بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العَالمينَ، أحمدُه -جلَّ وعَلا- على نِعَمِهِ، وأشهدً أن لا إله
إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه وَرَسُولُه، صلَّى الله عليه
وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد، فهذا لقاءٌ جديدٌ نتدارسُ فيه شيئًا مِن أحاديثِ الأحكامِ الواردة في
كتابِ المحرَّر للحافظ ابن عبد الهادي-رحمه الله تعالى- وهو آخر لقاءٍ يتعلق بكتابِ
الصِّيام -بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ.
وقد مرَّ علينا في بابِ "الأيَّامِ المنهيِ عن صِيامِهَا" حديث أبي سعيد في النَّهي
عن صومِ يومي العيدِ -عيدِ الفطرِ وعيد ِالنَّحرِ- وكذلك حديث نبيشة في النَّهي عن
صيامِ أيَّامِ التَّشريقِ، وهي أيَّام: الحادي عشر والثَّاني عشر والثَّالث عشر من
شهر ذي الحجَّة.
وهكذا ورد حديث عائشة وابن عمر في الإذن لفاقد الهديِ الذي لم يجد الهدي- وكان
مُتَمَتِّعًا ولم يستطع صوم الثلاثة أيام قبل يومِ العيدِ أن يصومها في أيام
التَّشريق.
والآن نأخذ حديث أبي هُريرة فيما يتعلق بتخصيص يوم الجمعة بالصيام، فتفضل مشكورًا
بارك الله فيك.
{(وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَينِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بِصِيامٍ مِنْ بَينِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ
يَصُومُهُ أَحَدُكُم» رَوَاهُ مُسلمٌ. وَصَحَّحَ أَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ
إرْسَالَهُ)}.
أبو زرعة وأبو حاتم يروون الحديث من طريق ابن سيرين (أنَّ النَّبي قال...) بدون ذكر
أبي هريرة -رضي الله عنه.
وأكثر أهل العلم يرون اتِّصال هذا الخبر، ولا يمتنع من ابن سيرين أن يروي الخبر
مَرةً مُرسلًا ومرة مُتَّصلًا، ولهذا فإنَّ الصَّوابَ أنَّ الخبر صحيح الإسناد.
وقد اعتضد هذا المعنى بعدد من الأحاديث التي فيها النَّهي عن صومِ يومِ الجمعة، فقد
دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض نسائه فوجدها صائمة يوم الجمعة، فقال:
«أَصُمْتِ أَمْسِ؟» قالت: لا. قال: «أَتَصُومِينَ غَدًا؟». قالت: لا. قال:
«أَفْطِرِي»[86]، وهذا فيه دلالة على جواز قطع صيام التطوع.
قوله هنا في هذا الخبر: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ
بَينِ اللَّيَالِي»، فيه كراهة تخصيص ليلة الجمعة بصلاة الليل دون بقيَّة الليالي،
فمن كان يقوم في جميع الليالي فلا بأس أن يقوم ليلة الجمعة كغيرها من الليالي،
أمَّا أن يخصها بالقيامِ دون غيرها فإنَّ ظاهر الخبر كراهة ذلك.
وقوله: «وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيامٍ مِنْ بَينِ الْأَيَّامِ»،
فيه دلالة على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام، وقد تقدَّم معنا أنَّ المراد متى
خصَّه، ولذا قال: «وَلَا تَخْتَصُّو»، فمن صام الخميس والجمعة، أو صام الجمعة
والسبت؛ فلا حرج عليه في ذلك.
وقوله: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُم»، يعني: إذا كان صوم
يوم الجمعة هذا لعادةٍ يصومها الإنسان فلا بأس حينئذٍ أن يصوم يوم الجمعة، ولو لم
يصم يومًا قبله أو يومًا بعده.
ومن أمثلة ذلك: ما لو كان يصوم يومًا ويُفطر يومًا، فوافق يوم صومه يومَ الجمعة.
ومثل هذا: ما لو وافق يوم الجمعة يوم عرفة؛ فإنه لا بأس أن يصومه الإنسان وحده.
وهكذا: لو وافق شيئًا من عوائد الإنسان التي يصومها.
{(وَعَنْ صِلَةَ بنِ زُفَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عمَّارِ بنِ يَاسِرٍ فَأَتَى
بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَقَالَ: كُلُوا، فَتنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقَالَ: إِنِّي
صَائِمٌ، فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ
عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ وَصَحَّحَهُ-,
وَقَدْ أُعِلَّ)}.
صِلَةَ بنِ زُفَرَ من التابعين، وهو من أفاضلهم.
قوله هنا: (كُنَّا عِنْدَ عمَّارِ بنِ يَاسِرٍ -رضي الله عنه- فَأَتَى)، أي:
قُدِّمَ له.
قوله: (بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ)، أي: مشويَّة، يُقال: صلاها النار، وقال تعالى: ﴿لَا
يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾ [الليل:15].
فَقَالَ عمَّار: (كُلُو)، أي: من هذا الطعام، وفيه الإذن اللفظي مع الإذن العرفي
في الأكل من طعام الإنسان.
قوله: (فَتنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ)، أي: ابتعدوا عن هذه الشاة المصلية.
فَقَالَ: (إِنِّي صَائِمٌ)، بيَّنَ العذر الذي جعله لم يطعم من هذه الشَّاة.
فَقَالَ عَمَّارٌ -رضي الله عنه: (مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ)،
وهو يوم الثلاثين من شهر شعبان.
قوله: (فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ)، في هذا دلالة على المنع من صوم يوم
الثلاثين من شهر شعبان.
وقد ورد معنا من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا
تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ
صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»[87].
وفي هذا دلالة على أنَّ صوم يوم الشَّك يُنهى عنه، ولو كان ليلته غائمة، إذا لم
يفرق في الخبر.
وقوله: (فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ)، فيه دلالة على أنَّ النَّهي عن صيام يوم
الشك مرفوع للنبي -صلى الله عليه وسلم.
{(وَعَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-،
أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا انْتَصَفَ
شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُو» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَقَالَ أَحْمدُ:
"هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ" قَالَ:
"والْعَلَاء ثِقَةٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ حَدِيـثِـهِ إِلَّا هَذَا")}.
هذا الحديث رواه العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، والعلاء ثقة، ورايته مقبولة، ولكن
بعض أهل العلم تكلم في هذا الخبر، طعن في رواية العلاء لهذا الخبر.
والسبب: أنه في الحديث الآخر نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، فيُفهم منه جواز
التَّقدُّم بأكثر من اليومين، كما أنه في حديث عائشة الذي تقدَّم معنا (أنَّ النبي
-صلى الله عليه وسلم- كان يُكثر من الصيام في شهر شعبان)؛ ولأن عائشة -رضي الله
عنها كانت تصوم قضاءها في آخر شعبان لمكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها،
ولذلك طعن بعض العلماء في هذا الخبر من أجل ذلك، لأنهم ظنوا أنَّه يُخالف تلك
الأخبار.
والذي يظهر أنَّ هذا إسناد صحيح، وأنَّ رجاله ثقات يُعتمد عليهم، وبالتالي لا يصح
أن يُقدَح في الخبر.
ومن هنا لابد أن نوجد طريقة لمحاولة الجمع بين هذه الأخبار:
ومن الطرائق في ذلك أن يُقال: حديث «إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا
تَصُومُو»[88]، يُراد به: لا تبدؤوا الصوم بعد منتصف شعبان، أمَّا مَن صام من أول
الشهر فلا بأس أن يُواصل صيامه في النِّصف الثاني.
كما أنَّ هذا الخبر لا يشمل صيام القضاء لمن فاته أن يقضيَ قبل ذلك، ومن ثَمَّ تكون
هذه مستثنيات استثنيت من هذا الخبر، وبهذا تتسق الأحاديث، ولا يكون بينها تعارض.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا
فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُم فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُم إِلَّا لِحَاءَ عِنَبٍ
أَو عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْه» رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا
لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ-
وَالْحَاكِمُ -وَصَحَّحَهُ- وَزَعَمَ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَقَالَ
مَالكٌ: هُوَ كَذِبٌ. وَفِي ذَلِك نَظَرٌ, وَاللهُ أعْلَمُ)}.
هذا الحديث فيه النهي عن صوم يوم السبت إلا في الفرائض، وبالتالي وقع اختلاف بين
العلماء في النظر لهذا الخبر:
- فمنهم مَن قال: إنَّ الخبر ضعيفٌ، كما نقل المؤلف عن الإمام مالك أنه قال: "هو
كذب"، ولكن المؤلف قال: "وفي ذلك نظر"؛ لأن رواته ثقات من رواة الحديث الحسن، وقد
حسَّن الحديثَ الترمذيُّ، وصححه الحاكم.
- وهناك من قال: إنه منسوخ، فإنه قد ثبت أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز
صيام يوم السبت في التَّطوع.
والأظهر: أنَّ القول بالتَّضعيف يحتاج إلى دليل، ولا دليل، وحينئذٍ نحتاج إلى طريقة
للجمع بين هذا الخبر وغيره من الأخبار، فإنه قد ورد أنَّ النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا وَقَبْلَهُ يَوْمٌ، أَوْ
بَعْدَهُ يَوْمٌ»[89]، فدلَّ هذا على أنَّ مَن صام الجمعة والسبت في التَّطوع فلا
حرج عليه.
ويكون المراد بهذا الحديث: النهي عن صوم يوم السبت على جهة إفراده وتخصيصه بالصوم،
فمن صام الجمعة والسبت، أو صام السبت والأحد؛ فإنه لا يدخل في هذا النهي.
{أحسن الله إليك.
من صام صيام داود، وأتى يومه على يوم السبت. فما حكمه؟}.
كما تقدَّم أنه حينئذٍ يكون قد صام لكونه يصوم أمرًا سابقًا، وبالتالي يكون هذا من
المستثنيات.
إذن؛ يُستثنى من الخبر ما لو صام يومًا قبله أو يومًا بعضه، ويُستثنى منه ما لو كان
يصوم صيام داود فيصوم يومًا ويُفطر يومًا، وكذلك يُستثنى ما لو وافق عادةً يصومها
الإنسان كما لو كان يصوم يوم عرفة فجاء يوم السبت فلا حرج أن يُفرده بالصوم.
{(بَابُ الِاعْتِكَافِ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى
تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
المراد بالاعتكاف: اللُّبثُ في المسجد طاعةً لله -عزَّ وجلَّ.
والاعتكاف عبادة، وقد جاء ذكرها في القرآن، قال تعالى: ﴿أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة:125]، وقال تعالى:
﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة:187].
وظاهر هذه الآية أنَّ الاعتكاف لا يختص بالمساجد الثَّلاثة؛ لأنه قال: ﴿وَأَنتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾، فــ "المساجد" جمع معرف بـ "ال" الاستغراقيَّة،
فيفيد العموم.
وما ورد من الحديث أنه قال: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ»،
يعني: لا اعتكاف كامل ينال به الإنسان الأجور الكثيرة.
وقوله: (يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ)، يعني: ليلًا ونهارًا من رمضان.
متى يبتدئ الدخول في الاعتكاف إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر؟
الجمهور قالوا: إنه يبتدئ من غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين.
وآخرون قالوا: يبتدئ من الفجر، لِما ورد من حديث عائشة: (كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يُصلي الْفَجْرَ ثُمَّ يدَخَلَ مُعْتَكَفَهُ)، ولكن هذا الحديث في دلالته ما
فيها، فقد يكون يذهب من معتكفه ليصلي بالناس، ثم يعود مرة أخرى.
وقوله: (حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ)، فيه الاستمرار على الطاعة، وفيه تخصيص العشر
الأواخر بعبادات لا تُفعل في غيرها.
والاعتكاف ليس خاصًّا بالعشر الأواخر، وليس مختصًّا برمضان، بل قد يُفعل في غيرهما.
وقولها: (ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ)، فيه جواز اعتكاف النساء، وأنه
لا حرج فيه؛ بل هو من القربات.
وفيه أنَّ الاعتكاف لم يُنسخ؛ لأنَّ الناس استمروا على فعله بعد وفاة النبي -صلى
الله عليه وسلم.
{(وعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ
مُعْتَكَفَهُ. الحَدِيث. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قول عائشة: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا أَرَادَ
أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ)، فيه دلالة على أن المعتكف يجوز له أن يتنقل في
المسجد، فإنَّه كان يحتجر حجرة من حصير فيعتكف فيها، وإذا أراد أن يصلي بالناس
تقدَّم في المسجد ليصليَ بهم، فهذا فيه دلالة على جواز أن ينتقل المعتكف في المسجد.
قولها: (صَلَّى الْفَجْرَ)، فيه دلالة على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مساجد
الجماعات بالنسبة للرجال لئلا يترتب على الاعتكاف ترك واجب صلاة الجماعة.
قولها: (ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ)، فيه تخصيص مكان اعتكاف الإنسان.
وفي هذا الحديث الكلام عن وقت الدخول في الاعتكاف، فإذا أراد أن يعتكف في العشر
الأواخر أو نذر أن يعتكف أيامًا؛ فهل يبتدئ اعتكافه من الفجر كما قالت طائفة أخذًا
من هذا الخبر؟ أو أنه يبتدئ من غروب الشمس كما قال الجمهور؛ لأن الليل تابع للنهار
الذي يليه؟
ولذلك صلاة التراويح تكون في الأيام التي يعقبها صيام، لا تكون في الليالي التي
تعقب الصيام إذا لم يكن بعدها صيام.
{(وَعَنها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيُدْخِلُ عليَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ
فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لحَاجَةٍ إِذا كَانَ
مُعْتَكِفًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قول عائشة -رضي الله عنها: (وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَيُدْخِلُ عليَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ)، فيه جواز أن يُخرج
المعتكف بعض بدنه من المسجد خصوصًا إذا كان لحاجة.
وفيه دلالة: على أن العبرة في الاعتكاف بأغلب البدن.
وفيه: أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد.
وقوله: (فَأُرَجِّلُهُ)، أي: أُمشِّطه بالمشط. ففيه خدمة المرأة لزوجها.
وقولها: (وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ)، يعني: إذا كان معتكفًا (إِلَّا
لحَاجَةٍ)، وفيه أن الأصل في الاعتكاف أن يبقى المعتكف في المسجد.
وأخذ من هذا الحديث: أن المرأة الحائض لا تَلبث في المسجد، فإنَّها لم تكن ترجله في
المسجد وتكون في بيتها، ممَّا يدلُّ على أنَّها لم تلبث في المسجد.
{(وَعَنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّهَا قَالَتْ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ
أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً
وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لحَاجَةٍ إِلَّا لما لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ،
وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَقَالَ: غيرُ عبدِ الرَّحْمَن بنِ إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ
فِيهِ: (قَالَتْ: السُّنَّة)، جَعَلَهُ قَولَ عَائِشَةَ)}.
هذا الحديث فيه بيان ماذا يفعل المعتكف حال اعتكافه وما الذي يُنهى عنه.
قوله: (قَالَتْ: السُّنَّةُ)، إذا جاءت لفظة "السُّنَّة" فإننَّا نجعله حديثًا
مرفوعًا منسوبًا للنبي -صلى الله عليه وسلم.
لكن كلمة "السُّنَّة" وقع الاختلاف فيها، فعبد الرحمن بن إسحاق أثبتها، وغيره من
الرواة لا يقول: "السُّنَّة"، ولذا فإنَّ الجماهير قالوا: هذا الخبر موقوف على
عائشة -رضي الله عنها- وفي بعض أحكامه خالفها بعض الصحابة.
قالت: (عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضً)، أي: يبقى في المسجد.
قالت: (وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَ)،
فهذه أمور ترى أنه يُمنع منها.
قالت: (وَلَا يَخْرُجَ لحَاجَةٍ إِلَّا لما لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ)، كما لو أراد أن
يقضيَ البول أو الغائط، أو أراد أن يُحضر طعامًا لا يُوجد مَن يُحضره له.
وفي هذه الأمور اختلاف، وهذا قول عائشة، وليس على الصحيح أنه مرفوعًا للنبي -صلى
الله عليه وسلم.
أمَّا بالنسبة لعيادة المريض، فإن اشترط المعتكف أنَّه سَيَعُود المرضى في اعتكافه
جاز له أن يعودهم، وهكذا بالنسبة لشهود الجنازة؛ أمَّا إذا لم يشترط فإنَّ الأولى
أن يتركه؛ لأنَّه يتنافى مع اللُّبث في المسجد الذي هو معنى الاعتكاف.
وقولها: (وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَ)، أخذ منه بعض العلماء أنَّ
المعتكف لا يفعل ذلك، ولكن في حديث عائشة السابق (أنَّها كانت تُرجِّل شعر النبي
-صلى الله عليه وسلم) ما يُشعر بخلاف ذلك، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة:187]، فيه نهي المعتكف عن الجماع،
وأنَّ الجماع يُبطل الاعتكاف.
ولكن بالنسبة لمباشرة الجلد فهذا وقع الاختلاف في حكمه بالنسبة للمعتكف.
وأمَّا بالنسبة لخروج المعتكف: فقد ورد عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه خرج
وهو معتكف ليقلب زوجته صفية -رضي الله عنها- كما في الصحيح، وهذا حاجة، وكان يُمكنه
أن يكتفي بإرسالها، فهذا فيه دلالة على جواز خروج المعتكف من المسجد إذا كان هناك
حاجة.
وقولها: (وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ)، أخذ منه الحنفية والمالكية أنه يُشترط
في الاعتكاف الصومُ، فقالوا: "لا يصح اعتكاف إلا بصوم".
وأخذوا منه أنَّ الاعتكاف لا يكون إلا ليوم، أو ليوم وليلة.
وذهب الحنابلة والشافعية إلى أنَّ الاعتكاف لا يُشترط فيه الصوم، ولا يُشترط أن
يكون يومًا وليلة، واستدلوا على ذلك بما ورد في الحديث أنَّ النبي -صلى الله عليه
وسلم- سأله عمر بعد فتح مكَّة فقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: "إِنِّي نَذَرْتُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"، قَالَ:
«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ»[90]، ومن المعلوم أنَّ الليل ليسَ محلًّا للصيام؛ ولأنَّ
النصوص التي وردت في الاعتكاف لم تشترط الصيام.
قولها: (وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ)، أخذ منه بعض العلماء أنَّ
الاعتكاف يقتصر على المسجد الجامع الذي تُصلى فيه الجمعة، وهذا قول عائشة وجماعة.
والقول الثاني: يجوز الاعتكاف في المساجد التي تؤدَّى فيها الأوقات من غير مساجد
الجمعة، خصوصًا في الأيام التي ليس فيها صلاة جمعة.
وذهب طائفة إلى أنَّ كل ما يُعدُّ مسجدًا يجوز أن يُعتكف فيه.
ولكن الأصوب بالنسبة للرجال: أنه لا يصح اعتكافهم إلا في مسجد تُقام فيه الجماعة،
لئلا يحتاج إلى كثرة الانتقال من المسجد.
ويُلاحظ هنا: أن الاعتكاف لابدَّ أن يكون في المسجد، فأجزاء المسجد التابعة له التي
تعد من المسجد لا بأس من الاعتكاف فيها، أما ما لا يُعدُّ من المسجد كالرَّحبة غير
المحوطة، والغرف البعيدة التي تكون ملاحق للمسجد غير لاصقة فيه؛ فهذه لا يصح
الاعتكاف فيها، لأنها من محالِّ الصلاة.
{(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلَّا أَنْ
يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَرَفْعُهُ وهْمٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ)}.
قال: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ»)، هذا فيه
دلالة لمذهب مَن يرى أن الاعتكاف لا يُشترط فيه الصوم، وقد تقدَّم معنا البحث في
ذلك.
قوله: «إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ»، هذا الخبر أكثر أهل العلم يرجحون
أنه موقوف على ابن عباس، وليس مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدمَ بحثُ مسألة اشتراط الصيام في الاعتكاف.
{(بَابٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
عَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي
الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَرَى رُؤْيَاكُم قَدْ تَواطَأَتْ فِي السَّبْعِ
الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتَحَرَّها فِي السَّبْعِ
الْأَوَاخِر» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
ليلة القدر ليلةٌ فاضلةٌ، أُنزلَ فيها القرآن، وأجرها مضاعف، قال تعالى: ﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [سورة القدر].
فمن الفضائل العظيمة لهذه الليلة:
- أن فضلها يتجاوز مقدار الثلاث والثمانين سنة.
- فيها تُضاعف الأجور، ويكثر الثواب.
وليلة القدر سُمِّيَت بهذا الاسم:
- إمَّا لعظم قدرها ومنزلتها.
- وإمَّا لأنه تُقدَّر فيها الليالي، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ﴾ [الدخان:3-4]، فحينئذٍ هذه الليلة هي ليلة القدر، وليست ليلة النصف من
شعبان كما يقوله بعضهم، لأنَّها هي الليلة التي أنزل فيها القرآن.
وليلة القدر يُستحب للإنسان أن يعبد الله فيها بأنواع العبادات، ومنها:
- عباداة الصلاة، «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[91]
- ومنها: الدعاء، فقد قالت عائشة: "أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ،
مَا أَقُولُ فِيهَا؟"
فكأن هذا ممَّا استقرَّ في أذهانهم أن ليلة القدر يُستحب فيها إكثار الدعاء.
- وهكذا كل عمل صالح يُستحبُّ في هذه الليلة.
وأورد المؤلف في هذا الباب عددًا من الأحاديث، أولها حديث ابن عمر: (أَنَّ رِجَالًا
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرُوا لَيْلَةَ
الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ)، فيه جواز الاعتماد على
الرؤية المنميَّة فيما يعتلق بتحديد الأوقات الفاضلة.
وقوله هنا: (فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِر)، يعني: من شهر رمضان، وهي تبدأ بليلة
الثالث والعشرين، والرابع والعشرين، والخامس والعشرين، والسادس والعشرين، والسابع
والعشرين، والثامن والعشرين، والتاسع والعشرين.
وذلك لأن هذه الليالي متَيَقَّنة، فليلة الثلاثين غير متَيَقَّنة.
وبعضهم قال: تبتدئ من ليلة الرابع والعشرين.
وفي هذا دلالة على أنَّ ليلة القدر في تلك السنة كانت في السبع الأواخر، وقد أخفى
الله -عزَّ وجلَّ- ليلة القدر من أجل أن يجتهد الناس في العبادة في هذه الليالي.
وفي هذا الحديث: أنَّ الرؤيا المنامية إذا تواطأت وكثرت وصدَّق بعضها بعضًا؛
فإنَّها حينئذٍ تكون قرينة على وجود الصواب في ذلك، وإن كانت ليست دليلًا قاطعًا في
هذا الباب.
وفي هذا الحديث: جواز تحري ليلة القدر، والبحث عن الأسباب التي تجعل الإنسان
يقومها.
وقد ورد في ليلة القدر أنَّ الشَّمسَ تطلعُ في صبيحتها صافية نقيَّة، ولم يثبت من
العلامات الكونيَّة لليلة القدر إِلَّا هذه العلامة.
{(وَعَنْ أَبي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: اعْتَكَفْنَا
مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ
رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُها- أَو قَالَ: نُسِّيْتُهَا- فالْتَمِسُوها فِي
الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي الْوِتْرِ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي
مَاءٍ وطِينٍ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَلْيَرْجِعْ» فَرَجَعْنا وَمَا نرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً،
فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ -وَكَانَ مِنْ
جَرِيدِ النَّخْلِ- وأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْجُدُ فِي الماءِ والطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثرَ
الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ ،وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ:
اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العَشْرَ
الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ)، وذلك أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانت قد
أخفيت عليه ليلة القدر، فطلبها، فاعتكف العشر الأول من شهر رمضان، فقيل له: إنَّ ما
تطلب أمامك؛ فاعتكف العشر الأوسط، فقيل له: إنَّ ما تطلب أمامك؛ فاعتكف العشر
الأواخر من شهر رمضان.
قال: (اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العَشْرَ
الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَ)، أي: ذكَّر
أصحابه.
وَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُه»، أي: رأى في
الرؤية المناميَّة تحديد ليلة القدر.
قوله: (أَو قَالَ: نُسِّيْتُهَ)، وقد ورد في بعض الألفاظ أنَّ سبب النسيان أنه
تلاحا رجلان، فحصلت بينهما خصومة، فكان هذا من أسباب نسيان ليلة القدر.
ولذلك فإن الشرع يُرغِّب في ألا يكون هناك تلاحٍ وتخاصم ورفع كلام بين الناس.
قال: «فالْتَمِسُوها فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»، في هذا دلالة على أنَّ ليلة
القدر في تلك السَّنَة كانت في العشر الأواخر.
قال: «فِي الْوِتْرِ»، يعني: الليالي الوتريَّة، وهي ليلة الحادي والعشرين، وليلة
الثالث والعشرين، وليلة الخامس والعشرين، وليلة السابع والعشرين، وليلة التَّاسع
والعشرين.
في الحديث السَّابق قال: «فَلْيَتَحَرَّها فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِر»، هذا يدل على
أنَّ تلك السنة كانت سنة أخرى كانت ليلة القدر فيها في السبع الأواخر، وهذا يدل على
أنَّ ليلة القدر تتنقَّل، وأنها ليست مختصَّة بليلة بعينها، وبالتالي قد تكون في
ليالي الشفع في بعض السنين، وتكون في ليالي الوتر في سنين أخرى.
قال: «وَإِنِّي رَأَيْتُ»، يعني: في المنام.
قال: «أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وطِينٍ»، يعني: في صبيحة ليلة القدر، رأى كأنه
يسجد في ماء وطين.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلْيَرْجِعْ»، يعني: مَن كان قد اعتكف مع
الرسول -صلى الله عليه وسلم- العشر الأوسط فليرجع ليعتكف في العشر الأواخر من أجل
أن يتمكَّن من إدراك ليلة القدر.
قال: (فَرَجَعْنا وَمَا نرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً)، أي: شيء من السحاب، فرجعوا
إلى المسجد من أجل الاعتكاف، ولم يكن هناك سحاب.
قال: (فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ)، في أول ليلة وهي ليلة الحادي والعشرين.
قال: (فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ -وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ
النَّخْلِ)، يعني: كان السقف من الأخشاب التي تكون في النخل، فكان ماء المطر إذا
جاء يتمكَّن من الدُّخول في خلل هذا السَّقف.
قال: (وأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ)، أي: صلاة الفجر في يوم الحادي والعشرين.
قال: (فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْجُدُ فِي
الماءِ والطِّينِ)، وهذا تصديق رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه دلالة على
أنَّ ليلة القدر في تلك السَّنَة كانت في ليلة الحادي والعشرين، ممَّا يدل على أنَّ
ليلة القدر تتنقَّل ما بين سنة وأخرى.
قال أبو سعيد: (حَتَّى رَأَيْتُ أَثرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ)؛ لأنَّ النَّبي
-صلى الله عليه وسلم- قد وكَفَ ماء المطر فدخل، وكانت مساجدهم في ذلك الوقت من
الحصباء التي يأتون بها من بطن الوادي، ولم تكن تُفرَش لا بالفُرُش ولا بغيرها.
{(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ- قَالَ: «لَيْلَةُ
سَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ، وَقَدْ رُوِيَ
مَوْقُوفً)}.
الأكثر رووا هذا اللفظ مَوقوفًا على معاوية، وليس مَرفوعًا إلى النَّبي -صلى الله
عليه وسلم.
وهذا الحديث يحتمل أنَّه رَأْيٌ لمعاوية، ويحتمل أنَّه في سَنَةٍ مِنَ السَّنَوات
كانت ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين، وهذا لا يعني أن تنحصر ليلة القدر في ليلة
السابع والعشرين.
وأكثر العلماء يقولون: إنَّ ليلة سبع وعشرين أرجى الليالي أن تكون ليلة القدر.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،
أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ -أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ- مَا أَقُولُ فِيهَا؟
قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»
رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ-وَصَحَّحَهُ وَاللَّفْظُ لَهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: "صَحِيحٌ
عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ". وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ)}.
قول عائشة : (قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ)، فيه سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن
أفضل الأعمال.
وفيه: أن الإنسان ينبغي به أن يتحرى سبل الخير، وأن يختار الأدعية التي يكون لها
الأثر الحميد عليه في حياته.
قالت: (أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ)، أي: إن اطلعتُ وعرفتُ.
قالت: (أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، أو غلب على ظنِّي أنَّ ليلة من الليالي
هي ليلة القدر.
قولها: (مَا أَقُولُ فِيهَا؟)، أي: ما هو الذِّكر والدعاء الذي أقوله في تلك
الليلة.
وفيه: دلالة على أن الأدعية والأذكار تتفاوت في الفضيلة، وأنَّها ليست على رتبة
واحدة.
وفيه: استحباب الإكثار من الأدعية في الليالي التي يُرجى أن تكون ليلة القدر، لأنها
ليالٍ فاضلة، ويُرجى فيها إجابة الدعاء.
وفي هذا: تخصيص الليالي التي يُظنُّ أنَّ فيها ليلة القدر بأنواعٍ من العبادات،
كالدعاء، والصلاة، ونحوها.
وبعض الناس يعتمر في ليلة السابع والعشرين، فنقول: فضيلة العمرة إنَّما جاءت في
جميع الشهر، فقال: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانِ كَحِجَةٍ مَعِي»[92]، وبالتالي فإن جميع
الشهر متماثل في أداء نُسُك العمرة؛ لأنه لم يُفضل في ليلة دون أخرى.
قَالَ: «قُولِي...»، هذا الأمر جاء جوابًا على سؤال، وبالتالي لا يكون للوجوب.
قوله: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌّ»، أي: يا الله إنك تُكثر التَّجاوز والصَّفحَ
والعفو.
قوله: «تُحِبُّ الْعَفْوَ»، العفو مأخوذ من مسح أثر الشيء، يُقال: عفا الأثر،
بمعنى: أنَّه زال أثر المسير الذي كان يسير عليه الإنسان.
فالعفو عن الذنوب بعدم وجود شيءٍ من آثارها عند الإنسان في الدنيا، ولا في الآخرة.
قوله: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفْوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»، العفو قد
يكون بسبب الذنوب والمعاصي، وقد يكون بسبب تقصير الإنسان ، أو بسبب غفلته، وأيُّنا
ليس كذلك!
وهذا الخبر الأكثر يروونه مرفوعًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ورد موقوفًا، فلا
يمتنع مرَّةً أن تذكرَه من عند نفسها موقوفًا عليها، ومرةً ترفعه للنبي -صلى الله
عليه وسلم.
وقول المؤلف هنا عن الحاكم أنه قال "صحيح"، يعني: أن هذا الخبر صحيح الإسناد على
شرط الشَّيخين.
اعترض المؤلف على هذه الكلمة، ولذا قال: (وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ)؛ لأنَّه قد ورد من
طريق سليمان بن بريدة، وسليمان بن بريدة لم يُخرِّج له الإمام البخاري، إنَّما أخرج
له الإمام مسلم، فهو على شرط مسلم، وليس على شرط البخاري.
وبإكمال هذا نكون قد أنهينا الكلام في كتاب الصيام، وبعده كتاب الحج.
نسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِنَ الهُداةِ المُهتدين، كما نسأله
-جلَّ وعَلا- أن يُبَلِّغَنَا شَهرَ رمضان، وأن يمكِّننا مِن صِيَامِه وَقِيَامِه،
وَمِن أداء أنواع النَّوافِل فيه، كما أَسأَله -جَلَّ وعَلا- أن يُعِينَنا على
أنفسنا، وأن يُشغلنا بأنواعِ الطَّاعات، وأسأله -جَلَّ وعَلا- أن يرزقنا العلم
النَّافِع، والعمَلَ الصَّالِح، كما أسأله -جلَّ وعَلا- لإخواننا ممَّن يُرتِّب هذا
اللقاء من فنِّيين ومشرفٍ ومخرجٍ ومدراء التوفيق لكل خير، وأسأله -جلَّ وعَلا- لهم
صلاح الأحوال دنيا وآخرة، كما أسأله -جلَّ وعَلا- لجميع المسلمين أن يمكَّنوا من
طاعة الله، وأن يجعل الله ألسنتهم مُشتَغِلَة بذكره -سبحانه وتعالى- وتلاوة كتابه،
وأسأله -جلَّ وعَلا- صَلاحًا لقلوبِ العِباد، واستقامةً لأحوالهم، وحقنًا لدمائهم،
واجتماعًا لكلمتهم على الحق، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يُوَفِّقَ وُلاةِ أمور
المسلمين لكلِّ خير، وأن يجعلهم من أسباب الهُدى والتُّقى والصَّلاح.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليمًا
كثيرًا إلى يوم الدين.