الدرس العاشر

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

7130 24
الدرس العاشر

المحرر في الحديث (2)

الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
فأرحبُ بكم في مُدارسَةِ كتابِ المُحَرَّر للحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى.
وقد كنَّا في لقائِنا السَّابق ابتدأنا ببابِ ما يُمنَع لُبسه أو يُكرَه وما ليس كذلك، ومِن المعلوم أنَّ الشَّريعَةَ قد جاءت بمشروعيَّةِ سَترِ الأبدانِ، وأنَّ الله -جلَّ وعَلا- قد أمرَنا بذلك، قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]، والنُّصوصُ في الأمرِ باللباسِ متعدِّدةٌ، ولهذا فإنَّ الأصلَ في الألبسَةِ أن تكونَ مباحةً، ولا يُقال بمنعِها إلا بما وردَ فيه دليلٌ يدلُّ على المنعِ منها، قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَ﴾ [الأعراف: 27]، وقال -جلَّ وعَلا: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ﴾ [الأحزاب: 33]، فالتَّستُّر وسِتر الأبدانِ بالثِّيابِ هو شأنُ أهلِ النُّبوَّةِ، وكشفِ الأبدانِ ونزعِ الثِّيابِ عنها إنَّما جاء مِن إغواءِ الشَّياطين.
إذا تقرَّرَ هذا فإنَّ الأصلَ في الألبسَةِ أن تكونَ على الإباحةِ إلا إذا وردَ دليلٌ يدلُّ على المنعِ منه، وقد أخذنا فيما سبقَ المنعَ مِن بعضِ أنواعِ اللباسِ مثل: الحرير، وقد وردَ في النُّصوصِ النَّهيُ عن لُبسِ الحريرِ، والمراد بذلك النَّهيِ الرِّجالُ دونَ النَّساء، فإنَّ النَّساءَ يجوزُ لهنَّ لُبس الحريرِ، وسيأتي معنا أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُهدِيَ له حرير فأمر بتشقيقهِ على عددٍ من النِّساء اللاتي كنَّ مِن أهله، ولعلَّنا نواصلُ القراءة في هذا الباب.
{الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين.
قال المؤلِّف -رحمه الله: (وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهبِ وَالفضَّة، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ والدِّيباجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله هنا: (نَهَانَا النَّبِيُّ)، الأصل في النَّهي أن يدلَّ على التَّحريمِ والمنعِ، وأن يدلَّ على الفسادِ أيضًا.
وقوله: (أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهبِ)، يُستفادُ منه تحريمُ الشُّربِ في آنيةِ الذَّهبِ، وقد جاء في نصوصٍ أخرى تفسير ذلك بأنَّه يشملُ ما صُنع من الذَّهبِ، وما ضُبِّبَ بالذَّهبِ، وما طُليَ بالذَّهبِ، وهكذا الفضَّة، ومثلُ الشُّربِ في آنية الذَّهبِ الأكلُ في آنيةِ الذَّهبِ والفضَّة، ويدخلُ في هذا الصُّحون والملاعق والسَّكاكين، والشُّوك، ويدخل فيه ما يُجعَل إناءً.
وهناك أشياء يتردَّد النَّاسُ فيها هل هي مِن بابِ اللباسِ أو مِن بابِ الآنيةِ، فآنيةُ الذَّهبِ والفضَّة محرَّمة على الرِّجالِ والنِّساءِ، بينما حُليِّ الذَّهبِ والفضَّة مباحٌ للنساء، ويُمنع الرجال من حُليِّ الذَّهبِ، ولذلك قد يقع التَّردد في أشياء هل تعتبر مِن الآنيةِ أو تُعتبر مِن اللباسِ، ومن أمثلة ذلك مثلًا: ما يتعلَّق بما يُوضع في الأقلامِ، وريشة القلم، والمحبرة، وما قد يقع التَّردد فيه.
والتَّردد هنا بالنِّسبة للنِّساء فقط، لأنَّهنَّ يُفرَّقُ فيهن بينَ باب اللباسِ وبابِ والآنيةِ، أمَّا الرِّجال فإنهم يُمنعون من ذلك، إلا أنَّ الرِّجال في باب اللباس يُباح لهم الشَّيء اليسير، فإذا كان يسيرًا جاز للرجال، وأمَّا إذا كان شيئًا كثيرًا في باب اللباس فإنه يُمنَع منه، بخلاف باب الآنية فإنَّه يُمنَع مِن القليل ومن الكثير، وهذا عندَ أهل العلم قد يُسمُّونه بالمسائل المتردِّدة، إذا جاءنا شيء من الأشياء يقع التَّردُّد فيها هل يدخل باب الآنية أو يدخل في باب الحُلِّي.
قوله: (وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ والدِّيباجِ)، المراد هنا الحرير الذي يُؤخذ من دودِ القزِّ، فإنَّ الرجال يُمنعون من لُبسه، وقد وردَ في النُّصوص إجازته للنِّساء.
قوله:(وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ)، يعني لا يجوز أن توضعَ الفُرُش في مواطن الرِّجال مِن الحرير، ومن ثَمَّ لا يجوز للرَّجل أن يُصليَ على سَجَّادةِ الحريرِ ولا أن يجلس عليها، وهكذا أيضًا في المجالسِ الخاصَّة بالرِّجالِ لا يجوز أن تُفرشَ بالحرير، سواء كانَ ذلك على المقاعد، أو كانَ على الأرضِ، أو كان على الجُدُر، فإنَّه يُمنَع مِن وضعها في مواطنِ الرِّجال مِن الحرير.
والدِّيباج: نوعٌ فاخرٌ مِن أنواعِ الحريرِ.
{(وَعَنْ أَبي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتابُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- وَنَحنُ بِأَذْرَبِيجَانَ مَعَ عُتْبَةَ بنِ فَرْقَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ، إِلَّا هَكَذَا، وَأَشَارَ بأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الْأَعْلَامَ، مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَلمسْلمٍ عَنْ عُمرَ -رضي الله عنه- قَالَ: نهَى نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، إِلَّا مَوضِعَ إِصْبَعَيْنِ، أَو ثَلَاثٍ، أَو أَرْبَعٍ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ مُسلمٌ: لم يَرْفَعْهُ عَنِ الشَّعبِيِّ غيرُ قَتَادَة، وَهُوَ مُدَلّسٌ لَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنهُ، وَقد رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ ابْن أَبي السَّفَر، عَنِ الشَّعبِيِّ، عَنْ سُوَيْدٍ، عَنْ عُمرَ قَوْله، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بَيَانُ وَدَاوُد بنُ أَبي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعبِيِّ، عَنْ سُوَيْدٍ، عَنْ عُمرَ قَوْلهُ)
}.
هذا اللَّفظ هل مرفوع للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أو هو موقوف على عمر؟
هذا موطن خلاف، وهو ما يُشير إليه المؤلِّفُ في سِياق هذا الخبرِ.
قوله: (وَعَنْ أَبي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ)، هذا من رواة الصحيحين، واسمه: عبد الرحمن بن مل.
(قَالَ: أَتَانَا كِتابُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- وَنَحنُ بِأَذْرَبِيجَانَ)، وذلك في غزوة غزوها (مَعَ عُتْبَةَ بنِ فَرْقَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ، إِلَّا هَكَذَ)، فيه تحريم الحرير، لأنَّ الأصلَ في النَّواهي أن تكونَ للتَّحريمِ.
قوله: (إِلَّا هَكَذَ)، استدلَّ أحمد بهذا اللَّفظ على أنَّ مَن سترَ عورتَه في الصَّلاةِ بثوبِ الحرير لم تصحُّ صلاته، لأنَّه لا يجوز أن يُمتَثل الأمر بما يكون نهيًا، إذ كيف تجتمع النَّتيجتان المتضادَّتان في محلٍّ واحد؟
وقوله: (إِلَّا هَكَذَ)، أي إلا الشَّيء اليسيرَ الذي يكونُ بمقدارِ الأصبعين ونحوها، وفي لفظ (مَوضِعَ أُصبُعَينِ أَوْ ثَلاثَةٍ أَوْ أَرْبَعٍ).
قال: (فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الْأَعْلَامَ)، المراد بالأعلام: الأشياء الظَّاهرة التي يُعلَّمُ بها، مِن مِثلِ طرفِ الثَّوب، ومِن مِثلِ ما يكونُ ظاهرًا في التَّطريزِ أو التَّطريفِ أو نحوها.
وقوله (فِيمَا عَلِمْنَ)، في بعض ِالكتب (فَمَا عتَّمَنَ)، أي: ما أخَّرنا وما أبطَأَ بِنا إلا أنَّه أراد أن يُرينا هذا الحكم، يعني أنَّ عتبة أخَّرَ إخبارهم بالحكمِ مِن أجلِ أن يُعلِمَهم وأن يريَهم ذلك.
{(وَعَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ -رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَخَّصَ لِعَبِدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ فِي سَفَر ِمِنْ حَكَّة ٍكَانَتْ بِهِمَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَفِي البُخَارِيُّ: شَكَيا إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- -يَعْنِي الْقَمْلَ- فَأَرْخَصَ لَهُما فِي الحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ)}.
هذا الحديث فيه دلالة على أنَّ الأصلَ في الحريرِ المنع، فلا يجوزُ للرِّجالِ لُبس الحريرِ، لأنَّه رخَّصَ لهم في الأعذار، فدلَّ هذا على أنَّه في غيرِ حالِ الأعذار لا يُرخَّصُ لهم فيه.
المراد بالرُّخصة: أن يُوجد الوصف الذي يُعلَّل به الحكم، ثم يرتفعُ الحكم مِن باب التَّخفيفِ على العبادِ، فالأصل أنَّ لُبس الحريرِ حرام للرِّجالِ، لكنَّه ارتفع هذا الحكم -وهو التَّحريم- مع وجود ثوبِ الحرير في حالةِ الحكَّةِ والقَمل، ونحوهما.
وفي قوله (فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ فِي سَفَر ِمِنْ حَكَّة)، ذلك أنَّ الحريرَ ليِّنُ الملمسِ، وبالتَّالي لا يؤثِّرُ على البدنِ، وفيه دلالةٌ على أنَّ الحريرَ يجوزُ لُبسه للرِّجال عند الحاجة المقتضية له مِن مثل الحكَّة التي تكون في البدن، ومِن مثلِ القَمل الذي قد يحتاج معه الإنسان إلى حريرٍ لأنَّه يفصلُ بين القَملِ والبدنِ.
وقوله: (فَأَرْخَصَ لَهُما فِي الحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ)، بعضُ أهل العلم قالَ بجوازِ لُبس الحرير في الغزو، لأنَّه يدلُّ على اعتدادِ النَّاس وعلى قوَّتهم، واستدلُّوا عليه بما وردَ من قولِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عن مشيةِ المتبختر: «إِنَّهَا مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلا فِي هَذَا الْمَوْطِن»[44].
والآخرون قالوا: إنَّه إنَّما جازَ لهما اللبس مِن أجلِ العِللِ الأخرى كالحكَّة والقَملِ، ولم يجزْ من أجلِ الغزو، وكونِه رآهم في غزاةٍ يلبسونَ الحريرَ ليسَ معناه أنَّ الغزوة هي العلَّة التي مِن أجلها لبسوا الحرير.
{(وَعَنْ عَليِّ بن أَبي طَالبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَسَانِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حُلَّةً سِيَرَاءَ فَخَرَجْتُ فِيهَا فَرَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُها بَينَ نِسَائِي. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
 وَعَنْ أَبي مُوسَى -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهبِ وَالْحَرِيرُ لإِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِه» رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَقيل: إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ)
}.
هذه الأخبار كلُّها فيما يتعلَّق بلبسِ الحرير، قال: (كَسَانِي رَسُولُ اللهِ)، أي أعطاني وأهداني (حُلَّةً سِيَرَاءَ)، فيها نقوش وهي مِن الحريرِ. قال: (فَخَرَجْتُ فِيهَ)، يعني لابسًا لهذه الحُلَّة، والحُلَّة تكون للبدنِ. قال: (فَرَأَيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ)، يعني في وجه النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وذلك أنَّ لُبسَ الحرير ممنوع منه في الشَّريعَة، وفيه الإنكارُ بالإشارةِ -بدون تلفُّظ- وحينئذٍ فَهِمَ عليٌّ مِن وجه النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه لم يرضَ بهذا اللباس، قال: (فَشَقَقْتُها بَينَ نِسَائِي)، كأنَّه سألَ عن السَّببِ، فقيل له: بسببِ لُبسك لثيابِ الحرير، فقام بتوزيعها على النِّساءِ، وفيه دلالة على أنَّ النِّساء يجوزُ لهنَّ لبس الحرير.
ثم أوردَ مِن حديث أبي موسى، وهذا الخبرُ شكَّكَ بعضُ أهلِ العلمِ في اتِّصاله، وقال: إنَّ راويهِ سعيدُ بن أبي هند، وهو لم يلقَ أبا موسى الأشعري.
قوله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهبِ وَالْحَرِيرُ لإِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِه»)، فيه دليلٌ على جوازِ لُبسِ النِّساءِ الذَّهبَ والحريرَ، وعدم جوازه للذُّكورِ.
{(وَعَنْ شُعْبَةَ، عَن فُضَيْلِ بنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَبي رَجَاءَ العُطَاردِيِّ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عِمرَانُ بنُ حُصَيْنٍ وَعَلِيهِ مِطْرَفُ خَزٍّ، فَقُلْنَا: يَا صَاحبَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَلْبَسُ هَذَا, فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَنْ يَرَى أَثرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ "الشُّكْرِ"، وَالبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ، عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِينٍ: "فُضَيْلُ بنُ فَضَالةَ الَّذِي رَوَى عَنهُ شُعْبَةُ ثِقَةٌ"، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ شَيْخٌ)}.
قوله هنا: (خَرَجَ عَلَيْنَا عِمرَانُ بنُ حُصَيْنٍ)، هو من الصَّحابة. قوله (وَعَلِيهِ مِطْرَفُ خَزٍّ)، المِطْرَف: هو الذي يكونُ في طَرَفَيهِ ألوان مُعلَّمة. والخَزِّ: نوعٌ من الحريرِ.
(فَقُلْنَا: يَا صَاحبَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَلْبَسُ هَذَ)، كأنَّهم أنكروا عليه، لكونِه مِن الصَّحابة ويلبسُ هذا النَّوعَ من أنواعِ اللباس الذي فيه زينةٌ وفيه علامةٌ ظاهرةٌ.
(فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَنْ يَرَى أَثرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ»)، في هذا دلالةٌ على استحبابِ اختيارِ الجيدِ من الثِّيابِ، وفيه دلالةٌ على فضيلةِ ذلك، وفيه دلالةٌ على وصفِ الله -عزَّ وجلَّ- بصفةِ المحبَّة، فهو -جلَّ وعَلا- يُحِبُّ كما أنَّه يُحَبُّ، وفي هذا أنَّ محبَّة الله قد تكونُ للعاملِ، وقد تكونُ للعملِ، وقد تكونُ للرَّابط بينهما -كما في هذا الخبر.
وفي هذا سِعة نِعمِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- على العبادِ، فإنَّه قد أنعمَ عليهم بصنوفِ النِّعم.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَينِ فَقَالَ: «أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟!» قُلْتُ : أَغْسِلْهُمَا؟ قَالَ: «بَلْ احْرِقْهُمَ».
وَعَنْ عَليِّ بنِ أَبي طَالبٍ -رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نهَى عَنْ لُبْسِ القَسِّيِّ والـمـُعَصْفَرِ. رَوَاهُمَا مُسلمٌ.
وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلِيهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدٍ. والـمُرَحَّلُ: الَّذِي قدْ نُقِشَ فِيهِ تَصَاوِيرُ الرِّجَالِ)
}.
قوله هنا في حديث عبد الله بن عمرو: قال: (رَأَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَينِ)، المعصفر: هو الثَّوب الذي صُبغَ بالعُصْفُرِ، وهو نوعٌ من أنواعِ الموادِّ التي تُستَخرجُ من بعضِ النَّباتاتِ، ويُورثُ لونَ الصُّفرَةِ، وتُصبَغ الثِّيابُ به.
فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟!»، في هذا دلالةٌ على أنَّ الصَّبيَّ يلزمه مِن الأحكام ما يلزم الكبار، فيجبُ على أوليائه ألا يُلبسوه الثِّياب المحرَّمة.
فقال عبد الله بن عمرو: (أَغْسِلْهُمَا؟)، أي أقومُ بتنظيفهما وغسلهما بالماء، لعلَّ ذلك يُذهبُ العُصفُرَ منهما؟
قال: «بَلْ احْرِقْهُمَ»، ظاهرهما أنَّ ذلك إنَّما كان عقوبة لكونهم خالفوا النَّهيَ الوارد في هذا.
(وَعَنْ عَليِّ بنِ أَبي طَالبٍ -رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نهَى عَنْ لُبْسِ القَسِّيِّ)، القسي: نوع مِن أنواعِ الثِّياب يكون فيها صوف وفيها حرير، وفي هذا دليلٌ على أنَّ ما نُسِجَ مِن الحريرِ وغيره فإنَّه يُمنَع منه، (والـمـُعَصْفَرِ)، تقدَّم معناه.
قال: (وَرَوَى)، أي الإمام مسلم، (مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ غَدَاةٍ)، أي في أحدِ الأيَّامِ نهارًا، (وَعَلِيهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ)، المِرْط: يكونُ من ثيابِ الصُّوفِ، وقد يُضافُ إليها شيء آخر. قال: (مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدٍ)، فيه دلالةٌ على جوازِ نَسجِ الثِّيابِ مِن الشَّعرِ الأسود. والمُرحَّل: ما فيه نقوش ورسومات، وقد فسَّره المؤلِّف هنا فقال: (والـمُرَحَّلُ: الَّذِي قدْ نُقِشَ فِيهِ تَصَاوِيرُ الرِّجَالِ).
وفي هذا دلالةٌ على جوازِ لُبس المُرْطِ، وجوازِ اتِّخاذ الثِّياب من شَعْرِ الحيوانات، وجوازِ النُّقوشات في الثِّيابِ إذا لم تكن مُلهية للابِسِهَا.
{(بَابُ صَلَاةِ الكُسُوف
عَنِ المغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: انكسفَتِ الشَّمْسُ لِـمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيتُمُوهُما فَادْعُوا اللهَ وصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَعنْدَ البُخَارِيِّ: «وصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ»، وَلَيْسَ عِنْد مُسلمٍ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لـمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ)
}.
قوله: (بَابُ صَلَاةِ الكُسُوف)، المراد بالكُسُوف: ذهابُ ضوءِ الشَّمس، وذلك أنَّه إذا جاء القمرُ بينَ الأرضِ والشَّمسِ حَجبَ القمرُ نورَ الشَّمسِ.
وأمَّا الخُسُوف: فهو ذهابُ ضوءِ القمرِ، وذلك بأن تكونَ الأرضُ بينَ الشَّمسِ والقمرِ، وبالتَّالي لا يصلُ ضوءُ الشَّمسِ إلى القمرِ.
والكُسُوف والخُسُوف يُمكِنُ معرفة وقتهما بالحساب، لكنَّه لا يُشرَع لنا أن نصلِّيَ حتى نراهما، فلو قُدِّرَ أنَّ أهلَ الحساب قرَّروا وجودَ خُسوفٍ لكنَّنا لم نستطِع رؤية الخُسُوف لكون السَّماء محجوبة بالسَّحابِ؛ ففي هذه الحال لا يُشرعُ لنا صلاة الخُسُوف.
وصلاةُ الكُسُوفِ محلُّ اتِّفاقٍ في الجملةِ، وإنَّما وقعَ الخلافُ في صلاةِ الخُسُوفِ -المتعلقة بالقمرِ- وثبتَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- صلَّى صلاةَ الكُسُوفِ مِن طرائقَ متعدِّدَة، وإن اختلفوا في صلاة الكُسُوف هل هي جهريَّة أو سريَّة؛ وسيأتي البحث فيها.
أوردَ المؤلفُ حديثَ المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ)، أي ذهبَ ضوؤها. (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ)، فقد يعتقدُ بعضُ النَّاسِ ارتباط الكُسُوف بموت إبراهيم ابن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ولا رابط بينهما، وإبراهيم ماتَ وهو صغيرٌ، قيلَ ابن أربعين يومًا.
(فَقَالَ النَّاسُ: انكسفَتِ الشَّمْسُ لِـمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ)، وكانوا يعتقدون في الجاهليَّة أنَّ كُسُوفَ الشَّمسِ إنَّما يكون عندما يموتُ مَن له مكانةٌ وشأنٌ، (فَقَالَ النَّاسُ: انكسفَتِ الشَّمْسُ لِـمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ)، أي بسببِ موتِ إبراهيم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مكذبًا لهم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله»، أي علامتان مِن العلامات الدَّالة على الله -جلَّ وعَلا- «لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ»، وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الإنسانَ لا ينسبُ لنفسِه مِن الفضلِ ما ليسَ فيه، وإلا لقالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- "نعم انكسفت لموت إبراهيم"، أو نحو ذلك.
قال: «لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيتُمُوهُم»، أي إذا رأيتم الشَّمسَ والقَمَر منكسفين، «فَادْعُوا اللهَ وصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ»، فيه دلالةٌ على مشروعيَّةِ خُسُوفِ القمرِ كما قال أحمد، وفيه مشروعيَّة الدُّعاء قبلَ صلاة الخُسُوفِ، وفيه أنَّ الأصلَ أنَّ الإنسانَ يستمرُّ في الصَّلاة حتى تنكشِفَ الشَّمسُ بذهابِ الخُسُوفِ أو الكُسُوفِ.
{(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جَهَرَ في صَلَاةِ الخُسُوف بِقرَاءَتِهِ، فَصَلَّى أَربَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبعَ سَجَدَاتٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
قولها: (جَهَرَ في صَلَاةِ الخُسُوف)، فيه مشروعيَّةُ الجهرِ في صلاةِ الخُسُوفِ، وصلاةِ الخُسُوفِ -كما تقدم- أنَّه يرادُ به خُسوف القَمَر، وتكونُ في الليل، وأما الكُسُوف فيُراد به ذهاب ضوء الشَّمسِ، ويكونُ في النَّهارِ، وظاهرُ هذا أنَّ عائشة أرادت الخُسُوفَ الذي يكونُ للقمرِ، لكن بقيَّة الأحاديث تدلُّ على أنَّها أرادت الكُسُوف.
قالت: (جَهَرَ بِقرَاءَتِهِ)، فيه مشروعيَّةُ الجهرِ في صلاةِ الكُسُوفِ كما قال أحمد.
(فَصَلَّى أَربَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ)، فيه دليلٌ على أنَّ صلاةَ الخُسُوفِ تكونُ بركعتين، وهذا محلُّ اتفاقٍ في الجملة، وفيه أنَّها تكون بأربعة ركوعاتٍ، بحيث يركع في كلِّ ركعةٍ بركوعين، وهذا الموطن مِن مواطن الخلاف بين العلماء، فقالَ مالك والشَّافعي: لا تكونُ صلاة الكُسُوفِ إلا بركعتين، في كلَّ ركعة ركوعان، وبالتالي يكون هناك أربعة ركوعات.
وأمَّا مذهب الإمام أبي حنيفة فيقول: لا تُصلَّى إلا بركعتين، في كلِّ ركعةٍ ركوعٌ واحدٌ، كصلاةِ الفجر.
وعند أحمد يجوزُ أن تُفعلَ بأكثر مِن ركوعين -ثلاثةٍ، وأربعةٍ- وإن كانَ الأفضل عنده أن تكون بركوعين، ولكنَّه يُجيزُ أن يكونَ بثلاثةِ ركوعاتٍ وأربعةِ ركوعاتٍ. لماذا؟
لأنَّه قد وردَ في الأحاديث أنَّه صلَّى بثلاثةِ ركوعاتٍ، وبأربعةِ ركوعاتٍ، ولكن لم تحدث صلاةُ الكُسُوفِ في عهده -صلى الله عليه وسلم- إلا مرةً واحدةً، وبالتَّالي نُقارِن بين المرويَّات، ورواية الأكثر أنَّه قال (بركوعين في كل ركعة)، فحينئذٍ رجَّحنا هذه الرِّواية على غيرها مِن الرِّواياتِ.
أمَّا عندَ الإمام أبي حنيفة فإنَّه يقول: تُصلَّى بركعتين وركوعين، في كلِّ ركعةٍ ركوعٌ كصلاةِ الفجرِ، وهذا القول مردودٌ بالأحاديثِ الواردة مِن أنَّه كانَ يُصلِّي الكُسُوف بركعتينِ في كلِّ ركعةٍ ركوعانِ.
{(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَويلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ َسَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فَاذْكُرُوا اللهَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَأَيْتُ الْجنَّةَ فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا وَلَو أَصَبْتُهُ لأَكَلْتُم مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهلِهَا النِّسَاءَ»، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ» قِيلَ: ًايَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ العَشِيرَ ويَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَو أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعنهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوف قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، قَالَ: وَالْأُخْرَى مِثلُهَا. رَوَاهُ مُسلمٌ. وَفِي لفظٍ لَهُ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَعَنْ عَليٍّ مِثْلُ ذَلِك، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدِي فِي صَلَاةِ الكُسُوف: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضي اللهُ عَنها: أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبعثَ مُنادِيًا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ, فَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)
}.
قوله في هذا الخبر مِن حديث ابن عباس (انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ)، فيه دلالةٌ على أنَّ الكُسُوفَ والخُسُوفَ لا يدلَّانِ على فسادِ الزَّمانِ، وإنَّما ما وردَ في الخبرِ أنَّه «وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ»[45]، فإنَّ العبدَ إذا رأى ذهابَ ضوءِ الشَّمسِ خَشِيَ على نفسِه أن يذهبَ ضوءُ الإيمانِ ونورُ الإيمانِ مِن قلبِه، وخَشِيَ أن يُزيلَه الله كما أزالَ نورَ الشَّمسِ والقمرِ، وتذكَّرَ بذلك الآخرةَ التي يُخسَفُ فيها القَمَرُ والشَّمسُ، فكانت مخوِّفةً لهذه الأمورِ، وبالتَّالي لا تنافيَ بينَ العلمِ بوقتِ الخُسُوفِ مع كونِ الخُسُوفِ والكُسُوفِ مِن أسبابِ الخوفِ.
وفي هذا الحديثِ: مشروعيَّةُ إطالةِ القراءةِ في صلاةِ الكُسُوفِ.
وقوله: (نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ)، استدلَّ به بعضهم على أنَّ صلاة الكُسُوف لا يُجهر فيها، قالوا: لو جهرَ لبيَّن لنا ماذا قرأ، ولكن الذي يَظهرُ أنَّ ابن عباس كانَ صغيرًا وبالتَّالي لم يُدرِك جميع ما جرى، وحديثُ عائشة فيه تصريحٌ بالجهرِ، والتَّصريحُ بالجهرِ خيرٌ مِن الدَّلالة على عدمِه.
وفي هذا الحديث أيضًا: تطويلُ الركوعِ، ولكن ماذا يقول إذا رفعَ مِن الرُّكوعِ؟
نقول: يقول "سمع الله لمن حمده" سواءً كانَ الرُّكوع الأوَّل أو الرُّكوع الثَّاني.
وقد اختلف أهل العلم بماذا تُدرَكُ الرَكعةُ؟
الجمهورُ على أنَّ الرَّكعة لا تُدرَك في الكُسُوف إلا بإداركِ الرُّكوعين معًا. وبعضهم قال: تُدرَك بالرُّكوع الثَّاني.
وفي هذا: دلالةٌ على أنَّ الرَّكعة الثانية تكونُ أقل مِن الرَّكعة الأولى في مقدار القراءة.
قال: (ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَويلً)، فيه استحباب طول الركوع، (وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ َسَجَدَ)، فيه مشروعيَّة السُّجود، والمراد هنا أنَّه سَجَدَ سجدتينِ كما التَّصريح في حديثِ عائشة.
(ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَويلً)، يعني في الرَّكعة الثَّانية، وفيه استحبابُ إطالة القراءة في الرَّكعة الثَّانية في صلاة الكُسُوفِ.
وقوله: (وَهُوَ دُونَ الْقِيامِ الأَوَّلِ) قيل: إنَّه أقلُ من القيامِ الأوَّلِ الذي كانَ بعدَ تكبيرةِ الإحرام، وقيل: إنَّه أقلُّ مِن القراءةِ التي كانت بعد الرُّكوعِ الأوَّلِ. والأظهرُ أنَّه بعدَهما جميعًا.
(ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَويلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ)، فيه استحبابُ الإطالة في صلاة الكُسُوف حتى يغلبَ على الظَّنِّ أنَّ الكُسُوفَ قد زالَ.
(فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-)، استدلَّ به بعضُهم على مشروعيَّة خطبةِ صلاةِ الكُسُوفِ، والحنابلة يقولون: لا بأس أن يعِظَ، لكن لا يخطُب خطبةً كخطبةِ الجُمُعَةِ.
فقال: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ»، أي علامتان من العلامات الدَّالة على قدرةِ الله، «لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ»، فإنَّ هذا ليس مِن أسباب الخُسُوفات، «فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك»، يعني الخُسُوف. «فَاذْكُرُوا اللهَ»، ولعلَّ هذا قبل نزولِ الصَّلاة، وقد جاءت أحاديث أخرى بمشروعيَّة الصَّلاةِ.
(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ) أي تأخرتَ وتركت لهم الموطن.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَأَيْتُ الْجنَّةَ»، أي في ذلك الموطن، وفيه دلالةٌ على أنَّ الجنَّة قد خُلِقَت، وفيه تصويرٌ للجنَّةِ على الصَّحيح، وقيل: إنَّها الجنَّة حقيقةً، واستُدِلَّ به على جوازِ ألا يَنظرَ الإنسانُ تحتَ قدميه في الصَّلاة، فلو تركَه لينظرَ أمامَه جازَ.
قال: «فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودً»، أي من عناقيد العنب، وقوله: «وَلَو أَصَبْتُهُ» يعني عنقود الجنَّة، فلو تمكَّنت منه وأخذته، وقوله: «لأَكَلْتُم مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَ» وفيه أنَّ الطَّعام قد يُبارَك فيه، وما ذلك إلا لفضيلةِ ما في الجنَّة.
قال: «وأُرِيتُ النَّارَ»، أي مكنَّني الله مِن رؤيتها، «فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ»، فيه شدَّة أهوالِ النَّارِ.
قال: «وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهلِهَا النِّسَاءَ». قَالُوا: (بِمَ) يعني ما السبب الذي جعلهنَّ أكثر مِن الرَّجالِ في النَّارِ.
 (قَالَ: «بِكُفْرِهِنَّ» قِيلَ: ًايَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ العَشِيرَ») وهو الزَّوج، أي لا يعترفنَ له بالإحسانِ. «يَكْفُرْنَ العَشِيرَ ويَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَو أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ» أي جميع الأيَّام. «ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»، وفي هذا أنَّ النِّساء يكتمنَ ما قد يصل إليهنَّ أو يَنسِينَه.
ثم أوردَ المؤلِّفُ أيضًا مِن حديث ابن عباس أنَّ (النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوف قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ قَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ)، وهذا على ما تقدَّم أنَّه مذهب أحمد، وأنَّه يجوزُ أن يُزاد في صلاة الكُسُوفِ الرُّكوعُ أو الركوعان
قال: (وَفِي لفظٍ لَهُ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ)، أي كلُّ ركعةٍ فيها سجدتانِ، وكلُّ ركعةٍ فيها أربعة ركوعات.
قال: (وَعَنْ عَليٍّ مِثْلُ ذَلِك)، يعني أنَّه صلَّى أربعةَ ركوعاتٍ في الرَّكعةِ الواحدةِ، فصلَّى ثمانِ ركعات في أربعِ سجداتٍ.
وقَالَ البخاري: (أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدِي فِي صَلَاةِ الكُسُوف: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) كأنَّه ضعَّفَ الرِّوايات الأخرى، وكما تقدَّم أنَّ أحمدَ يُجيزُ أن يُصلَّى في كلِّ ركعة بثلاثةِ ركوعاتٍ وبأربعةِ ركوعاتٍ، واستَدَلَّ بهذه الرِّوايات، والبُخاري ومَن وافَقه قالوا: صلاةُ الكُسُوفِ إنَّما حصلت في عهدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مرةً واحدةً، وبالتَّالي لابدَّ مِن التَّرجيحِ بين هذه الرِّويات.
ثم أوردَ عن عائشة (أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبعثَ مُنادِيً) فيه النِّداء لصلاةِ الكُسُوفِ. ماذا قال المنادي؟
قال: (الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ)، وفيه مشروعيَّةُ أن يُنادَى لصلاةِ الكُسُوفِ بهذا اللفظ.
قال: (فَاجْتَمَعُو)، فيه مشروعيَّةُ صلاةِ الكُسُوفِ جماعة. (فَكَبَّرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ)، على مذهبِ الجمهورِ، كلُّ ركعةٍ فيها ركوعان وسجدتان. وهذا الحديث مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ.
وبهذا نكونُ قد انتهينا مِن بابِ صلاةِ الكُسُوفِ، وإن شَاء اللهُ نبتدئُ في لقائِنا القادمِ بصلاةِ الاستسقاءِ. باركَ الله فيكَ، ووفَّقكَ الله لخيري الدُّنيا والآخرة، وجعلكَ اللهُ مِن الهداةِ المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلا- لإخوانِنا المشاهدينَ الكرام التَّوفيقَ لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلَهم موفَّقينَ في كلِّ أمورهم.
هذا واللهُ أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعينَ.
-------------------
[44] معجم الطبراني (6388)، وهو حديث مرفوع.
[45]  أخرجه البخاري (1059) واللفظ له، ومسلم (912)

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك