الصلوات إتيانها جميعًا، وإنَّما علاقة المرء بربه، كما أن المقصود بهذا
إظهار العدل، فإذا كان الإنسان ذاكرًا ويُكثر اللهج بذكر الله فإنه لا يحتاج إلى
إتيان هذه الصلاة، ثم يأتي إلى الصيام وهكذا...؛ حتى يفسد على الناس دينهم.
ومثل ذلك يأتون إلى الزكاة ويقولون: إن المقصود هو التَّكافل والاجتماع، وإعطاء
المسكين والعطف على المحتاج كيفما كان حتى وإن أوجدنا بعض النُّظُم البشرية في
إعادة تدويل المال والعطف على الفقراء بوجهٍ من الوجوه يكون ذلك كافيًا!
متى ما جعلنا للعقول حكمًا على النصوص فقد ضللنا، ومتى ما جعلنا لنا نظرًا يُقدَّم
على قول الله -جلَّ وَعَلا- وقول رسوله الذي شرَّع هذه الأحكام وبيَّن هذه
النُّصوص، ونقل من الله -جلَّ وَعَلا- هذه الملَّة؛ فإنَّ ذك تطاولٌ على الشَّرع،
وافتياتٌ على الحكم، وهو ابتداعٌ في الدين، وهو ردٌّ لسنة خير المرسلين، فكان ذلك
أعظم الضلال وأبشعه.
وكم من هذه الأمور التي هي مقبولة أحيانًا في حسن الكلام والتَّبديع في نظم مثل هذه
النَّظريات أحيانًا، ويتفاوتون في تسويقها، لكنها بلا شك أنها مخالفةٌ مضادَّة،
وأنها من سبل الشيطان، وطريق من طريق أهل الأهواء، وأصلها طريقة المعتزلة ومَن كان
على مثلهم في تحكيم العقول وتقديمها على النُّقول، وجعلها حاكمة على ما جاء عن الله
وجاء عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
فإذا كان الأمر كذلك فإنَّه ينبغي أن نُحيِّدَ عقولنا في ميدانِ ما جاء من كتاب
ربنا وسنة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وأنَّ نظرنا بحسب ما يستجمعه
النَّص من معنى، ويشتمل عليه من حكم في ظلِّ ما قدَّره وسطَّره أهل العلم من دلائل
الاستنباط، وطريق استخراج الأحكام، وعدم مخالفة الإجماع، فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ
هذا -بإذن الله جل وعلا- ينأى بنا عن الانحراف، ويمنعنا عن الجنوح، ويفضي بنا إلى
طلب الحق والهُدى، ويحول بيننا وبين أهل الشُّبه والضلال، وبين مسوِّقي هذه
القوانين البشريَّة لإرادة العبث بالدين أو تسهيله، أو كما يسوقون لذلك بقولهم:
"إعادة الخطاب الديني" أو تغيير بعض الأحكام، فإعادة الخطاب إن كان لتسهيل بعض
الأشياء التي لا يفهمها الناس وتقريبها فهذا صحيح، وإن كان المراد بذلك ردُّ هذه
النصوص والانتقال إلى أحكامٍ أخرى فكلَّا ولا، وإنَّما الحكم حكم الله، والسُّنَّة
سنَّة رسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- والاتباع لما جاء في هذين الكتابين
وما سطَّره أهل العلم من توضيحهما واعتبارهما على أصولٍ صحيحةٍ، واستنباطات قويمة،
أهواء متجرِّدةٍ، وبعدٍ عن الأهواء، وطلبٍ للحقِّ والهدى، جعلنا الله وإياكم هداة
مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وبصرنا بالحق، وأعاننا على الاستمساك به، وجنَّبنا
الزَّللَ والضَّلال والغيَّ والفساد، وأعاذنا الله من مضلَّات الفتن، ومن أراد بنا
فتنةً أو شبهةً أو ضلالة جعل الله -جلَّ وَعَلا- بلاءه على نفسه، وردَّ كيده في
نحره، وأصلح الله أحوال المسلمين والمسلمات، وأظهر العلم وأهله على أصلٍ أصيلٍ،
ودرعٍ مكينٍ، وعلى سراجٍ مبينٍ، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا
محمدٍ.
{نشكركم فضيلة الشيخ ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.