الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس العاشر

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
جزاك الله خيرًا، حياك الله، أرحب بك، وأرحب بالمشاهدين والمشاهدات وطلاب العلم في هذا المجلس العظيم، وفي هذا المجلس الذي نسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ جَحَدَ اللهِ تَعَالى، أَوْ جَعَلَ لَهُ شَرِيْكًا، أَوْ نِدًّا وَوَلَدًا، وَكَذَّبَ اللهَ تَعَالى أَوْ سَبَّهُ، أَوْ كَذَّبَ رَسُوْلَهُ أَوْ سَبَّهُ، أَوْ جَحَدَ نَبِيًّا، أَوْ كِتَابَ اللهِ تَعَالى، أَوْ شَيْئًا مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، أَوْ جَحَدَ أَحَدَ أَرْكَانِ اْلإِسْلاَمِ، أَوْ أَحَلَّ مُحَرَّمًا ظَهَرَ اْلإِجْمَاعُ عَلى? تَحْرِيْمِهِ، فَقَدِ ارْتَدَّ، إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مِمَّنْ تَخْفَى عَلَيْهِ اْلوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ، فَيُعَرَّفُ ذلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ، كَفَرَ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا وإياكم من العلم، وأن يبصرنا بالحق، وأن يهدينا له، وأن يجعلنا ممن وُفِّقَ للهدى والصواب، وأن يجنبنا الغي والشرَّ والضلال والفساد، وأن يجعلنا من أهل العلم الراسخين، وأن يوفقنا للحق فيما اشتُبه فيه، وأن يجعلنا ممن سلكَ مسلك أهل العلم الراسخين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
انتهينا -أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات- في المجلس الماضي إلى مسألة مهمَّة، وقلنا من أنها يُمكن أن تكون محلَّ بداية هذا المجلس -بإذن الله جل وعلا- ألا وهي مسألة التكفير والحكم بأن هذا العمل كفر وأن هذا الشخص كافر.
وقلنا لكم: إن هذه من المسائل العظيمة، وإن الفقهاء يذكرونها، وذكرهم لها على أصلٍ صحيحٍ وتقعيدٍ دقيقٍ يتفاوتون في بعض المسائل، لكنهم لا يختلفون في أنهم يجعلون ذلك وفقَ ما جاءت به دلائل الكتاب والسنَّة، وهم من أضبط ما يكونوا في مثل هذا الباب، سواءٌ كان ذلك فقهاء الحنابلة أو الشافعية أو المالكية أو الحنفية، وأنَّا على ذلك الطريق مستمسكون، لا نختلف في ذلك عن أحدٍ من أهل العلم -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- ولا يُخالف في ذلك إلا أهل الأهواء.
وهنا ينبغي أن نذكر مسألةً مُهمَّة، وهي أنَّ هذه المسائل لها اعتبارٌ تأصيلي، واعتبار واقعي.
واعتبار التأصيل ذكره أهل العلم، لكن أضيق ما يكون أهل العلم وأهل السُّنة والجماعة والفقهاء الأربعة في مسائل إلحاق وصف الكفر بمعيَّنٍ؛ ولأجل ذلك كانت من أعظم الفتن التي دخلت على أهل الإسلام فتنة خلق القرآن، وأكثر مَن أشعل فتيلها وأقامَ نارها وأذكى بركانها هو أحمد بن أبي دؤاد، ومع ذلك الإمام أحمد بن حنبل -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو الذي اصطلى بنار هذه الفتنة حتى سجن وجُلد؛ اختُلف قوله في تكفير أحمد بن دؤاد، مع كون ظهور الحجَّة عليه، وقوة وصول الحق له، ومع ذلك لما كان إلحاق وصف الكفر بشخصٍ بعينه من أضيق الأمور وأشدها.
وهذا ينبغي أن يكون حاضرًا في أذهاننا، على سبيل الجملة أهل السنة يُقعِّدون هذا، لكنهم أصعب ما يكون في إلحاق وصف الكفر.
على سبيل المثال: هذه المسائل تدرَّس على سبيل التعليم كبيان أن ذلك مُكفِّر، لكن لا يلي ذلك في إلحاق الوصف وترتيب أثره عليه إلَّا مَن له ولايةٌ شرعيَّة، إما بولاية قضاءٍ، أو بولايةِ إفتاءٍ إذا كان له ذلك، حتى لو كان له فتيا فيفتي في الأشياء الخاصَّة، لكن إذا كانت له ولاية إفتاء فيُمكن إذا كانت عنده الآلة الكاملة أن يصل إلى وصف الكفر.
والقاعدة أنَّ الحكم بوصف الكفر يختلف عن إلحاق الشخص بكونه كافر، فقد يكون متَّصفًا بوصف الكفر ولا يكفر، فإذا قلنا: إنَّ مَن جحد الله فهو كافر، لكن يُمكن أن يكون شخصٌ جحد الله ولا يكفر بذلك، ففيه وصف الكفر وهو ليس بكافر، كأن يكون غُمِّيَ عليه، أو كان يأتيه شيءٌ من الجنون، فهو غير مكلف، فإذن لم ينتفِ المانع ولم تُستَكمَل الشُّروط.
وأكثر مَن قرَّر هذه المسألة على وجه الخصوص ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- والإمام محمد بن عبد الوهاب وطلبته، وهو أنه في تكفير المعيَّن لابدَّ من اكتمال الشروط وانتفاء الموانع، وهذا لمن له ولايةٌ صحيحةٌ في ذلك.
مسألة مهمَّة: وهي أن بعض المسائل التي قد يجري فيها اختلاف مثل مسألة ترك الصلاة، فقال الحنابلة: إن ترك الصلاة تهاونًا كفر، ثم اختلفوا هل يكفر بترك جميعها أو أكثرها أو بترك وقتٍ أو وقتين؛ فإذا قلنا: إن هذا عند الحنابلة، فإنه لم يُعرَف عند الحنابلة أنفسهم أنه ثبت أن شخصًا ارتدَّ بترك الصلاة وأُقيم الحد عليه لخفاء مثل ذلك الأمر في إثباته وإمكان عرضه على القضاء وثبوته على الامتناع وعدم الصلاة.
فهذا وهم أشد ما يكون، فلا يعني أن يكون هذا قولًا للحنابلة أن يسري هذا القول عند فقهاء المذاهب الآخرين، فيأتي شخص يدرس الفقه على مذهب الحنابلة، ثم يأتي إلى جماعته وهم على طريقة أبي حنيفة وقد تلقوا أن ترك الصلاة لا يصل إلى حد الكفر -على سبيل المثال- ثم يقول: هؤلاء كفار!
فلستَ أنتَ أهلًا لذلك، وهم لهم قول يعتبرون به لا يصل بهم إلى هذا الحد، ولذلك بعض الطلاب الذين درسوا في مدارس الحنابلة ذهبوا وظنوا أن هذا حكمًا يُمكن أن يُجروه، فعرَّضوا أنفسهم للإشكال، وعرَّضوا أيضًا بعض الجهات التي درسوا عندها لذلك، وهذا ليس بصحيح، لأسباب:
أولا: إطلاق هذا الوصف؛ لأنك لستَ أهلًا لذلك.
ثانيًا: أن الذين قالوا بكفر تارك الصلاة لم يُكفِّروا هذا؛ بل لو جيء إلى حنبلي من أهل العلم -وهو يرى كفر تارك الصلاة- بحنفي - وقال له: أنا تاركٌ للصلاة؛ لوجدَ له عذرًا في كونه على مذهبٍ سائغٍ يقول بعدم التكفير لتارك الصلاة.
وهذا مما سبَّبَ إشكالًا كثيرًا وبلاءً عريضًا، فينبغي الحذر، أن مسائل التكفير من أشد المسائل وأعظمها، وأنه لا يتصدَّى لها إلَّا الخُلَّص من أهل العلم الذين لهم في العلم قدمُ سبقٍ ونظر، والذين لهم ولاية في إصدار الأحكام للقضاء أو الإفتاء، وما سوى ذلك فإنَّك مهما درستَ وتعلَّمتَ ونظرتَ؛ فإنَّ علمك بهذه المسائل هو على سبيل النَّظر والتَّأصيل، لا على سبيل العمل والتَّطبيق، لأنَّ تلك لها مسلك آخر في أنه لا ينبغي لها إلَّا القلَّة القليلة من أهل العلم، وأن ذلك لابدَّ فيه من انتفاء الموانع واكتمال الشروط.
وبعضهم يأتي إلى رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب "نواقض الإسلام" ويَعرض إلى مسألة "مَن لم يُكفِّر الكافر فهو كافر" كأنها شُرب ماءٍ، هذا صحيح، ولكن من هو الكافر الذي لا يُكفَّر؟
هو الذي ثبت كفره على وجهٍ صحيح قائمٍ، أمَّا أن تأتي فتكفر مَن لا يستحق هذا الوصف ثم تلحقه به، ثم تطلب من الناس أن يكفروه! فهذا أعظم ما يكون من الظلم والطغيان.
وهذه الرسالة على سبيل الخصوص جاءت في وقتٍ لحالٍ مخصوصة، وينبغي أن تُجعل فيها، وهي أيضًا مندرجة تحت ذكر الفقهاء لحكم المرتد، ولا تخرج عنه في طلب الشروط واكتمالها وانتفاء الموانع وعدم الدخول فيها. فدراسة حكم المرتد مسألةٌ خطيرة، وهذا يجمع عليه الجميع.
فإذا جاء واحد وقال: تعالوا نثبت أن هذا زانٍ ونقيم عليه الحد! فلا يُمكن ذلك إلا ممن ولي هذه الولاية فمن باب أولى حكم المرتد، لأنه أشد، ولأن ما يترتب عليه أعظم، ولأن آثاره تلحق الزَّوجة والولد والإرث والصلاة عليه وتكفينه.
وما كان لنا أن نخرج أحدًا من الإسلام، ونمنع عنه أحكامه بمحض الهوى والظن، أو لدراسةٍ يسيرة، أو لمرور هذه المسائل علينا مرور الكرام، فبمجرد أن يكون الطالب قد عرض لها مرة أو مرتين أو سمعها في درسٍ؛ أن يجعل ذلك أصلًا له، فيُلقي أحكام الكفر والوصف به على جملة الناس وآحادهم، فإن هذا نوع من الظلم والعدوان، وطريق من طرق أهل الأهواء والضلال، ولأجل ذلك ينبغي الحذر، ونحن حينما نذكر هذه المسائل وتفاصيلها فهي أمثلة ليست على سبيل الحصر، وبعض أهل العلم يقلل أو يزيد، لكن هي إشارةٌ إليها من جهة أصل الحكم، أما من جهة التطبيق وإلحاق وصف الكفر بالمعين فذاك شأنٌ آخر، وليس هذ من مهمَّتنا ولا تدرسه ولا تبلغه، ولو فعلت ذلك لكنت معتديًا ظالمًا.
قوله -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ جَحَدَ الله تَعَالى أَوْ جَعَلَ لَهُ شَرِيْكً).
الجحد معروف، وهذا من الأمور الظاهرة، وهو تكذيب لكتاب الله، وتكذيب لسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وما أجمع عليه علماء الإسلام فكان ذلك كفرًا، أو جعل لله صاحبةً أو ولدًا؛ لأن الله نفى أن يكون له صاحبة وولدًا، وذكر ذلك في كتابه، فالذي يقول: إن لله صاحبةً أو ولدًا فهو مكذب للقرآن، مكذبٌ لما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً﴾ [مريم: 88 - 93].
قال: (أو كَذَّبَ اللهَ تَعَالى أَوْ سَبَّهُ، أَوْ كَذَّبَ رَسُوْلَهُ أَوْ سَبَّهُ)، ولقد كان الناس في زمان لا يظنون أن أحدًا يُمكن أن يتفوَّه بشيءٍ من ذلك، حتى وصل هذا الزمان إلى أناس ساخرة مُستهزئة مُتساهلة، لا ترعى حقًّا، ولا تعرف أصلًا؛ فوقعت في شيءٍ من هذه الضلالات -نسأل الله السلامة والعافية.
وإذا كان الله -جَلَّ وَعَلَا- نهى عن سبِّ غيره فقال: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، مع ما هُم عليه من الضَّلال والحكم عليهم بالفساد، ومع ذلك مُنع من سبهم حفظًا لحق الله -جَلَّ وَعَلَا.
فينبغي أن يُعلم عظم هذا الأمر، ومن دخل في منصات التواصل والمواقع التي يتناقل فيها الناس أقاويلهم ويُعيدون أحاديثهم؛ يرى في ذلك شيئًا عجبًا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ جَحَدَ نَبِيًّ)، ممن ثبتت نبوَّته من الكتاب والسنة، كموسى أو عيسى، أو محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، أو إبراهيم، أو يونس، أو يوسف؛ ممن علمَت نبوَّته وظهرت رسالته، فإن ذلك لا شك أنه تكذيب للقرآن، فيكون داخلًا في المكفرات، بمعنى أنه سببٌ للتكفير، لكن أيضًا نعود فنقول: قد يقول القائل في ذلك كافرًا لاكتمال الشروط وانتفاء الموانع، وقد لا يكون كافرًا لوجود ما يمنع من الحكم بكفره، أو لوجود الشُّبهة عليه، أو لعدم وصول الحجة إليه، وأن ذلك لا يُقرِّره إلا مَن تصدَّى لذلك ممَّن له ولاية شرعية، وعنده من تمام العلم وكمال النظر واستتمام الأمر وخلوصه من الهوى، واستحقاق أن يكون ممَّن ينظر في ذلك بالقضايا والفُتيا على ما مرَّ بنا.
قال: (أَوْ كِتَابَ اللهِ تَعَالى، أَوْ شَيْئًا مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، أَوْ جَحَدَ أَحَدَ أَرْكَانِ اْلإِسْلاَمِ)، يعني لو قال: لا صلاة في الإسلام، أو لا صيام، أو أن الزكاة ليست واجبة كما فعل المرتدون في وقت أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بعد موت النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- فإن الصحابة حكموا بردَّتهم.
فهذا كما يقول أهل العلم: إنه من الأمور التي تُعلم من دين الإسلام بالاطراد. فما يقول في تقرير حكم الصلاة "وأجمع عليها العلماء" وإنما يقول: "وأجمع المسلمون"، يعني حتى آحاد المسلمين وأفرادهم يعلمون أنها فرضٌ واجبٌ لازمٌ، فلما كان كذلك فإن جحدها هو من إنكار ما هو ظاهرٌ في الشريعة، وهو تكذيبٌ للكتاب والسنة.
قال: (أَوْ أَحَلَّ مُحَرَّمًا ظَهَرَ اْلإِجْمَاعُ عَلى تَحْرِيْمِه)، يعني واحد يقول: الزنا ما هو محرم! لا أحد يشك أن الزنا محرم، حتَّى الذي أسلمَ لتوِّه أو بلغ في آنه.
ومثل ذلك من جحد حرمة الربا من حيث الأصل لا من حيث التفاصيل، فقد يُنكر الإنسان أو يجحد أو يُخالف في بعض تفاصيل المسائل، لكن أن يقول: "لا ربا محرم" فهذا مضادٌّ لما جاء في كتاب الله، والله تعالى يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: 130]، وقال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 276]، ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَعَنَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ» .
إذن؛ معلوم حرمة الربا بالاطراد من دين الإسلام، فمن أنكرها كفر.
ولكن من جاء وقال: إن ربا الفضل فيه خلاف ونحو ذلك؛ فهذا لا يعتبر كفرًا، فلأجل ذلك أهل الجهل والأحداث من طلاب العلم يأتي ويقول: هذا أنكر محرَّمًا بالإجماع! هو لم يُنكر أصل المسألة التي هي تحريم الربا، لكن خالف في بعض ما تفرع منه من المسائل، فلا شكَّ أنَّه ليس أحد من علماء الإسلام يحرم من فعل ذلك، ولكن الذي يميز بين ذا وذاك هم أهل العلم.
ولأجل هذا نقول: إن صغار الطلبة لا يُمكن أن يتعرَّضوا لتطبيق مثل هذه المسائل وإلحاق أوصافها بآحاد اناس، وجعل ذلك لكل مَن أراد أن يتكلم به، ولما تكلَّم مَن تكلم مع حداثة سنِّهم وقلَّة علمهم حصلت استباحة الدماء، وتكفير المسلمين، وحصلت الفتن التي يعلم الناس ما جرَّت على الإسلام وأهله من البلاء والويلات.
ثم قال: (أَوْ أَحَلَّ مُحَرَّمًا ظَهَرَ اْلإِجْمَاعُ عَلى تَحْرِيْمِه)، لو كان فيه إجماع ولكن من المسائل الخفيَّة؛ فيكون عذرًا للإنسان بأن لا يُحكَم بكفره ولو خالف في الإجماع، لكون الإجماع خفي؛ فبناء على ذلك يكون معذورٌ فيه.
قوله: (فَقَدِ ارْتَدَّ، إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مِمَّنْ تَخْفَى عَلَيْهِ اْلوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ)، يعني: هذه الأمور الظاهرة مع كونها من أظهر ما يكون الحكم بالكفر به، ومع ذلك قد يكون أكرٌ خارجٌ عن كونها كفرًا أو لا من جهة الشخص، ولأجل ذلك قلنا: إنه لا يتصدَّى لتكفير المعيَّن إلا من له ولايةٌ في ذلك، فقد يكون لتوِّه أسلم ولا يعرف أن الزنا محرَّم، أو نشأ ببادية بعيدةٍ، سمع أناس يقولون "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ويصلُّون خمس صلوات، ثم جاء يبيع عشرة باثني عشر، فقيل له: هذا ربا. فقال: ما في شيء اسمه ربا! فلا نقول إن هذا كفر، لأنه وإن كان الربا محرم وهذا مُنكرٌ له، ومُنكرُ الربا كافر، لكن هذا لا يكفر لوجود ما يمنع من كفره، وهذا المانع ليس راجعًا إلى المسألة نفسها، ولكن راجعٌ إلى الشَّخص.
إذن؛ مُتعلَّق هذه المسائل أمرانِ؛ متعلق المسألة: فقد تكون المسألة كفرًا وقد لا تكون كفرًا، فإذا كانت المسألة كفرًا فليس كل مَن قال بها يكون كافرًا، لإمكان أن يكون فيه ما يمنع من إلحاق الوصف به.
وقوله: (إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ مِمَّنْ تَخْفَى عَلَيْهِ اْلوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ)، لحداثته في الإسلام، أو لانتشار الجهل أو لغير ذلك.
قال: (فَيُعَرَّفُ ذلِكَ)، يُبيَّن له الحق، يُبصَّر بالصَّواب، يُقال له: إن هذا هو المتقرر عند علماء الإسلام، هذا قول الله، وهذا قول نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- حتى يستبين الحق ويستقيم عليه.
فإذا أنكرَ مع العلم فقد اندفعَت الشُّبعة وحُكِمَ عليه بالكفر، ولكن الحكم بذلك لا يكون إلَّا لأهله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَصِحُّ إِسْلاَمُ الصَّبِيِّ اْلعَاقِلِ، وَإِنِ ارْتَدَّ لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلاَثًا بَعْدَ بُلُوْغِهِ)}.
يصح إسلام الصبي العاقل، مع أنَّ الصبي ليس بمكلَّفٍ، لقول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» ، ومع ذلك لو أسلم الصبي المميز وعرف الإسلام وحقيقته؛ فإنه يعتبر مسلمًا، ويلحق به وصف أهل الإسلام، وجاء في السيرة أنَّ أول مَن أسلم من الصبيان علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضَاه.
ولأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَصِحُّ إِسْلاَمُ الصَّبِيِّ اْلعَاقِلِ)، وذلك لإسلام علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأسلم بعده مَن أسلم في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- ومَن بعدهم من الصِّغار؛ فقُبِلَ ذلك منهم.
قال: (وَإِنِ ارْتَدَّ لَمْ يُقْتَلْ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلاَثًا بَعْدَ بُلُوْغِهِ).
إن ارتدَّ هذا الصبي فهو غير مكلف، وبناء على ذلك لا تُجرَى عليه أحكام المرتدين، فلا يُقتَل، ولكن يُنظَر حتى إذا بلغَ فيُبيَّن له ويُستتاب، فإن تابَ بعد بلوغه وإلَّا تعلَّق به وصف الكفر بعد البلوغ، فيلحق به هذا الحكم والوصف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ ثَبَتَتْ رِدَّتُهُ فَأَسْلَمَ، قُبِلَ مِنْهُ)}.
إذا عُلِمَت ردَّته، وأنه قال مقالةً شنيعة وقع بها في الكفر -نسأل الله السلامة والعافية- ثم أسلم؛ فنقبل منه ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَكْفِيْ فِيْ إِسْلاَمِهِ أَنْ يَشْهَدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ)}.
يعني: إذا أسلمَ وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله بعدَ أن كان جاحدًا ومرتدًّا؛ فهذا يُقبَل منه.
وهنا مسألة سيُبينها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وتكون معتبرة هنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ كُفْرُهُ بِجَحْدِ نَبِيٍّ، أَوْ كِتَابٍ، أَوْ فَرِيْضَةٍ، أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا بُعِثَ إِلى اْلعَرَبِ خَاصَّةً، فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَحَدَهُ)}.
هذه مسألة مهمَّة جدًّا، وهو أنَّ مَن وقع في الرِّدة فإنه لا ينتفي منه ذلك الحكم إلا أن يتبيَّنَ منه التَّوبة من ذلك المُكفِّر، فلو قال واحد: الصلاة غير واجبة، وهو يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"، وهو لا يُصلِّي؛ فهذا لا ينفعه حتى يتوب ويقول: إن الصلاة واجبة، ونحن نستسلم لله -جَلَّ وَعَلَا- في إقامتها؛ لأن الله أوجبها على عباده.
ويقع عند بعض الناس إشكال حتى في الزمن الحاضر، فبعض مَن اشتُهرَت أوصاف الكفر فيه، أو حكم عليه العلماء بالكفر؛ ثم سُمع يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"؛ فيُقال: إنه رجعَ أو أسلمَ وآمن!
فنقول: لا يكون ذلك كافيًا حتى يتوب ممَّا كُفِّرَ به، فإذا كان قد كُفِّرَ بأمرٍ فلابدَّ أن يكون قد رجع عنه؛ ولأنه لم يكن غير مُسلم ثم تشهَّد فحُكِمَ بإسلامه بمجرَّد الشهادة، فإن الشهادة يُحكم لمن ينطقها بالإسلام إذا كان كافرًا في الأصل، أو مَن وقعَ في المكفرات مع علمنا بالتوبة، أمَّا إذا كان المُكفِّر بسبب أمر من الأمور فلابدَّ أن يرجع عن ذلك المكفر حتى يُحكَم بعوده وإسلامه، ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَحَدَهُ)، أو بما كان سببًا لحكم الكفر به.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ وَلَحِقَا بِدَارِ اْلحَرْبِ فَسُبِيَا، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمَا، وَلاَ اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُلِدَ قَبْلَ رِدَّتِهِمَا، وَيَجُوْزُ اسْتِرْقَاقُ سَائِرِ أَوْلاَدِهِمَ)}.
إذا ارتدَّ الزَّوجان -نسأل الله السلامة والعافية- ولحقا بدار الحرب فسُبيا لم يجُزْ استرقاقهما؛ لأن حكمهم ليس كحكم الكفار الأصليين، وإنما حكم المرتد أن يُقتل، فبناء على ذلك لا يُسترقُّون.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ اسْتِرْقَاقُ مَنْ وُلِدَ قَبْلَ رِدَّتِهِمَ)، فمن وُلد لهما قبل الردة فهم على الإسلام؛ لأنه وُلد من أبوين مسلمين، فيُحكم بإسلامه، فهو على الإسلام، فإذا بلغ وقال: أنا مثل أبواي؛ حُكِمَ له بالرِّدة بعد البلوغ، وإلا فإنَّ الأصل أنه وُلد على الفطرة والهُدى والإسلام، حتى ولو ارتدَّ آباؤه فهو لا يلحق بهذا الوصف العام، وإنما يُعتبر أصل ولادته، فإذا بلغ فهو على الإسلام، ولكن لو جرت منهما ردَّة بعد البلوغ فهذا شيءٌ آخر كسائر المرتدين.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَجُوْزُ اسْتِرْقَاقُ سَائِرِ أَوْلاَدِهِمَ)، لو وُلدَ للزَّوجين المرتدين أولاد بعد ردَّتهما؛ فإن استرقاق الأولاد صحيح حال الحرب مع المسلمين؛ لأنَّ من شرط الاسترقاق أن يكون من أبوين كافرين، فيصدق عليهما الحكم، فيحلق بهم هذا الوصف.
هذه بعض الآثار المترتبة على الرِّدَّة ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو لم يستجمعها، فإذا حُكم بالرَّدة تنفصل الزوجة عن زوجها، ولا توارث بينه وبين ولده، ولا يرث والدًا له ولا والدة لكونه قد فارق الدين.
قال النَّاظم:
وَيَمْنَعُ الشَّخْصَ مِنَ الْمِيراثِ ** وَاحِدةٌ مِنْ عِلَلٍ ثَلاثِ
رِقٌّ، وَقتْلٌ، واخْتِلافُ دِينِ ** فَافْهَمْ؛ فَلَيْسَ الشَّكُّ كَاليَقِينِ
فهؤلاء قد اختلف دينهم فلا توارث بينهم.
وعلى كل حال؛ أشار المؤلف إلى بعض ما يترتب على ذلك ولم يستجمع جميع ما يترتب على هذا من الأحكام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتاَبُ اْلجِهَادِ)}.
ما زلنا في مسائل مُهمَّة منذ دروس متتابعة، ومن الأهمية بمكانٍ، وهي مثارٌ للشبهات، ومدخل إلى كثير من التساؤلات لدى الطلاب والطالبات؛ فكان من المهم التنبَّه لما يعرض لنا من هذه المسائل.
كتاب الجهاد يذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في أحد موضعين:
- بعض الفقهاء كابن قدامة ذكره في كتابه "المقنع" بعد الحج؛ لأنهم يعتبرونه من العبادات.
- وبعض أهل العلم كالمؤلف هنا وكما هو طريقة بعض فقهاء الشافعية وغيرهم يذكرونه في آخر كتب الفقه، في نحوٍ من هذا الموضع، كأكثر الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وهذا يُسمَّى نظرٌ فنِّي أو تقسيمات اصطلاحيَّة يتفاوت فيها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- ولا غضاضة في الاصطلاح.
كتاب الجهاد فيه شيءٌ من الاختصار عند أهل العلم، وذلك لأنَّ مردَّ الجهاد إلى الإمام، فهي من أحكام السلطان، ولأجل ذلك ربما يتوسَّعونَ في بعض المسائل في كتب الأحكام السلطانية ونحوها، وبعض مسائل الجهاد وإن لم يُعرَض لها بشيءٍ من التفصيل؛ إلا أنَّ مردَّها أصلٌ يتعلَّق بالإمام، فيندرج فيه الجهاد وسواه، وليس بالضرورة أن يُنص على هذا، فيأتي بعض الناس إلى كتاب الجهاد ويظن أنه ما ذكر فيه هذه المسائل، لا؛ هي ذُكرت ولكن مورد ذكرها وطريقة الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في إيرادها قد لا يتفطَّن الطالب لوجه ذلك ولبيانه.
وبين يدي الكلام عن الجهاد عندنا مسألتان:
الأولى: أن يُعلَم أن الجهاد إنما شُرع لإعلاء كلمة الله؛ لأن كثير من الطلبة ما يفهم هذا، فإذا لم يتأتَّى مع الجهاد إعلاء كلمة الله فلا يُشرَع، كضعف بالمسلمين ويعلمون أنهم إذا قاتلوا فإنه سيُقتَلون وسيُحاصرون ويُغلبون، فهنا لا يُشرَع الجهاد؛ بل يأتي في بعض الأحوال أنه لا يجوز للإمام أن يُقاتل، ولأجل ذلك نزل قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُو﴾ [الحج: 39]، فلم يأتِ الإذن بالقتال إلَّا بعد فترةٍ، مع ما هم فيه من الظُّلم والضَّعف والمهانة وتسلُّط الكفار ونحوه، فليس كل أحوال الضعف والمهانة تستدعي أن نصيرَ إلى القتال، ولذلك يقول بعضهم: لماذا لا نقاتل؟
فنقول: نعم، لا يُشرع القتال، إذا لم يعلم الإمام أنه قادرٌ على دفع عدوه والقدرة عليه أو يغلب على ظنه بذلك؛ فإنه لا يشرع في مثل هذه الحالة القتال، ولا يكون في ذلك الجهاد الشرعي الصحيح؛ لأنه ليس المقصود في هذا إفناء أرواح المسلمين ولا قتلهم، وحتى مع قيام الجهاد لا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه، وسيأتينا شيءٌ من هذه المسائل المتعلقة بهذا.
إذن؛ هذا أهم الأمور التي تقوم عليها مسألة الجهاد، بعض الناس يظن أنَّ الجهاد قتالٌ وينتهي عند هذا! لا، ليس المقصود أن يُفني الإمام جنده وأن يُفني أهل الإسلام، ولأجل ذلك مرَّت سنوات كثيرة حال بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وتأييد الله له وظلم الكفار له، ومع ما هم فيه من المشقَّة والعنت ولم يُؤذن بالجهاد.
قال أهل العلم: إنَّ أحوال الإسلام لا تخلو إمَّا أن تكون في ضعف أو قوَّة.
فأحوال القوة: وهي أحوال المدينة وما شابهها شُرع فيها القتال.
وأحوال الضعف والتي قد يكون كثير من أحوال المسلمين في مثل هذا الزمان كتلك الأحوال التي كانت في أول الإسلام؛ لا يجب عليهم بعض الشرائع مثل مسألة الجهاد.
إذن؛ هذه مسألة مهمَّةٌ يجب أن تُراعى.
الثانية: الجهاد الشرعي هو جهادٌ جاءت به النُّصوص، ودلَّت عليه الدلائل، وفيه من الفضائل، وله من القيود والشروط، وذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في كتبهم كذكرهم له في هذا الكتاب، وفي غيره من كتب الفقهاء، هو الكتاب الصحيح الذي تترتَّب عليه الآثار، وليس كل من قال: "أنا في جهاد، أو عمل جهاد" أو رفع السلاح مع إرخائه للحيته ورفعه لإزاره وتنادي مُناداة مَن حوله أنَّ ذلك جهادٌ صحيح؛ بل لربما كان فعله أشنع ما يكون بلاءً، وأعظم ما يكون خطرًا، وأفسدَ ما يكون له في الدنيا والآخرة من نقض العهد، وحصول البلاء، والوقوع في الشر.
ولذلك يصح أن نقول في هذا الزمان: إن هذا الباب من أكثر الأبواب التي جرى عليها التَّشويه، وحصل فيها من التلبيس والإضلال ما الله -جَلَّ وَعَلَا- به عليم.
وما كان لكل مَن عُرف بخيرٍ أو ظهرَ منه صلاح، أو قال: "لا إله إلا الله ومحمد رسول الله" أو قال: "الله أكبر" أو تغنَّى ببعض الوقائع، أو تكثَّر ببعض الشعارات الإسلام؛ أن نقول: إنَّ فعله صحيح وإن جهاده مشروعٌ، بل كثير من هذه الصور -أو أكثرها- داخلٌ في أنه من الظلم والعدوان، وحتى لم يرقى ليكون من قتال البغاة ونحوهم؛ لأنه لا تأويل لهم، ولا وجه لفعلهم، وهم في ذلك معرِّضون الإسلام وأهله إلى البلاء والشر والفتنة.
فهذا من الأمور التي ينبغي أن نعلمها، ومن الأمور اللازمة الواجبة أن نتبيَّنها، فكتاب الجهاد الذي ذكره الفقهاء مَن لم يأتِ عليه بشروطه وقيوده وأوجه النَّظر فيه فإنه لا وجه للحكم بأن ذلك جهادٌ صحيحٌ.
فهذه مسائل مُعيَّنة، وكم خلط الناس في مثل هذه المسائل، وكم وقعوا فيها من اللبس، وكم دعتهم الأهواء إلى أن تُقلَب الأحوال، وتُغيَّر الصُّور، ويُوقع في الشر الكبير، والبلاء العريض.
فإذا أردنا أن نتعلم فإننا نتعلم على ما ذكر الفقهاء، وقيَّده العلماء، واستنبطوه من الدلائل، ونظروا فيه من النصوص، ولا نتجاوز ذلك.
ثم إنَّ دراستنا لكتاب الجهاد يُقال فيه ما قيل قبل قليل في حكم المرتد؛ أنَّ دراسة هذه المسائل من جهة التَّأصيل والنَّظر لا إشكال فيه، وهو مذكورٌ عند الفقهاء، ومذكورٌ عند أهل العلم، وهو مبيَّنٌ مبسَّط، لكن من جهة الحكم على وقائع الناس أو بعض الأحداث أنَّ هذا جهادٌ أو ليس بجهاد؛ فليس لآحاد الناس أن ينطق فيه، ولا أن يحكم عليه، فإن فيه من الإشكال واللبس ما هو كثير، وأكثر ما وقع في هذا إنَّما أحسنُ أحواله أن يكون فتنة أو خروج وظلم وعدوان واستباحةٌ للدماء، لو وُجد بعض الصور أن يُقال فيها إنها فتنة، وأما لجهاد فإنه مع الإمام، وإنما هو بالشروط المعتبرة، وباستكمال ما ذكره أهل العلم على ما استنبطوه من دلائل النصوص، وقرره الفقهاء في كتبهم.
هذه مسألة خطيرة، مسألة عظيمة، ولذلك جاءنا بعض الناس يقررون حُكمًا ولم يفعله واحدٌ منهم! ويزعمون في ذلك أنهم دعوا إلى حق أو قالوا به أو تنادوا إليه!
وستأتي الإشارة إلى شيءٍ من هذه المسائل، ولا يعني أن يلحق بأهل الإسلام من الضعف أو يكون من أهل الكفر من الاعتداء، أو يجري من البلاء؛ أن يُغيَّر الجهاد عن حكمه، أو أن يُعمَل به على غير وجهه، مادام أننا لم نستطع إقامة الجهاد على الحكم الصحيح فما لنا إلَّا الصبر، وإن هذا منوطٌ بالإمام -كما سيأتي في المجلس القادم بإذن الله- فليس لآحاد الناس أن يتولَّوه، وليس لأفراد الناس أن يقوموا به، الجهاد إنما هو مع الإمام، وهذه مسألة أهم ما تكون وأجوب ما يلزم النظر فيها والانطلاق منها، ولا يجوز تجاوزها وعدم النَّظر فيها، فلعلنا -بإذن الله جَلَّ وَعَلَا- أن نجعلها مبتدأ الدرس القادم.
وكما قلت لكم أيها الطلاب: نحن نقرأ في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- آيات الجهاد، ونعلم ما جاء من الأحاديث المشهورة، والفضائل المحفوظة، بل ربما ألَّفَ بعض أهل العلم في الجهاد وفضله كتابًا كاملًا، ونحن نرى ذكر الفقهاء لذلك، وتخصيصهم له كتابًا مستقلًّا ككتاب الصلاة والزكاة؛ لكن ينبغي أن يُعلم أن هذا يُؤخذ على وجهه، ويُنظر فيه بميزان الشرع.
وأعجب شيء في هذا أنَّ أناسًا كثير من أهل الأهواء يسألون أهل العلم عن الصلاة، عن الزكاة، عن الحج، عن الصيام، عن البيوع، عن أحكام النكاح والطلاق؛ حتى إذا جاءت مسائل الجهاد اندسُّوا ليأخذوها من هذا أو ذاك، أو جعلوا لها طريقًا ومسلكًا مظلمًا، وتلمَّسوا فيه شُبهًا وأهواءً وأخذوه من هذا وذاك، وهرعوا إلى ما أخذوه!
عجبًا! الصلاة أعظم من الجهاد، فإذا قبلت قول من يتكلم في الصلاة فاقبل كلامه في الجهاد، والذي أخذت منه تلك الأحكام هو الذي أُخذ الجهاد منه، وهو كتاب الله وسنَّة رسوله، وتقرير علماء الإسلام، فما يكون لك أن تفرق، ومَن فرَّق فإنَّما هو بمحض الهوى وطريق أهل الضلال.
ورأينا في الحقبة الماضية لَمَّا قامت هذه الجماعات المنحرفة أكثر ما اعتمدوا عليه أنهم فصلوا كتاب الجهاد عن سائر كتب أحكام الفقهاء؛ فأخذوا هذا من منظِّريهم أو مفتي الجهاد أو مفتي الفرقة؛ فلأجل ذلك عظُمَ الضلال، وكثر البغي والفساد.
الذي تأتمنه على صلاتك هو الذي تأتمنه على جهادك، والذي تأتمنه على عبادتك وتأتمنه على بيعك ه الذي تأتمنه على سائر الأحكام.
وهنا مسألة مُهمَّة، وهي أنَّ هذه مسألة من المسائل العظام فلا يتصدَّى لها الصغار، ولعلنا -بإذن الله- نجعلها مطلع الدرس القادم، والله نسأل لنا ولكم التوفيق والسداد، وأن يهدينا للحق، وأن يبصرنا به، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يحفظنا من الغي والظلم والعدوان، وأن يمنعنا من الشر والشُّبه وطريق أهل الهوى، وأن يحفظنا على طريقة أهل العلم الراسخين، مستمسكين بالحق، متداعينَ إليه، مُستنِّينَ بسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- متمسِّكينَ بها، عليها نحيا، وعليها نموت، وبها نلقى الله -جَلَّ وَعَلَا- رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك