الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس السابع

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياكَ الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، أدام الله علينا العلم والعمل والهدى والتوفيق والصواب.
{اللهم آمين.
نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الإمام الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ حَدِّ اْلمُحَارِبِيْنَ.
وَهُمُ الَّذِيْنَ يَعْرِضُوْنَ لِلنَّاسِ فِيْ الصَّحْرَاءِ جَهْرَةً؛ لِيَأْخُذُوْا أَمْوَالَهُمْ، فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ حَتَّى يَشْتَهِرَ، وَدُفِعَ إِلى أَهْلِهِ)
}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّمَ وباركَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يُفيض علينا وعليكم من نعمه، وأن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يعيذنا من الفتن، وأن يسلمنا من المحن، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنَّا في الدرس الماضي استهللنا أوَّلَ الكلام في هذا الباب، وهو باب حد المحاربين، وهو من أبواب الحدود، وذكرنا الأصل في ذلك من قول الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
والإجماع مُنعقدٌ على أنَّ المحاربين يُحدَّون، وأنهم يُعاقَبون، وهي من أعظم ما يكون به نشر الفوضَى وحصول الفساد، وتخويف الآمنين، ويحصل بسبب ذلك بلاءٌ عظيم.
وذكرنا أيضًا ما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في وصف هؤلاء المحاربين، قال: (وَهُمُ الَّذِيْنَ يَعْرِضُوْنَ لِلنَّاسِ فِيْ الصَّحْرَاءِ جَهْرَةً؛ لِيَأْخُذُوْا أَمْوَالَهُمْ)، إذن هم يعرضون للناس في الصحراء، وقلنا: إنهم لو كانوا في المدن لم يكونوا محاربين؛ لإمكان دفع شرهم وعدم استطالتهم على الناس؛ ولأنه لا يتأتى في المدن ما يتأتَّى في الصحراء من التخويف وإرهاب الناس، ومن سلوكهم لطرقات، وانتقالهم بين القرى، وذهابهم في الأمصار، ولأنه لا حدَّ للصحاري والفضاء والبريات في ضبط أمنها وعدم حصول البلاء فيها، بخلاف المدن، فالمدن صغيرة فيُمكن إطلاق الشرطة فيها، أو ما يسميه الأوَّلون "العسعس" الذين يقومون على حفظ الناس في ليلهم، ويتفقدون الناس في أحوالهم، ويحفظون ما وراءهم من مالٍ أو بيتٍ أو سواه.
فلما كان الأمر بهذه المثابة كان الشارع من حكمته البالغة أن سنَّ في ذلك أعظم العقاب ليكون رادعًا لأحدٍ أن يطال الناس بشره، وأن يترصَّد للناس بسوئه.
قال الفقهاء: هم الذين يعرضون للناس في الصحراء بالسلاح؛ فخصُّوا ذلك بالسلاح؛ لأن هذا هو الذي يحصل به المحاربة، وهو الذي لا يُمكن دفعه، بخلاف إذا ما كان بغير سلاح فيُمكن دفعه، ويُمكن ركله، ويُمكن أن يتعارك الناس، حتى ولو حدث شيء من الأذى إلا أن الإنسان يُمكنه أن يتمكَّن من ذلك ويدفعه بشيءٍ أو بآخر.
وقوله: (جَهْرَةً)، يخرج ما إذا كانوا ينتابون الناس خفية إذا ناموا أو كذا، فإنَّ هذا يُمكن دفعه باعتبار أن الناس لا ينامون ولا ينزلون في الأماكن الموحشة والأماكن التي يتربص فيها هؤلاء، فينزلون بقريبٍ من القرى أو في أماكن يُمكن فيها مراقبة السارق والانتباه لمريدي الشر.
ثم شرع المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في عقابه، يقول: (فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ)، فهذا أشد شيء.
ذكر المؤلف أنواعًا وأحوالًا، لكل حالٍ منه عقوبته، وأصل ذلك هو ما جاء في أثر ابن عباس تفسيرًا لهذه الآية؛ لأن هذه الآية في المشهور عند عامة أهل العلم والفقهاء أنها نزلت في المحاربين وقطاع الطريق، والمريدين للناس شرًّا وفتنةً، لكن الإشكال أنه جاء في الآية ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُو﴾ فجاءت بـ "أو"، و"أو" دالَّةٌ على التَّخيير، فهل التخيير في هذه الآيات باقٍ على ظاهره كما جاء في الآية؟ أم أن ذلك محمول على حال أخرى؟
فمن الفقهاء من جعل التخيير إلى الإمام كالحنفية، وأطلقوا أن له أن يفعل ما يختاره بحسب ما يكون رادعًا للناس.
ومنهم مَن فَرَق وجعل لكل حالٍ حاله وهم الحنابلة.
وأصل الحنابلة في ذلك هو ما جاء عن ابن عباس، فإن الحنابلة -رحمهم الله- يأخذون بقول الصحابي، فكيف إذا من فقهائهم، فكيف إذا كان تفسيرًا لآية، وإذا انضمَّ إلى ذلك شيئًا آخر، وهو قولهم أنه إذا جاءت "أو" للتخيير في الآية؛ ففي الغالب أنها تبدأ بالأيسر فالأيسر، لكن إذا جاءت للتخيير وبُدئ بالأشد ثم ما هو أقل منه ثم ما هو أقل؛ فإنها تدل على أنَّ المراد الترتيب، يعني أنه جاء على وجهٍ مخصوص، وبهذا أخذ الحنابلة -رحمهم الله تعالى- فقالوا: من قتل منهم وأخذ المال فهذا بلاؤه عظيم، فلا هو أخذ المال وترك الناس، ولكنه جمع بين الأمرين الأشدين: انتهاك حرمة النفوس وإراقة الدماء، والاستيلاء على الأموال وأخذها.
فلأجل ذلك قال المؤلف: (قُتِلَ وَصُلِبَ حَتَّى يَشْتَهِرَ).
القتل ظاهر، ويُقتل حدًّا، بمعنى أنه ليس مرده إلى ما ذُكر في باب القصاص، كأن يكون الوالد محاربًا لولد لم يُقتل به، أو كان المقتول عبدًا لم يُقتل، أو كان المقتول ذمِّيًّا لم يُقتل به؛ لا، فهو يُقتل بهؤلاء جميعًا، لأن القتل هنا على سبيل الحد، فليس مرده إلى القصاص والمكافأة، فيُتنبَّه لذلك.
{هل يصح العفو من أهل المقتول؟}.
ليس لهم العفو عن القاتل؛ لأنه يُقتل في مثل هذا على سبيل الحَدَّ في أشهر القولين عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
قال: (وِصُلِبَ)، الصلب هو: أن يُجعل على هيئة ويُربَط فيها.
هل الصلب سابق للقتل أو لاحق له؟
عند أهل العلم خلاف:
- بعضهم يقول: إنه قبل القتل، لأنه إذا قُتل يُسلَّم لأهله حتى يفعلوا به ما يفعلوه بالميت.
- ومنهم من يقول: إن الصلب يكون بعد الموت، لأنه قبل الموت فيه إيذاءٌ له وتنكيلٌ ومُثلةٌ، وجاء النهي عن المثلة في الشرع، فبناء على ذلك يكون بعد القتل.
ما الحاجة إلى الصلب بعد القتل؟
قالوا: المقصود هو ردع الناس حتى يشتهر أمره ونحو ذلك.
إذا قيل إن الصلب يكون بعدَ الموت، فكم يستمر؟
- منهم مَن يقول: ثلاثة أيام.
- ومنهم من يقول: حتى يشتهر أمره -ومنهم الحنابلة- وبما يراه الإمام، كأن يبقى بقية يومه أو يومان، أو نحوه.
وذكرنا أنه لَمَّا جرى مثل هذه الوقائع في جهة تخويف الناس حتى إذا تُمكِّن من هؤلاء القطاع فقتلوا وصلبوا كان في ذلك من ارتداع الناس وانتظام أحوال المسلمين في البراري والقفار، وفي طرقاتهم وأسفارهم، ليل أو نهار؛ لا يكاد يتسلط متسلط خوفًا من هذا العقاب لما في هذا الحد من الردع والمنع.
وقوله: (حَتَّى يَشْتَهِرَ)، إشارة إلى أنه لا مدَّة محدودة لذلك.
قال: (وَدُفِعَ إِلى أَهْلِهِ)، يعني: إنه يُدفع إلى أهله وقد مات، فيفعلوا به ما يفعلوه بالميت.
أو بعبارة ثانية: أنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أراد أن يقول: إن فعل ما يُفعل به المحارب إنما هو عقوبة، وأن ذلك لا ينفي عنه حق الإسلام، ولا ما للمسلم من التغسيل والتكفين والصلاة عليه والدفن ونحو ذلك من الحقوق التي هي للمسلم، مع ما جاءه من العقوبة لانتهاكه للحرمة، وما تعلق به من الجرم في الدنيا والآخرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ اْلمَالَ، قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ)}.
قُتل باعتبار كونه قاتلًا ومنتهكًا للحرمة ومخيفًا للناس، ومانعا لسلوك الطرق ونحوها، فيُقتل لأجل ذلك، لكنه لا يُصلَب، لأن جرمه أقل من جرم مَن قبله، وهذا -كما قلنا لكم- هو على قول الحنابلة اعتبارًا بقول ابن عباس، وإلا فبعضهم يقول: إن مرد هذا إلى اختيار الإمام، واختيار الإمام مبناه على ما يكون فيه الأصلح، وليس مرد اختيار الإمام إلى ما يتشهَّاه، هذا يصلبه وهذا يقتله وهذا ينفيه! لا؛ فإذا قيل باختيار الإمام، فكما يقول أهل العلم في القواعد المتقررة: إنَّ أعمال الإمام منوطةٌ بالمصلحة، يعني إذا قيل: هذا للإمام؛ يعني يعمل فيه الأصلح للناس فعله، فإذا كان يرى أنَّ الأصلح القتل قتلَ، وإن كان يرى الأصلح القطع قطع، وإن كان يرى الأصلح النفي نفى؛ بحسب ما يكون من حالِ الأمرِ ويُوصَى به فيه بما يستقيمُ به أمر الناس.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَخَذَ اْلماَلَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ اْليُمْنى وَرِجْلُهُ اْليُسْرى فِيْ مَقَامٍ وَاحِدٍ، وَحُسِمَتَ)}.
الحالة الثالثة وهي أقل من الحالين السابقين، وهي: أنه لا يكون منه قتل، ولا جمعٌ بين القتل وأخذ المال، ولكنه أخذ المال، فيُخيف الناس، ويُشهر عليهم السلاح، حتى إذا خافوا قالوا: نترك السيارة، فيأخذ السيارة ويهرب. أو قال: أعطني ما مع زوجك من ذهب، أو أَنْزَلَ ما معهم من متاعٍ، أو أَخَذَ الذهب والسيارة والمتاع وتركهم في الخلاء وذهب؛ فهذا أخذٌ للمال. فما حكمه.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قُطِعَتْ يَدُهُ اْليُمْنى وَرِجْلُهُ اْليُسْرى فِيْ مَقَامٍ وَاحِدٍ)، قال تعالى: ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ [المائدة: 33].
والقطع على هذه الناحية لئلا تذهب منفعة اليدين كلها، أو منفعة الرجلين كلها، وأنه إذا قطعت يده اليُمنى ورجله اليسرى كان ذلك أمكن له في إتيان مصالحه ونحوه، وهو أيضًا شعار -أو علامة- في أن هذا كان منه جرمٌ، وهذا يكون دائمًا رادع للناس.
فتصور: لو كان الناس يرون شخصًا قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، فيرونه هنا وهناك، ويرون كيف يتأذى، وكم يلحقه من العنت والمشقة، ويراه الناس بشيءٍ من النقيصة لسوء الفعلة، وعظم المعرَّة التي فعلها؛ فيكون ذلك أدفعَ للناس أن يفعلوا هذا الفعل، أو أن يتصدَّوا للبلاء والشر، ففيه مصالح كثيرة كما عرفتم.
مع أننا نقول: إنه ينبغي أن إذا فُعل به الحد؛ فإن الحد مطهرةٌ له، ولا ينبغي أن يظهر من الناس انتقاصٌ لهذا، أو رؤيته برؤية سيئةٍ، لأن منهم من يكون قد حسُنَ أمره، واستقامَ فعله، وأصلح ما بينه وبين ربه، ففي توبته من الخير ما قد لا يتأتى له بدون ذلك.
ثم يقول: (وَحُسِمَتَ)، نصَّ على الحسم لئلا تفضي به إلى الهلاك، خاصة أنَّ قطع يدٍ ورجلٍ في آنٍ واحدة يُمكن أن يكون معه خروج دمه وافتلات نفسه، فاحتيج إلى الحسم حتى يُقطع خروج الدم ويُمنع، سواء كان ذلك بالزيت المغلي ونحوه، أو كان بما يستجد لأهل الطب من طرائق يتأتى بها هذا المقصود، ويُحفظ به نفس هذا الجاني، لئلا تأتي على نفسه بالهلاك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (وَلاَ يُقْطَعُ إِلاَّ مَنْ أَخَذَ مَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِهِ)}.
هذا هو النِّصاب في السرقة، فإذا كان النِّصاب في السرقة مُعتبرًا فهو هنا كذلك، فبناء على هذا لو كان قد أخذ شيئًا تافهًا، أخذ ملء يده من الطعام، أو أخذ شيئًا يسيرًا لأي سبب من الأسباب، فإن هذا لا يستوجب قطعًا كما يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى- واعتبارًا له بحال السارق كما مرَّ بنا في الحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أَخَافَ السَّبِيْلَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلاَ أَخَذَ مَالاً، نُفِيَ مِنَ اْلأَرْضِ)}.
طبعًا ما في أحد يقوم هذا المقام إلا ويأخذ المال، لكن لو أنَّ الحاكم -أو إمام المسلمين- رصدَ من أخاف الناس، وبدأ في إرهابهم وتعرض لهم، ولكنه لما يتحصل له شيء؛ فمنذ بدأ بتعرضه للناس وإخافته السبيل قبضه الإمام، فلما قبضه الإمام يصدق عليه أنه محارب، وأنه يُخيف الناس جهرة، وأنه مشهرٌ لسلاحه، ولكنه لم يكن منه قتل ولا أخذ للمال، ولا جراحة الناس وأذيتهم. فما الذي يليق به من العقاب؟
يقولون: إنه يُنفَى من الأرض؛ لأنها أخف العقوبات التي جاءت في الآية، فكانت تناسب أخف مَن تلبَّسَ بهذه الجريرة وفعل هذا الأمر الخطير، فيكون النفي من الأرض.
كيف يكون النفي من الأرض؟
يقول أهل العلم: يُلحق في الأمصار حتى لا يستقر له قرار.
وكما يقول بعض أهل العلم: إن الجزاء من جنس العمل، فلما كان يُخيف الناس ويمنعهم من الاستقرار والأمن في طريقهم ونحوه؛ فهذا يُنفَى من الأرض، كلما جاء مكانًا وأراد أن يستقر لحق به الجند أو الشُّرط أو العسكر فأخرجوه، فلا هو مستقرٌّ هنا، ولا هو مستقر هناك؛ فيلحقه بسبب ذلك من العنت الشيء الكثير. فهذا هو معنى النفي من الأرض، وهو يختلف عن الحبس، فإن الحبس له حال معينة، ولكن النفي من الأرض ربما كان أشد من الحبس بمراحل كثيرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ تَابَ قَبْلَ اْلقُدْرَةِ عَلَيْهِ، سَقَطَتْ عَنْهُ حُدُوْدُ اللهِ، وَأُخِذَ بِحُقُوْقِ اْلآدَمِيِّيْنَ، إِلاَّ أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهَ)}.
كما تلاحظون أننا أخذنا بتوجيه الإخوة في أننا نستعجل قليلًا لعل الله -جَلَّ وَعَلَا- ييسر إنهاء الكتاب في هذا الفصل مع أني أستبعد ذلك، ولكننا سنحاول ونبذل ما بأيدينا، والله يتولانا وإياكم برحمته.
قال المؤلف: (وَمَنْ تَابَ قَبْلَ اْلقُدْرَةِ عَلَيْهِ، سَقَطَتْ عَنْهُ حُدُوْدُ اللهِ، وَأُخِذَ بِحُقُوْقِ اْلآدَمِيِّيْنَ، إِلاَّ أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهَ).
والتوبة لها صورتان:
الصورة الأولى: مَن تاب قبل القدرة عليه فإنه يؤخذ بحقوق الآدميين؛ لأن الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 34]، فالله -جَلَّ وَعَلَا- قد غفر عن حقه، ورفع الحرج عن مَن تاب إليه، وتخلَّص من ذنبه، وتخلَّى من فعلته.
والتوبة تكون بإظهارها، حتى ولو لم يكن منه صلاح في العلم؛ لأن بعض الفقهاء يشترط أن يكون فيه صلاح في العلم، فلا يكفي أن يكون تابَ حتى يستمر شهر أو شهرين أو مُدة معينة يُرى أنه استقام على صالح الأعمال، على إتيان الخير، على المسابقة إلى الصَّلاة، على حضور الجماعة؛ بما يُستدل به فعلًا أنه تارك لذلك.
لكن على كل حال؛ فالمشهور من المذهب عند الحنابلة: أنه متى ما تابَ ولو لم يكن منه ظهورٌ لصلاح عمله فإن التوبة على ظاهر الآية مخلصةٌ له من حق الله -جَلَّ وَعَلَا.
ويُفهم من هذا عكس هذه المسألة، وهو أنه من تاب بعد القدرة عليه فإن ذلك لا ينفعه في سقوط الحدود.
ومن تاب قبل القدرة عليه قلنا: إن حق الله قد سقط، ولكن يُطالَب بحقوق الآدميين؛ لأنه الله -جَلَّ وَعَلَا- قال: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، أما حق الآدمي فإنه من المتقرر شرعًا أنه لا يخلص منه الإنسان ويتخلص من تبعته إلا بأن يعفو صاحب الحق عن حقه، أو يرد الحق إلى مستحقه، ورد الحق إلى مستحقه مُتصوَّرٌ في الأموال أو ما شابهها، ولكن العفو يُتصوَّر في الحدود، فلو أن واحدًا قتل شخصًا فعفا أولياؤه، فيكون ممن عفي عنه فيسقط عنه.
وبأي حال من الأحوال فحقوق الآدميين لا تسقط حتى ولو تاب توبةً بلغَ بها مبلغَ خواص الصلحاء وأهل الفضل والديانة، وبلغ في العبادة مبلغًا، وأقبل على العلم وانقطع عن كل سوء؛ فإن ذلك لا يحول بينه وبين استيفاء الآدميين لحقوقهم.
الصورة الثانية: أن تكون توبته بعد القدرة عليه، أي بعد أن قبضه السلطان وأمسكَ به وأُخِذَ بجريرته، وبعدَ أن رُؤِيَ وهو يُلاحق الناس وقد أخذ أموالهم؛ فإنَّ التوبة لا تنفعه لأسباب:
أولًا: للآية، فالآية كما أنها دلَّت بمنطوقها أنَّ مَن تاب قبل القدرة عليه سقطَ عنه حق الله -جَلَّ وَعَلَا- فإنَّها قد دلَّت بمفهومها أنَّ مَن كانت توبته بعدَ القدرة عليه فإن ذلك لا يُفوِّت الحدَّ الذي أوجبه الله تعالى.
ثانيًا: من جهة المعنى، فإنَّ الإنسان إذا قُبضَ عليه فأسهل ما عليه أن يُظهر التَّوبة، فلو كان كذلك لكان كل مَن قُبِضَ عليه أظهرَ التوبةَ حتى إذا أُطلِقَ عادَ كما كان، فيفوت الحكمة التي لأجلها أوجب الشارع هذه الحدود وأمر بإقامتها.
ولاحظوا قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (سَقَطَتْ عَنْهُ حُدُوْدُ اللهِ)، فكأن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أرادَ أن يُبيِّن أنَّ المتعلَّق في هذه المسألة وإن كانت تتعلق بتوبة قطَّاع الطريق والمحاربين أصالةً؛ إلَّا أن ذلك راجعٌ إلى ما يتعلق بالحدود كلها، وهذا هو مشهور المذهب وقول جماعة من الفقهاء وأهل العلم، فلو أن شخصًا تابَ من الزنا قبل القدرة عليه فإن ذلك ينفعه ولا يُؤخَذ بحدِّه، ومثل ذلك لو جرى منه شربُ خمرٍ، أو جرى منه سرقة؛ ففي هذه الأحوال كلها يسقط حق الله للآية.
وقالوا: إذا كان ذلك في حدِّ المحاربينَ -وهو من أعظمها وأشدها- فمن باب أولى يكون ذلك فيما هو دونه.
ويتعلق بهذا أن حقوق الآدميين لا تسقط، فما يكون من توبة القاذف عن قذفه فإنه لا يُمنَع من إقامة الحد عليه لأجل أن الحد حقٌّ للآدمي لِمَا لحقه من التُّهَمَة وأُلصِقَ به من الرَّزيَّة في اتِّهامه في عرضه، سواءٌ كان ذلك في نفسه أو في أمِّه أو في أبيه.
أيَضًا في السرقة، لو تاب السَّارق من سرقته قبل القدرة عليه وأسقطنا عنه القطع -كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى- فإن ذلك يعني أيضًا أنَّه يجب عليه أن يردَّ ما سرقه وجمعه من مال السرقة، ومن كان له حقٌّ ومالٌ عند هذا السارق له أن يُطالبه به وأن يتبعه به، إلا أن يعفو عنه فيسقط ذلك كله، لأنَّ هذا حق الآدميين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ دَفْعِ الصَّائِلِ.
وَمَنْ عُرِضَ لَهُ مَنْ يُرِيْدُ نَفْسَهُ، أَوْ مَالَهُ، أَوْ حَرِيْمَهُ، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهِ سِلاَحًا، أَوْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَهُ دَفْعُهُ بِأَسْهَلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ)
}.
هذا فصلٌ عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- متعلقٌ بالباب السابق، ومتعلقٌ بأحوالٍ مُتفرقة كيفما كانت، يعني يدخل فيه المحارب، وهذا يكثر في مثل هذه الأحوال، وهو أيضًا داخلٌ في الأبواب كلها، وهو ما يسمى عند الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- بـ "دفع الصَّائل".
الصَّائل: من صالَ يصُولُ صَوْلًا، إذا صالَ على الإنسان أحدٌ وهَجَمَ عليه يُريدُ نفسَه أو مالَه أو عرضه بسوءٍ.
وأصل ذلك: أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ» ، فهنا لا يُقتَلُ عن نفسه إلَّا لأنه قاتلَ ودافعَ حتَّى قُتِلَ.
والإجماعُ مُنعقدٌ على ذلك، وأصول الشريعة تدلُّ على هذا، أنَّ مَن هجمَ على شخصٍ فقد رفعَ حُرمةَ نفسه، هذا الذي هجم على الشخص ثم دفعه أو ركله هذا حتى سقطَ فمات؛ فهذا هو الذي عرض نفسه لهذه الهلكة، فكأنه هو الذي أراد أن يحصل عليه هذا البلاء، أو أن تنزل به هذه اللكمة أو اللكزة التي طرحته فصرعته فهلك. إذن؛ أصل هذا الباب واضح ظاهر.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ عُرِضَ لَهُ مَنْ يُرِيْدُ نَفْسَهُ)، هذه من المسائل التي يكثُر وقوعها، لكن فيها حالٌ دقيقة يجب على طالب العلم وعلى آحاد الناس أن يتنبَّهوا لها، فقوله: (وَمَنْ عُرِضَ لَهُ مَنْ يُرِيْدُ نَفْسَهُ) يُفهَم منه أنه لو لم يعرض له لكن علم منه تجهُّزٌ لهذا الأمر أو استعداد له، أو رأى فيه أمارات تدل على أنه مُريدٌ لنفسه أو لعرضه أو لماله؛ فإنَّ ذلك لا يُبيح له أن يبدرَه أو يبدأه بالدفع أو القتل، بل يكون ذلك إذا عرض له، خاصَّة القتل، أمَّا الدفع ومنع الشر فهذا أمره يسير، ولكن الانتقال إلى ما هو أشد وهو إيذاؤه إمَّا بقطع طرفٍ أو بضررٍ بالغ أو بقتل؛ فإنَّ ذلك لا يجوز، أما إذا كان قد خاف منه فحذَّره بكلامٍ أو باعده بشيءٍ أو نحو هذا أو منعه من الوصول إلى المكان لكونه مالكًا له، أو لكون هذه مزرعة من مزارعه، أو نبَّه الشُّرَطَة ليأخذوا الحيطةَ والحذر فهذا شيءٌ آخر.
متى يجوز للإنسان أن يتعرَّض أو يُصيب هذا الصَّائل؟
إذا عرضَ له، وإذا بدأ منه المكروه.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ عُرِضَ لَهُ مَنْ يُرِيْدُ نَفْسَهُ، أَوْ مَالَهُ، أَوْ حَرِيْمَهُ، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهِ سِلاَحًا، أَوْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَهُ دَفْعُهُ بِأَسْهَلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ).
هنا مسألة مهمَّة، وهي: أنَّ الدفع يكون بالأسهل فالأسهل، فبناء على ذلك إذا كان هذا الشخص يندفع بكلمة لم يجُزْ له أن يُدفع بما هو أشد منها، فإذا قال "اخرج من بيتي"، فبعض اللصوص يدخل البيت فإذا سمع صوت أهل البيت خاف وخرجَ، فإذا كان يندفع بنحو كلمة فيدفعه، فإذا كان لا يندفع بالكلام فإن للشخص أن يدفعه بأيسر ما يكون من ضرب ونحوه، فإذا كان يندفع بضربٍ فدفعه بما هو أشد كقطع طرف ونحوه كان الدافع معتديًا.
فلأجل ذلك يقول الفقهاء: لابدَّ أن يدفعه بالأسهل فالأسهل، ولا ينتقل إلى الأصعب حتى يتعذَّر اندفاعه بما هو دونه.
ويُفهم من هذا أنَّ الدفع إنما يكون بالأسهل، وهذا خطأ يقع فيه كثيرٌ من الناس، أنَّه يعرض لهم بعض السراق واللصوص، حتى إذا تمكَّن منه صاحب البيت -أو المسروق منه- عاس فيه ضربًا أو أذيَّةً أو نحو ذلك.
فنقول: كونه جرى منه هذا السوء، أو تجرَّأ على هذه المعصية؛ فإنَّ ذلك لا يُحل لك عقوبته، فإنَّ العقوبة إنما هي إلى السلطان ومَن يقوم مقامه من القضاة ونحوهم، أما أنت فأكثر ما لك أن تدفع عن نفسك الشر، واندفاع الشر بالأيسر لا يسوغ لك دفعه بالأصعب، فلأجل هذا -كما قلنا- إنه لو دفعه بأشدَّ مما يندفع به فإنه يكون في ذلك محاسبًا مطلوبًا.
على سبيل المثال: لو كان الصائل يُمكن أن يندفع بالكلام أو بأن يدفعه فيذهب فقام وأطلق عليه مسدسًا حتى ضرب رجله فأصابه أو أنه أشار إليه بسكين حتى قطع شيئًا من بدنه؛ فنقول: هذا معتدٍ، حتى ولو كان هذا الشخص في الأصل دخل إلى بيتك، فدخوله إلى بيتك لا يعني أنَّ حرمته مُنتهكةٌ، وأنه لا حقَّ فيه البتَّة.
فيُتنبَّه لهذا؛ لأنَّ كثيرًا من الناس إذا تمكَّن من السُّراق ونحوهم لا تسأل عمَّا يُحدثونه من الضرب واللكز والأذية، حتى ربما أفضى ذلك إلى فوات حياته، أو الإضرار به ضررًا بالغًا.
ومن جهةٍ ثانية؛ فإنه في حالٍ واحدة يجوز للإنسان أن يدفع بالأشد، وهو أن يخافَ إذا تركه أن يبتدره اللص بقتلٍ ونحوه، وهذا في بعض الأحوال يُعرَف بـ "قرائن الحال"، ففي بعض البلدان مثلًا إذا هجم عليه الشخص يعرف أن هذا الهجم لا اعتبار به، فإذا دفعه برجله اندفع ويذهب، ولكن يعرفون أنه إذا هجم عليهم مَن صفته كذا وكذا -إما بشكل أو بلبس أو بكلام أو بما يحمله من سلاح- يعلمون أن هؤلاء قتَلَة، فإنه إذا لم يتمكَّن من المسروق قتله، فقام هذا المصول عليه فابتدره بالقتل لعلمه أن مثل هذا يقتل؛ فذلك صحيحٌ وجائز -كما قال الفقهاء رحمهم الله تعالى- كما أنه إذا كان لا يندفع إلَّا بالقتل فله قتله ولا ضمان عليه.
إذن؛ يُدفَع الصائل بالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فقتله فلا ضمان عليه، ودفع الصائل لا يختص بمكانٍ، سواءٌ كان الصائل عليه في بيته لصًّا دخل عليه، أو كان في طريقٍ أو كان في صحراء، أو كان فيما سوى ذلك؛ فإنَّ الصائل يُدفع شرعًا، والدفع يكون بالأيسر، وإذا وصلَ إلى القتل فقتله صحيحٌ ودمه هدرٌ ولا قصاص عليه، وإذا خاف أن يبتدره بقتلٍ بأماراتٍ ونحوها جاز له أن يدفعه بذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِقَتْلِهِ، فَلَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ فَهُوَ شَهِيْدٌ، وَعَلى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ)}.
شرجنا قوله: (فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِقَتْلِهِ، فَلَهُ قَتْلُهُ)، وأنَّ القتل يجوز في حالين:
• حال أن لا يندفع إلا بالقتل.
• أن يخشى أن يبتدره هذا اللص، فله أن يبدأ بالقتل ولا يتدرج في الدفع.
فيُفهم من هذا: أنه لو أتبعَ المصول عليه هاربًا فأصابه أو أضرَّ به فهي جناية مضمونة، فالصائل هرب ثم لا تزال تلحقه فتضربه، أو تلحقه فتكسر يده، أو تطلق عليه بسلاح فتدميه؛ فهذه جناية مضمونة، وإن كان في أصل الأمر هو المعتدي؛ لأن المصول عليه ليس له إلَّا الدفع، وإنما العقوبة إنما هي من السلطان، إذا ارتفع للسلطان فلكَ أن تُثبتَ عنده أن الإنسان كان في أمرٍ صحيحٍ شرعًا بدفع صائلٍ عليه حقًّا.
قال: (وَإِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ فَهُوَ شَهِيْدٌ)، يعني: لو قُدِّر أنَّه لَمَّا دافعَ فتغلَّبَ عليه هذا اللص فقتله أو أخرجَ سكِّينًا فأمضاها في جوف الدافع فماتَ، أو نحو ذلك من الأشياء التي يحصل بها الموت؛ فهو شهيد، وهذا ظاهر في الأحاديث، كما في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ».
قال: (وَعَلى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ)، فالقاتل عليه الضمان، فإذا رُفع إلى الحاكم فإن لأوليائه أن يطلبوا القصاص، ولهم أن يطلبوا ما هو حقهم لهم، إذا كان قد قطع يدًا أو أصابَ شيئًا ونحوه، ولهم أن يعفو إذا كان قتلًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ صَالَتْ عَلَيْهِ بَهِيْمَةٌ، فَلَهُ دَفْعُهَا بِمِثْلِ ذلِكَ، وَلاَ ضَمَانَ فِيْهَ)}.
ما الحاجة التي دعت المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يخص البهيمة؟
البهيمة لا قصدَ لها، وليست ممن جنايته مُعتبرة، فهل نقول: إن حكمها حكم الآدمي؟ أو أنَّك دفعتَ عن نفسك شرًّا من غير قاصد له فتكون أنت الجاني فعليك الضمان؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة -كما هو قول جماهير أهل العلم- أنَّ هذا مصولٌ عليه، سواءٌ كان من آدميٍّ أو غيره؛ فاستحقَّ الإهلاك والإتلاف، وإذا جاز الإتلاف في حق الآدمي فمن باب أولى أن يجوز ذلك في حق البهيمة، ولأنَّ حرمة البهيمة في كل الأحوال ليست بأعظم من حرمة الآدمي، ولذلك قالوا: لا ضمان عليه، ولكن احتاج المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إلى النَّصِّ على هذه المسألة لخصوصيَّة ما ذكره بعض الفقهاء كالحنفية في أنَّ عليه الضَّمان، فجعلوا عليه الضمان لما ذكرنا من أن هذه البهيمة لا قصدَ لها، كما أن جنايتها هدر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنِ اطَّلَعَ فِيْ دَارِ إِنْسَانٍ، أَوْ بَيْتِهِ مِنْ خَصَائِصِ اْلبَابِ أَوْ نَحْوِهِ، فَحَذَفَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ)}.
هذه المسألة تحتاج بيان ما جاء به الشرع من احترام البيوت وصيانتها، فلعلنا نجعلها في مطلع الدرس القادم.
وهنا فائدة مُهمَّة للإخوة في العلم: أحيانًا إذا انتهى الإنسان إلى الباب نسي الباب برمَّته، ولكن إذا بقيت مسألة فاستعدتها فإنها مدعاة إلى استحضار ما تعلق بها من المسائل قبلها، فيكون في هذا الأمر فوائد عدَّة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسَّداد، وجعلكم الله مباركين، وزادكم من العلم والهدى، وأبقى هذه الأكاديمية وهذا البناء العلمي صرحًا شامخًا وبناء نافعًا، ومنارةً يأتمُّها طلبة العلم فينهلون منها، وينتفعون بها، ويستزيدون من خيرها، وأن يجعلها خيرًا علينا وعلى المسلمين، وأن يحفظنا من الزيغ والضلال، وأن يغفر لنا ويوفقنا للهدى والصواب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك