{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشيخ}.
حيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أسأل الله أن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع
المسلمين.
{اللهم آمين.
تكلَّمتم في الحلقة الماضية عن هذا الوباء -نسأل الله أن يرفعه.
لو تعطونا في هذه الحلقة بعض الأسباب المعنويَّة التي نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن
يرفع بها عنَّا هذا الوباء}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمدُ لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يدفع عنَّا الأوبئة والعاهات والأسقام
والأمراض، وأن يحفظنا، وأن يقوي أبداننا، وأن يُسلِّم أجسادنا، وأن يحفظنا ووالدينا
وأزواجنا وذرياتنا، وأن يحفظ المسلمين والمسلمات، الولاة والمجتمع والناس أجمعين،
وأن لا يُدخلَ علينا فتنةً، وأن لا يُظهر فينا وباءً، وأن لا يتمكَّن منَّا شرٌّ،
وأن لا يظهرَ علينا عدو، إن ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
ربَّما ما تكلمنا عليه في المجلس الماضي هو إشارةٌ رأيتُ أنها من الأهميَّة بمكانٍ،
وربما لم أستجمع ما يتعلق بها، إلا أنها تولَّدت من الحال، ومن الحاجة إلى الحديث
عن مثل هذا في هذا المقال، وما ذكرته كالمتمم لذلك والمكمِّل له؛ بل هو مُعتبرٌ
أصالةً، وهو أنَّ هذه الأوبئة لا شكَّ أنَّ جزءًا منها تعلق بالجانب الشرعي، والله
-جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُو﴾ [الروم/41]، وإن من أعظم
ما يُرفع به البلاء ويُمنع به هذه الشرور هو التعلق بالله -جَلَّ وَعَلَا، والنبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- جاء إلى المدينة وكانت أوبأ الأماكن وأكثرها حمى،
فدعا الله -جَلَّ وَعَلَا- أن ينقل حماها وأن يُظهر بركتها، فكانت المدينة مِن أبرك
ديار المسلمين، وهي من أهنأ ما يكون العيش فيها، ولم يزل الناس إذا وفدوا إليها
يأنسون بالبقاء والمقام والطمأنينة والمحبَّة لتلك الديار، على ساكنها أفضل الصلاة
والسلام.
فدعاء الله -جَلَّ وَعَلَا- من أعظم ما تُدفَع به البلايا والمحن، والنبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في يوم بدرٍ وما كان من دعائه أن يدفع المشركين، وأن يحفظ
المسلمين، حتى أشفق عليه أصحابه وقالوا: إنَّ الله مُنجز لك ما وعدك. فهذا باب من
الأبواب.
كذلك الاستغفار، فإن الاستغفارَ مما تُدفَع به البلايا وتُمنَع به الشُّرور،
فيَلِظَّ الناسُ باستغفار الله -جَلَّ وَعَلَا- عسى الله أن يرفع عنَّا ويدفع عنَّا
هذا البلاء، وأن لا يكونَ ذلك بعصياننا واقترافنا على أنفسنا، وكم من المعاصي
والآثام التي اقترفناها وأخطأنا فيها، وكم تجرأنا وفعلنا، وربما بارزنا الله -جَلَّ
وَعَلَا- في معاصٍ ظاهرة، ليس في عموم الناس فحسب؛ بل حتى في خصوصهم، وحتى في طلبة
العلم، وإنَّا لنتحدَّث إلى الناس وصيةً ووعظًا وتنبيهًا وربَّما كنَّا أقلهم
ائتمارًا واستمساكًا، فنحن أحوج ما نكون جميعًا -أنا وأنت وجميع المستمعين
والمستمعات والمشاهدين والمشاهدات- إلى أن نرجعَ إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- ونبتهلَ
إليه أن يحفظ المسلمين، ويرفع ما نزل بهم.
من أعظم ما يكون: أن يكونَ ذلك ظاهرًا في الخلوات وفي الجلوات، وأن يكون ذلك حتى في
الجُمَع وفي دعاء الناس أن يطلبوا من الله -جَلَّ وَعَلَا- الخلاص والسلامة، وأن
يطلبوا من الله أن تذهب تبعة هذا البلاء، ويبذلوا الصدقات، وأفعال البر، ويتعاونوا
على البر والتقوى، ويُعينوا ضعيفهم، ويتولوا مسكينهم، ففي مثل هذه الأحداث ربما
ينقطع ناس عن أسفارهم بما تجدَّدَ من منع السفر، وتحديد الطيران، وحصول الحجر على
كل البلاد، فقد يعلق ناسٌ في مطارات أو في مدن أو في غيرها، يحتاجون من يُعينوهم؛
فنكون عونًا لهم، فنُلظ على الله -جَلَّ وَعَلَا- بالصلاة والعبادة.
والتوبة النصوح من أعظم ما تُدفع بها الشرور، ويُمنع بها البلاء، والله نسأل أن
يتولَّانا برحمته، والله نسأل أن يحفظنا بلطفه، والله نسأل أن يدفع عنَّا وأن
يرحمنا، وأن يرحم المسلمين.
وعلى أهل الاختصاص من أهل الطب ومن يُعينهم من الممرضين وغيرهم أن يحتسبوا الأجر
والثواب فيما يقومون به وفيما يلونه، فهم يعرضون أنفسهم للمخاطر، وهم أقرب الناس
إلى مثل هذه المستنقعات، فعليهم أن يطلبوا الأذكار والأدعية في الصباح والمساء وفي
الخروج من البيت، حتى يحفظهم الله -جَلَّ وَعَلَا.
وعليهم أن يبذلوا قُصارى جهدهم، فكما أنَّ لدينا جنودًا يبذلون في الحدود، ويبذلون
دماءهم وأوقاتهم، ويضحون بذلك، قد فارقوا الأهل والأحبة والأولاد، وبذلوا لذلك
شيئًا عظيمًا، فعلى أهل الطب والاختصاص أن لا يكونوا أقلَّ من إخوانهم، وأن يكونوا
صفًّا مع أحبابهم في كل ما يُدفَع به عن البلاد والعباد، وما تُحفَظ به نفوسهم
ومقدراتهم وبلدانهم ومجتمعاتهم، وأن يحتسبوا الأجر والثواب من الله -جَلَّ وَعَلَا.
وأذكار الصباح والمساء وبذل الأسباب؛ كلها مما يُطلب به الخير، ويُدفع به الشر،
نسأل الله أن يدفع عنَّا.
وهنا مسألةٌ كنتُ لا أحب أن أذلف فيها، ولكن لا مانع من ذكرها لكثير الحاجة إليها،
وهي ما يتعلق بمنع صلاة الجماعة، فهذا أمرٌ سائغٌ ظاهر، وإن كنَّا نقول في تحديد
ذلك في المسائل بخصوصها هو راجع للإفتاء وأهله، لكن من جهة النَّظر الشرعي فلا شكَّ
أن ما يتعلق بما يدفع الشَّرَّ وبما يُحفظُ من الخير، وقد ذكر الفقهاء ما تسقط به
الجمعة والجماعة ما هو أقل من ذلك بكثير، مثل ما يتعلق بالشخص نفسه وبما يحفظُ به
ماله، وبما يحفظُ به أهله، فإذا كان ذلك يتعلق به وباء، وتتعلق به شرور كثيرة من
هلاك الأنفس ومن انتشار الأوبئة وهلاك المقدّرات، وحصول البلاء؛ فإنه مما تطيب به
النفس أن يُقال إن ذلك سائغٌ متى ما كان ذلك قد اجتمعت أسبابه، وأفتى به أهل
الاختصاص وأهل الفتيا، ولا ينبغي أن يُشغَّب عليهم، أو أن يُعاد النظر في مثل ذلك،
فهي أمورٌ يسيرة، وإذا كانت الأمراض اليسيرة تسقط بها الجمعة والجماعة فإنَّ هذا
أعظم من ذلك بكثير.
وإني أنظرُ إلى أنَّ مثل هذه المسائل ومثل هذه الأحوال يدخل من خلالها بعض مَن في
نفوسهم مرض، وبعض أهل الأهواء، وأهل التَّحزُّبات؛ لا لأجل المسألة بنفسها، ولا
للنظر في المسألة بحكمها، ولكن إرادةً للتَّشغيب وإظهارًا للمخالفة، وإرادةَ الفتِّ
في عضُدِ أهلِ العلم أو عدم التَّلقي عنهم، أو إرادةَ الرَّدِّ عليهم وتنقيصهم عند
الناس؛ حتى ينصرفوا إلى أمثاله من أهل الأهواء والضلال والبدع، وحتى يتفرَّق الناس،
وحتى تقوم قائمة الجدال والخلافات، فيحصلُ في النَّاسِ حَيْصَ بَيْصَ، ومن هنا تدخل
الشُّرور، ومن هنا تكبر الفجوة، ومن هنا تعظُم الأمور أشدَّ مما كانت، فهذا مسلك من
مسالك أهل الأهواء وأهل الأحزاب، وهم يتربَّصونَ بأهل العلم والفقه والفتيا، ولم
يكونوا يومًا من الأيام أحرص على المسائل، ولا أضبطَ للسُّنَّة ولا أغيرَ عليها،
لكنهم يتربَّصون من خلالها ما يُحققون مآربهم وما يُعينُ طرائقهم الملتوية لتفريق
المجتمعات والتَّشغيب على الولاة، وإرادة تفريق الناس عن أهل العلم، وصدهم عنهم.
فهذه إطلالة قليلة، ولكن نعود فنقول: لابد من طلب الأسباب الشرعية، وأن نُلِظَّ على
الله وندعوه، وأن نتصدَّق ونصلِّي، ونُكثر من الجأْرِ إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- بأن
يرفع ويدفع ويرحم، وأن يُنزلَ بنا الرحمة، وأن يُذهبَ عنَّا البلاء والفتنة.
{قال الموفَّق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في باب الأمان: (وَيَصِحُّ
أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ لِلْجَمَاعَةِ اْليَسِيْرَةِ، وَأَمَانُ اْلأَمِيْرِ
لِلْبَلَدِ الَّذِيْ أُقِيْمَ بِإِزَائِهِ، وَأَمَانُ اْلإِمَامِ لِجَمِيْعِ
اْلكُفَّارِ)}.
هذه مسألةٌ مُهمَّة، وهي من أعظم المسائل وأجلها، وهي خلاصة هذا الباب، وهي المفسرة
لما تقدَّم في مطلعه.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا قرر أن لكل مسلم أن يعقد الأمان إذا
كان عاقلًا مختارًا، رجلًا أو امرأة، كبيرًا أو صغيرًا، حرًّا أو عبدًا؛ أراد أن
يُبيِّن حدود ما له من إلقاء الأمان على الكفار، فيقول: (وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ
الرَّعِيَّةِ)، أنا وأنت والآخر والثالث (لِلْجَمَاعَةِ اْليَسِيْرَةِ)، واحد،
اثنين، خمسة، تقول: قد أمَّنتُ أهل هذا البيت. أو: أمَّنتُ آلَ فلان. أو: أدخلتُ
هذا في أماني أو عهدي. أو: جعلتُ لهذا عهدًا وأمانًا، وأجرته، ونحو ذلك، فهذا يكون،
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال لأم هانئ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ
أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» .
قال المؤلف: (وَأَمَانُ اْلأَمِيْرِ)، يعني: الذي له ولاية وسُلطة يكون أمنه في
حدود ولايته، ولذلك قال: (لِلْبَلَدِ الَّذِيْ أُقِيْمَ بِإِزَائِهِ)، فإذا أمَّنَ
أهل حصنٍ بإزاء بلده، أو أمَّن جيشًا أقبل عليه، أو أمَّن أُناسًا من هؤلاء؛ فأمانه
معتبرٌ في ذلك.
أمَّا الأمان لعموم الكفار فإن ذلك من خصائص الإمام اعظم، لا يُفتات عليه فيه، ولا
ينفذ تصرُّف آحادنا فيه، فلو أن شخصًا أرادَ أن يُؤمِّن دولة بأكملها ويقول: أنا
أمَّنتُ هذه الدولة؛ نقول: لا حقَّ لك في ذلك، فلك أن تُؤمِّن واحدًا منهم أو عشرة،
أو خمسة، جماعة يسيرة كبيتٍ، فهذا صحيح، لكن أن تُؤمِّن الدولة كلها فهذا ليس مما
يليق بك ومما يصح منك، فهذا للإمام الأعظم، ولئلا يُفتات عليه، فإن هذا قد يكون
لبعض ضعفاء النفوس من أهل الإسلام مآرب شخصيَّة ونحوها، فيفتات بذلك في المصالح
العظمى، فيكون هؤلاء مصدر تهديد على المسلمين، ولا يُؤمَن خطرهم، ثم يقوم ويؤمنهم،
ويمنع الإمام من أن يتعاطى معهم بما يدفع شرهم ونحو ذلك، فلما كان الأمر كذلك فإن
هذه الأمور كانت على نسقٍ يليق بالحال، فالإنسان له الجماعة الصغيرة، والأمير له
مَن بإزائه، والإمام الأعظم هو الذي يُمِّنُ جميع الكفار.
هذا من جهة ما ذكره الفقهاء، ولكن الواقع ما هو؟ كيف ننظر إلى الواقع؟
من أعظم ما ينبغي أن يُعلَم: أنَّ ما يصدر به هذا الأمان في الواقع هي التَّأشيرات،
فهذه التَّأشيرات التي جدَّت في هذا الزمان وتؤخَذ عن طريق السفارات أحيانًا، وعن
طريق المنافذ أحيانًا، وأحيانًا بطريق المراسلات في بعض الأحوال؛ فهذه بمثابة العهد
والأمان، فإذا بُذلَت من جهة الاختصاص وأعطيت لآحاد الكفار فقد أُمِّنوا، ولا يجوز
أن يُعتَدى عليهم، ولا أن تُنقَص حقوقهم، ولا أن يُفوَّت عليهم شيءٌ لهم بأيِّ حالٍ
من الأحوال.
طيب لو قال واحدٌ: أَمَّنتُك.
لو قال ذلك وعلمنا فلا يجوز لنا ننقض الأمان، ولكن لما كانت هذه الأمور مع تجدد
الزمان تحتاج إلى ترتيب كانت تراتيبها هكذا، ولذلك الآن في عُرف التأشيرات لدى جهات
الاختصاص وطلب الزيارات ونحوها، فأحيانًا تكون عائليَّة وأحيانًا صداقة، وأحيانًا
تجارة، ونحو ذلك؛ فقد تكون لأناس نصارى او غيرهم، فكل هذا داخل في الأمان، فكأنِّي
أمَّنتُ هذا الذي استقدمته أو أرسلتُ إليه بطلب زيارة، أو مجيء وفد من شركته أو غير
ذلك من هذه الأمور.
وينبغي أن يُعلَم أن هذا على ذلك الوجه، وستأتي تتمَّةٌ لهذا الكلام -بإذن الله جل
وعلا- مجدًّدًا في الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، ولو أُقيمَت
بالوجه الأول لكان قيامها صحيحًا، ويلزم مَن علم ذلك أن لا يفتات على هذا، فإذا
سمعتني وأنا أقول: أمَّنتُ فلانًا، أو هو في أماني، أو في عهدي، أو أجرته، أو أي
عبارة من العبارات التي يُفهم منها في عرف ذلك البلد أنها أمانٌ وتركُ قتالٍ، أو
كان بعبارة أخرى من اللغات المختلفةِ بحسب اللغات وبحسب البلدان؛ فينبغي أن يُعلم
أن من مقتضيات أهل الإيمان وممَّا قرَّره الفقهاء الأعلام ومما دلَّت عليه دلائل
السنَّة والكتاب، والله -جَلَّ وَعَلَا- يقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة/6]، والنبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» ،
فكان قولًا فصلًا وسنَّةً ماضية لا تعقيب عليها ولا اعتراض؛ ويلحق البلاء بكل مَن
نقض هذه العهود أو تساهل فيها ولم يعتبرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانِهِمْ، فَقَدْ
أَمَّنَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ)}.
هذه مُكمِّلةٌ لتلك، قال: (وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانِهِمْ، فَقَدْ
أَمَّنَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ).
أيُّها الإخوة؛ هذه المسألة عظيمة، وهي مسألة كبيرة، وقد قرَّرها الفقهاء قبل مئات
السنين على أصلٍ أصيل، على ما جاء في كتاب الله، وعلى ما جاء في سنَّة رسول الله،
فإذا دخل ديارهم كأن يدخل بفيزا سياحيَّة أو عمل أو تجارة أو دراسة أو تدريب ونحوه؛
فلا يجوز لك بأي حالٍ من الأحوال أن تتجاوز عليهم في حقوقهم، أو أن تأخذهم على
غِرَّةٍ، أو أن تستولي على مالٍ، أو أن تخونهم في أمرٍ، أو أن تتسلَّطَ عليهم في
حالٍ، أو أن تقتل منهم، أو غير ذلك؛ ولأجل هذا فكل مَن دخل ديارهم سواء كان على وجه
الإقامة فيها لمدد طويلة، أو كان ذلك لزيارة قصيرة، أو كان ذلك لعلاجٍ، أو لغير ذلك
من الأسباب؛ فهذا ممن دخل دارهم بأمانهم وقد أمَّنهم من نفسه.
وهذه التأشيرات كلها مُشتملةٌ على ذلك، فإنَّك إذ توقِّع على هذه الورقة؛ فكلها
مشتملة على هذا الأمان، ولا يجوز للإنسان أن يحتال أو أن يفعل فعلًا يلحق بهم
البلاء والمحنة.
وما يحصل من بعض الجُهَّال أو الغوغاء أو مَن عطبت قلوبهم وانحرفت نفوسهم إلى مسالك
أهل الأهواء بالطَّعنِ أو التَّسلُّط عليهم بسلاح، أو بالتَّخويف، أو بالتَّهديد،
أو بالاستيلاء على الأموال؛ فكل ذلك غير جائز، وهو من أعظم ما يكون من الفتكِ
للعهود والنقض لها، وهو أعظم ما يكون إذا ترتَّبَ على ذلك بلاء على المسلمين الذين
لهم حاجات، والذين أقاموا لمهمَّات، والذين جاؤوا لعلاجٍ، والذين اضطروا إلى المقام
هناك، إلى غير ذلك من الأمور، فما يلحقهم من ضيقٍ أو تضييق أو اعتبارات من ذلك؛
فهذا عليه بلاءُ ذلك، ويلحقُ به إثمه، مع ما يدَّخره الله له من نقضه للعهد،
وتجاوزه للحق، وتسلُّطه على مَن أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- بالوفاء له، قال تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة/1]، وبهذا
استُهلَّت سورة من أعظم سور القرآن، فسورة المائدة فيها مسائل كثيرة مما يتعلق
بحقوق اليهود والنصارى وغيرهم، فكان ذلك من أعظم ما جاءت به السُّنَّة، ودلَّت عليه
الدَّلائل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَلَّوْا أَسِيْرًا مِنَّا بِشَرْطِ أَنْ
يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَالًا مَعْلُوْمًا، لَزِمَهُ اْلوَفَاءُ لَهُمْ)}.
تأمَّلوا -يا إخوان- هذه الدقة عند الفقهاء، فإذا أسروا أسيرًا فخلوه، وقالوا: تذهب
وتردَّ إلينا مائة ألف؛ فيلزمه ذلك.
لو كان مثلًا أسيرًا عند إسرائيل أو غيرها، فقالوا له: اُخرج وائت لنا بمبلغ كذا؛
فيلزمه أن يردَّ إليهم ذلك المال.
ولأجل هذا قال المؤلف: (وَإِنْ خَلَّوْا أَسِيْرًا مِنَّا بِشَرْطِ)، فهذا شرط،
والمؤمنون على شروطهم، والوفاء بالعقود أصل عندنا في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- كما
سمعنا في الآية السابقة، فيلزمه الوفاء لهم.
قال المؤلف: (فَإِنْ شَرَطُوْا عَلَيْهِ أَنْ يَعُوْدَ إِلَيْهِمْ، إِنْ عَجِزَ
عَنْهُ، لَزِمَهُ اْلعَوْدُ، إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ امْرَأَةً فَلاَ تَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ)}.
تأمَّل! لو ما أحد أعانه على السداد، وما وجد هذا المال؛ فهم لا يستطيعوا أن يلحقوه
أو يدركوه في كثير الأحوال، ومع ذلك لَمَّا كان عقدًا قد عقده معهم لم يجز له أن
يخل به، ولا أن يخونهم فيه، ولا أن يمكر بهم، ولا أن يتجاوز الحق الذي استحقُّوه،
فإذا كانوا قد ألزموه بالرجوع إن لم يفِ فيرجعْ.
وهذا يلزم من جهة الإمام أن يسلمه لهم، وأن يخليه هاربًا لم يُوفِّ ما عليه من عهدٍ
وأمان.
قال: (إِلاَّ أَنْ تَكُوْنَ امْرَأَةً فَلاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ)، لئلا يكون هذا
سببًا لهتك عرضها ونحوها، ولكن لا يعني ذلك في هذين الحالين أن يفوت حقهم؛ بل حقهم
في ذمته، متى أو قدر عليه -أو قدرت- فليزمه أن يفي.
لو افترضنا مثلًا: أنه طُلب منه مائة ألف فلم يستطيعها إلا بعد عشرين سنةٍ لزمه أن
يفي لهم، وكذلك المرأةُ سواء بسواءٍ، وهو في الحالين -سواء طلب منه الرجوع إن لم
يفي أو لم يُطلَب منه الرجوع- فإنه يبقى في ذمته حتى يوفيه بأي حال من الأحوال.
وإذا نظرت إلى ذلك عرفت تعظيم أهل العلم للعقود، وما جاء في الشرع من الانقياد لها
وتتميمها وتكميلها حتى مع مَن خالفتَ في دينٍ، وحتى مع مَن عاديتَ، وحتى مع مَن
حاربتَ؛ فإنه لا يزيدُ ذلك إلَّا ان تكون الأمانة مؤدَّاة، وأن لا يكون منَّا
خيانةُ ولا نقض، ولا تفويتٌ ولا افتيات. والله الموفق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ اْلهُدْنَةِ.
وَتَجُوْزُ مُهَادَنَةُ اْلكُفَّارِ إِذاَ رَأَى اْلإِمَامُ اْلمَصْلَحَةَ
فِيْهَ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيما يتعلق بالهُدنة.
والهدنة: هي مُعاهدة الكفار على ترك القتال مع الكفار مدة معلومة.
ففي الأمان نحن الذي نبذله، والظاهر في ذلك -في الغالب وإن لم يكن لازمًا- أنه في
حال قوَّة أهل الإسلام، فإذا احتاجوا إلى شخصٍ أو وفدٍ أو غير ذلك؛ أما هنا في
الهُدنة أنه في الغالب متى ما كان ضعفًا في المسلمين، ولذلك قرر الفقهاء -رَحِمَهُم
اللهُ تَعَالَى- أنه تجوز الهدنة ولو على عوض، فنبذل لهم مالًا أو نعطيهم شيئًا، أو
نُجري لهم بعض السلع، فهذا جائزٌ مشروع، وقد قرره الفقهاء الأولون.
وإذا جاء بعض الناس وبعض أهل الأهواء، وبعض أهل الشبه وقالوا: هذا ركونٌ إليهم،
وعدم براءة منهم.
فنقول: هذا ليس بصحيح، بل جاء الشرع بأن يُبذل لهم من بيت المال، وجاء الشرع بما هو
أعظم من ذلك وهو أن يُؤخذ من زكوات الناس وتُعطَى لهم، ليُدفَع شرهم، وإذا كان
الإمام يرى ذلك فالرأي له، حتى ولو ظن الناس من أنفسهم قوة لدفعهم، أو قدرة على
منعهم؛ لأن الأمر إلى الإمام ولا يُفتات عليه فيه، وكما قلنا سابقًا إن الإمام هو
الذي يُوكَل إليه هذا الأمر، وهو الذي يُقدر هذه المصالح، وعمله منوطٌ بالمصلحة،
ولأن آحاد الناس قد لا يظهر له بعض الخلل والنقص الذي في القوة أو الردع أو الذي في
عُدَّة الجيش، أو في بعض الإشكالات، أو قد لا يعلم ما توافر للإمام من قوة هذا
الجيش، ومن بعض مخزوناته في الأسلحة وفتكها، وغير ذلك من الأمور التي تمنع حصول مثل
ذلك، فقد لا يعلمون ما يعلمه الإمام من علمه أن في جيشه مَن يواليهم أو يُسهل لهم
طريقهم، أو غير ذلك ممَّن يُعينهم عليه، فيمنع قتالهم، ولا يقدر في الحال دفعهم؛
فإذا كان الأمر لهذا أو لذا أو لذاك أو لغيره من الأمور؛ فإنَّ الإمام هو الذي يلي
هذه الأمور، وهو الذي يُقدر المصلحة بقدرها، وهو الذي يُقيمها حيثُ نظر، ويُقيمه
بما اجتمع إليه، وبرأي أهل الخبرة لديه، وهو الذي يُسأل عن ذلك عند الله -جَلَّ
وَعَلَا.
ولا يُفتات على الإمام في هذا، حتى لو ظنَّ الناس أنهم أقوى ما يكونوا من القوة،
وأقدر ما يكونوا من العتاد، فإنه لا يُفتات عليه في ذلك، ومتى ما رأى المصلحة في
ذلك فإنه يجوز له المهدانة، سواء قلنا إن ذلك بمالٍ وعوضٍ، أو كان بغيره.
فإذا كانت القوة لنا وهادنَّاهم بعوضٍ منهم كانَ، وإذا كان ذلك بغير عوضٍ من هنا
ولا من هناك فكانَ، وإذا كان بأن ندفع إليهم فليكنْ.
ومعاهدات الأمم المتَّحدة هي من ضمن هذه المعاهدات، ويراها الولاة بحسبِ ما يجتمع
إليهم ما حال، لأن كثيرًا من الناس ينظرون إلى معاهدات الأمم المتحدة وما يتفرع
عنها أن فيها موافقةٌ على ما لا يُوافَق عليه، ويجعلون من ذلك سبيلًا إلى النقض
لهذه العهود أو عدم اعتبارها ونحو ذلك.
فنقول: هذا من أعظم ما يسوِّلُ به الشيطان، لأمور:
أولًا: مثل هذه العهود وإن كانت معلومة من حيث أصلها، إلا أن تفاسيرها غير معلومة.
ثانيًا: لكل دولة من التقييد والتفسير والتَّحفُّظ وعدم الموافقة على خصوص بنودٍ
فيها ما هو معلوم.
ولما كان الأمر كذلك؛ كان الأمر إلى الإمام، فهو مفوَّضٌ في هذا، وهو مأمونٌ على
ذلك.
ومما ينبغي أن يُعلم أنه على سبيل الخصوص وتأكيدًا لهذا؛ أنه لم تزلْ هذه البلاد
-على سبيل المثال- تُخضع هذه العهود إلى جهات اختصاص، ومنها جهات شرعيَّة لمراجعتها
والنظر فيها وتكيلها، وحتى لو وُجد فيها خلل سواء كان ذلك بعذر أو بغير عذر، أو مما
يستوجب المراجعة؛ لا يكون ذلك سببًا للنقدِ ولا الخيانة، ولا تجاوز تلك العهود، ولا
على الافتيات على الإمام فيها.
ومن أكثر ما دُخل على أهل الجهل والغوغاء من الناس هو الفتُّ في هذه العهود
والمواثيق التي تبنع عن الأمم المتحدة وغيرها، وحسبُ الإنسان أن يعرف قدره، وأن
يعلم أن مثل هذه الأمور ليست لآحاد الناس، ولا لمتوسِّط الطلبة، ولا لكبار طلبة
العلم أن يبتُّوا فيها وأن يفصلوا هذا صحيح أو ليس بصحيح، وهذا يلزم أو لا يلزم،
وهذا يسغ كذا أو لا يسوغ كذا؛ ما دام أن الأمر إلى الإمام، والإمام جعل له من
مستشاريه وأهل الديانة والاختصاص من يُعين ويسدد وينظر ويتابع، فحسبهم بذلك، ولا
يجوز أن نفتات، ولا يجوز أن يُدار الحديث على نحو ما يُديره الصغار الأحداث لما
يكون سببًا للبلاء والشر والفتنة، فهذا هو الذي يذكره الفقهاء، وهو أن الأمر إلى
الإمام، والإمام أدرى بالمصلحة، والمصلحة يقدرها الإمام بحسب ما يراه وما يجتمع له،
وما يكون من رأي مستشاريه، وقد استُجمِعَ في مثل هذا أشياء كثيرة؛ فلم يكن حديثًا
للأحداث، ولا يُفتات على الإمام فيها، وكل ذلك -بإذن الله جل وعلا- يُجعل على وجهه،
نسأل الله أن يُعين الولاة فيما ولوا، وأن يسددهم فيما عاهدوا، وأن يوفقهم فيما
أقاموا، وأن يُقيم بهم الخير والهدى للعباد والبلاد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَجُوْزُ عَقْدُهَا إِلاَّ مِنَ اْلإِمَامِ
أَوْ نَائِبِهِ، وَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنَ اْلمُسْلِمِيْنَ دُوْنَ أَهْلِ
اْلحَرْبِ)}.
الهدنة لترك القتال من الأمور العامة مثل العهد، كما أن العهد لعموم الكفار لا يكون
إلا من الإمام؛ فكذلك لا تكون المهادنة للمشركين إلَّا من الإمام، فليس لي حق أنا
مثلًا أن أذهب إلى هذه البلد أو تلك لأسوِّي معهم عقد على ترك القتال؛ لأن هذا
افتيات على الإمام، وهو الذي يُقدر المصالح، وهو الذي يعرف الأمور ويُقيمها، فكان
هو المسؤول عنها، لا يُفتات عليه فيها، فهذا أمر من الأمور التي يجب أن تُعلَم
وتُحفَظ.
والأمر الأكثر الآن هو الافتيات في عكس ذلك، بأن تُنقَض هذه العهود ونحوها، فإذا
كان لا يُفتات على الإمام في العهد فكذلك لا يُفتات على الإمام في النقض، ولا يجوز
النقض، وكما أن للعهود خطوات وأصول أمر بها الشرع، فإنَّه أيضًا أمر حال عدم إنفاذ
هذا العهد بأمور وترتُّباتٍ، فإنه يُنبَذُ إليهم عهدهم، ويُخبَروا بانتها عهدهم على
ما جاء ذلك في كتاب الله، وما جاء ذلك في السنة، وقرره العلماء على أصولٍ معلومة،
وهذا له أسباب ومجريات ذكرها العلماء في موضعها.
ثم يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنَ
اْلمُسْلِمِيْنَ دُوْنَ أَهْلِ اْلحَرْبِ)، فما دام أن هادنهم فلا يجوز لآحاد
المسلمين أن يتسلَّط، ولو تسلَّط أحدٌ من المسلمين عليه أن يُمسكه وأن يمنعه وأن
يعاقبه، ويتخذ في لاحقه ما يليق به، وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحق، أما
أهل الحق فلا، يعني المحاربين ليس لهم عهد، ولا يحفَظون من المسلمين، فلو قابل بعض
المسلمين هؤلاء الكفار فقاتلوهم وقتلوهم لم يكن في ذلك شيء.
وينبغي هنا أن يُعلم أنه لو أن واحدًا من المسلمين ذهب إلى بلاد المعاهدة، ووجد
أناسًا في الأصل هم محاربين، ولكنهم في تلك البلاد، هنا هو دخلها بعهدٍ، ومقتضى هذا
العهد أن يحفظ كلَّ مَن فيه، بما فيهم مَن كان حربيًّا في الأصل بالنسبة إليه،
ولكنه معاهدًا بالنسبة إليه في تلك الحال، فلا يُفتات في مثل هذا الأمر، ولا يكون
سببًا للاشتباه فيه.
قال المؤلف: (وَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ)، هذه مسألة مهمَّة، وهي أن أصل الهدنة هو
تركِ الحرب، ليس شيءٌ آخر، وهذا هو الذي كان يُحفَظ على مر العصور، قد يُزاد في ذلك
أمر أو أمرين يحتاج إليه الناس، لكن الآن خاصة في بعض الأحداث التي حدثت إما في
إساءة من آية في كتاب الله، أو إساءة إلى رسول الله، ونحو ذلك؛ هل هي داخلة في
الهدنة أو لا؟
الأصل أن يعلم المسلمون حدود هذه العهود، وأن يطلبوا ما يليق بهذه العهود ولا
يزيدون، ولأن تلك الأشياء لها ترتُّبات عكسيَّة، فقد يكون في ذلك بلاء على المسلمين
بمثل هذه المخالفات، ثم ما يكون منهم من إساءةٍ إلى نبي الله أو إساءة إلى كتاب
الله ليس بأعظم من الإشراك بالله، ونسبة الولد إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- أعظم من
ذلك بكثيرٍ، وما يرتكسون فيه من الإشراك، فأيُّهما أعظ؛ أن يُنسب الولد إلى الله
-جَلَّ وَعَلَا- أو أن يوصَف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بشيءٍ من
الأوصاف؟!
وكل ذلك لا يُوافَق عليه ولا يُرتَضى، ولكن حتى يُعلَم أنه ينبغي أن يُعلم أن حدود
هذه الأمور محدودة بعهود، لو نُصَّ في عهد المهادنة على شيءٍ من ذلك لوجب الوفاء
به، وأما ما سوى ذلك فلا، ولا يجب فتحه ولا الدخول فيه، وما هم فيه من الإشراك وما
يرتكسون فيه من الكفر بالله -جَلَّ وَعَلَا- هي مثل ذلك وأعظم من ذلك بكثير.
فينبغي أن يُعلم هذا؛ لأنه يحصل بين الفينة والأخرى مثل هذه الأشياء، وتُحرَّك
عواطف جهلة المسلمين بما يُعمَل على غير الوجه ويُطلَّب على غير أصلٍ، وكما قلتم
لكم إن مأخذ ذلك هو طرائق بعض أهل الأهواء في المسلمين والتَّحزُّبات ونحوهم الذين
يُريدون أن يُثيروا الدَّهماء على الولاة، وأن يفرقوا المجتمعات، وأن يُحدثوا
شيئًا، وأن يحصلوا لهم مآرب من خلال ذلك بجمع الناس إليهم، وائتمارهم بأمرهم،
وإظهار أنهم هم أهل الغيرة، وأهل الحق، وأهل الدفع عن الإسلام، وأهل المنافحة؛ إلى
غير ذلك، يقومون مواقف على أنهم أسرع ما يكونوا لنقلها وهم أقرب ما يكونوا في
الإخلال بها.
قام أناسٌ في مواقف كالمقاطعات ونحوها لتأليب المسلمين، وإلقاء اللائمة على جهات أو
دول على أنهم هم أكثر الناس بقاءً في تلك الدول، واستفادةً منها، وتنقُّلًا بين
مدنها، ولم يشيروا إليه ولو ببنت شفة، لأنهم أهل هوى، يريدون مآربهم من تأليب الناس
وجمعهم إليهم، والاختلاف على الولاة، وتفريق المجتمعات.
هل المهادنة لها مدَّة محدَّدة أو مُطلقة؟
لأهل العلم في ذلك كلام:
- أما الهُدنة المؤقَّتة بأقل من عشر سنوات فلا إشكال فيها إجماعًا.
- ما زاد عن عشر سنوات والمطلقة اختلف فيها أهل العلم:
* منهم مؤيِّدٌ لذلك.
- ومنهم مختلف في ذلك.
والأمر في ذلك سائغٌ، وأذكر أن بعضهم لما أفتى الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى- بالهدنة المطلقة كأنَّ بعض صغار الطلاب ومن لديه شيء من الحماسة وغيره
خالف الشيخ وعارضوه واشتدُّوا عليه في ذلك، فلم يزد عليهم أنه أقرَّ ما استقرَّ
عليه قول الفقهاء، وذلك أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال:
«نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَ» ، فكان ذلك دليلًا واضحًا.
أمَّا المؤبَّدةِ بمنع القتال فهذا ليس صحيحًا على الأصل ولم يأتِ في الشرع، ولكن
يُمكن أن يكون له وجه، خاصَّة مع حاجة المسلمين إليه، فلو وجدوا القوَّة نبذوا
العهد بتراتيبه، وقالوا: نحن ننبذ إليكم عهدكم وننهي اتفاقنا.
وعلى كل حال هذه المسألة ليست محلًّا للبحث عندنا، فنترك الحديث فيها، وهي أيضًا
ليست موجودة، فإما المطلقة أو المؤقَّتة، وهي مما يسوغ فيها الكلام، وقد تقررت عند
علماء الإسلام، وبعضهم يزيد عن العشر وبعضهم لا يزيد، وكما قلنا إن في ذلك متَّسعٌ،
وهو قولٌ لأهل التحقيق بصحَّتها مطلقةً على ما جاء في الحديث المتقدِّم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَافَ نَقْضَ اْلعَهْدِ مِنْهُمْ نَبَذَ
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ)}.
هذا الذي ذكرناه وهو ما أشرنا إليه قبل قليل.
قوله: (وَإِنْ خَافَ نَقْضَ اْلعَهْدِ مِنْهُمْ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ)، فلا
خيانةً عندنا، ما دام أنهم يتربَّصونَ بنا فنتربَّص بهم، ما داموا يريدون نقض العهد
ننقض، لكن لا نخن من خاننا، قال تعالى: ﴿فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾
[الأنفال/58]، فأمر بنبذ العهد إليهم وترك معاهدتهم، ولكن بأن يُعلموا ويُخبروا،
فلا عهد بينا وبينكم، انتهى ما بيننا وبينكم، أنتم تريدون تفعلوا كذا...؛ فانتهى
الأمر، ولكن ليس لنا أن نتربَّص بهم وننقضهم ونقول: أنتم كنتم تريدون نقض العهد؛
حتى ولو ثبت ذلك أو جرى منهم شيءٌ هذا، فلو جاء منهم بعض الأشياء في نقض العهد فلا
يُنقَض العهد حتى يُعلموا، يُرد من اعتدى، ويُمنع الشر الذي حصل، ثم يُنبَذ إليهم
العهد، ويتَّخذ الإمام ما يراه مناسبًا، من إبقاء العهد إذا كان يرى في ذلك مصلحةً،
أو ردِّ ذلك، أو تعديل العهد، بما يراه بحسب المصلحة في هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ سَبَاهُمْ كُفَّارُ آخَرُوْنَ لَمْ يَجُزْ
لَنَا شِرَاؤُهُمْ)}.
إن سبا هؤلاء المعاهدون كفارٌ آخرون، ثم جاؤوا يبيعونهم لنا؛ لم يجُزْ لنا شراؤهم؛
لأنَّ بيننا وبينهم عهد، وهذا في أحد القولين عند الفقهاء، وإن كان القول الآخر
أنهم حُموا من عندنا بوجهٍ واستُحلِّوا بوجهٍ آخر؛ لأننا لم نعتدي عليهم، وهم
مُلِكُوا بوجهٍ آخرٍ صحيح، فعلى كل حال هذه من الأمور المحتملة لهذا القول ولذاك.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والإعانة على الخير والرشاد، وأن يحفظنا ويحفظ
بلادنا وبلاد المسلمين، وأن يمنع عنا الأوبئة والأسقام، وأن يغفر لنا لوالدينا
ولجميع المسلمين، وأن يجزيكم أيها الطلاب والطالبات والمشاهدون والمشاهدات،
والقائمون على هذا البناء خير الجزاء، وأن يغفر لنا، ويستر عيوبنا، وأن يحفظنا في
غفلاتنا، وأن يتمَّ علينا النعمة والرحمة والصحة والسلامة، وأن يغفر لنا وللمسلمين،
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.