الدرس السابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

2908 22
الدرس السابع عشر

عمدة الفقه 8

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياكَ الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، بلغكم الله الخير والهُدى.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول الموفق ابن قدامة -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ اْلفَرَسُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ، فَلَهُ سَهْمٌ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسَانِ، أُسهِمَ لَهُمَا، وَلاَ يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ)}.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله واصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يمنَّ علينا وعليكم بالتوفيق والسَّداد، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا ولذرياتنا ولأحبابنا والمسلمين، وأن يحفظنا من الأوبئة والأسقام، ومن الأمراض والعاهات، وأن يحفظ عباده المؤمنين، وأن يُنزل علينا رحمته، وأن يصرف عنَّا بلاءه، وأن يغفر لنا، ويجعلنا بمنأى من الفتنة، وأن يُتمَّ علينا الصحَّة، وأن يشفي مرضانا ويغفر لنا ولكم وللمسلمين.
أمَّا بعد؛ فبين يدي الحديث في هذه المسائل التي كنَّا قد بدأناها في المجلس الماضي فيما يتعلق بأحكام الغنائم أظلَّ بالناس ظُلَّةٌ عظيمةٌ كبيرةٌ، وهو هذا الوباء الذي يُوشك أن يدهمَ الناس، وأن يُغيِّرَ مسار حياتهم، وإن كان الحديث ليس فيما يتعلق بذلك، لكني أحبُّ أن أنبِّه إلى مسألةٍ لا بدٌّ من الحديث عنها، وذلك أن الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- جعلوا الفقه على قسمين:
- منه فقه واجب عيني تعلمه والعمل به.
- ومنه في الكفائي.
فلإن كان الذي بين يدينا من الفرض الكفائي فإنَّما يتعلق ببعض مسائل هذا الوباء، وما يلزم المكلَّفَ فيه من الفرض العيني، فلأجل ذلك ينبغي ويجب أن يُعلمَ ما يتعلق بذلك من المسائل.
ومن أهمِّ هذه المسائل: أنه لمَّا كانت هذه أمور تخضع لجهة اختصاص؛ فإنه يجب على كل مكلَّف أن يرعى ما يصدر من جهات الاختصاص، وأنَّ التفريط في ذلك هو تعريض الإنسان لنفسه للعقوبة، وتعرُّضٌ للتَّبعةِ عند الله -جَلَّ وَعَلَا.
ولما كان في الأحاديث من منع إيراد الممرض على المصحِّ وما يتبع ذلك من طلب فعل الأسباب، ولما كانت هذه الأمور أمورًا خفيَّةً، ففيما يتعلق بالأسباب بعض الأشياء ظاهرة، فيظهر تعاطي الناس لها واستجابة الناس لها، ولكن هذه أمور خفيَّة، وقد عُلِّقَت الأسباب بقول أهل الخبرة والاختصاص، فكونها لا تظهر لك لا يعني أنه لا يجب عليك تعاطيها؛ بل يجب التَّعاطي، ويجب أخذ الحرص، وأن التفريط في ذلك والتَّخاذُل هو تعريض نفسك وأهلك ومَن معك للتَّبعة عند الله -جَلَّ وَعَلَا- والهلكة، وأنَّ ما يتعلق بإتيان الإنسان لبعض التفريطات، وما يتبعها من انتشار الوباء أو انتقاله عن طريقه؛ فإنه عُرضةٌ للتَّبعة عند اله -جَلَّ وَعَلَا- فالأمر في ذلك خطير!
ولا يأتينا أناسٌ يقولون: نحن مُتوكِّلون ومُعتمدون على الله! فإنَّ التَّوكل على الله يوجب أخذ الحيطة والحذر والأسباب، وأهل اليمن لما قدموا مكَّة ولم يحملوا زادًا وقالوا: نحن المتوكِّلون؛ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «أنتم المتواكلون»، يعني تواكلتم على غيركم ممَّن يطعموكم ويعطوكم.
إذن؛ يجب أن يُعلَم أنَّ التَّوكُّلَ يأمر بأخذ الأسباب، وأخذ الحيطة والحذر، ولمَّا كان الأمر في ذلك من جهات الاختصاص متعلقٌ بالوجوب واللزوم؛ كان ذلك واجبًا لا محالة، وأنتم تعلمون أنه في كثيرٍ من بلدان أهل الإسلام عُطِّلَت المصالح الدينية أو الدنيوية، وبعضها متأرجح بحسب نظر أهل الاختصاص في كل بلدٍ بحسبه، فلما كان الأمر كذلك عُلِمَ أنَّ هذا الأمر يأتي إلى درجة الخطر والحيطةِ والاحتراز بأعلى درجاته.
وإيَّاكم أن يأتي الشرُّ من قبلكم على المسلمين، وإيَّاكم أن تكونوا سببًا لبلاءٍ على أنفسكم أو والديكم أو أزواجكم وذرياتكم أو مَن حولكم، وخاصَّة كبار السِّن، وخاصَّةً المرضى والزَّمنى.
أيضًا ما يتبع ذلك من الإفصاح لمن علق به هذا المرض واجب، حتى من لحق به علامات الاشتباه مما يستوجب معها اتِّخاذ الإجراء فهو أخص في حقه، وأوجب في نفسه أن يتخذ الإجراءات التي طُلبت منه.
وإن من الإجراءات التي ذُكرت ما يتعلق بالحَجْر، في بعضها قد لا يكون هناك تحكُّمٌ كامل على مَن طُلب منهم الحجر، ولكن ليعلم المرء أنَّه محاسبٌ على ذلك عندَ الله، فهو بينه وبين الله، فإيَّاه أن يتجاوز هذه الحدود أو أن يتخطَّى هذه التعليمات.
ومن أعظم ما يتعلق بهذا الوباء: أنه لحقت بالناس خلاف توقعاتهم في البيع والشراء، وفي التعاقدات، وفي بعض الأمور المتعلقة بذلك، فلحق بالناس من التبعة والضعف، والعجز عن السداد، وتحمُّل تبعات ماليَّة للأجراء والعمَّال، في مصانع أو فنادق أو غيرها، وقد كان من أعظم ما يكون بين أهل الإسلام قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضً»، يرفع ما سقط منه، ويخفض ما اشتدَّ عليه، ويوسِّعُ ما ضاقَ، ويتراحم الناس فيما بينهم، وقد جاء في حديث جابر في الصحيح الأمر بوضع الجوائح، وذلك فيما يتعلق بالثِّمار، وهذا عند الحنابلة على الوجوب، وعند غيرهم على الاستحباب، فما يتعلق بسائر الأمور لا أقل من الاستحباب، قياسًا على ما جاء في حديث جابر، واعتبارًا بعموم النصوص التي جاءت في دلائلها، أن المؤمنين إخوة، وإنظار المُعسر، واعتبار ما يتعلق بالأسباب.
ومنها ما هو لازم بما يُنظَر في العقود وغيرها، ومقتضيات هذه العقود في الشرع، وما أبرموه من الشروط، ومنه ما هو مُستحب، فلا يجب علينا أن نتأخَّر لا عن الواجب ولا عن المستحب، وأن نُوسِّع على مَن ضاقَ عليه، وأن نعين مَن ضعُفَ، وأن نرحم من سقط، وأن نؤخِّر ما تعجَّل، وأن نكون في ذلك إخوة متحابِّين.
أسأل الله أن يفرج الكربة، وأن يرفع المحنة، وأن يُنزل الرحمة، وأن يُعقب المسلمين في أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم وبلدانهم الخير والسعادة، والأنسَ والأمن والأمان، والدَّعة والرَّاحة، وأن يفتح لهم ما ضاقَ، وأن يُيسِّر لهم ما تعسَّر، وأن يُعقبهم الخير في الدين والدنيا.
هذه إشارةٌ سريعةٌ علقت في البالِ فيما يتعلق بهذا الأمر.
وخـلاصةً: يجب على كل مسلمٍ أن يتعلم الأحكام التي تليق به، وأن يتَّبعها، وأن لا يتجاوزها، لئلا يضر بنفسه، ولئلا يضر بالمسلمين، ولئن كان تعاطي الإنسان للدواء مباحٌ في أصله، ولكن منع شره عن إخوانه من أعظم الواجبات، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يقول: «المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده»، وأعظم ما يسلم منه المسلمون أن ينقل لهم داءً أو يسري بسببه وباء، أو ينتشر بسببه هذه العاهات والأمراض.
نرجع إلى ما نحن بصدد فيما يتعلق بمسائل الغنائم، وكان المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قد ذكر مَن هو داخلٌ في الغنيمة ومَن ليس داخلًا في ذلك ممَّن يُرضَخُ لهم من النساء والصبيان والعبيد وغيرهم على ما مرَّ بيانه فيما مضى.
ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن الغنائم فيها ما يتعلق بالتَّنفيل، وفيها ما يتعلق بالسَّلب، وقد بيَّن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- تصاريفَ ذلك.
وأيضًا بيَّن ما يتعلَّق بالخُمُسِ الذي لله ولرسوله، ولقرابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، وما يتعلَّق بسهم الفقراء والمساكين؛ كل ذلك قد مرَّ بيانه والإشارة إليه.
ثم ذكر أنَّ الغانمين مقسومون إلى قسمين:
- منهم راجلٌ: له سهم.
- ومنهم راكب، وله حالان:
* إن كان على فرسٍ عربيٍّ أصيل فله سهمٌ ولفرسه سهمان، وبهذا جاءت السُّنَّة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ.
* وأمَّا إذا كان الفرسُ هجينًا أو برذونًا أو غير عربيٍّ، فله سهم ولراكبه سهمٌ كما جاءت بذلك السُّنَّة.
وما يتعلق بهذا الأمر فيه شيءٌ من الخفاء وفيه شيءٌ من الإشكال، لماذا فرَقَ الشَّرع بين الفرس العربي وغير العربي؟ وهل لذلك مأخذٌ يرجعُ إلى ما يستدعي ذلك؟ أم أن فيه معنًى آخر زائدٌ على هذا فيكون سبب تعلق أهل الأهواء والشُّبهات؟
نقول أولًا: من جهة الأصل فنحن مسلِّمون منقادون لما جاء من شرع ربِّنا، وما جاء عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- لا نتجاوز ذلك، ولا نتردد فيه، مصدِّقون منقادون مستسلمون، لا معترضون ولا متوقفون في ذلك، حاشا أن نكونَ ممَّن توقَّفَ أو أعرضَ أو تردد أو عارض؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ﴾ [النور: 51]، فإنَّما هو السمع والطاعة والاستجابة، لا تأخُّرَ ولا تواني، ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36].
هل فيه بين ذا وذاك؟
ذكر بعضهم أن في الفرس العربي من الإقدام ما لا يكون في غيره البتَّة، فلمَّا كان بهذه المثابة وهو سببٌ لأن يتعرَّض صاحبه للخطر كانت له فيما يُقابل ذلك من الغنيمة، فالغُرْمُ بالغُنْمِ -على ما يذكره أهل العلم.
المسألة المشكلة التي تتعلق بذلك: ما جدَّ من هذه المراكب الحديثة؛ هل يُمكن أن يُنقل الحكم أو يُقاس عليها غيرها، فيُقال: مَن يركب الطائرات أو من يركب الدبابات أو من يُقاتل على آليَّات معيَّنة هل ترقى لأن تكون كالفارس؟ وهل يُمكن أن نقول: إن بعض هذه الآلات الحديثة هي أعظم من الفرس، فلا أقل من أن تكون في الفرس فيما يُفرَض للغانم في ذلك ونحوها؟
نقول: العلم بمناط العلَّة التي تعلَّق بها الحكم خفي، وكلام الفقهاء -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في الفرس التي يملكها الشخص وتعود ملكيتها إليه، ومن المعلوم أن هذه المركوبات كلها في الجملة إنما هي ملك لبيت المال ويُجعلون عليها بعض التدريبات ونحوها، فلا ينطبق عليهم من جهة المِلْك وعودها إلى الشخص ونحوه، فكأنه دخل في الحرب بشخصه وبآلته أو فرسه، فهذه تفارقها من هذه الجهة، لكن يُمكن أن يكون ما يتأتَّى من بعض هذه المركوبات هو راجع ليس إلى الغنيمة من هذه الجهة لما ذكرنا من الفروق وخفاء العلَّة والافتراق في كونه ليس مالكًا، وهنا قد نصُّوا على كونه مالكًا لهذا المركوب.
ومن جهة أخرى يُمكن أن يكون إنفاذ الأعمال عبر الهليكوبتر أو الطائرات ونحوها يكون بمثابة السرايا التي تنفرد عن الجيش فتنفِّذ مهمَّات فيُمكن، وهذه كلها مسائل ليس من السهولة تقرير الكلام فيها وتحريره، ولكن يُمكن أن يُقال إنه داخلٌ فيما يُسرِّي الإمام من السرايا، ويجعل لهم مقابل ذلك من التَّنفيل، وهي محل بحثٍ ونظر.
وكما قلنا فيما مضى: إنَّ البحث في هذه المسائل إنما هو على تقرير أصل المسائل من حيث النَّظر، أمَّا من حيث إجراؤها في الواقع فمسائل الجهاد وما يترتَّب عليه مسائل مشكلة جدًّا، ولأجل ذلك تُناط المسائل في واقعها بمَن يكون أهلًا للعلم والاختصاص في كل حادثةٍ بحسبها وما احتفَّ بها، فيكون النَّظرُ في ذلك جليًّا، وتكون المعطيات في ذلك متكاملة، ويكون بناء الحكم في ذلك قويمًا بالنَّظرِ إلى ما ذكره الفقهاء، وبالنَّظر إلى الواقعة وانطباق الحكم من كل وجهٍ أو من وجهٍ يقتضي إمكان اللحاق، وإجراء الأحكام ودخولها في العلل الت توصلنا إلى مسألة الاستنباط لمن يكون أهلًا لذلك، وهي درجةٌ رفيعة لا ينبري لها إلا أهل العلم والاختصاص.
وكما قلنا: إن أصل مسألة الغنائم عند بعض أهل العلم -وإن كان هذا خلاف مشهور المذهب عند الحنابلة- أنها إنما تكون حال أن لا يكون لهم ديوان ومرتَّبات مرتَّبةٌ من بيت المال، فبناء على ذلك تندفع كثيرٌ من هذه المسائل والوقائع في الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسَانِ، أُسهِمَ لَهُمَا، وَلاَ يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ، وَلاَ يُسْهَمُ لِدَابَّةٍ غَيْرِ اْلخَيْلِ)}.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسَانِ، أُسهِمَ لَهُمَ)، كما قلنا: إن كان قد جاء إلى الغزو بعشرة أفرُس، وركب واحدًا، وأعطى فلانًا، وأركبَ فلانًا، وأعان آخر؛ فهنا يُسهَم له بكون مشاركًا، ويُسهَمُ لفرسه لكونه راكبًا لها، ويُسَهم لفرسٍ أخرى ولا يُزاد على ذلك، وأصل هذا ما جاء في السُّنَّة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وكتب بذلك عمر إلى أجناده؛ فكان ذلك ممَّا سارَ عليه الخلفاء، واستقرَّت به السُّنَن، فلا يُزادُ على ذلك.
ولأجل هذا قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ)، وكما قلنا لكم: إن هذه مسائل حسبكم أن تعرفوا أصل ما ذكره الفقهاء، ومُعتَمَدَهم في ذلك، وأمَّا تحريرها فراجعٌ إلى ما يجدُّ من وقائعها، خاصَّةً أن كثيرًا من هذه المسائل الآن صارت غير قريبة منَّا، وغن كنَّا ندرسها لاحتمال عودها، فما ذكره الفقهاء أصلٌ أصيل، وما جدَّ للناس فهو واقعٌ نزيلٌ، فيُمكن الإفادةُ ممّا من تحرَّرَ من الأصيل على ما تجدَّدَ من النَّزيلِ، ولكن لا ينبغي دراسة الفقه منبتًّا عن أصله، ولا منفصلًا عن مصدره الذي قرَّره الفقهاء وحرَّروه على أصولٍ، وذكروا فيه مآخذَ، حتى ولو لم توجد المسألة بنفسها، ووُجد من المسائل ما يُمكن ربطها به وحملها عليه وإقامتها على أصله.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ يُسْهَمُ لِدَابَّةٍ غَيْرِ اْلخَيْلِ)، يعني: مَن ركب بعيرًا أو حمارًا أو دابَّةً أخرى، والمركوبات الجديدة في مفهوم كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لا مدخل لها في تخصيصٍ من الغنيمة، وكما قلنا إن محلَّ ذلك إنما هو فيمن ملكَ هذه الدَّابَّة.
قال بعض أهل العلم وهو رواية عن أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وجاء عن بعض السلف أنه يُمكن أن يُسهَم لها، فيكون للبعير سهم ونحوه، وهي محل للبحث والنَّظر، ويُمكن أن تُعزَى هذه المسائل في الفصل فيها إلى الوقائع، وإلى مَن يلون ذلك من أهل الاختصاص.
ومما ينبغي أن يعلم -وهو معمولٌ به عندنا في وزارات الدفاع والأجهزة التي تلي الجيوش وتقوم عليها- أن تُجعَل جهات شرعيَّة تحلُّ ما أشكل على الجيش، وتُبصِّرهم بما يُمكنهم وما لا يُمكنهم، وتكون معهم في معرفةِ ما يدخل في ذلك من الأمر الشَّرعي وما لا يدخل، منعًا للتَّجاوُز، وحفظًا للسُّنن، وإتيانًا للأمر على الوجه الأكمل، وهذا من تمام فضل الله -جَلَّ وَعَلَا- علينا، وإذا أشكلَ عليهم شيءٌ فإنهم يردُّونَ ذلك إلى الجهات العليا من العلم والإتاء من المفتي واللجنة الدائمة، وفي هذا من الخير والتبصير للعباد وتأمين الناس، والعلم بأن كل شيءٍ إنما يُؤتَى على وجهٍ شرعيٍّ صحيحٍ، نسألُ الله التوفيق والسَّداد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ اْلفَيْءِ
وَمَا تَرَكَهُ اْلكُفَّارُ فَزَعًا وَهَرَبُوْا، لَمْ يُوْجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ، أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَهُوَ فَيْءٌ يُصْرَفُ فِيْ مَصَالِحِ اْلمُسْلِمِيْنَ)
}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هو شيءٌ فاءَ إلينا من الكفار بغير قتال، فما نأخذه من الكفار:
- إمَّا أن يكون بقتالٍ، وهو الغنيمة وقد تقدَّم ذكرها.
- أو بغير قتال وهو الفيء.
والفيء: من فاءَ الشيءُ إذا رجعَ، وهو ما يرجعُ من أموال الكفار إلى المسلمين بغير قتالٍ، أو ما حصل عليه المسلمون من أيدي الكفار بغير قتالٍ، ويختلف ذلك بحسبٍ طريقة وصوله إلى المسلمين، فذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مثالًا لذلك، وهو ما تركه الكفار فزعًا وهربوا، يعني لو سمعوا أن المسلمين يُريدون التحرك لهم، أو تحرَّك المسلمون لهم ولكن لم تقم المعركة ولم يدخلوا معهم في قتال؛ فهرب الكفار وتركوا وأبقوا بعضَ أموالهم؛ فما حصل عليه المسلمون في مثل هذا هو فيءٌ.
ومالُ الفيء يختلف عن مال الغنيمة في قَسمه وما يملكه، فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (لَمْ يُوْجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ)، يعني: لم تقم معركةٌ، ولم يطردهم المسلمون ونحو ذلك، فإذن؛ هذا هو المناط في هذا، وهو أن لا يحصلَ في هذا معركة وأن لا يُوجَف عليهم بخيلٍ ولا ركاب.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ)، مثال ذلك: لو أنه صارَت مراسلات بين الكفار والمسلمين الحربيين، فقال إمام المسلمين للكفار: سنغزوكم. فقال الكفار: لا تغزونا وسنترك لكم هذا المكان، أو نترك لكم هذه البلد، أو نعطيكم هذا المال ونحوه ونرجع؛ فتركوا مالًا للمسلمين، فهذا هو فيءٌ حصل بغير قتالٍ، وبناء على ذلك هو لبيت المال.
ولذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَهُوَ فَيْءٌ يُصْرَفُ فِيْ مَصَالِحِ اْلمُسْلِمِيْنَ)، فما دام أنه فيءٌ فإنه يُدخَلُ إلى بيتِ المالِ، ويُنظَرُ في مصالح المسلمين فيُصرَف فيها، ولم يزلْ بيتُ المال قائمًا في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- وازدهر في عهد صحابته، خاصَّةً في عهد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما فُتحت الفتوح، ومُصِّرَت الأمصار، وتُغلِّبَ على الكفَّار، وكان في ذلك الأموال الطَّائلة ما استزاد به المسلمون في قيام مصالحهم، وفتح طرقاتهم، وسدِّ الثُّغور وغيرها، ومن ذلك ما هو كثير، وقد تكلَّمَ أهل العلم كثيرًا في مسائل مصالح المسلمين في كتب السياسة الشرعيَّة وأحكام الإمام، وما يتعلق به من صرف هذه المصالح بتوسُّعٍ كبيرٍ، وليس هذا هو محل البحث فيه على وجه التفصيل، لكنها مسائل كثيرة تتعلق بالإمام، وتعلقها بالإمام باعتبار المصلحة فينظر فيها، وقد ذكروا في ذلك أبوابًا، ورتَّبوه تراتيب معيَّنةٍ، وذكروا ما هو الأولى وما ليس بأولى.
وعلى كل حال؛ ما آلَ إليه أمرُ الناس اليوم في الحضارات الحديثة مما يلزم بيت المال أوسع ممَّا كان فيما مضَى، فكان فيما مضى الذي يتعلق بمصالح بيت المال من فتح الطرقات والقيام على رَزقِ القُضاةِ ونحوها، فهذه أشياء يسيرة، وحتى فيما مضى في باب الجهاد كان كلٌّ يُجهِّزُ نفسَه، ولذلك جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «من جهَّزَ غازيًا فقد غز»، والإنسان يكون له فرس أو فرسين ويحمل على هذا ويحمل على ذاك، وتوقَف الأوقاف على الجهاد؛ لكن الآن صار ما يتعلق ببيت المال أمورًا كثيرة، على سبيل المثال: الصِّحَة والمستشفيات، وما يتعلق بالتعليم وتهيئة ذلك للناس، وما يتعلق بتهيئة الجيوش وإقامة العُدَّة لها، انفتحت أشياء كثيرة، ولم تزلْ ولاية المسلمين تقوم بذلك، ونسأل الله أن يُعينهم على ما ولوا، وأن يفتح لهم الخير فيما فتحوا على المسلمين، وان يُتمَّ عليهم في ذلك الإعانة والتوفيق لِمَا يكون فيه مصالح العباد والبلاد.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ وَجَدَ كَافِرًا ضَالاً عَنِ الطَّرِيْقِ أَوْ غَيْرِهِ فِيْ دَارِ اْلإِسْلاَمِ، فَأَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ)}.
قوله: (وَمَنْ وَجَدَ كَافِرًا ضَالاً عَنِ الطَّرِيْقِ أَوْ غَيْرِهِ) (غَيْرِهِ) معطوفة على (الطَّريِقِ).
قوله: (فِيْ دَارِ اْلإِسْلاَمِ، فَأَخَذَهُ فَهُوَ لَهُ)، الكلام هنا في الكافر الحربي، فالكافر الحربي الذي ليس بيننا وبينهم عهدٌ ولا أمان ودخل إلى دار أهل الإسلام بغيرِ عهدٍ؛ فهذا قيدٌ في المسألة لابدَّ أن يُعلم، لأنَّه حلالٌ قتله واستباحة ماله لكونه كافرًا ومحاربًا، ودخل دار المسلمين -أو بلد المسلمين- بغير ما أمان، فلا يستحق أن يُحفَظَ دمه، ولا أن يأمن على متاعه وماله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ دَخَلَ قَوْمٌ لاَ مَنَعَةَ لَهُمْ أَرْضَ اْلحَرْبِ مُتَلَصِّصِيْنَ بِغَيْرِ إِذْنِ اْلإِمَامِ، فَمَا أَخَذُوْا فَهُوَ لَهُمْ بَعْدَ اْلخُمُسِ)}.
هذه من المسائل التي فيها شيءٌ من الإشكال، وهو إذا افتات بعضهم على الإمام وتلصَّصوا واختبؤوا، حتى إذا دخلوا بلدَ الحربِ وحصلوا على بعض الأشياء، ثم دخلوا بلد المسلمين، فما أخذوه مما يجوز الأخذ منه، وكما يكون من الأخذ من المال المباح ومن اللقطةِ كالحشيش الذي يكون الناس فيه شركاء.
هذه المسألة لا تخلو من شيءٍ من النَّظر، ولذلك كانت الرواية الأخرى عن أحمد وهي قول لجمعٍ من أهل العلم: أنه لا حقَّ لهم في ذلك، ولا افتيات على الإمام في مثل هذا، وأنهم عصاة لأنهم دخلوا بلاد الكفار، وعرضوا أنفسهم للهلكة، وأيضًا الأمر لأن تقوم بينهم وبين المسلمين حربًا، وأن تتحرك لأجل مَن يدفعهم ومن يُحاربهم، فربما تطوَّر الأمر إلى أن يتسبَّبَ أو يجلب على المسلمين الدخول في الحرب، وقد لا يكونوا متأهبين لذلك، أو يكونوا منشغلين عنها، أو ليس عندهم القدرة على مدافعة هؤلاء المشركين لقوَّتهم ومنعتهم وعدَّتهم وجيشهم؛ فلما كان الأمر كذلك كان قولًا مشهورًا ربما كان أظهر في هذا، وهو أنه لا يُمكن أن يُباح شيء من هذا، ولا يُفتات على الإمام في مثل هذه المسائل، ولعظَم ما يترتب عليها من المفسدة، وما يتعلق بذلك من الشر الذي يكون بتحرك الكفار، فكأن هذا يستفزهم في ذلك، وهذا فيه بلاءٌ كبيرٌ وخطأٌ كثيرٌ، ولجل هذا كان القول بمنع شيءٍ من ذلك أو تعاطيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلأَماَنِ)}.
هذا الباب عقده المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيما يتعلق بتأمين الكفار، وتأمين الكفار سواء كان ذلك من جهة المسلمين ابتداءً، أو كان ذلك من المسلمين طلبًا وهي "الهُدنة"، وستأتي الإشارة إليها.
والأمان جاء في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- وجاء في سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-، ففي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: 6]، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ»، والأحاديث في ذلك كثيرة، والإجماع منعقدٌ في ذلك، وهو أنَّ لولي الأمر أن يعقد أمانًا ويُمضيَه؛ بل إذا كان ذلك لآحاد المسلمين، فمن باب أولى أن يكون ذلك لإمامهم، وستأتي الإشارة إلى ذلك تفصيلًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ قَالَ لِحَرْبِيٍّ: قَدْ أَجَرْتُكَ، أَوْ أَمَّنْتُكَ، أَوْ لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ، وَنَحْوَ هَذَا، فَقَدْ أَمَّنَهُ)}.
قوله (وَمَنْ قَالَ لِحَرْبِيٍّ: قَدْ أَجَرْتُكَ، أَوْ أَمَّنْتُكَ)، هذا أصل عند أهل الإسلام، أمَّا مَن أمَّنَ كافرًا من أهل الإسلام فقد أمِنَ، فلا يجوز لأحدٍ من أهل الإسلام صغيرًا أو كبيرًا أن يعتدي عليه، أو أن يتجاوز في حقِّه، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال «قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ»، وجاء في السِّيَر واستشهدَ بهذا الفقهاء وهو كالإجماع السُّكوتي أنَّه كان في إحدى الحروب مع عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد طوَّقوا حصنًا حتَّى كادوا أن يفتحوه، فسُمِعَ أن عبدًا من المسلمين رطَنَ معهم برطانتهم -يعني بلغتهم لأنهم لم يكونوا عربًا- فكتب لهم أمانًا وأرسله إليهم، فرفعوا الأمان، فأمَّنهم أهل الإسلام ورجعوا، مع أنهم كانوا على وشك أن يفتحوا الحصن وينتصروا عليهم ويأسروهم ويغنموا منهم، لكن لمَّا كان هذا الأمر بهذه المثابة من جهة أن أهل الإسلام شيءٌ واحدٌ، ولذلك جاء في الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- قال: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم»، فلو كان عبدًا أو امرأةً أو صبيًّا؛ فبناء على ذلك يتحقق هذا الأمر وينفُذُ ويُعتَبَر، ولا يجوز أن يُختَرَق بعدَ أن حصلَ الأمان وظهر لهم العهد، وهو التأمين فقط، وسيأتينا أنَّ إيقاف الحرب والأمور الكبيرة متعلقها الإمام، ولأجل ذلك أوصي الطلبة بأن يُعنَوا باعتبار الألفاظ الشرعيَّة في أخص الأمور، وأن استبدالها بتعابير قد تؤدِّي بعض الغرض يُمكن أن يدخل من خلالها ما ليس منها فيكون سببًا لفهم المسألةِ على غير وجهها، فينبغي التَّنبه، فنقول: إذا أمَّنَ المسلمُ الكافرَ فقد أَمِنَ، وأنَّ هذا أصله في الشَّرع.
وذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- الألفاظ المتعلقة بذلك وهي: (قَدْ أَجَرْتُكَ، أَوْ أَمَّنْتُكَ، أَوْ لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ، وَنَحْوَ هَذَ).
وقالوا: لو كان ذلك بغير اللغة العربية، وفي هذا مثَّل الفقهاء -كما في المقنع- وكما ذكر غير واحدٍ، إذا قالوا بالفارسية "متْرَس" يعني: الأمان لك، أو أنتَ في مأمنٍ، فبأي لغةٍ أو على أي حالٍ، أو كيفما كان العهد والاتفاق فإنه يسري على أهل الإسلام، ويُؤمَّنُ مَن أُمِّنَ، ويُحفَظُ مَن عُوهِدَ، ولا يُتجَاوزُ حقُّه ولا يُعتدَى عليه، وهي رسالة إلى كل العابثين واللاعبين بالدماء، والمتسلطين عليها بغير ما حق وبشبه أهل الشر والفساد وبطرائق أهل الخروج والدواعش وغيرهم الذين لم يُقيموا للعهود والاتفاقات اعتبارًا، ولم يحفظوا للدِّماء عهدًا، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «من قتل معاهدًا لم يرُح رائحة الجنة»، وهؤلاء قتلوا المسلمين والكفار والمعاهدين والمستأمنين وغيرهم، ولم يرفعوا بذلك رأسًا، ولم يعتبروا بذلك شيئًا، وإنما هي الأهواء والشُّبه والضَّلال المبين والبلاء الكبير، وهذا محل إجماع واتفاق بين العلماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَصِحُّ اْلأَمَانُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، عَاقِلٍ، مُخْتَارٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً؛ لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُوْنَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»)}.
لمَّا قرَّرَ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أصلَ الأمان، وأن للمسلم أن يُؤمِّن الكافر، فهذا من حيث الأصل، ولم يذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعدُ ما يتعلق بتفاصيل ذلك من حيث ما يدخل فيه وما لا يدخل، لكنه سيذكره بعدَ مسائل، فكل كلامنا إنما هو من جهة تأصيل هذه المسألة واعتبار ما جاء فيها، وأمَّا تفاصيل ما يدخل في ذلك وما لا يدخل وحدود ذلك وقيوده؛ سيأتي بيانها -بإذن الله جل وعلا.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَصِحُّ اْلأَمَانُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ)، وهذه من الكُليَّات الفقهيَّة، فكل مسلم عاقل مختار له أن يُؤمِّن، فإذا قلتُ: أنا أمَّنتُ فلانًا؛ فيَأمَن. وإذا قلتُ: أمَّنتُ هذا الرَّجل من هذه البلد؛ فإنَّه يأمن، حتَّى ولو كان رجل أعمال، حتى لو كان رجلَ قوَّةٍ أو رجلَ جيشٍ أو كان مسؤولًا، أو غير ذلك من الأوصاف، فإنه يدخل في ذلك، ويصح الأمان لكل هؤلاء من كل مسلم، فما دام أن الذي أمَّن مسلم فيصح منه الأمان.
قال: (عَاقِلٍ)، يعني يكون غير مجنون، لأن المجنون لا يقصد ولا يُحسن، فلا يُدرَى أنه أراد ذلك أو لم يُرده، فلابدَّ أن يكونَ عاقلًا.
قال: (مُخْتَارٍ)، أمَّا لو كان مكرهًا فإنه لا يعتبر ذلك، كما لو جعل عليه السيف وقيل له: أمِّنِّي، فقال: أمَّنته؛ فلا يُؤمَن، فلو أنه تحرَّك فقتله قاتلٌ فقتله صحيحٌ وأمانه غير قائمٍ، لأنَّه كان تأمينٍ من مكره. قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدً)، حتى لو كان المؤمِّنُ في مثل هذه الأمور عبدًا، حتَّى لو أمَّنَ أقاربه أو أهل بلده، أو بعض مَن ينتسب إليه ونحو ذلك، ما دام أنه أمَّنه فقد أَمِنُوا، وما دام أنَّه ألقى عليهم العهد فقد عُوهِدُوا، ولا يجوز التَّسلُّط عليهم بأي حالٍ من الأحوال، وذلك لعموم قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: « وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، فكل المسلمين داخلين في هذا.
قال: (رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً)، فالرجل والمرأة في ذلك على حدٍّ سواء.
ما الحاجة أن يُقال (امرأة)؟
الجواب: لئلَّا يُظنَّ في ذلك أنَّ متعلَّق الأمان إنَّما هو لأهل القتال الرجال، فحتَّى غير أهل القتال من النساء ولو لم يكونوا مقاتلين فإن لهم العهد لعموم قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، وخصوص قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: «قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ»، وكان ذلك في فتح مكَّة، فهذا دالٌّ على أصل هذه المسألة.
وذكرنا هنا ما يتعلق بهذه المسألة من حيث أصلها وما ذكر الفقهاء فيها، وسنشير -بإذن الله جل وعلا- إلى هذه المسألة من حيث وقوعها في الحاضر وحصولها في الآنِ وما تجدَّدَ من اعتبارات في اعتبار العهد والأمان في الوقت الحاضر، وما صورته، وكيف يحصل ويتأتَّى، ولعلَّ ذلك يكون في مستهل الدرس القادم مع بقيَّة المسائل التي تكون مكمِّلةً لهذا الباب موضحةً لهذه المسائل، ونقف في الأمر على وجهه ويظهر فيه محل حكمه بما يُستبان من الحال، ويرتفع فيه من الإشكال.
أسأل الله لي ولكم دوام التوفيق والسداد، أسأل اله أن يتم علينا النعمة، وأن يشملنا بالرَّحمةِ، وأن يحفظنا بالسلامة والصحة، وأن يدفع عنَّا الوباء والباء والمحنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، شكر الله للإخوة المشاهدين والمشاهدات، طلاب العلم والطالبات، ولهؤلاء الإخوة القائمين على هذا البناء بنى الله لهم بيوتًا في الجنَّة، وبنى الله بهم بيوت الخير والهدى، وأظهر بهم السنة والتُّقى، وجعلهم مباركين في كل ما ولوا من الأمور، وأبقى هذا نهرًا معينًا، وموردًا زُلالًا يردُ عليه طلاب العلم وينتفعون به، والله المسؤول أن يُوفقنا وإيَّاكم للهدى والصواب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على ما تقدِّمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
وفي الختام هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريق البرنامج، ومنِّي أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر. إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك