{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء
العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاك الله، حيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات في هذا البناء العلمي
المبارك، في هذه الحِلَق الموفَّقة -بإذن الله جل وعلا- في رحاب العلم، فيما قاله
أهل الفقه والفتوى، فيما قرَّره العلماء على مرِّ العصور والدهور تأسِّيًا بالنبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وطلبًا للسُّنَّة واستنباطًا للأحكام، وإبقاءً
لهذه الشريعة على أصلٍ متينٍ وعلى أساسٍ كبيرٍ، وعلى صراطٍ مستقيمٍ، نسأل الله
-جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا من أهل العلم الذين حفظوا، والذين بلَّغوا، والذين
أحسنوا العمل والتَّعليم.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ الرَّضْخِ لِمَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ.
وَيَرْضَخُ لِمَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ،
وَاْلعَبِيْدِ، وَاْلكُفَّارِ، فَيُعْطِيْهِمْ عَلى قَدْرِ غِنَائِهِمْ)}.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه
وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فنسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا وإيَّاكم من أهل العلم الراسخين،
وأن يوفقنا للفقه في الدين، وأن يرفعنا به في الدنيا والآخرة يا رب العالمين، وأن
يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
أيُّها الإخوة؛ لا يزال الحديث موصولًا فيما جعله المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-
في هذا الكتاب -وهو كتاب الجهاد- ولم تزل المسائل متعلقةً بأحكامِ النَّفلِ، ثم ذلف
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا الفصل الخاص لمَن لا يبلغون حدَّ الغنيمة
ولهم أثر في القتال والمعركة والمشاركة والمساعدة والمساندة؛ فقد جعل لهم الشرع ما
يعطون من الغنيمة، وما يشاركون به غيرهم من الهديَّة والعطيَّة، ولأجل ذلك قال
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَرْضَخُ لِمَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ)، وهنا
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- جعل الرَّضخ لمن لا سهم له من الغنيمة في باب
التَّنفيل؛ وذلك لأنَّ باب التَّنفيل هو حكمٌ من الإمام الذي له المسؤوليَّة في
الإعطاء والهديَّة والتنفيل، وذلك لأنَّ الباب فيه واحدٌ من جهةِ أنَّ مرده إلى
الإمام فيمَن يُعطَى وفي قدرِ ما يُعطَى.
والرَّضخ الذي عبَّر عنه المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بقوله: (وَيَرْضَخُ
لِمَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ) هو: الإعطاء، سُمِّيَ كذلك إبهارًا للاهتمام به، وأنَّه من
جهة الإمام فهو الذي يرضخه، وهو الذي يثبِته.
وأصل ذلك أنه جاء عن أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- الحُكم به،
فكلُّ مَن لم يكن أهلًا للقتال وشارك في المعركة وداخل فيها فإنه جاء عن الصَّحابة
من إعطائهم، والعود عليهم ببعض ما غنموه وحصَّلوه في هذه المعركة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَرْضَخُ لِمَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ)، أمَّا
مَن له سهمٌ من الغنيمة فإنَّ حقه محفوظٌ، وطريقةُ تقسيمه معلومة، وسيأتي بيانها
-بإذن الله جل وعلا- فيما يذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من المسائل
اللاحقة بعد الانتهاء من هذا الفصل -بإذن الله جل وعلا.
هنا قال: (مِنَ النِّسَاءِ)، كما تقدَّمَ أنَّ النساء من جهة الشَّرع لا مدخل لهنَّ
في القتال، كما جاء ذلك في حديث عائشة على ما تقدَّم، وقلنا: إنه يُمكن أن تدخل
النساء مُعاوِنات بحدودٍ يحصل بها الإعانة، ويُتَّقى بهن ما يُمكن أن يكون هدفًا
للعدو من جهةِ طلبِ أشخاصهنَّ، أو من جهةِ أن يكنَّ ثغرةً على بلاد المسلمين من جهة
الضَّعف أو الخور، أو سرعة النُّكوص والهزيمة، فيُجعلنَ في موضعٍ يتأتَّى منه
المصلحة، ويُؤمَنُ به من المفسدة.
قوله: (وَالصِّبْيَانِ)، كذلك لو قُدِّر لبعض الصبيان الصِّغار مَن لم يبلغ أن شارك
فإنه يُجعل له جزاء مشاركته، إظهارًا لفضل دخوله في هذه المعركة والإعانة فيها.
قوله: (وَاْلعَبِيْدِ)، فإنَّ العبيد من حيث الأصل لا يملكون، والغنيمة تمليك، ولكن
لَمَّا كان مردُّ ذلك إلى أنَّهم شاركوا ودفعوا ونافحوا؛ فإنهم يُعطَونَ، سواء عادَ
ذلك إلى أسيادهم، أو بقي لهم من جهة أنَّ سيده أذن له في الانتفاع والاستنفاع بذلك.
لقائل أن يقول: كأن في هذا إشارةٌ إلى التَّمييز -أو العنصريَّة- بالعبارات الحديثة
والمعاصرة لدى أهل هذا الزَّمان، أنَّ العبيد درجة ثانية أو ثالثة في الإسلام؟
نحن تحدَّثنا عن ذلك سابقًا، لكن لمزيد الحاجة إلى التَّنصيص على مثل هذه المسائل،
وأهميَّة ركوز هذه الأصول لدى طالب العلم بما يمنع جريان هذه الشُّبه والدخول منها
من أهل الأهواء الذين يَعمدون إلى تنقُّص الشَّرع بمثل هذه الأشياء؛ فإنَّما هي
شُبهٌ لا حقيقة لها، وذلك أن يُعلَم أن العبيد حقيقةٌ موجودة على مرِّ التَّاريخ،
وإنما جاء الشرع بتضييق دائرتها، فهذا أوَّل محاسن هذه الملَّة والشِّرعة، التي هي
شِرعة نبينا محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ودين أهل الإسلام، وهو خاتم
الأديان، فلم يجعل طريقًا إلى تعبيد الناس إلَّا من جهة الحرب مع الكفار، وأيضًا
بسببٍ هم طلبوه لأنفسهم، إذ أنَّ مَن لم يتعبَّد لله -جَلَّ وَعَلَا- فقد رضيَ
بالعبوديَّة للمخلوق، وقد رضي بأن يكونَ مأسورًا لمَن سوى الله -جَلَّ وَعَلَا-،
فلما رضي على نفسه بذلك كان ممكنًا أن يدخل في هذا إذا رأى الإمامُ ذلك في طريقة
القسم على ما سيأتي -بإذن الله جل وعلا- وقد مرَّت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك.
إذن؛ هو الذي طلب هذا السبيل، ولذلك كان من أعظم الآثام: ما جاء في الشرع أن النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ:
رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ» ، يعني: جعله
عبدًا بعدَ أن كان حرًّا، فكان ذلك من أعظم الآثام، وأعظم ما يكون من الإجرام
والعصيان في الشرع، ولذلك كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- خصمه يوم
القيامة. إذن؛ هذا هو ما جاء في الشرع تجاه هذا الأمر.
ثم انظر! الشرع هو الذي جاء بعد ذلك إلى هؤلاء العبيد حالَ عبوديتهم فنظَمَ أمورهم،
وأحسن إليهم، وتمَّمَ كلَّ ما يتعلَّق بهم من حقوق، وما عليهم من حقوق كذلك.
على سبيل المثال: منع ظلمهم، ومنع الاعتداء عليهم، ومنع تحميلهم ما لا يطيقون،
وأمرَ بالإحسان إليهم، وأن يُطعموا مما يُطعم أسيادهم، وأن يكتسوا مما يكتسي به
أسيادهم، وأمر بالإحسان إليهم حتى جاءت آخر وصيةٍ للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ: «الصَّلاةَ وما ملَكت أيمانُكُم» ، فأمر بالإحسان إليهم.
كذلك حفظ حقهم في الزَّوجيَّة والشَّهوة والرَّاحة، وفي كل المناحي، حتَّى في الشرع
-وهو ما يقرره الفقهاء- أن نفقة العبد مقدَّمةٌ على نفقة الولد، فمن كان له عبدٌ
وولدٌ وليس عنده إلَّا مالٌ قليل لا يكفي لجميع مَن تحتَ مسؤوليَّته؛ فإنَّ العبد
يُقدَّم في النفقة، مع أنَّ الولد ولده، ولكن لَمَّا كان العبد محجورًا على
السَّيد، وليس بقدرته أن يذهب ويتكسَّبَ، كان حقه في النَّفقة مُقدَّمًا، أما الولد
فإن لم يجد من والد النفقة فيذهب يطلب ما يكون به رزقًا، ولم يكن بمنزلة العبد.
كلُّ هذا يُبيِّن لنا حقيقة التعامل مع العبيد، حتى في المعركة مع كونهم ليسوا من
أهل المشاركة، ولا يُطالَب منهم ذلك، ولذلك سُهِّلَت في حقهم كثير من الأحكام، مثل
صلاة الجماعة، الجهاد، وجوب الحج، إلى غير ذلك؛ لئلَّا يُرهقوا، فعليهم حقوق
لأسيادهم، ويُطالبون بحقوق الله -جَلَّ وَعَلَا- فسُهِّلَ علنهم في حقوق الله أيسر
ما يكون لئلَّا يكون في ذلك عنتٌ ومشقَّةٌ عليهم، وهذا فضل الله -جَلَّ وَعَلَا.-،
فلذلك كان هذا الشرع أتم الشرائع وأكملها، وإنَّما يأتي أهل الأهواء فينتزعون مسألة
ويُظهرونها، فتجري وتسري على مَن لا خلاق له ولا علم عنده، فيظنُّ ذلك صحيحًا، أو
مَن في قلوبهم هوى فيريدون أن يُلبِّسوا الحق ويُضيِّعوه، حتى ولو عرفوا المسألة
وعلموها، وذلك أعظم ما يكون من الضلال، وأشدُّ ما يكون من الشر.
والذي يجري عند كثيرٍ من طلبة العلم أو بعض الناس أو محبي الخير أنَّه يُسهَّلُ لهم
مثل هذه المسائل من باب جهلهم بأصل ما جاء في الشرع والنَّظرِ إلى عمومات النصوص
والمسائل وما جاء من تمام الأحكام.
ولذلك حتَّى الكفار ذكرهم المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعدَ العبيد في أنهم
يُرضَخُ لهم، وهنا أعظم ما يكون من العدل والإحسان، فمع ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى- من أنه لا يستعان بمشركٍ إلَّا لحاجةٍ؛ لكن إذا استُعينَ به أٌعطي، وإذا
طُلبَ جُوزيَ، وإذا انتفع منه أهل الإسلام كافئوه على ذلك، ولذلك قال المؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاْلكُفَّارِ، فَيُعْطِيْهِمْ عَلى قَدْرِ
غِنَائِهِمْ)، يعني ما يحصل بهم من النفع والأثر، فبناء على ذلك يكون في هذا شيءٌ
من التَّفاوت، فقد يُعطَى هذا الكفار أعظم مما أُعطي العبد، وقد تًعطَى هذه المرأة
أعظم ممَّا أُعطي الصَّبي، وهكذا بحسب ما كان منهم، وما كان لهم من الأثر.
وأصل ذلك كما قلنا: هو ما جاء عن الصحابة، وربما جاء في ذلك بعض ما رفع إلى النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، لكن أيًّا كان إذا قلنا إن فيه ضعفٌ؛ فالعمدة في
هذا ما استقرَّ عند الصحابة -رضوان الله عليهم وأرضاهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يَبْلُغُ بِالرَّاجِلِ مِنْهُمْ سَهْمَ
رَاجِلٍ، وَلاَ بِاْلفَارِسِ مِنْهُمْ سَهْمَ فَارِسٍ)}.
قال المؤلف: (وَلاَ يَبْلُغُ)، يعني: الإمام. وفي نسخة (وَلاَ يُبْلَغُ) باعتبار أن
قال: (وِيُرضَخُ)، بناه للمجهول من حيث الأصل؛ وكلها تؤدِّي المعنى.
هذا الذي ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا الموطن هو بمثابة الضَّابط
لما يعطون، وذكر أنه ليس شيءٌ يُخصَّصُ لهم، وليس لهم شيءٌ مقدَّرٌ، وإنَّما مردُّ
ذلك إلى الإمام.
هل هذا المرد على الإطلاق فيكون له فسحةٌ في أن يفرض لهم أكثر أو أقل، أو شيئًا
عظيمًا أو حقيرًا؟
يقول المؤلف: (وَلاَ يَبْلُغُ بِالرَّاجِلِ مِنْهُمْ سَهْمَ رَاجِلٍ، وَلاَ
بِاْلفَارِسِ مِنْهُمْ سَهْمَ فَارِسٍ)، يعني: أنَّ هذا التقدير إلى الإمام محدودٌ
بحدٍّ، وهو أنَّ الرَّضخ من حيث الأصل هو أقل من الغنيمة، وما دام أنه أقل من
الغنيمة فلا يُمكن ولا يتأتَّى أن يُؤتَى في حالٍ من الأحوال أن هذا المرضوخ له من
النساء والصبيان أو الكفار أو العبيد أُعطيَ أكثر مما أُعطيَ هذا المجاهد الذي له
حقٌّ في الغنيمة وله أصالةٌ في المشاركة، وله اعتبار في المحاربة، ولأجل ذلك كان
هذا أمرًا مقطوعًا.
قوله: (وَلاَ يَبْلُغُ بِالرَّاجِلِ مِنْهُمْ سَهْمَ رَاجِلٍ)، يعني: لو افترضنا
أنَّ هذا العبد أو هذا الصبي أو هذا الكافر كان يُقاتل وهو على رجليه؛ فبناء على
ذلك سيأتينا أن الغنيمة مقسومة على قسمين "الراجل وغير الراجل - الفارس وغير
الفارس"، فهذا له سهمٌ وذاك له سهمان، وبناء على ذلك نقول: إن الراجل من هؤلاء لا
يبلغ به سهم الراجل في الغنيمة، فيكون أقل.
فلو افترضنا أنَّ كلَّ واحدٍ من المجاهدين الذين غنموا أخذ ما يساوي خمسين ألف
ريال، فالرَّضخ بالنسبة للراجل من الصبيان والنساء والعبيد والكفار يُعطى عشرين
ألفًا، أو ثلاثين ألفًا، أو خمسة وعشرين ألفًا، أو ستة وثلاثين ألفًا، تسعة وثلاثين
ألفًا، خمسة وأربعين ألفًا...، لكنه لا يبلغ به الخمسين ألفًا.
ثم يقول: (وَلاَ بِاْلفَارِسِ مِنْهُمْ سَهْمَ فَارِسٍ)، فإذا كان الفارس قد أُعطي
مائة ألف، فبناء على ذلك يُعطى الفارس من هؤلاء ستين ألفًا، سبعين ألفًا، ثمانين
ألفًا...، لكنه لا يُبلغ به سهم الفارس، وهكذا..
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ غَزَا اْلعَبْدُ عَلى فَرَسٍ لِسَيِّدِهِ،
قُسِمَ لِسَيِّدِهِ سَهْمُ اْلفَرَسِ، وَرُضِخَ لِلْعَبْدِ)}.
هذه حالٌ يكون فيها الأمر مقسومًا على قسمين: من جهة هو غنيمة، ومن جهة هو رضخ؛ وهو
أن يكون العبد على فرسٍ للسَّيد، ومن المعروف أن الفرس استحقاقها للسهم من جهة
كونها فرسًا، وتكون غنيمةٌ لصاحبها، والمجاهد يكون له ما له من سهم، إن كان من أهل
السهم أو يكون له رضخٌ.
إذن؛ هذه حال مركَّبة؛ لأنه يُمكن أن يكون من الغزاة ومن المجاهدين رجلٌ راجلٌ
أُعطي فرسًا فصارَ فارسًا، فإذا أُسهم له في الغنيمة فإنه يُعطَى شيئًا له وشيئًا
لفرسه يأخذها صاحب الفرس، فكذلك هنا يُمكن أن تنقسم قسمين، فيكون الشخص هنا مرضوخًا
له باعتباره ليس من أهل الغنائم، ومسهومًا له من جهةِ أنَّ صاحب الفرس ممن يستحق
الغنيمة ويكون له نصيبٌ فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَ)}.
الغنائم: جمعُ غنيمة، وهو ما يُغنَم من الكفار في حال الحرب، بخلاف ما تركوه فزعًا
بغير حرب فإنَّ هذا يعتبر فيئًا له مصرف في بيت لمال، أما الغنيمة فإن لها أحكامًا
تخصُّها، وهي التي عقد لها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مسائلها في هذا الباب،
ولذلك قال: (باَبُ اْلغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَ).
والغنيمة مشروعةٌ لهذه الأمَّة، وكانت محرَّمة على الأمم قبلها، وقد جاء ذلك في
حديث جابر عند مسلمٍ في صحيحه، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال:
«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ
شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، فأيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي
أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي المَغَانِمُ ولَمْ تَحِلَّ
لأحَدٍ قَبْلِي» .
وكانت الغنائم فيما مضى تُجمع بعد الحرب وتُجعل في مكان، فتنزل نار من السماء
فتحرقها، فأحل الله -جَلَّ وَعَلَا- لهذه الأمَّة الغنيمة، ويسر لهم الانتفاع بها،
وأيضًا جاء الشرع بتقسيمها وتوزيعها بما لا يكون فيه شططٌ ولا ظلمٌ ولا عدوان،
وإنما هو العدل والتقسيم على وجهٍ صحيحٍ.
هذه الغنائم مشروعة ومأذون فيها، جاء الشرع بها وتكاثرت بذلك الأدلة، ومنها قوله
تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾
[الأنفال: 41]، وحديث جابر «وَجُعِلَ رِزقي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» ، والأحاديث في
ذلك كثيرة جدًّا ولا خفاء فيها.
وهذا يحتاج إلى أن ننبه على مسألةٍ مهمَّة، وهي أن يُعلَم أن الشرع تعبَّدَ الناس
بأعمالٍ وبأحكامٍ، فبناء على ذلك يجب على الإنسان أن يصلي وأن يصوم وأن يزكي وأن
يجاهد، وأن يحجَّ بيت الله الحرام؛ كل ذلك قصدًا وإخلاصًا، وتوجُّهًا لله -جَلَّ
وَعَلَا- لا رياء، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ: «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ» .
إذن؛ يجب أن يُعلم أن أصل هذه الأعمال والعبادات الوجهةُ فيها إلى الله، والقصد
فيها لله، ولا يجوز قصدُ غيره ولا طلب سواه، وإلا كان ذلك شركًا في الأعمال، وإن
كان الإنسان مخلصًا ثمَّ انعقد في نفسه شيءٌ من طلب الفخر والمدح والثناء؛ فقد يدخل
في باب الرياء، وفي ذلك تفاصيل معلومة.
هل طلب الغنيمة يعارض حسن القصد أم لا؟
هذا هو محل الكلام هنا.
فنقول: الكلام في هذه المسألة على حالين:
الحال الأولى: حالٌ لا يكون طلب الغنيمة معارضًا، ولا مناقضًا لما يكون من الإخلاص
لله -جَلَّ وَعَلَا- وذلك أن يكون العبدُ قد انعقدَ واستحكمَ في نفسه أنَّه إنَّما
خرج لله، وأنَّه إنَّما طلب مرضاة الله -جَلَّ وَعَلَا- وإنما يريد ما أُعدَّ له من
الأجر والثواب عند الله -سبحانه وتعالى- سواءٌ وقع في نفسه أنَّه يُحصِّل غنيمة أو
لا يُحصِّل، لكن لم تكن الغنيمة قصد له أولًا، ولا هي الباعث له على العمل، فإن كان
ممن لا يلتفت إلى الغنيمة أصالةً فهذا أتم وأكمل، وإن كان يقول: إن شاء الله تحصل
لي الغنيمة مع ما في قلبه من الإخلاص وطلب مرضاة الله -جَلَّ وَعَلَا- فتكون بالقصد
الثاني، فلا تضر، ولذلك قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا
لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود:
15، 16]. إذن؛ هؤلاء لا يدخلون في هذا الآية.
الحال الثانية هي محل الإشكال، وهي أن يكون هذا العمل مما يُطلب به وجه الله -جَلَّ
وَعَلَا- لكن خروج الخارجي وبذل الباذل إنما هو لطلب شيءٍ من الدنيا وحطامها، فهذا
قد ذهب عليه إخلاصه، وانطبقت عليه هذه الآية ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا
لَا يُبْخَسُونَ﴾، وعلى هذا تفسير غير واحدٍ من السلف، ولقول النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْه وَسَلَّمَ: «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيّاتِ».
ومما يدل لذلك: أنَّ ذلك الرجل الذي قاتل حتى لم يكن أحد يفعل كفعله أو يظهر منه
شجاعة كما جرى منه؛ فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «هو في النار»؛
لأنه إنما قاتل حميَّةً وفخرًا، فلما لم يكن مخلصًا فات عليه الأجر.
إذن؛ مَن انصرفَ إلى طلب الدنيا فهو داخلٌ في الآية، ويؤيد ذلك الحديث، سواء طلب
الغنيمة أو طلب الفخر، أو إرادة مديح الناس أو غير ذلك، وجاء في حديث الثلاثة الذين
تُسعَّر بهم النار، وذكر منهم «وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِي مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي
سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ
وَتَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ
يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ» ، نسأل الله السلامة والعافية.
إذن؛ لابدَّ أن يتيقن العبد وطالب العلم هذه المسألة على وجهٍ صحيح، وينبغي لطالب
العلم والمتعبد لله أن يعلم أنَّه في كل عبادةٍ لابدَّ أن يقصد وجه الله -جَلَّ
وَعَلَا- وإذا تجرَّد قصده لله ولم يُرد شيئًا مما جُعل من فوائد ذلك وآثاره فإن
هذا هو الأتم، وإذا وقع في قلبه تحصيل ما رتَّبَ الشارع عليه من الفضائل الدنيوية
أو غيرها فهذا قد طلب أمرًا صحيحًا ولم يُناقض أصله بطلب مرضاة الله -جَلَّ
وَعَلَا- لكنه ليس مثل مَن طلب ذلك بانصرافٍ عمَّا يتأتَّى به من فوائد في الدنيا
وأجورٍ وغيرها.
إذن؛ الحال الثانية: مَن طلب هذه الأمور لأجل ما فيها من الدنيا فهذا هو البلاء
الكبير، وهو الداخل في هذا الوعيد في الآية: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا
لَا يُبْخَسُونَ﴾.
وأنبِّه في هذا تنبيهًا مهمًّا لأنَّ الخطأ في ذلك كثيرٌ جدًّا، وهو أنَّ بعض أهل
الفضل وأحيانًا طلبة العلم، وبعض الوعَّاظ؛ إذا رغَّبوا في عبادة فأوَّل ما يبنوا
عليه الترغيب فيها ما يترتب عليها من المصالح الدنيوية، كقولهم "صوموا تصحوا"، أو
امشوا للمسجد لأن هذا فيه رياضة، حتَّى وإن كان في المشي رياضة وغن كان في الصيام
صحَّة؛ فلا ينبغي أن يكون بالقصد الأول، ولا يجوز أن نبعث الناس في عملهم على طلب
ذلك وقصده، وهذا من طرائق بعض أهل الأهواء والباطنيَّة سواهم، وهي طريقة منحرفة
جدًّا إذا كانت أصلًا في دعوة الناس وتعليمهم بلا شك، فينبغي أن يُعبَّد الناس لله
-جَلَّ وَعَلَا- وأن يُعظَّم فيهم طلب مرضاة الله، وما رُتِّبَ من الأجور في الدنيا
فينبغي أن يكون على سبيل التبع والتَّكميل، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي
أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» ، لكن ما نأتي نقول للناس: صل رحمك ليُبسَط لك في
الرزق أصالةً! لا؛ بل صلْ رحمكَ تقرُّبًا إلى الله، ويحصل لك من ذلك من الأجر كذا
وكذا وكذا...
ولأجل هذا جاء في الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «مَا مِنْ
غَازِيَةٍ تَغْزُو فِي سَبيلِ اللهِ فيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ، إلَّا تَعَجَّلُوا
ثُلُثَيْ أجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ» ، وهذا مع كونه مخلصًا، يعني ليس أجره كأجرِ
مَن لم يأخذ الغنيمة، سواءٌ قُتل في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا- أو قاتلوا ولم
يغنموا، أو نحو ذلك؛ فكيف بمن طلب ذلك أصالةً ولم يقصد وجه الله -جَلَّ وَعَلَا!
تبقى مسألة وهي مكمِّلة لهذا، وإن كانت على سبيل الاستطراد، أن بعض الأعمال ليست
متمحِّضةً في العبادة، فإذا كانت هذه ليست متمحِّضةً في العبادة فلو أن الشخص لم
يطلب وجه الله -جَلَّ وَعَلَا- فإنه لا يكون عليه في ذلك وعيدٌ ولا تبعة، ولكنَّه
فوَّتَ الأجر.
على سبيل المثال: الإحسان إلى الجار من صفات ذوي الأخلاق ومن طرائق أهل المروءات
وغيرهم، لكن إذا عمله الإنسان تقرُّبًا لله واتباعًا لما جاء عن رسول الله في
الإحسان إلى الجار، وما جاء في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَالْجَارِ ذِي
الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾
[النساء: 36]، ونحو ذلك؛ فهو مأجور، وإذا فاتت عليه النيَّة فات عليه الأجر، ولكن
لا يتأتَّى له الإثم؛ لأنَّ هذا ليس مما يتمحَّض عبادة لله -جَلَّ وَعَلَا.
وكثيرٌ جدًّا من الأعمال التي هي ليست متمحِّضةٌ في العبادة يؤدِّيها الناس ولا
يحسنون فيها القصد، ولا يستحضرون فيها تمام النيَّة، فيُفوِّتون على أنفسهم أجورًا
عظيمة.
نهايةً وتلخيصًا نقول:
أولًا: عليكَ أن تقصد وجه الله -جَلَّ وَعَلَا- في هذه الأعمال كلها، حتَّى ولو لم
تكن عبادةً في أصلها.
ثانيًا: كل العبادات التي أمر الله بها لا يكن نصبَ عينيك ولا يكن منعقدًا في قلبك
إلَّا طلبًا لمرضاة الله -جَلَّ وَعَلَا- وتعبُّدًا لله، وتأسِّيًا برسول الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
ثالثًا: ما يكون في العبادات من الفضائل في الدنيا لا تلتف إليه، فإنَّ عدم التفاتك
إليه لا يفوِّته عليك، بل هي أقرب ما تكون غليك، وأبعد ما تكون في ذهاب أجرك أو
نقصانه.
رابعًا: قصد هذه الأمور أصالةً إنما هو انحرافٌ عن النيَّة الخالصة، وطلبٌ لغير
مرضاة الله -جَلَّ وَعَلَا- وتعريض النفس للإثم والتَّبعة، ولذلك جاء في الحديث:
«ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا،
فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ» ، فعملهما واحد، وصورته واحدة، لكنَّ هذا
انعقد في قلبه نية صالحة، فهجرته غلى الله ورسوله، وهذا انعقد في نفسه نيَّةٌ فاسدة
فكانت طلبته دنيويَّة؛ فكانت هجرته وكان ثوابه وجزاؤه إلى مَن قصدَ وتوجَّه، ولا
ثواب له عند الله -جَلَّ وَعَلَا- ولا أجر.
إذن؛ هذا ما يتعلق بأصل الكلام على الغنائم وعلى قسمتها، وعلى التَّنبُّه لها.
أمَّا قسمتها هنا، فقال: (باَبُ اْلغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَ)، فكأن المؤلف
-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أراد أن يُبيِّن أن قسمة الغنيمة موكولٌ إلى الشرع، وجاء
به النَّص، فلا اجتهاد فيه وليس مردُّها إلى تقدير الإمام والقائد في الغزوة ونحو
ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: اْلأَرْضُ،
فَيُخَيَّرُ اْلإِمَامِ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِيْنَ، وَيَضْرِبُ
عَلَيْهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِيَ فِيْ يَدِهِ كُلَّ عَامٍ
أَجْرًا لَهَا، وَمَا وَقَفَهُ اْلأَئِمَّةُ مِنْ ذلِكَ، لَمْ يَجُزْ تَغْيِيْرُهُ
وَلاَ بَيْعُهُ)}.
باب الغنائم من جهة تفاصيل أحكامه فيه إشكالاتٌ كثيرة، ووجه هذه الإشكالات أن بعضها
راجعٌ إلى خلاف أهل العلم، وبعضها راجع إلى اختلاف الوقائع والأحوال، ففيما مضى
كانت الغنائم أحيانًا ما يجدونه مع الغازي من مالٍ، وأحيانًا يكون ما في يده من
طعامٍ، وأحيانًا يكون ما عليه من لباسٍ، وأحيانًا ما يكون معه من مركوب، وقد يزيدُ
شيئًا يسيرًا من ذلك، وإن اختلف الأمر فستكون الأراضي الخراجيَّة ونحوها.
وفي هذا الوقت في الغالب أن الغازي لا يحتاج ما كان يحتاجونه فيما مضى من جهة أنه
يحمل طعامه أو يحمل معه ماله حتى يشتري به طعامًا ونحو ذلك؛ فكلها صارت جيوش
منظَّمة لها تموينها، ولها تراتيبها، ودخل في ذلك ما دخل من علوم الحياة الحديثة في
طرائق الجيوش وتوزيع المهام وتكميلها.
وعلى كل حالٍ نحن سنذكر ما ذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- وربما نشير
إشارةً على سبيل التَّفقُّه والتَّقريب لا على سبيل التَّأسيس والتَّأكيد، لأن هذه
المسائل يُحتاج فيها إلى مزيد إعادة نظر، والحكم يكون لأهل العلم الراسخين في
الوقائع الحاليَّة، والفصل فيها مع حصول بعض ما يؤثر على المسائل والأحكام التي
ذكرها الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: اْلأَرْضُ،
فَيُخَيَّرُ اْلإِمَامِ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِيْنَ)، المؤلف
هنا جرى على ما جرى عليه الحنابلة في رأيهم، وهي من مفرداتهم خلافًا للأئمة
الثلاثة، فإنَّ الأرض التي تُغنَم في أرض المعركة هل يكون الحكم فيها إلى الإمام
بالوقف والقسم؟ أم أنها حق للغانمين بكل حال؟
الحنابلة يقولون: إنها على التفريق كما ذكر المؤلف، والجمهور على أنها تُقسَم، وهذا
هو الأصل.
الإشكال الذي ينبعث هنا أنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقفَ أرض سواد العراق،
فالحنابلة يقولون: إنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقفها لأنَّ الأمر إلى الإمام،
فاختار عمر هذا الوقف.
أما الجمهور فيقولون: هي حق للمقسوم عليهم والغانمين والمجاهدين، وأنَّ حُكمَ عمر
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هنا بالوقف كان بالتَّشاور مع مَن لهم الحق، فكأنَّ الصحابة
ومَن قاتل معهم من التابعين قد تبرَّعوا بنصيبهم وأوقفوه بجميعهم، فكان وقفًا بوقف
الغانمين لا بحكمِ الإمام، فهذا هو سبب الإشكال والخلاف في المسألة.
وعلى ذلك يتوجَّه هنا في الحمل، فالحنابلة يحملون فعل عمر على أن هذا للإمام،
والفقهاء يحملونه على أن الأصل أنه قسمة، وأن مردَّ القسمة قد فصل الله -جَلَّ
وَعَلَا- فيها، وما جرى في العراق من فعل عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنَّما هو
برضا الغانمين واتفاقهم على ذلك، ورغبتهم فيما عند الله -جَلَّ وَعَلَا.
إذا قلنا: إنَّ الأمر فيه راجع إلى التخيير فإن الكلام في الأراضي الخراجيَّة، أي
التي كانت تُزرَع، والمشكل الآن أنَّ الأراضي الخراجيَّة صارت أقلَّ خراجًا، فالآن
وُجدت استثمارات الأراضي بناءً وتأجيرًا، فهل نقول إن الأمر على ما كان، وأن محل
الحكم يبقى في الأراضي الخراجيَّة؟ أم أن الحكم قد يختلف فيدخل في ذلك سواه؟
هذه من المسائل التي يتأتَّى فيها البحث لأهل العلم والاختصاص، وعلى كل حال؛ ما من
مسألة من هذه المسائل إلَّا وتجد أن للفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- إشارة
تسندها وتؤيدها.
قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَضْرِبُ عَلَيْهَا خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا،
يُؤْخَذُ مِمَّنْ هِيَ فِيْ يَدِهِ كُلَّ عَامٍ أَجْرًا لَهَ)، وهذا كما عمل النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في خيبر بشطر ما يخرج منها في الحديث الذي في
الصحيح، ونُقرِّهم على ذلك ما شئنا من السَّنوات، ثم مَن حلَّ محلهم فيجب عليه ما
وجب عليهم، وهكذا على تفصيلٍ يذكره الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- في هذه
المسائل.
إذن؛ إذا أُقرَّت بأيديهم فيكون الأمر بالاتفاق، سواء كان لهم النصف أو الربع أو
الثلثين؛ فهذا يختلف باختلاف نظر الإمام، فقد يكون لصعوبة زراعة الأرض، أو لصعوبة
ما يترتب على هذه الزراعة من عناءٍ ومشقَّةٍ، وعظم ما يحصل فيها من خراج، إذن هو
متروكٌ إلى الإمام، فينظر فيها بحسب ما تكون فيه المصلحة، ويحكم فيها بها.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا وَقَفَهُ اْلأَئِمَّةُ مِنْ ذلِكَ،
لَمْ يَجُزْ تَغْيِيْرُهُ وَلاَ بَيْعُهُ)، كأنَّه إيذانٌ منه -رَحِمَهُ اللهُ
تَعَالَى- أو إشعارٌ بأنَّ المسألة فيها بحثٌ وخلاف في كونها تُوقَف أو أنها حق
للغانمين، ومع ذلك يقول: إذا أُوقِفَ شيءٌ منها واتُّخذَ فيه هذا الإجراء فلا مدخلَ
بعد ذلك إلى الاجتهاد فيها، وأنَّ اجتهاد الحكام فيها بالوقف قد أنهى بعده كل
اجتهادٍ، فلا يجوز بعد ذلك أن يأتي حاكم آخر وينزعها، أو يرفع الوقفيَّة عنها
فيبيعها أو يتصرَّف فيها بأنواعِ التَّصرُّف، فما دام أنها وُقفَت وهذا الوقف
مبنيٌّ على أصل، وهذا الأصل صحيح حتى وإن جرى فيه خلاف؛ فهو على ما أُصِّلَ عليه
هذا الأصل، وأُجري عليه هذا الوقف، فلا تغيير ولا اختلاف، وهذا من أعظم ما جاءت به
هذه الشريعة في إقرار الأمور على ما هي عليه حتى لا ينزع هذا، ويرد هذا، ويبيع
هذا...، وهكذا، فيحصل من الاضطراب في ذلك أعظم مما يحصل، فيجب إبقائها على وجهٍ حتى
ولو كان مرجوحًا أو محلًّا للنَّظرِ والبحث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِيْ: سَائِرُ اْلأَمْوَالِ، فَهِيَ لِمَنْ
شَهِدَ اْلوَقْعَةَ، مِمَّنْ يُمْكِنُهُ اْلقِتَالُ، وَيَسْتَعِدُّ لَهُ مِنَ
التُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ عَلى الصِّفَةِ
الَّتِيْ شَهِدَ اْلوَقْعَةَ فِيْهَا، مِنْ كَوْنِهِ فَارِسًا، أَوْ رَاجِلاً، أَوْ
عَبْدًا، أَوْ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرً)}.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِيْ: سَائِرُ اْلأَمْوَالِ).
عندنا مسألة مهمَّة، وهي: هل الأموال في الغنيمة مستحقَّة بحضور المعركة على أيِّ
وجهٍ؟ أو أنَّ مَن كان لهم ديوان، كالجنود المجنَّدة بالرواتب المرتَّبة والأجور
المحدَّدة؛ هل يستحقون الغنيمة أم لا؟
هذا من أكبر الإشكالات؛ فظاهر كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال: (فَهِيَ
لِمَنْ شَهِدَ اْلوَقْعَةَ)، ولم يقيد ذلك، لا بمن لهم ديوانٌ أو لا ديوان لهم، لا
بمن لهم راتب وشيءٌ محدد ولا بمن سواهم، فظاهر ذلك إطلاقه، وهذا هو مشهور المذهب،
والظاهر عندهم.
وبعض الفقهاء وهو مشهور مذهب المالكيَّة -ولستُ في هذا بقاطع- أنه إذا كان لهم شيءٌ
محدَّدٌ لا يكون لهم حقٌّ في الغنيمة.
مثلًا: لو غنموا سفينة كبيرة بمبالغ طائلة، أو غُنِّمَت طائرة؛ فهذه مسائل ليست
بالأمر اليسير.
وينبغي أن يكون لك منهاج أيها الطالب؛ فما يذكره الفقهاء ينبغي أن يكون مؤصَّلًا
لديك، وما يكون من الوقائع يُبحَث على شيءٍ من النَّظرِ وشيءٍ من الاستحياء -إن
صحَّت العبارة- لأنَّ البتَّ في ذلك يُحتاجُ فيها إلى تمام العلم وحسن النَّظر،
وكمال الإحاطة بالواقع، وما يترتَّب على ذلك، وهي من المسائل الاجتهاديَّة فتكون
لأهل الاجتهاد، ولئلَّا تصير الأمور للفوضَى، فهذا يتسلَّط وهذا يأخذ وهذا يقول هذا
حقِّي وهذا لي؛ فيدخل الناس في بلاءٍ لا حدَّ له، وتتغيَّر النَّوايا فيدخل الناس
في الحروب وليس همهم إلا ما يغنمون.
فلما كان الأمر بهذه المثابة؛ نقول: الحكم في الوقائع بخصوصها فذاك له طرائق
مخصوصة، وسبلٌ متدرِّجة، يُرجَع فيها إلى مَن له حقٌّ في الفتيا والاجتهاد، ومَن
إليهم المردُّ في النَّظر والفصل في المسائل والأحكام. فحسبُكَ أن تكونَ عارفًا
بأصل المسألة وما يُمكن أن يدخل فيها وما لا يدخل.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِيْ: سَائِرُ اْلأَمْوَالِ)، يعني
سوى الأراضي.
قال: (فَهِيَ لِمَنْ شَهِدَ اْلوَقْعَةَ)، فعند الحنابلة أن الغنيمةَ فيما سوى
الأراضي تكون للغانمين مطلقًا، وهذا ممَّا يقوي قول الجمهور في كونهم لا يفرقون بين
الأرض وبين غيرها، ما دام أن الغنيمة حق للغانمين والنائم للمجاهدين، وهؤلاء حصل
منهم الجهاد، فلم يختلف في أن تكون الغنيمة مركوبًا أو تكون أرضًا، أو تكون زراعةً
أو تكون عينًا؛ فكل ذلك شيء واحد.
وعلى كل حالٍ كما قلنا: إنَّ مردَّ التَّفريق عند الحنابلة هو ما جاء عن عمر
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وتعرفون أن الصحابة يسيرون إلى قول الصحابي، وما جاء عن عمر
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أقوى من كونه قول صحابي، لأنه حكمٌ من خليفة رسول الله،
واجتمع عليه الصحابة ولم يظهر في ذلك خلافٌ، فكان كالإجماع المسكوت عليه قطعًا، وهم
معتبرٌ عند أهل الأصولِ على اختلاف المذاهب -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وقوله: (سَائِرُ اْلأَمْوَالِ)، يدخل في ذلك الملبوسات والمركوبات، والجمال،
والخيل، والدبابات، والسيارات، ومخازن السلاح، وما يكون معهم من أشياء؛ فكل ذلك
داخلٌ في سائر الأموال، فالمال هو: كل ما يُتموَّل من عينٍ أو نقدٍ ذهبٍ أو فضَّةٍ
أو سواها، فكل ذلك داخل في هذا.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَهِيَ لِمَنْ شَهِدَ اْلوَقْعَةَ).
ولعلَّ هذا أن يكون -بإذن الله جل وعلا- في مستهلِّ الحلقة القادمة، أسأل الله لي
ولكم دوام التوفيق والسداد، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يرفعنا بالعلم، وأن
يوفقنا لتحصيله، وأن يعصمنا من الزَّلل، وأن يحفظنا من الخطأ، وأن يتمَّ علينا
النِّعمة والرحمة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، كما نسأله -سبحانه
وتعالى- أن يرفع عنَّا الأوبئة والأسقام والأمراض والعاهات، وأن يدفع عنَّا البلاء
والمصابات، وأن يحفظنا في أنفسنا وأهلينا ومجتمعاتنا وولاياتنا، وأن يحفظ المسلمين
أجمعين، إن ربَّنا جوادٌ كريمٌ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين
حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن
أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته}.