الدرس الرابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس الرابع عشر

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله تحيةً طيبةً كباركة، وحيا الله الإخوة المشاهدين.
{نشرع من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُخَيَّرُ اْلإِمَامُ فِيْ أُسَارَى الرِّجَالِ بَيْنَ اْلقَتْلِ، وَاْلاِسْتِرْقَاقِ، وَاْلفِدَاءِ، وَالْمَنِّ، وَلاَ يَخْتَارُ إِلاَّ اْلأَصْلَحَ لِلْمُسِلِمِيْنَ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يزيدنا من العلم والهُدَى، وأن يوفقنا للبر والتقوى، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا فيما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في مسائل وتفصيلات مما يتعلق بكتاب الجهاد، وكأنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر جُملةً من المسائل المتعلقة بقيام المعركةِ وحكم القتال، ومتى يكون متعيِّنًا، وحال المقاتلة في أثناء الغزوة من الثبات والصبر وغير ذلك، وأيًّا كانَ فالكتاب الذي أوفى هذا المتن فيه شيءٌ من الاختصار الكثير، وإلَّا فقد ذكر الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مسائل دقيقة وتفصيلاتٍ عجيبة، كأنَّ الفقهاء وقفوا على المعارك كلها، وكأنهم استوعبوا الأمرَ حتى فيما يجدُّ من الحوادث، أو ما ينزل في آخر الأزمان.
ولذلك تعجب أنَّ بعض المسائل التي نصُّوا عليها لم يكن في الحسبان أنها واقعةٌ في ذلك الزَّمان ولا أنهم يحتاجون إلى مثلها في غابر الأيام، لكن لم تزل دورة الأيام تتغير والأحوال تختلف حتى وقعت تلكم المسائل التي قيَّدوها والتي نبَّهوا عليها عيانًا بيانًا، وهي أنفع ما تكونُ للمسلمين في إتيان الحق والاستمساك به وعدم الحيف أو الانحراف عنه، والوقوع في الباطل والتَّلبُّسِ به، فهذه مسائل سواء من مسائل الثبات والصبر ومن الكلام عن الإعلام الحربي، وما يتعلق بعلم الجولوجيا والمساحة العسكرية، وأيضًا الاستخبارات العسكرية وما يدخل فيها؛ كل ذلك تكلَّموا عليه، وإنشاء وزارات خاصَّة للدفاع والجيش ونحو ذلك، وأصل ذلك في فعل عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حين دوَّنَ الدَّواوين، كلها قد ذُكِرَت، كذلك أخذ الجند للرواتب مقابل استعدادهم للقتال وحفظ الناس وأمنهم وأمانهم، والسَّرايا وترتيب أحوالها، الرقابات وغيرها، كل ذلك قد ذكروه، ودخلوا في تفاصيل كثيرة، وهذه التي أشرتُ إليها لا تعدو أن تكون 1 % من دقائق المسائل التي أشاروا إليها وبيَّنوها.
وكلما ذهبتَ إلى كتابٍ من الكتب رأيتَ نُتفةً من المسائل التي ربما فاتت على كتابٍ آخر، فيجتمع من ذلك نُتفٌ كثيرةٌ هي بناءٌ عظيمٌ وأصلٌ أصيلٌ لإتيان هذا الكتاب على وجهه.
ولم يزل أهل العلم يجمعون هذه المسائل فيبنونها على أصلٍ صحيحٍ، ولم يزل أهل الغيِّ والشَّرِّ ومَن في قلوبهم مرض ينتفون هذه النُّتف فيجعلونها منبتَّةً عن أصلها، ويستخدمونها لتحقيق مآربهم والوصول إلى شرورهم وفسادهم، والإمعان في جهالاتهم والتَّربُّص بالمسلمين، واستباحة الدماء، والتَّسلُّط على مَن لا يجوزُ التَّسلُّط عليه قتلًا أو تعذيبًا أو إرادةً بسوءٍ، ولم يزل الناس في بلاءٍ من ذلك، ويعظمُ يومًا بيومٍ، عسى الله أن يدفع عنا وعن المسلمين.
هنا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُخَيَّرُ اْلإِمَامُ)، أراد المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يُبيِّن كما هو مشهور المذهب وقول الفقهاء أنَّ مردَّ الغنائم والنَّظرِ فيها وقسمها وبيانِ ما يتعلَّق بها إلى الإمام.
قال: (فِيْ أُسَارَى الرِّجَالِ)، يعني: المقاتلة الذين لم يكونوا من الصبيان ولا النساء ولا غيرهم.
قوله: (بَيْنَ اْلقَتْلِ، وَاْلاِسْتِرْقَاقِ، وَاْلفِدَاءِ وَالْمَنِّ)، وهذا إذا كانوا ممَّن يجوز استرقاقهم، وهم أهل الكتاب والمجوس على خلاف بين أهل العلم في هل يجوز استرقاق غيرهم أو لا.
إذن؛ أربعة أشياء يُخير بينهم الإمام:
1. القتل.
2. الاسترقاق.
3. الفداء.
4. المن.
وإذا لم يكونوا من أهل الاسترقاق فيُخيَّر الإمام بين ثلاثة أشياء.
1. القتل.
2. والفداء.
3. -والمن.
ولأهل العلم في ذلك تفاصيل، وكما قلنا لَمَّا كانت هذه المسائل للإمام؛ فحسبُ الطالب أن يعرف أصلها، وأمَّا التَّحقيق فيها والوصول إلى الفصل في بعض هذه المسائل قد لا يُجزي كثيرًا في مثل هذه المراحل، ولمن هو في مثل منزلتنا إلى التحقق والتفصيل.
ولَمَّا ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن الأمر إلى الإمام كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد/4]؛ قال: (وَلاَ يَخْتَارُ إِلاَّ اْلأَصْلَحَ لِلْمُسِلِمِيْنَ)، يعني: أنَّ اختيار الإمام ليس اختيار هوى أو شهوة، ولكن يختار ما فيه مصلحة للمسلمين، فقد يكون في بعض الأحوال الأصلح هو الفداء لحاجة المسلمين إلى بعضِ ما يكون عونًا لهم على زيادة ما في بيت المال مما تُقضَى به حوائج الناس ويُدفَع به فاقتهم، ويحصِّل به الخير لهم، وقد يكون في بعض الأحوال المنُّ هو الأصلح، فقد يكون سببًا لاستمالة قلوب غيرهم من الكفار، أو دفع شرِّ مَن أراد أن يتربَّص بنا شرًّا من قوَّةٍ قويَّةٍ وجيشٍ عظيمٍ يُريدُ أن ينتقم لهؤلاء ونحو ذلك، وقد يكون الاسترقاق أو القتل هو الأصلح لحصول البلاء منهم وكثرة شرِّهم وإرادة تأديب غيرهم، ولا يحصل لمثل هذه الجيوش انزجار إلَّا بأن يروا كيف مصيرُ من يعتدي ويظلم ويتسلط على بلادنا وأعراضنا.
المهم أنَّ ذلك للإمام يختار فيه الأصلح، وهذه قاعدة متقرِّرة عند أهل العلم، وكثيرًا ما يرددونها على اختلاف المذاهب وهي أن تصرفات الإمام منوطةٌ بالمصلحة، فإذا قيل إنَّ الأمر للإمام فهو للإمام ولكن ليس تشهيًّا ولا هوى، وإنما هو مصلحةٌ ونظرٌ، ولذلك قال: (وَلاَ يَخْتَارُ إِلاَّ اْلأَصْلَحَ لِلْمُسِلِمِيْنَ).
إذن؛ المصلحة ليست للأمير وليست شخصية، وليست لدائرة ضيقة، وليست لأجل فلانٍ أو فلان، وإنَّما ما يكون الأصلح لعموم أهل الإسلام ولبلدةِ المسلمين فإنه يفعل ذلك ويكون هذا هو الأتمَّ في نفسه.
ثم إذا اختار الإمام وكان قد بذل جهده ووُفِّقَ فالحمدُ لله، وإن فاتَ عليه ذلك فهو مأجورٌ على اجتهاده، ومعفوٌّ خطؤه، وإن كان منه تفريطٌ فعلى الله حسابه، ولكن ليس لأحدٍ أن يفتات عليه، فلا يقول: ما دام أنَّ الإمام فرَّط فنحن نفعل كذا وكذا...، فخطأ الإمام أو حصول تجاوز منه أو جريان أمرٍ على غير أصلٍ صحيحٍ لا يُجوِّز الافتيات عليه ولا التَّصرُّف من دونه، فإنَّ هذا خلل كبير، فإذا افترضنا أنه تصرف تصرفًا ليس بصحيحٍ فكل ذلك لا يُسوِّغ أن يُفتات عليه أو أن يُتجاوز ما له من الإمام وما أنيطَ به من الطاعة وما تعلق به من إجراء هذه الأحكام والمسائل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنِ اسْتَرَقَّهُمْ أَوْ فَادَاهُمْ بِمَالٍ فَهُوَ غَنِيْمَةٌ)}.
يكون غنيمة للمسلمين، ويكون للمسلمين على حسب ما جاء في قسمتها، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال:41]، فالغنيمة يُخمَّسُ خمسُها لله ورسوله، وتُجعلُ على ما جاء في قَسمها، وستأتي الإشارة إلى ذلك، ثم يكون الباقي بينَ الغانمين، والإمام يقسمُ في ذلك، ومَن له غنيمةٌ أخذها وسُهِمَ له، ومَن كان له رضخٌ وإعطاءُ شيء قليل كالمشرك الذي قاتل معهم أو مَن ليس من أهل القتال كالنساء والصبيان؛ فيُعطيه الإمام شيئًا دون سهم المقاتل الذي هو غنيمةً مستحقَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُفَرَّقُ فِيْ السَّبْيِ بَيْنَ ذَوِيْ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُوْنُوْا بِاْلغِيْنِ)}.
من رحمة الإسلام وعِظَم هذه الشريعة وسماحتها أنَّه إذا استُرقَّ مَن استُرقَّ من المشركين؛ فلا يُفرَّق بينَ الرحم والمحرم، كالأخ وأخيه، أو الأخ وأخته، أو الوالد وولده، أو البنت وأمِّها؛ فلا يُفرَّق بينهم إلا أن يكون بالغين، فإذا كانوا بالغين ففُرقَ بينهم فلا بأسَ في ذلك، لكن من حيث الأصل ما دام ولد وأمَّه وأب وبنته أو غير ذلك فإنه لا يُفرَّق بينهم، وإنما يُجعلون سهمًا واحدًا رأفةً بهم، ولتحقيق المصلحة التي هي كونهم غُنِموا، ولئلا يفوت عليهم ما يكون به أُنسهم والشَّفقة عليهم في تلك الحال التي يحتاجون فيها إلى اجتماعٍ ونحوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنِ اشْتُرِيَ مِنْهُمْ عَلى أَنَّهُمْ ذَوُوْ رَحِمٍ فَبَانَ خِلاَفُهُ رُدَّ اْلفَضْلُ الَّذِيْ فِيْهِ بِالتَّفْرِيْقِ)}.
هذه مسائل دقيقة، وابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مع أنه اختصر هذا الكتاب، لكن ترونه بين فينةٍ وأخرى يغوص كعادة الفقهاء، فيذكر مسألةً لا تجري على سَنن الكتاب من كونه يأتي على أمهات المسائل وأصولها، وتذكرون مسائل جرِّ الولاء، وهي من أكثر المسائل التي جرى فيها إشكال وفيها طول وصعوبة، وهي مسائل نادرة الوقوع، وفيها صعوبة حتى في فهمها وإدراكها، وكذلك هذه المسألة، فإذا جاءت امرأة حال الاسترقاق وقالت: هذه أختي؛ فقد تكون أختها وقد لا تكون، وإنما هي صديقتها أو جارتها وتألفها كإلفها لأختها، فنحنُ ما الذي يُدرينا؟!
فلو أنهما بيعتا لأجل الغانمين مثلا بخمسين ألفًا، فلو بانَ خلاف كونهما أختين، فمعنى ذلك أن هذا المشتري يُمكن أن يفرق بينهما، فيبيع هذه ويترك هذه، أو يبيعهما جميعًا كلٌّ على حدة، ويُمكن له أن يستمتع بهما إذا كبرتا، لكن لو كانتا أختين فإذا استمتع بواحدةٍ لم يجُزْ له أن يستمتع بالأخرى، فما دام أنهما لا تباعان إلا مجتمعتين فسيقل سعرهما، وإذا لم يكونا ذا رحمٍ فإذا بيعتا وأمكن تفريقهما فسيزيد سعرهما، فلما كان الأمر بهذه المثابة؛ فيلزمه ردُّ الفضل؛ لأنَّه تبيَّن فيه شيءٌ من النقص في قيمة المبيع.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا يَسْتَعِيْنُ بِهِ فِيْ غَزْوِهِ، فَإِذَا رَجَعَ، فَلَهُ مَا فَضَلَ، إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ لَمْ يُعْطَ لِغَزْوَةٍ بِعَيْنِهَا، فَيَرُدُّ اْلفَضْلَ فِيْ اْلغَزْوِ)}.
يعني: مَن حُمِلَ على شيءٍ في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا- فإذا رجع فله ما فضلَ، كأن يُعطَى مالًا يتقوَّى به، أو زُوِّدَ بزادٍ كتمرٍ أو بُرٍّ أو غير ذلك، فإن ما فضل بعد الغزوة فهو له، لا يُرجَعُ عليه فيه، ولا يُؤخذ منه كما يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
ثم يقول: (إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ لَمْ يُعْطَ لِغَزْوَةٍ بِعَيْنِهَا، فَيَرُدُّ اْلفَضْلَ فِيْ اْلغَزْوِ)، إذن الحال:
- إما أن يُعطَى على أنه له، كأن يُجعل له شيء يُقاتل به، ثم يُردُّ على سبيل الإعارة فإنه يُمكن ردُّه وأن يعود إلى بيت المال أو إلى الإمام ونحو ذلك.
- وإما أن يُزوَّدَ لأجل أن يُقاتل: فإذا كان قد مُلِّكَ لأجل أن يُقاتل ويستفيد فإذا رجع فالفضل له.
إذن؛ هما حالان يختلف معهما الحكم، فما أُعطيَ لأجل أن يغزو فإن فضل شيء منه فهو له، وما جُعل معه تقويةً له في غزوه على أن يرده فإنه يرده ولا يتملَّكه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ حُمِلَ عَلى فَرَسٍ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ فَهِيَ لَهُ إِذاَ رَجَعَ، إِلاَّ أَنْ يُجْعَلَ حَبِيْسً)}.
إذا لم يكن عنده فرس ثم قال له شخص: خذ هذا الفرس واغزُ به؛ فإن هذا الفرس في الأصل أنه يكون له.
وفي هذا قصَّة عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا حمل شخصًا على فرسٍ، فلمَّا جاء هذا الرجل من الغزو أراد أن يبيع هذا الفرس، فأراد عمر أن يشتريه، فكأنَّ عمر قد وقع له أن يبيعه له برخصٍ؛ لأنه هو الذي أعطاه إياه، فلم يبعه كذلك، ونبَّهه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.
فدلَّ ذلك على أنه لَمَّا أُبيحَ له أن يبيع دلَّ على أنَّه تملَّكَ ذلك وصارَ له، وهذا هو محل الشَّاهد من هذا الحديث.
قال: (إِلاَّ أَنْ يُجْعَلَ حَبِيْسً)، يعني: ثَمَّ شيءٌ ممَّا يُحمَل عليه المجاهد أن تُجعل للقتال فقط، وتُوقَف عليه، فهذه قد حُبِّسَت وأُوقفَت على الجهاد فتكون وقفًا، فبناء على ذلك لا تُملَك، فإذا رجع فإنَّه يردُّها لبيت المال، أو للإمام أو للجهات المختصَّة بذلك.
وهنا ينبغي أن يُعلَم أنَّه من أعظم ما يكون الوقف على ما يكون به القتال في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا- وبناء على ذلك ما يكون من آحاد الناس من إعانة الجهات المختصَّة على شراء آليَّات أو نحوها ممَّا تُتَّخذ لصَدِّ الشَّرِّ ومنعِ الشُّرور على الإسلام والمسلمين وحفظ بيضتهم، ومنع التَّسلُّط عليهم؛ فإنَّ ذلك من أعظم ما يكون من الأعمال، وأنَّ ما تبذله الحكومات وما يكون من بذلٍ من بيت المال وإن عظُمَ أو كثُرَ فإنَّ ذلك من أعظم ما يُبذَلُ في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا- وبعض البلدان مثل بلدنا وغيرها قد تزيدُ النفقة فيها على إعداد العسكر والتَّأهُّب، سواء كان ذلك بشراء أسلحةٍ، أو كان ذلك بنقل هذه المهنيَّة أو تطوير هذه الصناعة؛ فإنَّ ذلك من أعظم ما يكون من العمل الصالح، ولا يستكثر الناس هذا الأمر، بل هذا مما تحصل به البركة للبلاد، وهو من النفقة المخلوفة، ومن النفقة العظيمة، ومما يتحصل به خيرات كثيرة، ولذلك كان من أول الأمر أن الحبسَ والوقفَ في سبيل الله -جَلَّ وَعَلَا- من أعظم الأموال، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وأَمَّا خَالِدٌ: فإنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أدْرَاعَهُ وأَعْتُدَهُ في سَبيلِ اللَّهِ» ، فهذا أصلٌ لهذا الباب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ اْلحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ اْلمُسْلِمِيْنَ رُدَّ إِلَيْهِمْ إِذَا عُلِمَ صَاحِبُهُ قَبْلَ القَسْمَة)}.
هذه المسألة مفروضة في أن أهل الحرب -أو الكفار- هجموا على المسلمين فاستولوا على بعض أموالهم، ثم رجع المسلمون فهجموا عليهم فاسترجعوا تلك الأموال، فهذه الأموال إن عُلم أهلها رُدَّت إليهم، لأنها أموال مسلمين، فلا تدخل في الغنيمة أصالةً، وأمَّا إذا لم تُعلَم أنها لأحدٍ فتعودُ على الأصل وأنها غنيمة، وتكون قسمتها قسمة الغنيمة، وستأتي الإشارة إلى قسمة الغنيمة كما نبَّهنا قبل قليل.
قال: (رُدَّ إِلَيْهِمْ إِذَا عُلِمَ صَاحِبُهُ قَبْلَ القَسْمة)، فإذا علمنا أنَّ هذا المال لآحاد المسلمين فلا يجوز لنا أن نقسمه، ولا يجوز لنا أن ندخله في الغنيمة، ووجب الرَّدُّ إليه، وكان هذا من حفظ المسلمين وحمايتهم، وعدم التَّطاول على أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قُسِمَ قَبْلَ عِلْمِهِ، فَلَهُ أَخْذُهُ بِثَمَنِهِ الَّذِيْ حُسِبَ بِهِ عَلى آخِذِهِ)}.
أمَّا إذا لم يُعلَم وقُسِمَ فصار غنيمةً، فوصل إلى آحاد المسلمين، فجاء صاحبه ليطلبه أو تعرَّف عليه مَن أُخِذَ منه، فما دام أنه قد قُسِمَ فقد قُسِمَ على وجهٍ صحيحٍ، وبناء على ذلك لك أن تأخذه بقيمته، فتعطي الرجل قدر ما يساوي ثم تأخذه تحصيلًا للمصلحتين، فلا يُفوَّت على هذا نصيبه من الغنيمة، ولا يُفوَّتُ على هذا عينُ ماله الذي أخذ منه، لكن لا يكون له أخذه بدون عوض بعد القسمة، لئلا يُفتات على الغانم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ بِثَمَنٍ، فَلِصَاحِبِهِ أَخْذُهُ بِثَمَنِهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ رَدَّهُ)}.
يعني: إذا كانت قد بُذلَت أو صارت من نصيب بيت المال، ثم بيعت؛ فله أن يأخذها بقيمتها، وإن أخذها بغير ثمنٍ كأن تُعطَى إليه، وكما قلنا إن للإمام أن يُعطي ويتبرَّع، وأعماله منوطةٌ بالمصلحة، لأيِّ مصلحةٍ كانت، إما أن يكون قاضيًا من قضاة المسلمين، أو له خلافة في الناس بعد ذهاب الإمام مع الجيش، أو لغير ذلك من الأشياء التي قامَ بها، أو يراه الإمام سببًا لتحصيل ذلك على ما قلنا من أن تصرفات الإمام منوطةٌ بالمصلحة، فإذا أعطاه بغير ثمنٍ ثم تبيَّن أنها لشخصٍ فتُردُّ إلى صاحبها بودن شيءٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنِ اشْتَرَى أَسِيْرًا مِنَ اْلعَدُوِّ، فَعَلى اْلأَسِيْرِ أَدَاءُ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ)}.
يعني: لو أنَّ أحدًا من المسلمين اشترى أسيرًا من العدو، فهو قد أنقذَ هذا الأسير وخلَّصه من العدو، وأنعم عليه بذلك، وهي نعمةٌ عظيمَة، فعلى الأسير أن يُخلِّصَ لذلك المشتري الثَّمن الذي اشتراه به لعِظَم المنَّةِ التي منَّ بها عليه، وفي الآثار التي جاءت عن عمر وغيره ما يدل على ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلأَنْفاَلِ)}.
الأنفال باب من أبواب تصرفات الإمام في حال المعركة، والمراد بها تقوية الجيش، وزيادة صلابته، وإعانته على أداء المهمَّات، وتخصيص بعضهم بفضلٍ من الأمور حتى يقوى، وحتى يستعد للأمور الصعبة، فإنَّ في أثناء الجهاد من الأحوال ومن الوقائع ومن الأمور التي ليس كلُّ أحدٍ أن يتصدَّى لها، ولا أن يقوم بها، ولا أن ينبري، فاحتيج إلى الأنفال.
والأنفال من النَّفل، وهو الزَّيادة، فيُعطَى شيئًا زائدًا على الغنيمة التي تُفرَض له لسببٍ من الأسباب.
والمؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شرعَ في هذه الأنفال، ونحن نأخذها -إن شاء الله- على شيءٍ من الاستعجال، وكما قلنا لكم: إنَّ هذه أشياء فيها شيء من التفاصيل والتَّدقيقات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهِيَ: الزِّياَدَةِ عَلى السَّهْمِ اْلمُسْتَحَقِّ)}.
إذن؛ هـي زيادةٌ، ولذلك سُمِّيت صلاة النَّفل "نافلة"؛ لأنها زائدةٌ على الفريضة، فهذا إذن زائدٌ على القدر المستحق من الغنيمة.
ومن المعلوم شرعًا أنَّ الغنيمة والأنفال لا تُعارض الإخلاص والأجر في الجهاد، ولأجل ذلك أمر الله -جَلَّ وَعَلَا- بالجهاد ورغَّبَ فيه، وبيَّنَ أنَّ لهم الغنيمةَ وما يكون في ذلك من الخير، لكن بلا شك أنَّ مَن حصل له جهاد ولم يأخذ من الغنيمة فهو أعظم لإخلاصه وأتمُّ لأجره، ولذلك جاء في الحديث الذي عند مسلم أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «مَا مِنْ غازِيَةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ فيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ، إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ» ، ولا يجوز للشخص أن يُقاتل من أجل الغنيمة، يُقاتل في سبيل الله ويطلب رضا الله نصرة لدينه، وحفظًا لبلده، ومنعًا لتطاول الكفار على أهل الإسلام، فهذا هو المراد، وهذا هو المقصود، لكن لا يمنع أن يتأتَّى له مع ذلك شيءٌ من الغنائم والأنفال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: سَلَبُ اْلمَقْتُوْلِ غَيْرُ مَخْمُوْسٍ لِقَاتِلِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيْلاً فَلَهُ سَلَبُهُ»)
}.
سَلبُ المقتول: هو ما يُسلَبُ منه، فإذا قتل المقاتل قتيلًا أخذَ ما معه، قد يكون سيفًا له قيمة وثمن، أو تكون عليه ثياب فيها حرير أو فيها جمال، أو معه شيء من الذَّهب، أو معه شيء من الأموال وغيرها، فهذا سلب مقتول، فإذا قتل الإنسان قتيلًا فهل له أن يأخذ ذلك أو لا؟
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (سَلَبُ اْلمَقْتُوْلِ غَيْرُ مَخْمُوْسٍ لِقَاتِلِهِ)، هل هو على سبيل الإطلاق، أو هو شيءٌ إنما يُبذَل ببذل الإمام؟
وبعبارة أخرى: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قَتَلَ قَتِيْلاً فَلَهُ سَلَبُهُ»، أهل العلم يختلفون في هذا؛ هل قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- ذلك تشريعًا فيكون كل مَن قتل قتيلًا له سلبه، ويكون حكمًا مستقرٍّا، أم أنَّ النبي قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- مخصوص بتلك المعركة باعتبار أنَّه قال ذلك اعتبارًا بأنه أميرَ الجيش أو حاكمًا، فيكون مردُّ ذلك إلى الحكام، فمتى جعلها الحاكم إليهم أخذوها، ومتى لم يجعلها إليهم كانت غنيمة؟
بعض أهل العلم قال: إنَّ هذا حكمٌ عام.
وبعضهم قال: مردُّها إلى الإمام، فيُمكن للإمام أن يُنفِّلَ بسلب المقتول فيكون للقاتل، ويُمكن أن لا يُنفِّلَ فيكون ما يُؤخذ من سلب المقتول لعموم المسلمين.
وكلا القولين فيه نظرٌ وله اعتبار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ مَا عَلَيْهِ مِنْ لِبَاسٍ، وَحَلْيٍ، وَسِلاَحٍ، وَفَرَسِهِ بِآلَتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَتَلَهُ حَالَ قِيَامِ اْلحَرْبِ غَيْرَ مُثْخَنٍ، وَلاَ مُمْتَنِعٍ مِنَ اْلقِتَالِ)}.
ما الذي يدخل في السَّلَب؟
لباسه، والحُلي -جمع مفرده حَلي- وسلاح، وفرس بآلتها.
قوله: (وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَتَلَهُ حَالَ قِيَامِ اْلحَرْبِ)، يعني: لو قتله بعد انتهاء الحرب، كأن يجد شخصًا لم يستطع الهرب بعدما انتهت المعركة فقتله؛ فهذا لا يستحق السَّلب.
قوله: (غَيْرَ مُثْخَنٍ، وَلاَ مُمْتَنِعٍ مِنَ اْلقِتَالِ)، فإذا كان كذلك فلا يعتبر هذا داخل في السَّلب، لكن من قَتَلَ حال قيام المعركة فله سلبه، وفي هذا قصَّة معاذ ومعوَّذ ابني عفراء الذين قتلا أبا جهلٍ، فاختلفا مَن الذي قتله، فحكم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
إذن؛ إذا ثبتَ قتله له استحقَّ سلبه وأثره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِيْ: أَنْ يُنَفِّلَ اْلأَمِيْرُ مَنْ أَغْنَى عَنِ اْلمُسْلِمِيْنَ غَنَاءً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، كَمَا أَعْطَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- سَلَمَةَ بْنَ اْلأَكْوَعِ يَوْمَ ذِيْ قَرَدٍ سَهْمَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَنَفَّلَهُ أَبُوْ بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَيْلَةَ جَاءَهُ بِتِسْعَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ امْرَأَةً مِنْهُمْ.
الثَّالِثُ: مَا يُسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُوْلَ اْلأَمِيْرُ، مَنْ دَخَلَ النَّقْبَ، أَوْ صَعِدَ السُّوْرَ، فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ جَاءَ بِعَشْرٍ مِنَ اْلبَقَرِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَلَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَيَسْتَحِقُّ مَا جُعِلَ لَهُ.
الثَّانِيْ: أَنْ يَبْعَثَ اْلأَمِيْرُ فِيْ اْلبَدَاءَةِ سَرِيَّةً، وَيَجْعَلَ لَهَا الرُّبُعَ، وَفِي الرَّجْعَةِ أُخْرى، وَيَجْعَلَ لَهَا الثُّلُثَ، فَمَا جَاءَتْ بِهِ أَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لَهَا، وَقَسَّمَ اْلبَاقِيَ فِيْ اْلجَيْشِ وَالسَّرِيَّةَ مَعً)
}.
قوله: (الثَّانِيْ: أَنْ يُنَفِّلَ اْلأَمِيْرُ مَنْ أَغْنَى عَنِ اْلمُسْلِمِيْنَ غَنَاءً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ)، يعني واحد من المسلمين عملَ عملا -كما يقولون- بطوليَّا، أو كان له أثرٌ في ردِّ العدو، أو منع بلاءٍ أن يحصل، أو كأن يخترق العدو طائرة أو سرية من العدو فلم يستطع أحد اكتشافهم إلا ذاك، فعلم الإمام هذه الأثر أو هذا الجَهد؛ فأراد أن يخصَّه بشيء، فإن للإمام أن يخصَّه، وهذا يكون إناء من غير شرط، وليس مثل الذي قتل قتيلًا فأخذ سلبه، وإنما هذا ابتداء من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
وسلمة بن الأكوع معروفٌ أنه أسرع الصحابة، فكانت فيه سرعة لا يكاد يقاربها أحد، فكان منه كرٌّ وفرٌّ وقدرةٌ على اللحاق بالأعداء ومنعهم ونحو ذلك، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أعطاه، وجاء عن أبي بكرٍ أنه فعل مثل ذلك.
إذن؛ مَن تصدَّى لأمرٍ زائدٍ عن المعتاد ومنع شرًّا كثيرًا يُقدره الإمام بقدره فللإمام أن يخصَّه بسهمٍ أو يعطيه شيئًا، ويكون ذلك من التَّنفيل والزيادة التي يخصه بها على ما له من الغنيمة مع الجيش سواءً بسواء.
قوله: (الثَّالِثُ: مَا يُسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُوْلَ اْلأَمِيْرُ، مَنْ دَخَلَ النَّقْبَ، أَوْ صَعِدَ السُّوْرَ، فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ جَاءَ بِعَشْرٍ مِنَ اْلبَقَرِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَلَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَيَسْتَحِقُّ مَا جُعِلَ لَهُ)
.
هذا حثٌّ وتحفيز للجيش بأن يكون لهم أثر.
على سبيل المثال: في هذه الأزمنة المتأخرة لو قال الأمير: من قتل شخصًا فله ألف، ومَن قتل قنَّاصًا فله ألفين، ومَن دمَّر مُدرَّعةً فله عشرة، ومَن أصابَ طائرةً فله مائة ألفٍ؛ فذاك إلى الأميـر، فإذا فعل المقاتل ما علِّق عليه الشرط استحق ما كان له من التنفيل والزيادة التي كان للإمام فعلها، وذلك كان من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- في مواطن، وعمل بها الصحابة والخلفاء بعده، وهو مستقرٌّ عند الفقهاء.
قوله: (الثَّانِيْ: أَنْ يَبْعَثَ اْلأَمِيْرُ فِيْ اْلبَدَاءَةِ سَرِيَّةً، وَيَجْعَلَ لَهَا الرُّبُعَ، وَفِي الرَّجْعَةِ أُخْرى، وَيَجْعَلَ لَهَا الثُّلُثَ)، هذا التَّنفيل للسرايا، فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه نفَّل في البداية الرُّبع، وفي النهاية الخُمس، فإذا كوَّن الإمام خليَّةً -أو سريَّة صغيرة- لتنفِّذ مهمَّة؛ فهذه المهمَّة للإمام أن يجعل لها الربع في الذهاب، ويجعل لها الثلث في الرجوع.
والفرق بينهما كما يقول الفقهاء: أنهم في الذهاب لازال الجيش قوي متماسك، ولم يُثخَن فيه تعبٌ ولا كدٌّ ولا نصبٌ؛ فلأجل ذلك يُمكن أن يُعطون الربع مما يصيبوه، فيقول الأمير: تذهبون إلى المكان هذا وفيه تجمُّع لهؤلاء المقاتلة، فتسيطروا عليهم أو تبيِّتوهم، ثم ترجعون، فذهبوا وبيتوهم ورجعوا بعشرين من الأسلحة المحمولة وبسيارتين ونحو ذلك؛ فللإمام أن يجعل له ممَّا حصلوه الربع، والباقي يعود إلى الغنيمة وهم شركاء مع المسلمين فيها، وهذا التنفيل في بداية الحرب
وله أن يجعل لهم الثالث في الرجوع، لأنَّه جاء بذلك الحديث عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- أنه جعل لهم الثالث، وذلك أنهم في الرجوع يكون فيهم شيء من الضعف والتعب، وتكون الأزواد قد نفدَت، واشتاق إلى الأهل، ورأى من قوَّة العدو؛ فليس في كل الأحوال ينشط الناس في الرجوع كما ينشطون في الذهاب، وبناء عليه فللإمام أن يزيد من التَّنفيل لتقوى الهمَّة ويتسارع الناس إلى أداء مثل هذه المهمَّة؛ فلأجل ذلك قال المؤلف:( وَفِي الرَّجْعَةِ أُخْرى، وَيَجْعَلَ لَهَا الثُّلُثَ)، فهذا مخصوص بالسرايا التي تنفرد عن الإمام، فما جاءت به أخرج خمسه.
هل حقهم يكون حقهم قبل التخميس أو بعده؟
يكون بعد التَّخميس الذي جاء في الآية، وسيأتي بيان ذلك وتفصيله -بإذن الله جل وعلا- في الدروس القادم.
قال: (ثُمَّ أَعْطَى السَّرِيَّةَ مَا جَعَلَ لَهَ)، وهو الربع في الذهاب إن كانت سريَّةً في الذهاب، والثلث في الرجوع إن كانت من السرايا التي كُلِّفَت حال رجوع الجيش.
قال: (وَقَسَّمَ اْلبَاقِيَ فِيْ اْلجَيْشِ وَالسَّرِيَّةَ مَعً)، يعني لا يُظن أنَّ هذا الذي يأخذوه هو حقهم فقط؛ بل هذا ما يختصُّونَ به، وما بقي يشتركون فيه مع الجيش سواء بسواء.
والآن اختلفت الأمور في مسائل الغنائم ولم تكن مثلما مضى، ولعل أن يأتينا الحديث عنه -بإذن الله جل وعلا- في موضعه من المجلس القادم.
وأظنُّ أن في هذا كفاية، ونجعل ما تبقى في مستهل الدرس القادم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
وأنتم مشكورون والإخوة جميعًا، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك