الدرس العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس العشرون

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله، وحيا الله طلابنا وطالباتنا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتاب القضاء: (وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُوْنَ رَجُلًا، حُرًّا، مسْلِمًا، سَمِيْعًا، بَصِيْرًا، مُتكَلِّمًا، عَدْلًا، عَالِمً)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يعصمنا وإيَّاكم من الجهالات، وأن يوفقنا للخير والهدى والبر والطاعات، وأن يغفر لنا ولوالدينا، ولأزواجنا وذرياتنا، وجميع المسلمين والمسلمات.
أيها الإخوة؛ لا يزال الحديث مُستمرًّا في مستهل الكلام على كتاب القضاء، وقد ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شروط مَن يكون أهلًا للقضاء والدخول فيه، فيقول: (وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُوْنَ رَجُلً)، وأصل ذلك أن هذه ولاية، والولايات إنما مردها إلى الرجال؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ ولَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأَةً» ، وهذا في الولاية العظمى وما يتفرع عنها من الولايات، ولما كانت ولاية القضاء من الولايات التي يليها في الأصل الإمام الأعظم والحاكم، كان ذلك أيضًا مُستحقًّا في أن لا يليها إلا الرجال، وهذا هو مشهور مذهب الحنابلة، وهو قول جماهير الفقهاء.
قوله: (حُرًّ)، وذلك لأن غير الحر مملوك منافعه ووقته، ومستخدَمٌ لسيده، فلا يكون قائمًا بهذه الولاية، وكما أنه لا يُمكن أن يكون العبد إمامًا أعظمًا، فكذلك ما تفرع على الإمامة العظمى.
قال: (مسْلِمً)؛ لأنَّ مرده إلى الحكم بالشرع وبالكتاب والسنة، فلا يُتصوَّر أن تكون من غير المسلمين.
قال: (سَمِيْعً)؛ وذلك لأن فيها أخذ ورد وإلقاء الحجج وسماعها واستيعابها، والحكم بها، ولا يتأتى ذلك إلا أن يكون القاضي يسمع ذلك ويعيه.
قال: (بَصِيْرً)؛ لأن متعلَّق لك في الجملة هو معرفة المدَّعي من المدَّعَى عليه، والتمييز بين الشهود ومعرفة أحوالهم ونحو ذلك، وإن كانت هذه المسألة مما ذكر فيها بعض الفقهاء كلامًا؛ فقالوا: إن الأعمى يُمكن توليه للقضاء، وأنَّ ما يفوته من التمييز ببصره يُمكن أن يكون ذلك بسمعه، خاصَّة وأن الأكفاء تميَّزون بدقَّة في سمعهم، وتمييزًا بين مَن يفد إليهم، ولأجل ذلك كان في القول الثاني عند الحنابلة كما هو قولٌ لبعضِ الفقهاء، أن الأعمى يُمكن أن يكون قاضيًا.
قال: (مُتكَلِّمً)؛ لأن أهم مراحل القضاء هو الفصل وذكر الحكم والنطق به؛ فلابد أن يكون ذلك من متكلِّم.
قال: (عَدْلً)؛ والعدالة هنا من أهم ما يكون في القضاء؛ لأنه لابدَّ أن يكون ممَّن يوثق بقوله من أهل الديانة، وهو إتيان الصلوات، والبعد عن المحرمات والموبقات، ومن أهل المروءات، وسيأتي مزيد تفصيلٍ في مثل هذه المسائل، وأما أهل الفسق والفجور ومَن لا يُوثَق بهم، ومَن لا تُؤمَن غائلتهم؛ فإنَّه يُمكن أن يميل وأن يحيد، وأن يطلب ما يكون في مصلحته، وأن لا ينظر إلى الحق الذي وُكل إليه، فربما كان ذلك سببًا لحيفه وعدم عدله، وعلى مر العصور لم يلي هذه الولاية إلا أهل العلم والفقه والفتوى، والخير والهدى والتقوى؛ فلم يكن لغير أهل العدالة محلًّا فيها.
قال: (عَالِمً)؛ لأنَّ مَرَدَّ القضاء إلى العلم؛ ولذلك لَمَّا أرسل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- معاذًا قال: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لكَ قَضاءٌ؟». قال: "أَقضي بكِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ". قال: «فإنْ لمْ تَجِدْ في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟». قال: "بسنة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ". قال: «فإنْ لمْ تَجِدْ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ ولا في كِتابِ اللهِ؟». قال: "أَجتهِدُ رأْيي ولا آلُو" . يعني: ولا أُقصِّر.
إذن؛ لابد أن يكون المجتهد في هذا ممن يعي دلائل النصوص من الكتاب والسنة، بحيث تكون لديه الآليَّة في الاجتهاد والنظر والاعتبار من القياسِ، والنَّظرِ في العلل وما يُقارب ذلك، وهذا محل إجماع بين أهل العلم، أنه لابدَّ أن يكونَ عالِمًا، وأن يكون من أهل الاجتهاد، وأنه لا محل فيها لأهل التقليد، لكن من المعلوم في الحقيقة أن هذه المسألة تكاد تكون قد أُغلِقَ بابها، وذلك أنه قد تعطَّل أن يوجد مَن هو مجتهدٌ اجتهادًا مطلقًا، ولو وُجد واحد أو اثنين لم يكن ليوجد ذلك بمَن يقومون بواجب القضاء على وجه الكفاية لاختلاف بلدان الناس وأماكنهم، والحاجة إلى ان يوجدوا حيث وُجدت البلدان والمدن والقُرى، وأقيمَت المحاكم ودُور القضاء.
ولأجل ذلك قال أهل العلم: إنه يستشير أهل العلم ويستفيد منهم، ويُراجعهم، وهذا إذا كان مجتهدًا؛ فكيف إذا كان ممَّن هو دون هذه المرتبة!
ولأجل ذلك نصَّ كثير من أهل العلم في قُرونٍ ماضيةٍ إلى أنه بدٌّ من أن يلي القضاء من كان مجتهدًا في مذهبٍ، وأيَا لم يزالوا يقولوا إن الحكم بمذهبٍ واحدٍ سائغٌ للحاجة إلى ذلك، وإن كان الأصل أن القاضي إنما يحكمُ بالنَّظر المطلق، ولابد أن يكون في ذلك مستجمعًا لشروط الاجتهاد التي ذكرها أهل الأصول وأهل العلم، ولكن إذا كان على مذهبٍ ما فإنَّ ذلك جائزٌ على سبيل الحاجة إليه.
ولَمَّا كان الأمر كذلك؛ فإنَّ ما يُسمَّى في هذا الآن بتقنين أحكام القضاء، أو جعلها كالقوانين، أو كالمسائل المرتَّبة ونحوها؛ ففيه تفصيل:
أولًا: عبارات التَّقنين قد تكون مأخوذة من طرائق القوانين الوضعيَّة ونحوها، فلو نُئِيَ بهذا التَّعبير إلى التعبير بـ "المنظومات الفقيَّهة"، فإن ذلك يكون أنسب وأحسن، ولا مانع عند الحاجة إلى ذلك من العمل بها، وهي أحسنُ من أن يتخبَّطُ غير المجتهد بنظرٍ ليس بحصيفٍ، وبفقهٍ ليس بمكتمل، بما قد يكون فيه من اللغط والغلط والخطأ ما يفوت معه من الحق، فأن يستبصر بقول القضاة والفقهاء الذين نظموا هذه الأصول الفقهيَّة ورجع إليها واعتبرها، وغاية ما يكون في أمره أنه هذَّبها بما يتَّسق مع تلكم الحال، ونظر فيها بما ينطبق على تلكم المسائل؛ فإن هذا يكون سائغًا، وهو الذي لا يسع الناس في هذا الوقت إلا هو، وهو أحسن من التخبُّط في أقوال وفي طرائق لا حدَّ لها، وقد رأينا في أزمنةٍ متأخرة من الغلط في بعض المسائل الظاهرة والبيِّنة لمَّا لمْ يكن للقضاة منهجًا واضحًا بيِّنًا أو أصلًا يستمدُّ منه ويرجع إليه ويصدر عنه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَجُوْزُ لَهُ أَنْ يَقْبَل رِشْوَةً وَلاَ هَدِيَّةً مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدِيْ إِلَيْهِ)}.
أمَّا عدم قبول الرشوة فهذا أمرٌ ظاهر، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» .
والرشوة: مأخوذةٌ من الرشا، وهو الحبل الذي يُربَط في الدلو فيصل به إلى الماء، فكأنه يتوصَّل بها إلى غير الحق، ويوصل بها إلى الأمر الباطل، فما يكون من دفع إلى القضاة ونحوهم ممَّن يلون بعض الأمور في الفصل بين الخصومات فهو داخلٌ في هذه الرشوة، وهو من الكبائر التي جاءت بها النصوص، فدلَّ الحديث على لعنها، ولعن متعاطيها، وهو من أعظم ما يكون، مع ما في ذلك من هضم صاحب الحق، وإعطاء من لا حقَّ له، إلى غير ذلك مما يزيد من جُرم هذا العمل وأثر ذلك الأمر؛ ناهيك بما يُؤثِّر فيه في المجتمعات من فسادها وعدم انتظامها، وأن تكون الأمور إلى غير أهلها، وأن تصل الأموال إلى غير مستحقيها، فيدبُّ الخور والضعف والاتِّكال وعدم العمل إلى الناس.
أمَّا إذا علم الناس أن العدل قائمٌ، وأن الحقَّ متَّصلٌ، وأنه لا يُنتقَلُ من صاحب الحق إلى غيره، وأنه يُحزَم في ذلك ويُضبَط؛ فإنَّ ذلك يُعين الناس على أن يعملوا وأن يتعاملوا، وأن يعقدوا ويتبايعوا، ويعلموا أنه لا يضيع لهم حق، ولا يفوت عليهم أمر.
قال: (وَلاَ هَدِيَّةً مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدِيْ إِلَيْهِ)؛ لأن الهدية إذا لم تكن ممن جرى بينه الإهداء لقرابة أو لصحبة ونحوها؛ فإن هذه في الغالب إنما يُهدَى ليجعلها كالمقدِّمة بين يدي القاضي، سواء كانت له قضيَّة فهذا الأمر فيه ظاهر، أو كان يُهدي للقاضي وهو ليس من عادته الإهداء لعلَّه أن يحتاج إليه فيما يستقبل من الأيام، فيكون ذلك سببًا لميل قلبه وانحراف نفسه، لأن العواطف والمشاعر لا يتحكَّم فيها الإنسان بنفسه، فبدٌّ من الميل، واعتبار ما يكون في سالف الأيام، فإذا كان قد أهدى إليه فربما استجرَّه ذلك إلى هذا الأمر، حتى ولو لم يكن منه ميلٌ فلا أقل من أن يُتَّهم بذلك، فيُقال: إنما حكمَ لفلانٍ لأجل أنه أعطاه، ولأجل أنه أهداه، ولأجل أنه كذا؛ فلما كان الأمر كذلك فإن هذا الباب يُغلق.
ثم قال المؤلف: (مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدِيْ إِلَيْهِ)، أما إذا كان له صلة سابقة فلا إشكال، فلابدَّ أن يُعلم أن القاضي واحد من الناس له ارتباطاته وصلاته من قرابة وصداقة ومجورة وغيرها، فيُهدِي ويُهدَى إليه، ويُعطِي ويُعطَى، ونحو ذلك؛ فلا بأس بذلك إذا كان ذلك سابقٌ لولايته للقضاء، ولكن بشرط أن لا تكون هدية المُهدي حال وجود قضيَّة له، أو بين يدي القضية التي له، فأما إذا كان الأمر كذلك فحتى ولو كان بينهما صلة سابقة فإنه ما دام توجد قضية فإنه يُمنع، لئلا يُتَّهم بذلك، ولئلَّا يُحمَل على الجور والظَّلم والميل إلى أحد الخصمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ اْلحُكْمُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ اْلحَقِّ)}.
ليس كل المسائل تتبيَّن للقاضي وتتضح، فربما اتَّضح له ذلك الأمر فقضى به، فنعمَّا ما فعلَ، وإمَّا أن يستأنيَ في المسألة وأن يُراجع حتى ينظرَ فيها فيُفتَح له ما لم يكن قد فُتِحَ له، ويُيسِّر له ما تعسَّر، فيحكم بحسب ما استبان له من الحق وظهر، ولابدَّ للقاضي أن يعلم أنه لا يتَّكل على قوَّة ذهنه، ولا قدرة علمه، ولا حصافة ذهنه، ولا شهادة غيره له؛ حتَّى يُدين التَّوكل على الله، وطلب المعونة من الله، والثقة بالله، والاعتماد عليه؛ فيُكثر من الاستغفار، ويطلب من الله الإعانة، ويسأل الله التوفيق فيما وُكل إليه من المهمَّة، وهذا دأب أهل الفضل وأهل الديانة، وذكر عن ابن تيمية وعن غيره أنه كان إذا انغلقت عليه المسألة؛ استغفر الله، وألظَّ إليه بالسُّجودِ، وعفَّر جبينه بالتراب حتى تُفتح له المسألة، وكل مَن كانه له سمَةٌ في ذلك وطريقة وسجيَّة؛ فإنه يُيسَّر له من العلم، وحسن القضاء، وإصابة الحق والتوفيق له ما هو معلومٌ بيِّنٌ.
أمَّا أن الإنسان لمجرد أن يُنهي القضيَّة أو يُنهيها على غير وجه؛ فإنَّ ذلك مما ينبغي أن يُعلم أنه سبب للوقع في الخطأ، وأنه ربما يُلحق به التبعة، لأنه لم يستأنف الحق، ولم يطلب فيها الهدى.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، شَاوَرَ فِيْهِ أَهْلَ اْلعِلْمِ وَاْلأَمَانَةِ)، وكم من المسائل التي تكون الصعوبة محتفَّةٌ بها من كل مكانٍ، وربما دلَّه عليها غيره، وربما أرشده مَن هو أقل منه، وربما رؤي فيها باب لم ينقدح في ذهن النَّاظر فيها، حتى يفتح له غيره هذا الباب، ويعينه على إصابة الصواب، فلما كان الأمر كذلك فإن هذه سمةٌ سابقة، وطريقةٌ ماضية، وسنة ثابتة في كتاب الله وفي سنَّته وطريقة الخلفاء، قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38]، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- شاور أصحابه، وشاور أبو بكر الصحابة، وشاور عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من حضره في مسائل كثيرة، فلم تكن الشورى إلا طريقًا إلى الخير والهدى، وزيادةً في تكميل المسائل والعلم بها، ومنعًا من الوقوع في الخطأ والتَّلطُّخ بالباطل والردى، فكان ذلك سِمَةً ظاهرة، فينبغي أن تكون حاضرةً في قلب القاضي ونفسه وعمله، وإلا يوشك أن يصيب الخطأ وأن يقع في الجهل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَحْكُمُ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَلاَ فِيْ حَالٍ يَمْنَعُ اسْتِيْفَاءَ الرَّأْي)}.
الغضب: هو ثوران في النفس وتغيُّرٌ فيها يمنعه من استواء النظر، وحسن التصور، وهو مدعاة لأن يحصل منه ميل هنا أو هناك، ولذلك جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه قال: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ» ، قال أهل العلم: وهذا أصلٌ عظيمٌ في أن كل ما شوَّشَ على القاضي من غضبٍ ومن سواه، كأن يكون به جوعٌ شديد، أو أن يكون به انشغال ذهنٍ كثير، فإنه لا يقضي في تلك الأحوال.
ثم ذكر أهل العلم أن محل ذلك إذا كان هذا زائدًا عن القدر المعتاد، أمَّا انشغال الذهن أو حصول تغيُّر المزاج شيئًا يسيرًا، أو الغضب القليل لا ينفك منه إنسان، ولو قلنا بذلك لم ينظر في قضيَّةٍ ولم يحكم في أمرٍ، وأنَّى للإنسان أن يستوي مزاجه من كل وجه!
والمقصود: هو القدر الزائد على الحال المعتادة التي تمنعه عن كمال النظر وحسن الإصابة، فهذا هو الذي ذكره الفقهاء، وهو الذي يُعوِّل عليه أهل العلم في هذه المسألة، وهي لا تختص بالغضب -وإن كان هذا هو منصوص الحديث- لكنه كل ما يمنع من إصابة الحق والوصول إليه من غضبٍ وما ماثله مما يشتغل به القاضي.
قوله: (وَلاَ فِيْ حَالٍ يَمْنَعُ اسْتِيْفَاءَ الرَّأْي)، مثلما قلنا من الأحوال التي تُلحق بحال الغضبان، كذلك لو كان في بردٍ شديد؛ فهذا يمنعه من حسن النَّظر، أو في حرٍّ شديدٍ، أو نحو ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَتَّخِذُ فِيْ مَجْلِسِ اْلحُكْمِ بَوَّابً)}.
الأصل أن باب القاضي مفتوح، حتى يدخل إليه الصغير والمرأة والعبد والوضيع والرفيع، أما إذا كان مغلقًا فقد يُمنَع مَن له حق، وقد يستحي مَن يريد رفع دعوى ونحوها، فينبغي أن يكون الباب مفتوحًا لعموم الناس، وأنَّ إغلاقه هو حال مختصَّة ينبغي أن تكون محدودةً بحسبها، وإلَّا فالأصل هو سوى ذلك وخلافه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَجِبُ عَلَيْهِ اْلعَدْلُ بَيْنَ اْلخَصْمَيْنِ فِيْ الدُّخُوْلِ عَلَيْهِ، وَالْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ)}.
هذا هو أصل القضاء، وهو أن يكون الخصم مهما علت مرتبته ومهما قرُبَ أو بعُدَ؛ أن يكون الخصمان على حال واحدة، وأن لا يُقدَّم أحدهما على الآخر بأي شيءٍ من الأشياء، ولذلك قالوا: "في لحظه ولفظه ونظره"، يعني: لا ينظر إلى هذا أكثر، ويصدَّ عن هذا، إذا تكلم هذا نظر إليه، وإذا تكلَّم الثاني لم ينظر إليه، حتى ولو كانت هذه أشياء يسيرة ولكنها مؤذنةٌ بعدم عدله وعدم إنصافه.
فينبغي للقاضي أن يعدل بينهما في كل شيء، فإذا كان يقول: يا محمد ماذا تقول؟ فلا يأتي للآخر ويقول: وأنت ماذا تقول؟ فلابد أن يقول: وأنت يا عبد العزيز ماذا عندك؟ أو يقول: أنت المدَّعي ماذا تقول؟ وأنت المدَّعى عليه ماذا تقول؟ يعني بحالٍ متساوية.
ولا يُجلس واحد دون الآخر، ولابد أن يكون بحال واحدة، فيقول: اجلسا، أو تفضَّلا..، أما لو قال: تعال أنت هنا، وما قال للآخر...؛ فلابد أن يعدل بينهما.
وذكر الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعض المسائل المستثناة، ولكن ليس مما يحسنُ الكلام فيها.
ومما سمعتُ في هذا: أن بعض القضاة جاءه مَن جاءه من غير المسلمين فدعاه إلى الإسلام فأسلم؛ فاعترض عليه كثير من القضاة وقالوا: إن هذا ليس محلًّا للدعوة إلى الإسلام، فربما يظنُّ أنه لا يصل إليه حقه إلَّا بأن يُسلم، فقد يُسلم خوفًا أو نحو ذلك، وإنما تكون دعوته بعد انتهاء الحكم وصدوره، وثبوت الأمر ولزومه، لئلا يُظنَّ أن ذلك مدعاة إلى أن يُحكَم له أو عليه، أو أن ذلك مؤذنٌ بأنه إذا أسلم حُكِمَ له أو قُضيَ على خصمه، وهكذا..، فهذه المسائل مما يلحظها الفقهاء.
قالوا: العدل يكون "في الدخول، في المجلس، في الخطاب"، وهذا في كل ما يتعلق بالقضاء في جميع أحوالها، فلو عقد للخصمين موعدًا، فقال أحدهما: هذا لا يناسبني. فقال له: متى يناسبك؟ وأما لو قال الآخر: لا يناسبني؛ فيقول له: ماذا تريدني أن أعمل بك!
فهذا تفريق، فهو إمَّا أن ينظر إلى رغبتيهما في الموعد، وإما لا ينظر إلى أحدهما، المهم أنه يعدل بينهما في كل ذلك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ صِفَةِ اْلحُكْمِ)}.
لَمَّا قرر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المسائل المتعلقة بالقاضي في جهة ما يتعلق به في هذه الوظيفة ومَن يليها، وحكم ولايتها، وطريقةُ دخول الخصم عليه، وما يتعلق بذلك؛ بدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في مسائل صفة الحكم، منذ ابتداء الدعوى إلى انتهائها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِذاَ جَلَسَ إِلَيْهِ اْلخَصْمَانِ، فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلى اْلآخَرِ، لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوى إِلاَّ مُحَرَّرَةً تَحْرِيْرًا يَعْلَمُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا، ذَكَرَ قَدْرَهُ وَجِنْسَهُ، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا، ذَكَرَ مَوْضِعَهُ وَحُدُوْدَهُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَاضِرَةً عَيَّنَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً، ذَكَرَ جِنْسَهَا وَقِيْمَتَهَ)}.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إِذاَ جَلَسَ إِلَيْهِ اْلخَصْمَانِ، فَادَّعَى أَحَدُهُمَ)، يعني: إذا جلس الخصمان فليس للقاضي أن يبتدئ أحدهما بأن يقول: ماذا عندك؟ لأن المدَّعي له حقوق، والمُدَّعى عليه له حقوق، فتخصيص أحدهما بأن يكون مَّعيًا والآخر مدَّعى عليه تمييز، فلأجل ذلك يسكت حتى يتكلَّما، فإذا تكلَّم الأول فهو المدَّعي وهو المطالِب، والآخر هو المدَّعَى عليه.
وإذا لم يتكلَّما فإن القاضي يقول: أيُّكما المُدَّعي؟ فإذا تكلَّم أحدهما كان هو المدَّعي والآخر هو المدَّعَى عليه.
فإذا تكلَّما؛ سمع من الأول دعواه، ثم سمع من الآخر على أنها دعوى منفصلة أخرى غير الأولى؛ فيكون كل واحد منها إذا تكلَّما "مدَّعٍ" من جهةٍ، و"مدَّعًى عليه" من جهة أخرى باعتبار أن الآخر تكلم وطالبه بشيءٍ من ذلك.
فلأجل ذلك قال المؤلف: (فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلى اْلآخَرِ، لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوى إِلاَّ مُحَرَّرَةً تَحْرِيْرًا يَعْلَمُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ)، يعني لابدَّ أن تكون الدعوى محرَّرةً.
فلو قال: يا شيخ، أنا أطالب هذا بشيء! ما هذا الشيء؟ قليل أو كثير؟
أو قال: أطالب فلانًا بسيارة! فالسيارات مختلفة، منها الجديد ومنها القديم، منها الصالح ومنها الفاسد، ومنها ما هو غالٍ بأغلى الأثمان وأنفسها، ومنها ما هو دون ذلك.
إذن؛ لابدَّ أن تكون الدعوى محرَّرةً، فلأجل ذلك قال: (تَحْرِيْرًا يَعْلَمُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا ذَكَرَ قَدْرَهُ وَجِنْسَهُ)، فلو قال: أنا أطالبه بمال! فما هذا المال؟
أو قال: أطالبه بعشرة آلاف! فلابدَّ من تعيين قدره وجنسه، عشرة آلاف درهم، دينار، دولار، ريال، إلى غير ذلك.
إذن؛ لابدَّ من قدره وجنسه.
قال: (وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ذَكَرَ مَوْضِعَهُ وَحُدُوْدَهُ)، قد يكون بيتًا، أو أرضًا، أو شقة صغيرة؛ فلابد من ذكر كل ما يتعلق به.
ومن تراتيب المحاكم الحديث أن جُعلت هذه المسائل أكثر ترتيبًا، فيُذكَر إذا كان العقار مرقومًا برقم، ومصكوكة بصكٍّ فيُذكر رقم الصَّك، والمكان وما يُحيط بها ومساحتها، وغير ذلك؛ فكل هذا مما يعتبر حتى تتاميز الأشياء، وحتى يُعلم عين الدعوى.
أمَّا إذا كان يدَّعي ويقول: أطالبه بأرضٍ. فيقول الآخر: ما له أرض عندي؛ فإذا قال: الأرض التي كانت كذا وكذا...، قال: نعم.
إذن؛ كان يُمكن أن يُرفَض الحق، أمَّا إذا تعيَّن عُرف محل الدعوى، فإذا أنكر علم إنكاره فيم، وإذا أثبت عُلم محل الثبوت واللزوم.
قال: (وَإِنْ كَانَ عَيْنًا حَاضِرَةً عَيَّنَهَ)، إذا قال: أطالبه بالجوال الذي بيده، أو بهذه الجوهرة التي على خاتمه، أو غير ذلك من الأشياء الحاضرة؛ فيجب أن يُعيِّنها.
وهذا قد يُستغرَب! ولكن فيما مضى كان أمر القضاء أيسر، يَفِدَان إلى القاضي في موضعه، أو يفد عليهما القاضي في مجلسهما، والآن يُمكن أن يكون حضور العين ليس كثيرًا، ولكنه يُمكن أيضًا حصول ذلك.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً، ذَكَرَ جِنْسَهَا وَقِيْمَتَهَ)، لو قال: أنا أطالبه بعشرة جوالات من نوع كذا، سنة صنعها كذا، سعتها كذا...؛ فلها مؤشرات وميزات تعرف عند أهل الاختصاص.
إذا طالبه مثلًا بحديدٍ، وقال: هو من نوع كذا، وعياره كذا، ومصنوع في بلد كذا؛ فهذا يختلف باختلاف هذه الأشياء؛ كل ذلك لابدَّ أن يكون مذكورًا، حتى تتوجَّه الدعوى إلى شيءٍ مخصوصٍ معلومٍ.
فإذا ادَّعى أن له حديد دون صفة، فإذا بالمدَّعى عليه يُعطيه قلم! فسيرجعان كأن شيئًا لم يكن؛ أمَّا إذا حُرِّرَت الدعوى فإن هذا مما يتبيَّن ويستبين ويتَّضح، ولا يكون في ذلك إشكال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ يَقُوْلُ لِخَصْمِهِ: مَا تَقُوْلُ؟ فَإِنْ أَقَرَّ، حُكِمَ لِلْمُدَّعِيْ)}.
بعد أن ينتهي المدَّعي من دعواه يقول القاضي للمدَّعى عليه: ماذا تُجيب؟
ولأجل هذا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَا يَزِدُ القَاضِي عَنْ أَنْ يَقُول: حَرِّرْ دَعَواكَ)، ولا يُلقِّنَه؛ لأن التلقين هو نوع ميل إلى أحدهما، فلأجل ذلك كان تحرير الدعوى من أصعب ما يكون في الدَّعاوى.
(ثُمَّ يَقُوْلُ لِخَصْمِهِ: مَا تَقُوْلُ؟)، الذي هو المدَّعَى عليه، ولا يخلو من حالين:
الحال الأول: أن يُقر فيقول: "نعم" ما ذكره صحيحٌ، وهو يطالبني به، وهو ثابتٌ في ذمَّتي وأنا أعطيه إيَّاه، أو هو ثابتٌ في ذمَّتي وأنا لا أقدر على ردِّه في الآنِ.
فيقول المؤلف: (فَإِنْ أَقَرَّ، حُكِمَ لِلْمُدَّعِيْ)، يحكم القاضي على المدَّعى عليه، ويُثبت للمدَّعي في دعواه، وهذا أمرٌ ظاهرٌ وبين، إنَّما يتأتَّى ذلك للخُلَّص من الناس الذين لا يُريدون أكلَ الحقوق، ولا يتلاعبون، ولا يحتالون، ولا يمكرون، لكنهم اضطروا إلى ذلك لتأخُّر الحق، أو لعسرٍ، أو لغير ذلك من الأمور التي حالت بينه وبين الوفاء والسداد، وهذا قلَّةٌ قليلة، نسأل الله أن يجعلنا ممَّن وفَّى الحقوق وأدَّاها.
الحال الثانية هي التي يترتَّب عليها الإشكالات، وهي التي ذكرها المؤلف فيما يأتي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَنْكَرَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ)}.
يعني: إذا أنكر وقال: هذه الدَّعوى ليست بصحيحة، ولا أقر له بذلك، وليس له عندي أرض، لم أقترض منه قرضًا، لم أتعامل معه معاملةً؛ إلى غير ذلك، سواء كان المتعلَّق العقار أو السيارة أو الشراء أو غير ذلك، المهم أنه أنكر ما جرى في دعوى المدَّعي، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَنْكَرَ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ)، ثم ذكرها على سبيل التَّفقيطِ ليكونَ أسهل للطالب في التَّلقِّي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَحَدُهَا: أَنْ تَكُوْنَ فِيْ يَدِ أَحَدِهِمَا، فَيَقُوْلُ لِلْمُدَّعِيْ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، وَأَقَامَهَا، حَكَمَ لَهُ)}.
إذن؛ لا يخلو:
- إما أن تكون موجودة، في يد أحدهما
- أو مفقودة.
بدأ المؤلف بما إذا كانت في يد أحدهما، فيقول القاضي للمدَّعي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟
يعني: لو كانت المدَّعى به "ساعة" فقال المدَّعي: أنا أدَّعي عليه بالساعة التي في يده.
فيقول القاضي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ ولا يقول: أينَ بيِّنتك؟ أو: ائت بشهودك؛ بل يسأله عن البينة، لأنه لا يطلب منه البينة طلبًا ابتدائيًّا، لأن هذا ميلٌ إلى أحدهما؛ بل غاية ما يقول: إن كان لك بينة ائتنا بها، أو: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟
قال المؤلف: (فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، وَأَقَامَهَا، حَكَمَ لَهُ).
هل البينة هي خصوص الشاهدين؟ أو كل ما دل على الحق وبرهنَ عليه؟
بعض أهل العلم يقول: إنَّ البينة إنما تتأتَّى بالشهود، ولذلك قال: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ» ، يعني: بيِّنتُك أو يمينه؛ فعبَّر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- بالشاهدين للدلالة على البينة، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة وهو قول جمع من أهل العلم.
بعضهم يقول: إنَّ البينة أعم من الشاهدين، فتكون بالشاهدين، وتكون بكل ما أبانَ عن الحق وأظهره، فكل هذه الأمور تدل على ذلك، وفي هذا الوقت لا يسع الناس إلا العمل به، ولكن فيما مضى يجعلون ما سوى ذلك مما يُقرِّب أنَّها كالقرينة، لكن هل يُمكن الاعتماد عليها في الحكم والصدور عنها في الفصل؟ فهذا هو محل الكلام.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَيَقُوْلُ لِلْمُدَّعِيْ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، وَأَقَامَهَا، حَكَمَ لَهُ)، إن قال: نعم لي بينة، وجاء بها وثبتت واستكملت الإجراءات التَّامَّة؛ فإنه لا يسع القاضي إلَّا أن يحكم بذلك، فيقول: إن دعوى فلان بن فلان الذي حضر مشتملةٌ على كذا وكذا، وبسؤال المدَّعى عليه أنكر ذلك، وطُلب من المدَّعي إذا كانت له بينة أن يحضرها، وقد أحضر البينة، وهذ شهادة فلان بن فلان بن فلان، ثم يُبت هذا، ثم يقول: ولعدالة هذه البينة وتزكية المزكين لها، فقد حكمتُ بمضمونها، ألزمت المدَّعى عليه بكذا وكذا...، بحسب ما يكون من ضبطه لهذه المسألة وغيرها.
إذن؛ إذا أقام المُدَّعي البيِّنة حكمَ القاضي له بمضمون هذه البينة ما دام أنها ثبتت؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: (البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر»، وفي الحديث «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ»، فجعل ذلك هو مناط الحكم، فإذا ثبت الشاهدان أو البينة حكم بهما ولم يُحتَجْ إلى اليمين، فلا يُحتاجُ إلى اليمين إلَّا إذا تعذَّرت البينة، أو قُدِحَ فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، قَالَ لَهُ: فَلَكَ يَمِيْنُهُ، فَإِنْ طَلَبَهَا، اسْتَحْلَفَهُ وَبَرِئَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، لَكِنَّ اْليَمِيْنُ عَلى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»)}.
إذا لم تكن له بينه؛ قال القاضي: لك يمينه؛ وهذا من عدل القاضي، فإنه لا يرجع إلى المدَّعَى عليه ابتداءً فيقول له: احلف، وإنما إذا سأل المدَّعي وقال له: ألك بينة؟ فقال المدَّعي: لا، أو: لا أجدُ بينة في آني هذا. فيقول القاضي للمدَّعي: لك يمينه؟
فلابدَّ أن يطلبها المدَّعي من المدَّعى عليه، فإذا قال: نعم، أطلب يمينه. فيُوجِّه القاضي اليمين على المدَّعى عليه ويقول: تحلف.
قال المؤلف: (فَإِنْ طَلَبَهَا، اسْتَحْلَفَهُ وَبَرِئَ)، إن طلب المدَّعي اليمين؛ أمر القاضي المدَّعى عليه أن يحلف، ولا يخلو:
- إمَّا أن يحلف المدَّعى عليه، فيُحكَم له بالبراءة من هذه الدَّعوى والسلامة من تبعتها؛ لأن المدَّعي ادَّعى دعوى ولم يثبتها ببينة، والمدَّعى عليه حلف أن لا حقَّ عليه، وكما يقول أهل العلم: إنَّ اليمين تجب في جهة أقوى المتداعيين حالًا، والأصل أن لا حقَّ لأحدٍ على أحدٍ، فإذا لم تأتِ ببينة لثبوت حقِّ ما؛ فالأصل عدم ثبوت الحق، فبمجرد أن يحلف المدَّعى عليه فإنَّ المطالبة تنتهي، ولا يثبت حق بذلك.
وجاء المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بحديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، لَكِنَّ اْليَمِيْنُ عَلى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ نَكَلَ عَنِ اْليَمِيْنِ، وَرَدَّهَا عَلى الْمُدَّعِيْ، اسْتَحْلَفَهُ وَحَكَمَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ أَيْضًا صَرَفَهُمَ)}.
النُّكول بمعنى الامتناع، وهو أن يمتنع من توجَّهت إليه اليمين من أدائها؛ فهل يُقضَى بمجرَّد النُّكول أو لا؟
هذه من المسائل التي كثُرَ فيها الخلاف، فمن أهل العلم مَن يحكم بمجرد النُّكول، ومنهم من يرد اليمين إلى المدَّعي.
بعضهم يقول: هو نكلَ؛ فالمدَّعي يستحق الدَّعوى.
ومنهم من يقول: لا؛ لَمَّا نكلَ المدَّعَى عليه وامتنع؛ لأنه قد يمتنع لأنه يعلم أن عليه حقًّا، وقد يمتنع لأجل أن يحفظ يمينه، ولا يريد أن يقسم على شيءٍ من حطام الدنيا.
إذن؛ هذه من المسائل التي فيها خلاف، فمن العلماء من يقضي بالنُّكول، ومنهم من يرد اليمين، وبعضهم يُفرِّق بعض المسائل عن بعضها.
فعلى كل حال؛ إذا ردَّها على المدَّعي استحلفه وحكمَ له.
وإن نكلَ المدَّعي اليمين بما ادَّعى به صرفهما، ولا شيء، فهذا لم يُثبت أن له حقًّا ولا بيمين، فبناء على ذلك لم يثبت لديه حقٌّ لواحد على الآخر، فيصرفهما، ولا يثبت بمجرد هذه الدعوى شيء.
ولهذا قال المؤلف: (وَإِنْ نَكَلَ أَيْضًا صَرَفَهُمَ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، حَكَمَ بِهَا لِلْمُدَّعِيْ)}.
قال المدَّعي: أنا عندي شهود أني أطالبه بخمسة آلاف وستمائة ريال.
فقال المدَّعى عليه: أنا عندي شهود أنه لا يطالبني!
فالأصل أنَّ البينة في جانب المدَّعي، وهذا هو الذي جاء به الشرع، فبناء على ذلك تكون البينة هنا هي المعتبرة، وهي المقدَّمة وهي السابقة وهي الأصل، فيُحكَمُ بها، وليس أمام المدَّعَى عليه إمَّا أن يقدَح في هذه البينة، وإلَّا فإنَّ الحق يثبت عليه، ولهذا قال المؤلف: (وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، حَكَمَ بِهَا لِلْمُدَّعِيْ).
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَقَرَّ صَاحِبُ اْليَدِ لِغَيْرِهِ صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ اْلخَصْمَ فِيْهَا، وَقَامَ مَقَامَ صَاحِبِ اْليَدِ فِيْ مَا ذَكَرْنَ)}.
يعني إذا أقرَّ صاحبُ اليد لغيره، فقال: هذا ما بيدي لفلان.
قال المؤلف: (صَارَ الْمُقَرُّ لَهُ اْلخَصْمَ فِيْهَا، وَقَامَ مَقَامَ صَاحِبِ اْليَدِ فِيْ مَا ذَكَرْنَ)، يعني من كونه مدَّعيًا ومدَّعى عليه، وتعلَّقت به الأحكام المتقدِّمة سابقًا.
لعلنا نقف عند هذا الحد ويكون ذلك مستهل الدرس القادم، ففيما ذكرناه كفاية، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك