{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله، وحيا الله طلابنا والطالبات، والمشاهدين والمشاهدان،
جعلنا الله إياكم مباركين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى- في باب صفة الحكم: (الثَّانِيْ: أَنْ تَكُوْنَ فِيْ يَدَيْهِمَا، فَإِنْ
كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله
واصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُتمَّ علينا وعليكم نعمه، وأن يبلغنا
طاعته، وأن يصرف عنَّا نقمه، وأن يجعلنا في صحَّة وعافية وسلامة وخيرٍ وهُدَى، وأن
يحفظنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الإخوة؛ لا يزال الحديث موصولًا فيما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-
في أحكام الترافع إلى القاضي، وما يكون من تراتيب في هذا الترافع، وما يكون في حال
كل من هذه الأحوال المتقدِّمة، وذكر أنَّه إذا ارتفع الدَّعي فإمَّا أن يُقرَّ
المدَّعَى عليه، فينتهي عند ذلك الحكم -على ما مرَّ.
وإن أنكر فلا يخلو:
- أن تكون العين في يد أحدهما، فيقول للمدَّعي: ألكَ بيِّنة؟
وقد مرَّ ما يتعلق بذلك فيما مضى، وانتهى الحكم فيما يتعلق بأحكام النُّكول، وذكرنا
أن من الفقهاء مَن يقضي بالنُّكول مطلقًا، وهو مشهور مذهب الحنابلة، وإن كان المؤلف
قد ذهب على خلاف ذلك، ولاختيار خاص له في هذا، ومنهم مَن يقول بعدمِ القضاء
النُّكول، وأنه شيء ضعيف، وأنه لابدَّ أن ينضمَّ إليه شيء آخر، ومنهم من فرَّق في
مثل هذا، وليس الكلام محل تفصيلٍ في هذه المسألة، فهي من أشكل المسائل القضاء
والترافع، وأعان الله القضاة فيما ولوا من هذه الأمور.
قال المؤلف: (وَإِنْ أَقَرَّ صَاحِبُ اْليَدِ لِغَيْرِهِ، صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ
اْلخَصْمَ فِيْهَا، وَقَامَ مَقَامَ صَاحِبِ اْليَدِ فِيْ مَا ذَكَرْنَ)، يعني: في
الحال الأولى إذا كان صاحب اليد فيكون في تراتيب الدعوى وإقامة البينة ونحوها،
فمرَّ هذا على نحو من هذا الوضوح والبيان.
الحال الثاني: أن تكون في يدهما.
كيف تكون في يدهما؟
كأن يكون هما جميعًا ممسكان بهذا الشيء، كما لو كانت سيارة فركبا فيها جميعًا، أو
كانت دارًا فهما قاطنين فيها وساكنين فيها، فهي تكون بمثابة ما لو كان بأيديهما، أو
شيئًا كل ممسك له من طرف.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ،
حُكِمَ لَهُ بِهَ)؛ لأنه اجتمع في مثل هذه الحال لأحدهما بينة ويد، فكانت جهته
أقوى، فحُكِمَ له، ومجرَّد اليد ليست مؤذنة بالملكيَّة، لأن الإنسان يقبض الشيء على
جهة المِلك، ويقبض الشيء على جهة الإعارة، ويقبض الشيء على جهة الإجارة، ويقبض
الشيء على جهة الغصب، ويقبض الشيء على جهة الأمانة، ويقبض الشيء على غير ما جهة.
إذن؛ قبض الشيء ووجوده بيد الإنسان لا يعني أنه مِلكًا له من كل وجهٍ؛ فلأجل ذلك
كانت أمارة على الملك إذا لم يأتي ما يُعارضها، أما وقد جاء ما يُعارضها فالعبرة
بالبينة والثبوت المرتَّب عليه الحكم، وإلا فال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا
بَيِّنَةٌ، أَوْ لَهُمَا بَيِّنَتَانِ، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، وَحَلَفَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلى النِّصْفِ الْمَحْكُوْمِ لَهُ بِهِ)}.
إن لم يكن لواحد منهما بيِّنة -يعني ليس ثَمَّ بينة- وغاية ما في الأمر أن كلَّ
واحدٍ منهما له يدٌ على هذا الشيء، فلمَّا لم يكن لأحدهما بيِّنة، ولم يكن أحدهما
قد قوي جانبه من جهة اليد فيدهما جميعًا عليها؛ فليس أحدهما بأولى بالمِلك من
الآخر، فتكون بينهما نصفين، وكل واحد في نصفه، فهذا له يدٌ وله ادِّعاءٌ في النصف
الآخر، فبناء على ذلك يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قُسِمَتْ
بَيْنَهُمَ)؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، وحلف كل واحدٍ منهما على النصف
المحكوم له به؛ لأن اليد في نفسها ليست علامة ثبوتٍ، وإنَّما هي قرينة، فإذا
انضمَّت إليها اليمين قويَ جانبها.
وكذلك الحال الأخرى وهي أن يكونَ لكل واحدٍ منهما بيِّنة، فكل واحد منهما ممسك بها
من جهةٍ، وكل واحد منهما لديه بينة، فلو جاء كل واحدٍ منهما بورقةٍ أن عمَّه أو
خاله قد وهبه هذا، وليس فيها تأريخ، وليس فيها ما يُبيِّنُ أنَّه أقدم من هذا، أو
هذا أقدم منه؛ فبناء على ذلك يكون لكل واحد يد فيها، وثَمَّ بيِّنة، فبناء على لك
ليس أحدهما بأولى من الآخر، وهما قد تساويا في الاستحقاق من كل وجه، فيد كل واحد
منهما على العين، والبينة -أو الثبوت أو الدلالة والبرهان- تساويا فيه، فيكون
بينهما مقسومًا، لكن كل واحدٍ منهما يحلف على ما بيده، حتى يقوى جانبه، وينفي دعوى
المدَّعي عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنِ ادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا، وَادَّعَى
اْلآخَرُ نِصْفَهَا، وَلاَ بَيِّنَةَ، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، وَاْليَمِيْنُ عَلى
مُدَّعِيْ النَّصْفِ)}.
إذا قال واحد: هذه العين كلها لي. والثاني يقول: نصفها لي؛ وليس لهذا بينة ٌ على
نصفه، وليس لهذا بينة على كمال هذه العين بأنها له، فبناء على ذلك يكون اليمين على
مدَّعي النصف؛ لأنَّه هو الذي يُنازع في نصف، أمَّا الثاني نصفه سالم له، ويده على
ذلك النصف، والثاني تدَّعي نزعها منه، فكان القول قوله، لأن النصف الآخر في جهة
الأول لا مُنازع له فيه، فكأنَّك أنت الذي تريد أن تنزع النصف هذا منه، وبناء على
ذلك كانت عليكَ أنتَ اليمين.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ لَهُمَا بَيِّنَتَانِ، حُكِمَ بِهَا الْمُدَّعِي اْلكَلِّ)؛
لأنَّ جانب اليد بالنسبة إليه أقوى باعتبار أن ثَمَّ شيءٌ منازَعٌ فيه، وشيءٌ سالمٌ
له من المنازعة؛ فقوي جانبه في هذه الحال.
وهناك مسألة كثيرة الإشكال وطال فيها الكلام عند الفقهاء، وقد أشار إليها المؤلف
وفات علينا التنبيه عليها، وهي إذا كانت العين بيد أحدهما والبينة في جهة كل واحدٍ
منهما.
عندنا يد، وعندنا بينة في جهة كل واحدٍ منهما على ما ذكر المؤلف هنا؛ فهل تكون مَن
به اليد مع البينة أقوى؟ أو مَن لديه البينة؟
المؤلف هنا جنح إلى مذهب الجمهور، وهو أن اليد مقويَّة للبينة فيكون جانبه أقوى.
أما الحنابلة في مشهور المذهب يقولون: البينة في جهة المدَّعي، ولا يُتصوَّر في جهة
مَن بيده العين الدَّعوى، فتكون الدعوى في جهة الآخر الذي لا يد معه، فبناء عل ذلك
تكون البينة في جانبه أقوى.
مثال: هذا الكتاب بيدي، لا يُمكن أذهب للقاضي وأقول: هذا الكتاب لي، لأنه بيدي؛
فبناء على ذلك لو نازعني منازعٌ وقال: هذا كتابي وأقام بينة، وأنا عندي بينة أن
الكتاب لي، فهل النظر بالمجموع -كما يقول الجمهور: يدٌ وبينة- أو النَّظر باعتبار
الاستحقاق؟
الأصل أن البينة في جانب المدَّعي، وبالنسبة لي لا يُتصوَّر في جهة الدَّعوى، وبناء
على ذلك هو المدَّعي، فالبينة معتبرة في جهته، فيكون البينة بينته، وهذا ما يُسمَّى
عند الفقهاء ببينة الداخل وبينة الخارج، وعندهم أن بينة الخارج أقوى، لأنها هي التي
في جهة البينة، والمعتبرة أصالةً، وبناء عل ذلك قدَّموها.
وهذه المسألة من المسائل التي يكثر فيها الخلاف، وحسبُكَ أن تعرف مأخذ الفقهاء في
ذلك، وإن كانت تفاصيل مثل هذه المسائل مردها إلى القضاة، والله يتولاهم ويُعينهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّالِثُ: أَنْ تَكُوْنَ فِيْ يَدِ غَيْرِهِمَا،
فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لِغَيْرِهِمَا، صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ
كَصَاحِبِ اْليَدِ)}.
الحال الثالثة: أن تكون في يد غيرهما، يعني: ليست في يد هذا، ولا في يد الآخر، فليس
أحدهما بأولى من صاحبه في الاستحقاق، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
(فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لِغَيْرِهِمَا، صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ
كَصَاحِبِ اْليَدِ)؛ لأنَّ إقرار هذا بأن هذه العين لك فكما لو كانت العين بيدك،
فتكون بيد هذا المُقر كيد الأمانة لك، كأنَّك استأمنته عليها ونحو ذلك، فبناء على
ذلك يصيرُ المُقرُّ له كصاحب اليد، وترجع المسألة على ما ذكرنا فيما مضى.
قال: (وَإِنْ أَقَرَّ لَهُمَا، صَارَتْ كَالَّتِيْ فِيْ يَدَيْهِمَ)، مثلما قلنا
في القسم الثاني.
قال: (وَإِنْ قَالَ: لاَ أَعْرِفُ صَاحِبَهَا مِنْهُمَا، وَلِأَحَدِهِمَا
بَيِّنَةٌ، فَهِيَ لَهُ)، كما لو قال: هذه وجدتها وأنتظرُ أحدًا يدَّعيها أو
يطلبها، فبناء على ذلك ليس لأحدهما سبقٌ أو استحقاقٌ أو فضلٌ على صاحبه، فمن كانت
له بينةٌ أخذها.
قال: (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَيِّنَةٌ،
اسْتَهَمَا عَلى اْليَمِيْنِ)، هذه الحال التي اختلفت عن القسم الثاني، ففي القسم
الثاني كل واحد منهما يحلف وتُقسَم بينهما، ويحلف على النصف، أمَّا هنا ما في يد
حتى نقول إن كل واحد يحلف وإنها تُقسَم؛ بل هي ليست بأيديهما وليس لأحدهما بينة، أو
لهما جميعًا بينةٌ؛ فبناء على ذلك استويا في جهة الاستحقاق، فلما استويا في جهة
الاستحقاق تكون اليمين في جانب أقواهما، وليس لأحدهما جانب أقوى، ولا يُمكن في مثل
هذا أن نجعل اليمين في جهة أحدهما، أو نقدمه باليمين على الآخر، فلم يبقَ إلَّا
الاستهام -يعني: الإقراع بينهما- وقوله: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾
[الصافات: 141]، يعني: اقترعوا.
والقرعة هي المصير في الشرع عند استواء الحقوق من كل وجه، فإذا جاءت القرعة إلى هذا
فيحلف، فإذا حلف استحق، وإذا لم يحلف فاليمين تنقلب إلى الآخر، فإذا حلف استحق،
وإذا لم يحلفا لم يكن لواحد منهما شيء، قال المؤلف: (فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ،
حَلَفَ وَأَخَذَهَ).
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ تَعَارُضِ الدَّعاَوى)}.
هذا الباب من أهم أبواب القضاة، فإنه لم تزل الدعاوى قائمة، وكل يأتي ببينة من
جهةٍ، فمن البينة ما يكون فيه تعارض، فأيُّهما الذي يُعتبر جانبه أقوى ويُحكَم له
به؛ سيذكر المؤلف جملة من المسائل، حسبكَ أن تعرف أصل هذا الباب في أنه يُعتبرُ
جانبُ الأقوى، وأن تعرف جُملةً من طرائق حكم القضاة في تكييف القوة في هذه الحال،
وسيتَّضح ذلك تمامًا بذكر هذه الأمثلة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إَذَا تَنَازَعَا قَمِيْصًا، أَحَدُهُمَا
لاَبِسُهُ، وَاْلآخَرُ آخِذٌ بِكُمِّهِ، فَهُوَ لِلاَبِسِهِ)}.
لو أنَّ أحدهما آخذٌ بُكمِّه والآخر لابسه؛ فلا شكَّ أن اللُّبسَ أقوى في اليد من
الإمساك، وبناء على ذلك يحكم القاضي به لمن بينته أقوى، وهو مَن كان لابسًا له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَا دَابَّةً، أَحَدُهُمَا
رَاكِبُهَا، أَوْ لَهُ عَلَيْهَا حِمْلٌ، فَهِيَ لَهُ)}.
لو ادَّعى هذه الدَّابة، أحدهما راكبٌ عليها، فالراكب متمكِّنٌ منها أكثر، ويده
عليها أقوى، أو لم يكن راكبًا، كأن يكون كلاهما بجوارها ولكن أحدهما له حِملٌ
ومتاعٌ عليها؛ فلا شكَّ أنَّ مَن له متاعٌ عليها أقرب في كونه مالكًا لها؛ لأنه لا
يُمكنُ أن يصلَ إلى أن يحمل عليها شيئًا إلَّا لكونها له، فبناء على ذلك يكون جانبه
مقدَّمًا على مَن سواه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَا أَرْضًا فِيْهَا شَجَرٌ أَوْ
بِنَاءٌ، أَوْ زَرْعٌ لأَحَدِهِمِا، فَهِيَ لَهُ)}.
مثال: لو أنَّ هذه الأرض فيها نخل ونحوه، فالجميع متفقون على أن هذا النخل لفلان،
لكن هل هو استزرع في هذه الأرض؟ أم أن الأرض له وهو زرعها؟
لَمَّا كانت جهته أقوى من جهة أن النخل له؛ فبناء على ذلك يكون جانبه في كون الأرض
ملكًا له أقوى، ولابدَّ أن تستوعبوا أنه فيما مضى يُمكن أن تكون الأرض لشخص وأن
يُزرِعها آخرَ، فيغرس فيها غرسًا ويستثمرها سنة أو عشر سنوات؛ وهذا مرَّ بنا في باب
المزاعة والمساقاة. إذن؛ جانب مَن له النخل هو أقوى.
ولو أنَّ هذه الأرض فيها بيت، والناس يُجمعون على أنه بيت فلان، ورأوه وهو يبنيه
طوبة طوبة؛ لكن هل الأرض له أو ليست له؟
نقول: ما دام أن هذا بناؤه فالأقرب أن الأرض له، أو أن جهة كون الأرض له أقوى،
فيُحكم له بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَ صَانِعَانِ فِيْ قُمَاشِ
دُكَّانٍ، فَآلَةُ كُلِّ صِنَاعَةٍ لِصَاحِبِهَ)}.
القماش: هو الأثاث عند الفقهاء، وهذا هو معناه في اللغة العربية، وأمَّا تسمية
البزِّ والمنسوج قماشًا فهذا من الاختصاص العرفي، ففي الأصل أن القماش من جملة
المتاع، فتسمية المنسوجات بالقماش من تخصيص اللغة بالعُرف، كـ "الثوب"، فهو في
اللغة العربية كل ملبوس، التُّبَّان -أو السراويل- ثوب، ونحوه، ولكن عندنا "الثوب"
هو القميص، فهذا من تخصيص اللغة التي شملت بـ "الثوب" كل ملبوسٍ إلى العرف الذي هو
خاصٌّ بالقميص.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَ صَانِعَانِ فِيْ قُمَاشِ
دُكَّانٍ، فَآلَةُ كُلِّ صِنَاعَةٍ لِصَاحِبِهَ)، مثلًا واحد يعمل في الأصباغ،
وهذا في الحدادة، فما كان من آلات الحدادة فالأقرب أنها للحدَّاد، وما كان من آلاتٍ
للصَّبغِ كالفرشاة والمعجون ونحوه فهي للصبَّاغ، لأن هذا أقرب أن تكون مِلكًا له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيْ قُمَاشِ
اْلبَيْتِ، فَلِلرَّجُلِ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ، وَلِلْمَرْأَةِ مَا يَصْلُحُ
لِلنِّسَاءِ، وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَ)}.
تقوم البيوتات على ما يأتي به الزوج وتأتي به الزوجة ونحو ذلك، ثم إذا تنازعا
أُحضرت النفوس شحها ويختلفان، ووضع الأثاث في البيت ليس تمليكًا للآخر، وإنما
للانتفاع به، فينتفعان به على سبيل المِلْك لمَن هو مالكٌ له، وعلى سبيل الإذن
للآخر.
قوله: (وَإِنْ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيْ قُمَاشِ اْلبَيْتِ، فَلِلرَّجُلِ مَا
يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ، وَلِلْمَرْأَةِ مَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ)، فما كان من ألبسة
الرجال ونحوها فهي للزوج، وما كان من أواني المطبخ ونحوها فالغالب أنها للمرأة، ما
كان من آلات المكياج وأدوات التجميل فالغالب أنها من آلات النساء.
قوله: (وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَ)، كفُرُشِ المجالس ونحوهما،
لأننا لا يُمكن أن نقدم أحدهما على الآخر، لكن ما يختص به كل واحدٍ منهما تقدَّمت
جهته بكونه الأقرب أنه له، وكل هذا الكلام إذا لم توجَد عندنا بينة قاطعة، فجانب أن
تكون هذه للرجل أقوى من أن تكون هذه للمرأة.
على سبيل المثال: لو تنازعا في مثل هذا "الشماغ" -وهي كلمة ليس عربية، وأظنها في
بعض اللغات المندثرة، وتعني ما اجتمع فيه لونا الأبيض والأحمر- فهل يُتصوَّر أن
تكون للمرأة؟
هذا بعيدٌ جدًّا، ولكن يُمكن أن تكون اشترته لأبيها، أو اشترته لابنها أو أخيها؛
لكن كونه للزوج أقرب من كونه للزوجة، وهكذا..
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَا حَائِطًا مَعْقُوْدًا
بِبِنَائِهِمَا، أَوْ مَحْلُوْلاً مِنْهُمَا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ
مَعْقُوْدًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، فَهُوَ لَهُ)}.
المقصود بالحائط المعقود: الذي هو متَّصلٌ بهما، فاستحقاق كل واحدٍ منهما له قريب،
فسواء متصلًا بهما أو منفصلًا عن هذا وهذا؛ فليس أحدهما أولى من الآخر في الحالين،
أما المعقود فكل واحد منهما متصل به، فيُمكن أن يكون لهذا، ويُمكن أن يكون لهذا.
والمحوَّل -يعني المنفصل- مثل ذلك؛ ليس فيه بينةٌ تدل على أن أحدهما أولى من الآخر،
وبناء على ذلك استويا في الدعوى، فاستويا في الاستحقاق، فهو بينهما نصفين.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مَعْقُوْدًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، فَهُوَ لَهُ)،
يعني إذا قويَت جهة أحدهما بأن يكون معقودًا في أحدهما والآخر لا، كأن يكون بينه
وبينه فاصل أو عازل؛ فنقول: هو للذي معقودٌ ببنائه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ اْلعُلُوِّ وَالسُّفْلِ
فِيْ السَّقْفِ الَّذِيْ بَيْنَهُمَا، أَوْ تَنَازَعَ صَاحِبُ اْلأَرْضِ
وَالنَّهْرِ فِيْ اْلحَائِطِ الَّذِيْ بَيْنَهُمَا، أَوْ تَنَازَعَـا قَمِيْصًـا
أَحَدُهُمَـا آخِذٌ بِكُمِّهِ وَبَاقِيْــهِ مَعَ اْلآخَـرِ، فَهُوَ
بَيْنَهُمَ)}.
هذه مسائل يستوي فيهما جهة الاستحقاق من وجه.
قوله: (أَوْ تَنَازَعَ صَاحِبُ اْلأَرْضِ وَالنَّهْرِ فِيْ اْلحَائِطِ الَّذِيْ
بَيْنَهُمَ)، والغالب أن صاحب الأرض ما مدَّ إلى النهر إلَّا لكون الحائط له،
وصاحب الأرض لمَّا جاور هذا الحائط فالغالب أنه له؛ فكل واحد منهما ينزع إلى
الاستحقاق من جهة، فليس بهذا أولى من هذا؛ فاستويا في الاستحقاق.
وهنا اختلفت جهة الاستحقاق، يعني المعقود بينهما استويا في جهة الاستحقاق، ولكن هنا
هذا له أرض، والأرض تدل على أن الحائط تبعٌ لها، وهذا أجرى جدول ماءٍ، والنهر يدل
على أن الحائط له، لأنه ما في أحد يمر جدولًا لغير حائط، فنقول: هما استويا في
الاستحقاق، لأن كل واحد منهما يجذبه من وجهٍ.
قوله: (أَوْ تَنَازَعَـا قَمِيْصًـا أَحَدُهُمَـا آخِذٌ بِكُمِّهِ وَبَاقِيْــهِ
مَعَ اْلآخَـرِ، فَهُوَ بَيْنَهُمَ)، واحد ماسكه من أعلى والآخر ماسكه من أسفله؛
فليس أحدهما بأولى من الآخر.
وقوله: (وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ اْلعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِيْ السَّقْفِ الَّذِيْ
بَيْنَهُمَ)، أحدهما له علوٌّ والآخر له سفلٌ؛ قال أحدهم: أنا الذي سقفت البيت
وبنيت عليه. قال الآخر: أنا كنتُ سقفته وأنت جئتَ وبنيت على البيت فقط فالسقف لي!
متى يتنازعان في هذا؟
يتنازعان في هذا لو كانا يُريدانِ أن يهدما البيت، وأحدهما يريد أن يستفيد من
الحديد مثلًا ونحوه؛ فلمن يكون هذا السَّقف، وهكذا...
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَنَازَعَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ مِيْرَاثَ
مَيِّتٍ، يَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ عَلى دِيْنِهِ، فَإِنْ
عُرِفَ أَصْلُ دِيْنِهِ، حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ دِيْنِهِ،
فَالْمِيْرَاثُ لِلْمُسْلِمِ)}.
من المعلوم أنه لا يرثُ مسلمٌ كافرًا، واختلاف الدين من أظهر ما يكون مانعًا من
الميراث، وبناء على هذا لما مات هذا الشخص، قال المسلم: هو مسلم. وقال الآخر: هو
كافر؛ فننظر إلى أصل دينه، فإذا كان الذي مات أب لهما، فالأصل أن الأب كافر، والابن
قد أسلم، فلو قال: أنا طلبت من والدي الإسلام قبل أن يموت فأسلم؛ فنحمله على أصل
دينه، لأن الأصل باقٍ، ولا يُنتقَلُ منه إلَّا بقينٍ، فبناء على ذلك نحكم بكونه
كافر؛ لأن هذا هو أصل دينه كما يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قوله: (وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَصْلُ دِيْنِهِ، فَالْمِيْرَاثُ لِلْمُسْلِمِ)، كأن
يكونوا قد جاؤوا على هذه الحال وهم منتقلون من دارٍ أخرى، ولا ندري هل كانوا أصلًا
مسلمين وهذا الأخ لهم -نسأل الله السلامة- ارتدَّ، أو غير ذلك؛ فالميراث هنا
للمسلم؛ لأن الدار دارَ إسلام، والأصل أن مَن فيها مسلمٌ؛ ولأن الإسلام يعلو ولا
يُعلَى عليه، فبناء على ذلك يُقدَّم، ولأنه دين الفطرة، وهذا هو الأصل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ لَهُمَا بَيِّنَتَـانِ، فَكَذلِكَ)}.
يعني: إن كانت لهما بينتان تعارضتا، فيُرجَع إلى أصل الأمر، هل هو هذا أو ذاك؛ فإذا
لم يكن ثَمَّ أصلٌ ولا يُعرَفُ شيئًا من ذلك فالمسلم مقدَّمٌ على ما ذكرنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، حُكِمَ
لَهُ بِهَ)}.
كأن يأتي أحدهما وأقام البينة أنه مسلم، وقال: شهد هذا وهذا بأنه شهد أن لا إله إلا
الله قبل موته بيوم.
أو العكسُ؛ أقام الكافرُ بينة من أنه على دينه، كأن لما حضرته الوفاة سأله الكافر
أمسلمٌ فنقبركَ في مقبرة المسلمين؟ أم كافرٌ على دين النصارى؟ فقال: أنا على دين
آبائي وأجدادي من المسيحيَّة أو نحوها. فنقول: هو كذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ
الشَّرِيْكَيْنِ فِيْ اْلعَبْدِ أَنَّ شَرِيْكَهُ أَعْتَقَ نَصِيْبَهُ مِنْهُ،
وَهُمَا مُوْسِرَانِ، عَتَقَ كُلُّهُ وَلاَ وَلاَءَ لَهُمَا عَلَيْهِ)}.
من المعلوم أن العبد إذا كان بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه عتقَ جميعه ولزمه أن
يُعطي الآخر، فإذا كان هذا العبدُ بيننا، أنا أدَّعي أنَّكَ أعتقته، وأنت تدَّعي
أنَّني أعتقته؛ فبناء على ذلك كلٌّ يدَّعي في نصفِ الآخرِ أنَّه معتَق؛ فيُعتق
جميعه، كلٌّ يدعي أن الآخر هو المعتق له، فأنا لا يُمكن أن يكون لي ولاءٌ؛ لأنني
أعتقد أنك أنت الذي أعتقته، وأنت تعتقد أنني أنا الذي أعتقته فلا ولاء لي؛ لأنِّي
لا أعتقدُ أنِّي أعتقتُه، ولا ولاء لك لأنَّك تعتقدُ أنَّك لم تعتقه، وأنَّ الذي
أعتقه هو أنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْهُ
شَيْءٌ)}.
لم يُعتَق منه شيء، لأنَّ هذا لم يعتق في نصيبه ولا في نصيب صاحبه، أمَّا نصيبه
لأنه لا يُمكن أن يعتق عليه وهو معسرٌ، والآخر لأنه لم يعترف بذلك، فلا يبقى في
العبدِ عتاق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوْسِرًا وَاْلآخَرُ
مُعْسِرًا، عَتَقَ نَصِيْبُ الْمُعْسِرِ وَحْدَه)}.
في مثل هذه الحال هو يدَّعي عليه أنَّه معتقٌ، كلٌّ يدَّعي أنَّه معتق، وهذا اعترف
أنه هو المعتق له، فهو يعتقد أن نصيبي -وأنا موسر- معتَق، فأنا أُقر أن نصفه معتَق،
ولكن هل المعتق أنا أو أنت؟
فإذا كان أحدهما موسر فيعتق في نصيب الموسر فقط، وإن كانا معسرين لم يعتق من شيء
مثلما قلنا.
قال: (وَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نَصِيْبَ صَاحِبِهِ، عَتَقَ حِيْنَئِذٍ وَلَمْ
يَسْرِ إِلى بَاقِيْهِ، وَلاَ وَلاَءَ لَهُ عَلَيْهِ)، إن كانا معسرين لم يعتق منه
شيء، وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذٍ، لأنه لما اشتراه وهو يعترف أنَّك
معتقٌ له فكأنه عارفٌ أنه معتق، ولم يسرِ لأنه معسر، فبناء على ذلك لم يسرِ إلى
باقيه.
قال: (وَلاَ وَلاَءَ لَهُ عَلَيْهِ)، لأنه لم يعترف أنه هو المعتق له، وإنما هو
كالمخلِّص له ممَّن أعتقه ثم أنكر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُوْسِرَيْنِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، تَحَالَفَا وَكَانَ وَلاَؤُهُ بَيْنَهُمَ)}.
يعني كل واحد يقول أنا معتقه وليس بينهما بينة، فنحن نعتقد أنه عتق قطعًا، لكن لا
ندري أيُّهما الذي أعتقه ولا بينة، فيتحالفا، فإذا حلفا جميعًا فيستحقانِ، لأنهما
استويا في الاستحقاق من كل وجهٍ، ويكون الولاء بينهما، وإذا حلف أحدهما ولم يحلف
الآخر استحقَّ، وإذا لم يحلفا لم يستحق واحدٌ منهما.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: إِنْ
بَرِئْتُ مِنْ مَرَضِيْ هَذَا، فَأَنْتَ حُرٌّ، وَإِنْ قُتِلْتُ، فَأَنْتَ حُرٌّ،
فَادَّعَى اْلعَبْدُ بُرْءَهُ، أَوْ قَتْلَهُ، وَأَنْكَرَ اْلوَرَثَةُ، فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُمْ)}.
إن قال لعبده: إن برئتُ من مرضي، أو إن قُتِلتُ؛ فأنت حُرٌ، ثم ماتَ، ولا ندري هل
برئ ثم مات، أو هل مات بقتل أو بغير قتل؛ فالأصل عدم ذلك كله، فإذا نفى ذلك الورثة
فالأصل معهم حتى تُثبَت بالبينة أنه برئ، أو يُبَت بالبينة أنَّه قُتِلَ، وإلَّا
فالأصل عدم استحقاق شيء من ذلك البتَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَيِّنَةً
بِقَوْلِهِ، عَتَقَ اْلعَبْدُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ بِزِيَادَةٍ)}.
يعني هؤلاء أثبتوا أنه لم يبرأ ولم يُقتَل، ثم جاء العبد ببينة أنه قُتِلَ؛ فنقول:
بينةُ العبدِ مثبتةٌ، والمثبت معه زيادة علمٍ، وهو مقدَّمٌ على النافي، أنتم تقولون
إنه ما قُتل، ولكن هؤلاء أثبتوا ببينة زائدة على ذلك أنه مقتولٌ؛ فبناء على ذلك
تكون بينته مقدَّمةٌ، فيُؤخَذ بقوله، ويُعتَق العبد في مثل هذه الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ
وَعَبْدَيْنِ مُتَسَاوِيَيْ اْلقِيْمَةِ، لاَ مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا، فَأَقَرَّ
اْلاِبْنَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِيْ مَرَضِهِ، عَتَقَ ثُلُثَاهُ إِنْ
لَمْ يُجِيْزَا عِتْقَهُ كُلَّهُ)}.
"الابنان" مرفوع بالألف، والمثنى دائمًا نونه مكسورة.
إذا كانت قيمة كل عبد من العبدين مائة ألف، فصار قيمتهما مائتي ألف، والأصل أنه لو
أعتق أحدهما فهو قد أعتق النصف، والنصف أكثر من الثلث، وبناء على ذلك لا ينفذ العتق
إلا في قدر الثالث، فلما كانا متساويي القيمة، وأحدهما قد ثبت أنه أُعتق، فيعتق
ثلثاه، لأنَّ ثلثاه تساوي بالنسبة للجميع ثلث التركة، إلا أن يُجيزَا عتقه كله،
فقالا: ما دام أن أبانا أعتقه فنعتق، ولكن إذا لم يُجيزا فإنَّما يعتق ثلث التركة،
وهو يساوي ثلثا هذا العبد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا: أَبِيْ أَعْتَقَ هَذَا،
وَقَالَ اْلآخَرُ: بَلْ هَذَا، عَتَقَ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَ)}.
كل واحدٍ من الابنين يُثبت أن أباه أعتق عبدًا، ولكن هذا يقول: أبي أعتقَ صالح.
والثاني يقول: أبي أعتق سعد؛ وليس ثَم أحد من العبد بأولى من العتق من الآخر، وليس
قول أحد من الولدين بأولى من قول الآخر، ونحن نثبت أنه حصل عتق، والعتق ينفذ في
ثلثه، فبناء على ذلك يعتق ثلث هذا العبد وثلث هذا العبد، فيكونا ثلثان بالنسبة
لكامل التركة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَانَ لِكُلِّ ابْنٍ سُدُسُ الَّذِيْ اعْتَرَفَ
بِعِتْقِهِ وَنِصْفُ اْلآخَرِ)}.
مسائل دقيقة، ويظن بعض الناس أن في هذا تكلف من الفقهاء؛ وهذا ليس تكلفًا من
الفقهاء، وإنما تقوية لملَكةِ الطالب لأن يعرف مآخذ المسائل بدقَّة في المسائل
المشتبهة.
وفي المسألة: إذا قال واحد أبي عتق صالحًا، وواحد يقول أبي عتق سعدًا؛ فبناء على
ذلك أعتقنا ثلث هذا وأعتقنا ثلث هذا؛ فبقي في هذا النصف وسدس، وبقي في هذا النصف
وسدس، فبناء على ذلك نعتبر من اعترف بعتق "صالح" ما بقي منه إلا الثلث، وهذا الثلث
إذا قسم بين الابنين يكون لكل واحد منها السدس، والابن الآخر يعتقد أن "صالح" ليس
فيه تعلق بالعبودية، فالثلث ذهب، وبناء على ذلك الثلث الذي اتفقا عليه يأخذانه،
والنصف الآخر تبعه، والثاني عكس ذلك، فأنا معترف أنَّه كله لنا، وأنت تقول هو الذي
صار فيه العتق، فبناء على ذلك لا يكون لك من نصيبك فيه إلا القدر المتيقَّن وهو نصف
الثلث -وهو السدس- والنصف يكون لي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ الثَّانِيْ: أَبِيْ أَعْتَقَ
أَحَدَهُمَا لاَ أَدْرِيْ مَنْ مِنْهُمَا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَقَامَتِ
اْلقُرْعَةُ مَقَامَ تَعْيِيْنِهِ)}.
لو قال واحد: أنا أذكر أن أبي أعتقَ، ولكن أعتق مَن؟ لا أدري!
فبناء على ذلك نقول: يُصار إلى القرعة عند الاستواء كما في الطلاق، وكما في مسائل
كثيرة ذكرها الفقهاء.
{قال: (باَبُ حُكْمِ كِتاَبِ اْلقاَضِيْ)}.
هذا الباب من أعظم الأبواب وأهمِّها، وهو "كتاب القاضي إلى القاضي"، وله اعتبارٌ
عند الفقهاء؛ لأنه لا مناص من الحاجة إليه، وجملة قيام القضاء في الأزمنة المتأخرة
على كتاب القاضي؛ لأنَّ الأقضية تُكتَب، ويفنى القضاة، فإذا وصلت إلينا الأقضية،
فإما لا نعتبرها شيء، ويُفضي ذلك إلى أن نعود إلى كل قضيةٍ بالنَّظر، وإمَّا أن
نعتبر كتاب القاضي قد نفذَ وتمَّ؛ وبناء عليه نُنفذ ما أنفذه القضاة، وينقطع دابرُ
إحياء الإشكالات مرة بعد أخرى.
والأصل في "كتاب القاضي إلى القاضي" هو ما جاء في الكتاب والسنة، قال الله -جَلَّ
وَعَلَا: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30]، فأثبت الله -جَلَّ وَعَلَا- اعتبار الكتب في الرسالة، وفي
الدعوة إلى الهداية ونحو ذلك، وفي هذا دلائل كثيرة في السنة، فالنبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- كتب إلى ملوك الفُرس والروم «أسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ
اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ» ، ولم يكن ثَم اختلاف عند علماء أهل الإسلام من
الصحابة ومَن بعدهم في اعتبار الكتب، ولأجل ذلك كتب الخلفاء، وكتب عُمر كتبًا كثيرة
في القضاء، وفي مسائل الجهاد وغيرها، وكانت مُعتبرة مَعروفة، وأيضًا في السُّنَّة
في كتاب عبد الله بن حكيم وفي غيرها، مع ما جاء في بعضها من مقال.
وفي الجملة هذا إجماع من أهل العلم في اعتبار كتاب القاضي، لكن بعد أن يثبت في
الجملة قد يحصل اختلاف في بعض المسائل هل ينفذ فيها كتاب القاضي أولا؛ فهذا خلاف في
تفريعات المسائل، وهذا في كل الفقه، مثلًا الربا يُجمع أهل العلم على حرمته وأنه من
الكبائر، ولكن قد يختلفون في بعض تفاصيل المسائل هل هي داخلةٌ في الربا أو ليس
بداخلة، فهذا شيءٌ آخر، ولذلك قالوا: "أجمعوا على تحريمه في الجملة" يعني باعتبار
الأصل، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل والمسائل، وهذا كثير من المسائل والأحكام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (يَجُوْزُ اْلحُكْمُ عَلى اْلغَائِبِ، إِذاَ
كَانَتْ لِلْمُدَّعِيْ بَيِّنَةٌ)}.
الحكم على الغائب ليس من كتاب القاضي إلى القاضي، لكن الغالب أنها تؤول إلى كتاب
القاضي؛ لأننا إذا حكمنا على الغائب فسننفذ الحكم بأن يكتب القاضي أنه ثبت عندي أن
على فلان كذا وكذا، وهو الآن عندك في جده، آمل أنك تأخذ منه الحق لنوصله إلى
مستحقه.
وفي بعض الكتب والمباحث يذكرون هذه المسألة في آخر الباب الذي يتعلق بالنَّظر وصفة
الحكم، والأمر في ذلك يسير.
هل يُحكم على الغائب أو لا؟
المشهور من المذهب كما هو قول جمهور أهل العلم خلافًا للحنفية أنه يُحكَم على
الغائب إذا احتيج إلى ذلك.
واستدلَّ الحنابلة وبعض الفقهاء بما جاء في قصَّة هند لَمَّا اشتكت زوجها أبا
سفيان، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح"، فقضى لها النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ- بقول: «خُذِي ما يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بالمَعروفِ» ، فعند بعض
أهل العلم أن هذه المسألة جارية مجرى القضاء على الغائب، وأنها أصل فيه، وإن كان في
ذلك شيءٌ من الاختلاف، ولكن بدٌّ من الحاجةِ إلى القضاء للغائب، وإلَّا لأفضى ذلك
إلى أنَّهم سيأخذون الحقوق ويغيبون، فلا يُستطاع أن يُنتَصَف منهم، فيُفضي ذلك إلى
فسادٍ كبيرٍ، ولكن لا شك أنه ينبغي أن يُتوقَّى في مسائل الحكم على الغائب، وأن
يكون للمدَّعي بيِّنةٌ ظاهرةٌ جليَّة حتى يُبنى عليها الحكم، لأنه ليس فيه لا نكول
ولا يمين ولا غيرها، فإمَّا أن توجَد البينة التي تقوِّي جانبه، وإمَّا أن لا
يُحكَمَ في تلك المسألة بوجهٍ من الوجوه.
فهذا ما يتعلق بالحكم على الغائب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَتَى حَكَمَ عَلى غَائِبٍ، ثُمَّ كَتَبَ
بِحُكْمِهِ إِلى قَاضِيْ بَلَدِ اْلغَائِبِ، لَزِمَهُ قَبُوْلُهُ، وَأَخَذَ
الْمَحْكُوْمَ عَلَيْهِ بِهِ)}.
ما دام أنَّنا قلنا: إنه يُحكَمُ على الغائب، فبناء على ذلك إذا كتب القاضي: إنني
حكمتُ على فلان بن فلان بخمسةٍ وعشرين ألفًا مستحقة من كذا وكذا؛ فأُرسلَت إلى
القاضي وثبت إليه بما يُعتَبرُ من كتاب القاضي إلى القاضي من اعتبارات؛ فإنَّه
يستدعي هذا الرجل ويأخذ منه الخمسة وعشرين ألفًا ويرسلها إلى مستحقِّيها.
أظنُّ أنَّ هذا هو آخر ما يتعلق بالكلام في هذا المجلس.
أسأل الله لي ولكم دوام التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك
على نبينا محمدٍ.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.